" .. حين ألتفت الآن إلى الوراء، بعد مسيرة طويلة مع الرواد سقط خلالها البعض واختفى البعض الآخر، أحس في يدي حرارة الأيدي المتشابكة لصحبتي، وخطواتنا تتلمس الارض الطيبة، نلتهم اللون ونشم عبير التراب، وحناجرنا تشق السماء بأناشيد الشكر والثناء للارض الكريمة والانسان الخيّر، ولحياة عشقناها حتى الثمالة." ... هكذا ينهي خالد القصاب ( 1924-2004) الشخصية المهمة في المشهد الثقافي العراقي والاقليمي، ذكرياته الفنية في الكتاب الصادرمؤخرا (2007) عن دارالحكمة – لندن، بعنوان " خالد القصاب: ذكريات فنية" (200 صفحة من القطع المتوسط). ويمكن ان يكون مغزى كلمات الاسطر القليلة السابقة ودلالاتها الرمزية بمثابة اختزال مكثف لفحوى الكتاب .. ولرؤى الكاتب.
عندما اخبرني صديقي قحطان المدفعي المقيم في اثينا، مرة، خلال احدى احاديثنا الهاتفية المتقطعة عن صدور كتاب خالد القصاب، غمرني شعور عميق من السرور والغبطة لمناسبة صدوره. فالقصاب، كما هو معروف، واحد من أهم المثقفين العراقيين متعددي الاهتمامات، هو الذي احترف في آن واحد وبشكل نادر، مهنتين مختلفتين وبرع في كليهما أيما براعة. وقد أمّن ليّ احد أصدقائي المقيمين في الاردن نسخة من الكتاب، لتعذر اقتنائه في مكان إقامتي الحالية. وكما توقعت، فان الكتاب اخذ على عاتقه تقصي وتوثيق بدايات مسار الحركة الفنية الحديثة بالعراق، ومواكبتها لعقود طويلة عبر نص كتابي ينضح محبةً واخلاصا، مضفيا اليه اجواء تجربته الشخصية الثرة والمميزة.
ونص خالد القصاب، يستقي أهميته من أهمية دوره كرائد وكاحد مؤسسي الفن العراقي الحديث؛ بالاضافة على ان هذه الاهمية تزداد قيمة ورصانة جراء ما يتناوله الفنان من حوادث قدرّ لها ان تكون ذات شأن في تكريس قيم الحداثة في الخطاب الفني العراقي، الخطاب الذي تجلى حضوره بصورة واضحة بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التى يبدأ خالد القصاب منها تسجيل "ذكرياته الفنية" . هذا فضلاً من أن نصوص الكتاب تجمع بين متعة القراءة، و" لذة النص" التى تكلم عنها رولان بارت، وبين الدقة التوثيقية لمسار الحركة الفنية، والاصغاء بمتعة الى آرائه الشخصية عن مختلف الوقائع وتفحصها بعين مراقب عالي الثقافة، بعيدا عن الادلجة، ومن دون اسقاط تصورات مسبقة عليها.
يكتب خالد القصاب عن الاحداث التى مرّ بها، بشكل سلس ممزوج بالمتعة والمرح. ويذكر اسماء كثيرة واماكن كثيرة، ربما غابت الان عن ذاكرة الكثيرين. ويبدو لي، ان خالداً لا "يكتب" عن تلك الحوادث، بقدر ما " يتحدث" عنها مع قارئ كتابه، نظرا لخصوصية السرد المصطفى ونزعة تداخل الافكار والرغبة الدائمة في استحضار اجواء تلك الامكنة وتذكر الحوادث و"أظهار" صور الشخصيات التى " يتحدث" عنها. وعموما فاننا نفتقر الى هذا النوع من الاسلوب الكتابي عن الحركة الفنية في بلادنا. فكثير من المبدعين لم يولوا أهتماما كافياً لتسجيل انطباعاتهم او آراءهم او سرد حوادث مرصودة من وجه نظرهم، والتى يمكن ان تُشكّل خلفية نهضت عليها احداث فنية؛ وهو أمر، في اعتقادي، غاية في الاهمية لفهم وادراك عميقين لطبيعة تلك الاحداث ودراستها دراسة موضوعية في ضوء المعرفة الكافية والدقيقة لتلك الخلفية واستحضار مناخاتها.
