"إن الذي يحكم العراق من بعدي سيستلمه أرضاً بلا بشر" (صدام حسين).
لقد ذكرنا في الحلقة السابقة من هذا المقال نماذج من الأعمال العدوانية التي ترتكب يومياً بحق الشعب العراقي من قبل أعداد كبيرة من المجرمين العراقيين، من مليشيات إسلامية وفلول البعث الساقط ومن جاء من وراء الحدود من الإرهابيين وبدعم من بعض دول الجوار، لتدمير هذا البلد وقتل شعبه بغية إفشال العملية الديمقراطية. ولا شك أن هناك آلاف أخرى من الحوادث الكارثية اليومية والقصص المأساوية والجرائم والانحرافات في سلوك قطاع واسع من العراقيين الذين يعيثون في البلاد فساداً ويسفكون الدماء الزكية ويزهقون الأرواح البريئة بغير حساب وبدم بارد، والتي تكشف حجم الخراب الذي لحق بالإنسان العراقي.
كما واستلمت اليوم (31/5/2006) رسالة من صديق في بغداد يقول فيها: "لقد خطف ولديّ ... من قبل ناس يدعون أنهم من "جيش المهدي" مع 450 شخص آخر من المنطقة الغربية وأبو غريب (ٍمن السنة والمحسوبين على السنة)، علما بأن بقية الأشخاص من أصحاب سيارات الجص والطابوق والمواد الإنشائية هم من الناس الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة ولا شأن لهم بالسياسة. ويطالب المختطفون بإطلاق سراح (فريق التايكواندو) الذي خطف في منطقة الحدود الأردنية العراقية. وعندما أخبرناهم إن أولادي هم شيعة وليسوا سنة.. قالوا صحيح انتم شيعة ولكن علاقتكم طيبة مع السنة ... ويقولون انهم لن يطلقوا سراحهم إلا بعد إطلاق سراح الفريق الرياضي .. فتصور المهزلة.. " ويتساءل الصديق: "أين الحكومة من اختطاف هذا العدد الكبير؟؟ هذا حدث منذ ثلاثة أيام ولا زال يحدث والحبل على الجرار والحكومة لا تحرك ساكناً .. هل لازلت متفائل؟ إن القتل بدأ يزداد، وإنني أتوقع أن الفتنة سوف تكبر ولا أحد يعرف مداها والسلام". انتهى.
فعلاً إن ما يجري في العراق هو مهزلة ومأساة في آن واحد، ويؤكد حجم الخراب البشري الذي ذكرت جزءاً يسيراً منه سابقاً. فهؤلاء يرتكبون الجرائم بحق الأبرياء باسم الدين والطائفة والمهدي المنتظر، وكأن الضحايا هم المسؤولون عن اختطاف (فريق التايكواندو)، وهو يشبه أن تتلقى ضربة من شخص جالس على يمينك فتوجه ضربة إلى الجالس على شمالك. هذا هو حكم المليشيات الإسلامية في هذه الأيام، في خطف وقتل الأبرياء، وهي أحكام قرقوشية بالطبع، والله في عون هذا الشعب.
لا شك أن هذا الإرهاب الجنوني يتطلب من حكومة السيد المالكي وقوات متعددة الجنسيات، التحرك السريع وتبني المواجهة الحازمة لوقف المجرمين عند حدهم وإلا فالموت والخراب الشامل سينالان الجميع وستتحقق نبوءة صدام السوداء المذكورة أعلاه. وليس هناك أي مجال الآن في التعذر بضعف القوات الأمنية وكون الحكومة مؤقتة. فهذه الحكومة دائمة تتمتع بالشرعية الديمقراطية ومخولة من الشعب، كما وبلغت قواتها المسلحة الآن أكثر ربع مليون منتسب، إضافة إلى وجود نحو 150 ألف من قوات متعددة الجنسيات في العراق. فالقضاء على الإرهاب لا يتطلب سوى الحزم والجدية في مواجهة الجناة.