عديدة هي الافكار المستقاة من نص كتاب الفنان، بيد ان النزعة التوثيقية للاحداث ربما كانت من أهمها. فخالد يسرد تواريخ لحوادث اساسية في مسار الحركة الفنية، كما يذكر اسماء فنانين عديدين بالاضافة الى عدد ونوعية القطع المعروضة في معارض يعود زمن تنظيمها الى نصف قرن او ما يزيد. فعلى سبيل المثال، يشير الى معرض معهد الفنون الجميلة بالكسرة( 1952) ويذكر اسماء المشاركين وعدد لوحاتهم ونوعية المشاركة لكل واحد منهم (ص 88-89). كما لا ينسى ان يشير في نصه الى المجاميع الفنية التى تشكلت في الخمسينات، واسماء مؤسسيها والمشاركين فيها؛ ويذكر حوادث اخرى تضيف معلومات جديدة الى ما نعرفه وما سجله آخرون تصدوا للكتابة والتوثيق عن تلك المرحلة المهمة من تاريخ الحداثة في بلدنا، وخصوصاً ما يخص الحداثة الفنية.
لكن ما يسم نص خالد القصاب هو أهتمامه الكبير بمنجز اصدقائه الفنانيين، والتوق المخلص لتقديمهم جميعهم الى القارئ من دون ان ينسى احدا؛ بل واحياناً يبجّل منجزهم ويهتم بأسماءهم ويتعمد ذكرهم اكثر بكثير من ان يذكر نفسه هو؛ وهو ما لاحظته الكاتبة " مي مظفر" في مقدمتها للكتاب، عندما تشير بان خالدا ".. لا يذكر ذاته الا من خلال حديثه عن الاخرين" (ص 16)؛ وهذا الجانب شكل احدى " ثيمات" كتابه القيـّم، وعكس في الوقت ذاته، سريرة هذا الشخص وطويته، وابان قيم اخلاقه العالية.
لا يتوانى خالد القصاب من الاشارة الى كثر من أشخاص استفاد من خبرتهم ومن رؤاهم الفنية والثقافية. بل ويغدو تعبيره الذي يرد كثيرا في ثنايا نصه الجميل من قبيل " تعلمت منه" و "علمني" و"افادني" بمنزلة لازمة يتوق بها تقديم ايماءة احترام وتقدير لاؤلئك الذين وجد فيهم معيناً له في اكتمال شخصيته الفنية. فيشير الى "زيد محمد صالح" بما يلي: " تعلمت منه الكثير" (ص 25)؛ وعن فائق حسن ".. ان هذا الذي اراه سيكون افضل استاذ أعرفه في حياتي (الطبية والفنية معا)، وانني ساقتبس منه الكثير" (ص 27). ويتحدث عن معلميه الاوائل بشغف مشوب بالاحترام؛ ويشير الى "رشاد حاتم" معلمه الاول في درس الرسم بالمدرسة المتوسطة (ص 17)، ويذكرّنا بـ"حسن بغدادي"؛ (ص 20) المهمش فنيا بلا سبب، اسلوبه الخاص الذي، ارى فيه، امتدادا عضويا لاسلوب استاذه "عبد القادر الرسام" ؛ ويتكلم كثيرا عن "عيسى حنا" - الذي لم يأخذ حقه كفاية من الدرس والاهتمام، ويضعه في مكانه الصحيح الذي يتعين ان يشغله في مسيرة الفن العراقي الحديث، كما يشير الى اخرين لم يتسنَ لسجلات التوثيق الخاصة بالفن العراقي ان جاءت على ذكر اسمائهم اومنجزهم. في الكتاب اشارة واضحة الى دور الفنانين البولونيين الذين كُتب عنهم الكثير، وعن دروهم المزعوم في إرساء قيم الحداثة في الفن العراقي. وليس ثم حاجة للتذكير عن ما يكنه خالد القصاب من احاسيس التقدير والاحترام وكثير اهتمام الى فائق حسن وجواد سليم ، فصفحات الكتاب حافلة بالاشادة بمنجز كلا الرائدين، مؤسسي الفن العراقي الحديث.