وعلى المدى المتوسط تتطلب ظاهرة الخراب البشري من علماء الاجتماع وعلماء النفس وغيرهم من الباحثين، دراسة وتدوين هذه الحالات من الانحراف والجرائم في مجلدات لدراستها كأمراض اجتماعية وظواهر رهيبة وطفح ودمامل متقيحة، ابتلى بها الشعب العراقي، انفجرت بكل بشاعتها وقيحها وقبحها بعد سقوط النظام الجائر، ووضع الخطط العلمية المناسبة لإعادة تأهيل هذا الشعب والقضاء على ثقافة العنف لمنع تكرار هذه الكوارث في المستقبل، وبناء دولة ديمقراطية مزدهرة جديرة بالشعب في القرن الحادي والعشرين. وهذه المقالة هي مجرد محاولة في البحث عن أسباب هذا الخراب وتفسير هذه الظاهرة المدمرة التي تهدد العراق، شعباً ووطناً بالانهيار والزوال. ولا ندعي الكمال وامتلاك الحقيقة المطلقة، معاذ الله، فالمجال مفتوح لكل من يرغب في المساهمة للتوصل إلى معرفة الحقيقة وإيجاد الحلول الناجعة قدر الإمكان.
دعوة إلى قراءة كتب الوردي
أجل، ما أحوجنا هذه الأيام، ونحن نمر في هذه الفترة العصيبة والعاصفة من تاريخ بلادنا، أن نعود إلى كتب عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي، والذي يعتبر أكثر من بحث وكتب في طبيعة وثقافة هذا الشعب وتفهم معظم علله وحذر من هذا الانفجار منذ الخمسينات من القرن المنصرم مراراً وتكراراً في معظم كتبه تقريباً، كما ووضع حلولاً صائبة لدرئه. فقد أكد الرجل أن الشعب العراقي، وبسبب تعددية مكوناته وتراثه المثقل بالعنف، يتطلب أكثر من غيره من الشعوب، إلى النظام الديمقراطي الحقيقي، وإلغاء جميع أشكال التمييز بين المواطنين والقضاء على الفقر، وإلا فإن انهاراً من الدماء ستسفك. فالتمييز بين مكونات الشعب العراقي، وتراكم الثروات في جيوب شريحة ضيقة من المجتمع، وحرمان الأغلبية من حقوق المواطنة الصحيحة على مدى قرون، كل هذه العوامل كانت تعمل على إنضاج بركان هائل ينتظر الوقت المناسب للانفجار. وقد توافر هذا الظرف بعد سقوط النظام البعثي يوم 9 نيسان 2003.
يقول الراحل الوردي عن الفوضى عند إعلان المشروطية في العهد العثماني عام 1908 التي تبنت (الحرية والعدالة والمساواة): "والمشكلة أن أكثر الناس في العراق، لا سيما العامة منهم، اعتبروا "المشروطية" كأنها تعني الحرية المطلقة في كل ما يشتهي الإنسان أن يعمله. قيل أن لصاً سطاً على بيت وقتل صاحبه. فلما قدم للمحاكمة وصدر عليه حكم الإعدام تعجب وقال ما معناه: أين الحرية التي تنادون بها؟! إنه ظن أن الحرية هي أن يسمح للإنسان بأن يسطو ويقتل ويسرق كما يشاء. وذهب الكثيرون من الفقهاء إلى أن "المشروطية" حرام وكفر، ما أنزل الله بها من سلطان. والظاهر أنهم كانوا يريدون أن يبقوا على ما اعتادوا عليه من حكومة متفسخة وخراب شامل. وهنا يظهر قول الرسول الأعظم: " كيفما تكونوا يولّى عليكم". (على الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص 138). فما أشبه اليوم بالبارحة.
أسباب الخراب البشري في العراق؟
لا شك أن هذا السؤال يمر في ذهن معظم الناس، عراقيين وغير عراقيين. فمنذ زوال النظام القمعي البعثي يوم 9 نيسان/أبريل 2003، صار العراق حقلاً لدراسة الطبيعة البشرية في جميع المجالات، الاجتماعية والسياسية والسايكولوجية والفكرية وأصحاب الجريمة المنظمة والعمليات الإرهابية، مما صار يجتذب المنحرفين والمخدوعين من الإرهابيين الإسلاميين من شتى أنحاء العالم لذبح العراقيين ولنيل "إحدى الحسنيين"، أما النصر أو الشهادة!!! فكيف نفسر هذه الظاهرة؟ وما الذي جعل العراقيين يمارسون العنف بإفراط ضد بعضهم البعض وتدمير بلادهم بهذا الشكل المريع كما لو كان بلاد أعدائهم؟ وهل حقاً كان العراقيون يكرهون بعضهم بعضاً إلى هذا الحد؟ وهل صحيح أنهم يفضلون نظام الاستبداد والقبضة الحديدية مثل حكم صدام حسين على النظام الديمقراطي؟
بدءً، أقول أن ما يجري في العراق من صراع دموي وتحت قناع طائفي بغيض، هو ليس وليد الساعة وليس نتيجة مظالم النظام البعثي وحده الذي دام خمسة وثلاثين عاماً، بل، نتيجة تراكمات المظالم لقرون عديدة. فكما تقول الحكمة الشعبية التي جاءت في أغنية المنولوجست العراقي المرحوم عزيز علي: "الظلم لو دام دمر، يحرق اليابس والأخضر".
كما أود أن أؤكد مرة أخرى، أن هذه الأعمال البربرية الإرهابية لا علاقة لها بالطائفية ولا بالاختلافات الدينية والعرقية، وإنما لأسباب أخرى سنأتي على ذكرها لاحقاً، وما الطائفية إلا مجرد قناع لارتكاب الجرائم باسمها. وإلا لماذا يقتلون الرياضيين بحجة ارتدائهم سراويل قصيرة؟ وهل يحكم الإسلام بقتل المرأة السافرة وحليق الذقن؟ فمن أين جاءوا بهذه الأحكام الجائرة وينسبوها إلى الإسلام؟ إضافة إلى القتال بين فصائل الشيعة في البصرة.
وكما أسلفنا، أن تاريخ العراق حافل بأعمال العنف وتحت مختلف المعاذير والشعارات. فبعد ثورة 14 تموز 1958، انفجرت موجة العنف تحت غطاء الصراع بين اليساريين والقوميين، إلى أن خسرنا ثورتنا ودفع الجميع ثمناً باهظاً لذلك. واليوم ينفجر العنف باسم الإسلام وتطبيق الشريعة الإسلامية والدفاع عن الطائفة وحقوقها. بينما في الحقيقة، سبب العنف في جميع هذه المناسبات والحالات هو ليس هذا ولا ذاك، وإنما هناك فئات مجرمة من الغوغاء يتخذون من مناسبات التحولات الاجتماعية والثورات السياسية وغياب حكم القانون، وضعف الحكومة الجديدة، فرصة لهم ليندسوا في صفوف الجماهير والتنظيمات السياسية ليرتكبوا جرائمهم لأغراضهم الدنيئة ولأمراض نفسية توارثوها، تارة باسم التقدمية وحقوق الشعب ضد المتآمرين الرجعيين، كما حصل أيام ثورة 14 تموز، وتارة باسم الإسلام ضد "الكفار" المحتلين وعملائهم "الرافضة الخونة"، كما يجري الآن. وفي جميع الأحوال، هناك ثقافة العنف وعامل الظلم المتراكم عبر قرون والذي شوه اخلاق الناس وأفقدهم بوصلتهم وملأهم بشحنة ضخمة من الغضب كان ينتظر الفرصة السانحة للانفجار.
الحرب الدائمة في العراق
من يراجع تاريخ العراق خلال الأربعة قرون الماضية، يعرف أن ما يجري فيه اليوم ليس جديداً. فتاريخ العراق كله كان عبارة عن حروب واضطرابات متواصلة. كما يجب أن نعترف مسبقاً، أن الشعب العراقي لديه الاستعداد الكامل للعنف وذلك نتيجة لتاريخه الدموي وثقافته البدوية الموروثة كما أسلفنا. إذ يؤكد العلامة الوردي، أن الشعب العراقي كان في حرب داخلية دائمة خلال أربعة قرون من الحكم العثماني وقسماً من العهد الملكي. ناهيك عن الحروب التي شنتها السلطة البعثية ضد الشعب منذ 8 شباط 1963 إلى 9 نيسان 2003.
لقد خصص الوردي فصلاً كاملاً من كتابه القيم (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) بعنوان (الحرب الدائمة في العراق) فيقول: "... أن أهم معالم الثقافة البدوية في الصحراء هو "الحرب الدائمة". فالحرب في الحياة الصحراوية هي الأصل، والسلم فيها عرض طارئ. وحين ندرس المجتمع العراقي في العهد العثماني نجد هذه الظاهرة موجودة فيه على نمط يكاد لا يختلف في أساسه الاجتماعي عما هو موجود في الصحراء. فقلما كانت تمر فترة في العراق دون أن يقع فيها قتال على وجه من الوجوه. وهذا القتال كان على أشكال مختلفة نذكرها فيما يلي على التوالي، حسب أهميتها وسعة نطاقها:
1-القتال بين القبائل بعضها مع بعض،
2- القتال بين القبائل والحكومة،
3- القتال بين المحلات في المدينة الواحدة،
4- القتال بين القبائل والمدن،
5- القتال بين المدن بعضها مع بعض،
6- القتال بين المدن والحكومة.
ولكن كاد الشعب العراقي أن يتخلص من ثقافته البدوية وما ترتب عليها من حروب داخلية بين مكوناته لولا اغتصاب حزب البعث للسلطة عام 1968 والذي عمل على بعث ثقافة البداوة وإعادة الشعب إلى التقسيمات القبلية من جديد حيث أعاد خلق الذهنية البدوية وسياسة الحروب العبثية. فعهد البعث هو الآخر كان أشبه بحياة البدو في الصحراء، عبارة عن حروب متواصلة.
أجل، الظلم هو سبب البلاء. فكل شعب يتعرض إلى الظلم والجور ولمدة طويلة، إضافة إلى الجهل و التخلف، لا بد وأن تحصل فيه الفوضى بعد سقوط أي نظام جائر. فالظلم والعبودية يشوهان الإنسان أخلاقياً وعقلياً واجتماعياً، وينسيانه كونه إنساناً، ويعيدانه إلى المراحل البدائية الهمجية والحيوانية. فالإنسان يحمل نزعتي الخير والشر في آن واحد، ويعتمد على أيهما أقوى في عقله (الواعي والباطن). وفي ظروف معينة، يمكن تضخيم وتفعيل أحدهما على حساب الآخر. ففي الظروف الحضارية الخيّرة يمكن تنشيط نزعة الخير على حساب نزعة الشر، والعكس بالعكس في الظروف القاهرة، مثل فساد السلطة وتفشي الظلم. فالناس على أديان ملوكهم، كما تقول الحكمة. وما يجري في العراق من فضائع، حصل في بلدان أخرى عندما مرت في ظروف قاهرة مشابهة، مثل القتال بين الهوتو والتوتسي في رواندا وشعوب البلقان في التسعينات من القرن المنصرم، وما يجري الآن في الصومال وتيمور الشرقية ومناطق أخرى من العالم.
يتبع
رابط الجزء الأول