وتظل بالطبع اشارته الى المعماريين العراقيين وعملهم المشترك مع الفنانيين، قريبة لي ومفهومة لدى. وهو في هذا السياق، يذكرنا بعمل "جواد" النحتي ( الفلاح والفلاحة) والمخصص الى مبنى محطة قطار بعقوبة (ص. 69) المبنى الذي صممه كل من"فليب هيرست" و"عبد الله احسان كامل" ؛ وايضاً عمل جواد( العامل) لمبنى مصلحة نقل الركاب، المعمار" جعفر علاوي". ويفرد صفحات باكملها من مذكراته (ص. 119 الى 122) للاشادة بعمل المعماريين العراقيين وبضرورة ايجاد تواصل ابداعي بينهم وبين الفنانيين، ويأسف لان "تقاليد" العمل المشترك خف تأثيرها في الفترات الاخيرة. ويعود الفضل الى خالد بتوثيقه فوتوغرافيا زيارة المعمار العالمي "فرنك لويد رايت" الى بغداد عام 1957. وما دمنا في صدد الحديث عن المعماريين، فاني اجد الفرصة مواتية لتصحيح معلومة ورد ذكرها بشكل غير دقيق في الكتاب، عندما يشير خالد بان مبنى الكلية الطبية التى وضع الملك فيصل حجرها الاساس عام 1927 هي".. من تصميم معمار الدولة (آنذاك) الميجور ولسن، بأسلوب رومانسي وبأعمدة رومانية تحيط بمدخليهما.." (ص 157)؛ والواقع انها من تصميم الميجور ميسن( 1889-1960) H. C. Mason الذي كان يومذاك فعلا مديرا لدائرة" معمار الحكومة" Government Architect، وهي احدى تشكيلات "مديرية المباني العمومية" التى رأسها " ولسون". ولخالد كل العذر في الالتباس الحاصل في الاسماء. فلا زلنا ، مع الاسف، لا نملك سجلا مكتوبا وشائعا عن تاريخ العمارة الحديثة بالعراق؛ وهذا بالطبع نقص ابستيمولوجي فادح، نتحمل نحن المعماريون وزره. اذ لا يمكن ان تظل مجهولة اسماء مصممين لمبانٍ نعتز بها، ولا نعرف تحديدا متى نفذت اواكتمل بنائها كمبنى قصر الزهور في الحارثية ومطار المثنى بالكرخ والضريح الملكي في الاعظمية والبلاط الملكي في الكسرة ومدرسة الهندسة في الكرنتينة والموانئ في المعقل بالبصرة ومحطة قطار الموصل وغيرها من الابنية التى شكل حضورها وصورها الذاكرة المعمارية لوطننا. لكن هذا موضوع آخر، ليس مكانه هنا بالطبع.
ثمة مرح طاغٍ، مرح شامل وعميق ينثره خالد القصاب على صفحات كتابه، من مقالب بين اصدقاء الى حفلات تنكرية الى سفرات جماعية، وفي كل هذا تنشأ صداقة حميمية بين فنانيين، ويعلو شأنها؛ أصدقاء كان هاجسهم الفن وممارسة الفن ونقل تأثيراته الى الآخرين. هذا الهاجس العميق الداخلي، يذكره خالد ببلاغة مغموسة ببساطة وبشكل مباشر نجدها حاضرة في كلمات نصه، ونحس بان هذا الهاجس يتحكم به شخصيا كما يتحكم برفاقه الفنانيين، " راسما" مسار حياتهم وعلاقتهم واسلوب معيشتهم ومحدد مهنتهم ومكرساً لإحساس من انهم سعداء، يعيشون " ايامهم الحلوة" ( كما يرد في نصه) قانعين بمنجزهم الفنى الرفيع.
لكن نص خالد القصاب اياه، لم يكن النص الوحيد في كتاب " ذكريات فنية". ثمة "نصوص" آخرى، اشتغل عليها آخرون، شكلت "رافعة" مهمتها تحويل نص الفنان الى ما يفترض ان يكون "كتابا" مميزا، ومقروءا، يمكن له ان يسد فراغاً في تاريخ الحركة الفنية العراقية والاقليمية، ويعيد الاعتبار لمؤسسيها الحقيقيين، مثلما يشكل حدث اخراجه وصدوره واقعة فنية وثقافية بامتياز. وهذه "النصوص" هي: "نص" التقديم، و"نص" المقدمة، و"نص" الاخراج، واخيرا "نص" الناشر. هل اسارع بالقول ان تحقيق المهمة التى اخذت على عاتقها تلك النصوص، كانت .. مخيبة، ومحبطة للآمال؟ .
فصاحب " التقديم" اختار اسلوب " الاخوانيات" لمقاربته "التقديمية"، وهي مقاربة لم تكن مقنعة كثيرا، كما لم تكن مصيبة ايضاًً لا لجهة المحتوي ولا لناحية الهدف. فالمحتوى ركزّ على امور جانبية جدا ( أفرد، على سبيل المثال، اربع صفحات تقريباً من تقديمه، لحادثة عرضية مع تشعباتها تخص واقعة تتعلق بمعطف "خالد" المسروق! ) ؛ في حين خلا التقديم من اية معلومة جديدة يمكن لها ان تضيف شيئا مهماً الى ذاكرة المتلقي عن شخصية خالد القصاب او منجزه الفني. وكان يمكن ان يكون هذا التقديم مدخلا نقديا يرصد منجز الفنان ويضيئه عبر آليات النقد الحداثي ، ويكرس مكانته الحقيقية في خارطة الابداع الفنى العراقي بوجه خاص والعربي الاقليمي بشكل عام. ومكان تقديم الكتاب مؤهل جدا لمثل هذه المداخلة النقدية. ولي قناعة تامة بمقدرة وترحاب كثر من النقاد الفنيين المهمين والجادين للنهوض بهذه المهمة، نظرا لما يتمتع به خالد القصاب من مكانة وأهمية في المشهد الفني العراقي والاقليمي . وعموما فان "ثيمة" التقديم لم تكن موفقة، ولم اجد تسويغا مقنعا لادراجها ضمن " نصوص" الكتاب ، ويمكن لها ان تكون "مقالة" ضمن المقالات المرحبة بصدور الكتاب.
أما "نص" المقدمة، فقد حررته "مي مظفر" –وهي شاعرة وناقدة ومترجمة وقريبة جدا من الاجواء الفنية، وكنا نأمل أن يكون نصها مثرياً لذائقة القارئ عن اهمية نص الفنان بصورة اكثر تفصيلا ومهنية. ذلك لان حدث كتابة مذكرات فنية، كما اسلفنا، لم يكن باي حال ظاهرة عادية في الخطاب الفني العراقي، ونحن الان ازاء فرصة نادرة لتبيان قيمة النص المكتوب فنياً وتوثيقياً، وتكريس حدثه كتقليد ثقافي مطلوب في ذلك الخطاب. كما اننا، حقيقة، لم نفهم مغزى ودلالات كلمات الكاتبة عندما تقول" .. فهذه المذكرات تتوقف عند عام 1968 م! وللطبيعة حكمة لا تدركها العقول." .
هل فعلا ان الكاتبة لا تتذكر بدء " موسم" الارهاب ودوامة التنكيل والرعب المثار على كل "الجبهات" والاطراف؟ فنكران ذلك، و" تحميل" الطبيعة إيجاد تفسير له، تغطية غير مسؤولة، جنى العراق بسببها كثيرا من المآسي والحرمان، وساهمت بشكل وبأخر في استمرارية الظلم والظلامية. وكان يمكن للكاتبة أن لا تشير الى هذه الفقرة وتتجاوزها، وعدم توريطنا في "متاهة" نواميس الطبيعة التى لا تدركها العقول، في الاقل احتراما لذكرى معاناة خالد القصاب ذاته الذي فصل من كليته عام 1979 باجراء تعسفي وظالم وحاقد وغير مبرر بالمرة ، ناهيك ما اصاب عائلة خالد من قهر وجور كبيرين. ... عندما اصدر المعمار رفعة الجادرجي مع زوجته بلقيس شرارة كتابهما (جدار بين ظلمتين) ، كتب احد المثقفين العرب مستفسراً " .. لماذا تأخر اصداره كل هذه السنين طالما ان السجين حصل على حريته وهاجر قبل سنين طويلة؟. وتطلعت فوجدت اخبار المقابر الجماعية في كل مكان وفي هكذا حالة يأتيك الجواب قبل ان تطرح السؤال، فالخوف لا يتلبس الانسان في الزنزانة الصغيرة- السجن- ولا في الزنزانة الكبيرة- الوطن- لكنه يلحق به الى المنفى ثم يصاحبه الى القبر". انتهى تعليق المثقف العربي. فهل بقيت من ثمة "حكمة" لا تدركها العقول؟!.
صمم غلاف الكتاب "ناظم رمزي" وهذا بحد ذاته مبعث مسرة مزدوجة لي: اولهما اني لم اشاهد عمل تصميمي للفنان رمزي منذ فترة طويلة، وثانيهما أنه خص بعمله الجديد كتاب خالد القصاب: صديقه القديم. والكلام عن "نص" الاخراج: تصميم الغلاف واخراج الصفحات الداخلية يقتضي منا وقفة طويلة، نعلم ان طبيعة المقال لا تستوعبها؛ ما سيجعلنا نكتفي بمرور سريع على مفرداتها. وقبل كل شئ آمل ان يكون عمل رمزي مقتصرأً فقط على انجاز تصميم الغلاف (كما تشير المعلومة الورادة بالكتاب)؛ وانه غير معني في قرار إخراج الصفحات الداخلية وشكل الكتاب وتحديد ابعاده، وأن ذلك هو قرار الناشر ورغبته. فما نراه من نتيجة نهائية للكتاب لايمكن ان يكون عملا فنيا محترفاً، بل عمل اقل من العادي؛ يقترب ليكون "نكبة" تصميمة حقيقة، انه عمل مجحف بحق الفنان وبحق نصه وبحق فنه. وتصيبني الدهشة عندما اعلم بان مقر ومكان الناشر هو – لندن، من دون نرى او نحس باي اثر ما للمكان، ولثقافته الرفيعة، وتقاليده عالية المهنية في هذا المجال. وكأنما ثمة " لندن" آخرى ، لندن – لانعرفها ولم نسمع بها.
فبدلا من ان يكون صدور الكتاب حدثاً فنياً يليق بمنجز خالد القصاب، جاء الكتاب بقطع عادي جداً، من دون ان يعير القرار المتخذ ادنى أعتبار لخصوصية الكتاب الفنية أو لجهة ايجاد ابعاد ممّيزة له او لناحية تقصي تناسب متفرد. وكأن معطى الهاجس الاقتصادي هو الباعث الوحيد لاصدار الكتاب. والكتاب يتضمن صوراً عديدة لمراحل مختلفة من مسيرة خالد القصاب الحياتية والفنية. ان بعضها صور نادرة، يثري وجودها النص المكتوب. بيد ان نزعة التغاضي وعدم الاكتراث، جعلت منها "ملحقاً" في آخر الكتاب، بدلا من ان تكون مصاحبة للنص ومواكبة للسرد. كما يصعب عليّ ان اجد مسوغاً مقنعاً في جعل الصفحة الواحدة تنقسم الى صورتين بمقياس موحد ورتيب، بغض النظر عن موضوع الصورة وأهميتها. والملاحظة اياها يمكن اسقاطها على مجموعة الصور الملونة، التى جاءت هي الاخرى بملف خاص منعزل عن النص. في الوقت الذي كان يفترض ان يُعنى بكل صفحة ويتم " اخراجها" بجهد أضافي مع نصها المكتوب. وانا هنا لا اتوقف كثيرا على نوعية الحرف المختار وحجمه ونوعية الورق، والتى كان يمكن تجاوز سلبياتها بسهولة. واذ أشير اخيراً، الى تصميم الغلاف، فاني وددت ان يكون تكوينه بصورة مختلفة: اكثر فنية، واعمق ابداعاً، تتساوق تقصياته مع خبرة رمزي، المعروف بها، وباعه الطويل في هذا المجال.
أتراني "شططت" بعيدا في تقييمي السلبي لنصوص، أعرف مسبقاً مدى محبة وإحترام كتابها الى منجز خالد القصاب؟
- لا أعتقد؛
فانا، ومعي كثر من محبي فن القصاب، كنا نتوق ان نرى كتاباً فنياً مميزاً، يستثمر بمهنية نص خالد المكتوب، لتبيان منجزه الفني الرفيع ذا الحساسية المتفردة والاسلوب الخاص، المنجز المغيّب عن المشهد النقدي والكتابي بدون معنى، رغم اهميته الكبرى؛ هو الذي واكب واسهم في مسار الحركة الفنية الحداثية العراقية، وعمل بجد على تكريس قيمها لدى فئات اجتماعية عديدة؛ لا ان تكون "نصوصهم" وقفة متفرجة على "ضفاف" نص الفنان الاساس.
وكلمة أخيرة؛
اثناء عملي بالاردن في التسعينات، استاذا في احدى جامعاته ، كنت حريصاً على زيارة القصور الاموية المبثوثة في بادية الاردن، كجزء من اهتمامي بالعمارة الاسلامية لتقصي جذورها والاطلاع على نماذجها الاولى. كانت غالبية مواقع تلك القصور، ان لم تكن جمبعها، في أماكن بعيدة عن التجمعات السكنية. وحدها في الصحراء في بيئة مقفرة، يزيدها وحشة وعورة تضاريسها الارضية وخلوها من الاشجار. وكنت اتردد كثيرا على "قصر المشتى" ، كونه قريب من العاصمة، واحياناً امرّ على "سحاب"؛ المنطقة الفاصلة بين القصر وعمان. كانت وقتها، كما هي بقية اطراف مدن الاردن، مقفرة وكئيبة وقابضة للنفس. الان يرقد في ارضها خالد القصاب؛ هو الذي انفق حياته الفنية في رسم الاشجار والزهور، وكانت المياه والخضرة مفردات تكوينية اثيرة لديه، لم تفارق مطلقاً لوحاته!
يساورني ظن؛ بان خالدا غير مرتاح في نومته الابدية هناك.
يساورني ظن آخر، بانه غير راضٍ على..كتابه الاخير!.□□
د. خالد السلطاني
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون