منهج تضييع الحقائق التاريخية / مسلسل آخر الملوك نموذجا -4- تعـلـّموا الحرية من مجتمع الفقراء ونضالهم وليس من قصور الملوك
من حق أي كاتب سيناريو أن يكون له حق (انتقاء) الأحداث في أي مسلسل تاريخي ، لأنه يجد نفسه أمام آلاف الحوادث وأمثلة المواقف والصراعات ، بينما وقت المسلسل قد لا يتيح أمامه غير اختيار مئات فقط من تلك المشاهد المترابطة . هذا ما فعله السيناريست فلاح شاكر في مسلسل (آخر الملوك) لكنه أثناء البحث في السيرة الذاتية للملك فيصل الثاني أفرط في المبالغة بتصوير ما كان يجري في البلاط الملكي وفي القصور وأهمل أو اغفل ما كان يجري في الشارع العراقي وفي المجتمع وفي حياة العراقيين عموما . لذلك جاء تقييمه منحازا تماما وبوضوح تام إلى النظام الملكي العراقي ، مستحوذا على فكره أنه كان نظاما (ديمقراطيا) . كما اغفل عمدا أو تقصيرا نماذج أخلاقيات الحاكمين ، في تلك الفترة ، ملتمسا الأسباب ليعقد الآمال في المستقبل لتصوير ثورة الشعب اللاحقة في 14 تموز 1958 بأنها خطيئة تاريخية أو أنها قفزة لم تكن ناتجة عن التطور التاريخي للأوضاع القائمة خلال الفترة 1921 – 1958 حيث كان فيها العراق تحت السيطرة البريطانية السياسية خلال فترة الانتداب ، وتحت سيطرة الستراتيجيا العسكرية الغربية خلال فترة حلف بغداد .
الأمثلة على هذا المنهج في المسلسل كثيرة جدا يمكن أن أورد بعضا منها المتعلقة بصراع الوجود البريطاني – الأميركي في المنطقة وبصراع القوى الحاكمة في العراق ضد الحرية بأبسط أشكالها ، وضد الديمقراطية بأبسط أشكالها ، التي كان يطالب بها الشعب العراقي ويناضل من اجل الفوز بها ، لكن القدر بوجود سلطة الوصي – نوري السعيد سحق جميع تطلعات الشعب وأمانيه في كل الفترات حتى في فترة حكم الملك فيصل الثاني 1953 – 1958 التي ركز فيها فلاح هاشم مسلسله .
في المسلسل (آخر الملوك) لم تكن الكتابة السياسية والمشاهد السياسية موضع الاهتمام من قبل كاتب السيناريو عن العدالة والحق والنظام والأخلاق السياسية للحكام ، فقد أضاف الكاتب لغة الممارسة السياسية ، التي تظهر (بساطة الحاكم) العراقي وتواضعه وعمق فهم الشخصيات الوزارية الحاكمة لاماني الشعب والناس ، كأن النظام الملكي خال من الحكام العنجهية ، وأنهم لم يمارسوا العنف والسجون والإرهاب وتعذيب المعتقلين حتى في الأيام التي كان البلاط الملكي يستعد فيه لتتويج الملك فيصل في 2 أيار 1953 الذي أظهره المسلسل بوضع مزور وبهتان ، حينما أشارت بعض مشاهد المسلسل إلى احتفالات جماهيرية بالمناسبة سبقت وصاحبت التتويج ، معلنة عن فرحها وسرورها وهذا في الواقع العملي ليس صحيحا رغم وجود بعض المظاهر بدوافع رسمية أو عشائرية وليست شعبية . ربما يكون الشيء الوحيد الصحيح هو ظهور بعض الآمال لدى الناس بأن تغييرا ما سيحل بالعراق بتتويج الملك الشاب فيصل الثاني ، الذي نال بعض ثقافة حضارية عن الحرية والديمقراطية خلال سنوات وجوده في انكلترا . لكن لحظة البداية لم تكن باعثة على التفاؤل أثناء الممارسة ، إذ صاحبت عملية التتويج أوسع حملة إرهابية في العراق باعتقال مئات المناضلين وزجهم في المعتقلات بعكس الأماني التي راودت عائلات السجناء السياسيين في سجون بغداد وبعقوبة والبصرة والكوت ، الذين كانوا يتوقعون صدور عفو عام عن السجناء . حتى السجناء العاديين كانوا يتوقعون عفوا أو تخفيضا في أحكامهم ، خاصة بعد تشكيل وزارة جميل المدفعي وهي وزارة ضخمة ضمت عددا من رؤساء الوزارات السابقين وقد انيطت بهذه الوزارة الضخمة مهمة تهيئة الأجواء لانتقال العرش إلى الملك الشاب فيصل الثاني وإنهاء وصاية الأمير عبد الإله المعروف بسياسته القمعية .
بعد تشكيل الوزارة وتحديد مهماتها قام فيصل الثاني بعدد من الجولات لزيارة بعض ألوية (محافظات) العراق وذلك للتعرف على أحوال المواطنين ولتعريف الملك نفسه عليهم . كانت تلك الزيارة مصحوبة بالاستعداد الرسمي لتحشد طلبة المدارس ، خصوصا المدارس الابتدائية للبنين والبنات ، لضمان التصفيق للتتويج الملكي ، خاصة في زمن لم يكن فيه وجود أي شعار لدى الحركة الوطنية لإسقاط النظام الملكي وإحلال النظام الجمهوري بدلا عنه كما حصل عام 1952 في مصر .
في لواء (محافظة) البصرة كنا نحن الشباب تواقين لمشاهدة الملك الشاب أيضا عندما أعلن عن زيارة مرتقبة لفيصل الثاني . كنا نحمل بعض الآمال عن عهد قد يكون مختلفا عما سبق . كذلك هيئت عائلات السجناء السياسيين من أهالي البصرة عرائض مطالبة بإطلاق سراح أبنائهم القابعين في السجون البغيضة . كنت قد ساهمت شخصيا بكتابة عريضة طلبتها مني أم السجين السياسي (موسى كاظم) الموجود آنذاك في سجن بعقوبة ، على اعتبار أن خطـّي جميل وواضح .
في ليلة1 نيسان 1953 حطت الشرطة السرية رحالها في بيوت 50 مواطنا بصريا من الطلاب والعمال واعتقالهم . كنت واحدا منهم وقد وجدوا في جيبي عريضة أم موسى كاظم حيث كان مقررا تسليمها إليها في ظهر اليوم نفسه وفي يوم 4 نيسان زار الملك فيصل الثاني البصرة ـ قبل التتويج ـ واتضح لنا في ما بعد أن اعتقالنا هو إجراء احترازي للزيارة وسوف لن يطلق سراحنا إلا بعد عودة الملك من زيارته إلى الكويت .
خلال زيارة الملك تم تزيين المتصرفية أي مبنى المحافظة بأعلام عراقية . كما نشرت الأعلام الورقية على بعض أعمدة الساحة الواسعة أمامها . مثل هذا التزيين ظهر في واجهة الثانوية المركزية للبنين في العشار وفي ثانوية البصرة للبنات، اللتين كان مقررا أن يزورهما ، لكنه أوجز زيارته لساعة واحدة لثانوية البنات فقط ، حيث تجول في الصفوف كافة . بعد ذلك استقل فيصل الثاني اليخت الملكي المسمى (الملكة عالية) متوجها من ميناء المعقل ، قاطعا شط العرب داخلا الخليج العربي ، لزيارة الكويت وقد أطلق سراحنا نحن الموقوفين بعد يومين من عودته إلى البصرة ومن ثم وصوله بالسيارة إلى مدينة العمارة التي زارها . وقد عرفتُ بعد إطلاق سراحي أن أحدا من عائلات السجناء السياسيين والعاديين لم يستطع إيصال العرائض إلى الملك حيث ضُرب طوق حماية واسع حول موكبه .
هكذا كانت زيارة الملك إلى البصرة التي شهدت استقبالا رسميا وخاصا ومحدودا ، لكن لم يكن فيها أي استقبال جماهيري مندفع من رغبة المواطنين أنفسهم رغم وجود التوق الشديد لدى الشبان لرؤية الملك والتحدث معه .
في 30 نيسان أعيد اعتقالي مع عشرات المواطنين في مدينة البصرة . كنا نظن أن الاعتقال هو أجراء احترازي كي لا نشارك في مظاهرة عيد العمال العالمي 1 أيار المتوقع قيامها بالبصرة ، لكن سرعان ما اتضح لنا أن السبب الرئيسي هو زيارة الأمير سعود بن عبد العزيز موفدا من المملكة العربية السعودية لتقديم التهاني إلى المتصرف (المحافظ) بمناسبة تتويج الملك فيصل حيث كانت متصرفية (محافظة) البصرة قد أعدت برنامجا رسميا ، ليس جماهيريا ، للاحتفال بالمناسبة . أمضى الأمير السعودي الذي كان بمعيته شقيقه الأمير سلطان بن عبد العزيز حيث امضيا 24 ساعة غادرا البصرة بعدها متوجهين إلى عمان للمشاركة بنفس اليوم بتتويج الملك حسين على عرش الأردن (انظر جريدة الناس والثغر للفترة من 29 نيسان لغاية 8 أيار) . لذلك استطيع الجزم أن ما قاله كاتب السيناريو عن ذبح الذبائح في الشوارع من قبل الجماهير ترحيبا بالتتويج لم يكن واقعا صادقا عن البصرة والبصريين على الأقل رغم وجود مظاهر المحبة لشخصية الملك اليتيم فيصل الثاني والرغبة التي لم تتحقق في التعرف عليه مباشرة .
هذا الذي قلته آنفا عن مشاهدتي العيانية خلال شهر ، قبل التتويج وبعده ، أردت به الإيضاح لأصحاب المسلسل بأن المطلب الجماهيري في التغيير الاجتماعي والتاريخي لم يتحقق منه أي شيء بعد تتويج الملك فيصل الثاني على عرش العراق ، إذ لم نجد الملك الشاب قادرا على تغيير برامج حكوماته المتعاقبة لجعلها قادرة على تجاوز الأوضاع المأساوية للشعب العراقي ، بل الأصح أن التفاصيل السياسية تثبت أن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية ازدادت سوءا خلال فترة الملك فيصل الثاني 1953 – 1958 وليس صحيحا ما قدمه مسلسل (آخر الملوك) من صور درامية ساذجة في محاولة إثبات تحول جديد في عهد فيصل الثاني ، بل أن الوضع العراقي كله كان مطابقة تامة لما قبل التتويج لأساليب القمع والإرهاب . ظهرت السياسة الحكومية الجديدة مفرطة في تجاهل المطالب الشرعية لكل فئات المواطنين العراقيين بينما كان حوار المتحاورين في حلقات المسلسل يستهدف إلغاء المواقف الحكومية الملموسة وتزكيتها من كل قمع وإرهاب ، خاصة الرموز الإرهابية الكبيرة مثل سعيد قزاز ونوري السعيد وخليل كنة وآخرين كثيرين يحيطون بالملك فيصل الثاني من الذين لا يحملون غير أخلاقية معاداة الشعب العراقي وإبقائه في حالة المعاناة من العنف والفقر والموت . ربما جاءت السياسة العراقية القمعية نتيجة الأوضاع الثورية التي كانت قائمة في الجارة إيران ، البلد النفطي ، الذي شهد في الفترة 1950 – 1953 صراعا داخليا بين القوى المحافظة برئاسة شاه إيران والقوى الثورية برئاسة الدكتور محمد مصدق (1882 – 1967 ) الذي أمم النفط الإيراني بعد يومين من تسلمه منصب رئاسة الوزراء مما أدى إلى تفاقم الصراع الداخلي ، الذي هدد بقاء العرش(الملكي) الشاهنشائي ، مما أدى إلى تفاقم التدخل الأميركي للسيطرة على السياسة الإيرانية ومنافسة السيطرة البريطانية على النفط الإيراني والاستحواذ عليه فعليا بعد سقوط مصدق وعقد اتفاقية الكونسرسيوم النفطي. من هنا بالذات كان عهد فيصل الثاني يخشى من أية قوة متنامية مطلبيا في قضية تخص النفط العراقي يمكن أن تؤدي إلى تنامي قوة المطالبة ، أسوة بإيران ، بتأميم النفط وإسقاط الملكية حتى ولو كانت تلك القوة عمالية تناضل من اجل زيادة أجورها ببضعة دنانير .
هنا سأقدم مشهدين من مشاهد عينية جرت في عهد الملك فيصل الثاني وأعوانه من الشخصيات العراقية القامعة أمثال سعيد قزاز ونوري السعيد وبهجت العطية . في هذا الصدد أقول أن عمال الموانئ بالبصرة كانوا يواجهون وضعا معاشيا قاسيا ، كانوا يأملون من تتويج الملك فيصل الثاني تلبية بعض مطالبهم ، التي سبق تقديمها للحكومة ولفيصل الثاني أثناء زيارته المشار إليها آنفا لمدينة البصرة وميناء المعقل من دون أن يلقوا منه ومن حكومته استجابة مما دفعهم إلى التفكير بالإضراب عن العمل تماما مثلما هو التفكير السائد بين عمال شركة نفط البصرة .
كنت قريبا جدا من بعض قادة الحركة العمالية في الموانئ وفي شركة نفط البصرة بحكم عملي الصحفي في جريدة الناس البصرية من جهة ، وبحكم وجودي عضوا في القيادة الطلابية بالبصرة . بدأ تحرك عمال الموانئ وعمال النفط بوقت واحد تحت قيادة العمال الشيوعيين ( أكثرية 90% ) بالتعاون مع العمال من أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي ( أقلية 10% ) . كان النقاش يجري هل يتم إضراب عمال الموانئ أولا أم عمال النفط أولا ..؟ هل يتم إعلان الإضرابين في وقت واحد ..؟ أراء متعددة حسمها حسين احمد الرضي ( سلام عادل ) الموجود في البصرة على رأس التنظيم الشيوعي فيها وقد كنت مكلفا في الترويج الإعلامي للإضراب والمضربين .
صار القرار إعلان الإضراب في الموانئ أولا . لكن صار نقاش طويل وعميق أيضا بين القيادات العمالية لإعلان الإضراب في كل مؤسسات الموانئ دفعة واحدة لكن حسين الرضي كان رأيه مختلفا تماما من حيث التكتيك الاضرابي . كان رأيه إعلان الإضراب في (أهم) حلقات الموانئ لكن (أضعفها) من حيث العدد العمالي ، كي لا تكون خسائر القمع البوليسي المحتمل كبيرة وواسعة ، خاصة وانه كان من المحتمل أيضا أن لا يكون هناك موقف مغاير لدى الجهات القمعية البوليسية إزاء الشعب رغم وجود ملك جديد على عرش العراق . كان هذا النوع من الاختيار يكشف عن فهم عميق للسلطة البوليسية وامتحانا عسيرا لزمان الملك الجديد إزاء مصالح أجنبية في العراق وإزاء مطالب شعبية عراقية . تمّ اختيار نقطة الإضراب في ميناء الفاو الصغير من قبل حسين الرضي لعدة أسباب ، سمعتها منه مباشرة في وقت لاحق ، كلها تتعلق بالموقف القمعي البوليسي المحتمل ، الذي لا يتوقع تغيره بوجود الملك فيصل على العرش حديثا ، خاصة بعد أن هدد الإيرانيون عرش محمد رضا بهلوي في زمان الدكتور محمد مصدق .
معلومات كثيرة ووقائع كثيرة أخذت موقعها في تلك الأيام بين النخب العمالية والنخب الثقافية وفي الشارع البصري كله ، في الخفاء والعلن ، لم تغو كاتب مسلسل (آخر الملوك) على أن يكون سعيدا بتناولها أثناء الحلقات ، التي وردت فيها إشارة ثانوية فقط إلى إضراب البصرة والى دور وزير الداخلية سعيد قزاز في قمعه ، فهو ، أقصد كاتب السيناريو ، أما كان لا يملك كل المعلومات الضرورية عند كتابة السيناريو وهذا نقص لا يغتفر ، وإما انه تعمد الابتعاد عنها ليرسم صورة جميلة لتزويق وزير عراقي – سعيدي عرف عنه أنه وزير قامع معروف في مسامع الناس وتجاربهم بأنه صاحب سطوة بوليسية غير محدودة لقمع الحركة الجماهيرية والعمالية ، وهذا موقف لا يغتفر لكاتب السيناريو . لكنني اجزم أن معلومات (الفنان) فلاح شاكر كانت قاصرة عن البحث السياسي .
ليسمح لي الكاتب الفاضل فلاح شاكر أن أضع أمامه وقائع نضالية كبرى مسجلة في تاريخ النضال العمالي والشعبي في بلادنا كان تناولها ضروريا لتقوية عناصر مسلسله السياسي الهام ، لكنه اوجد قطيعة مؤسفة بينها وبين مسلسله دفاعا ، كما يبدو ، عن دور سعيد قزاز حيث حاول تصويره بأنه وزير (سلام) وليس وزير (إرهاب) بين العمال وشركة نفط البصرة البريطانية التي كانت البادئة بتصعيد (العنف) ضد العمال مثلما كانت دفاعا عن السلطة البوليسية العراقية المسئولة عن تصعيد (العنف) ضد الجماهير.
بدأ الإضراب بإعلان من قبل عمال اللاسلكي في مدينة الفاو يوم 15 تشرين الثاني 1953 وفق خطة حسين الرضي ، الشاب المتزوج حديثا ، مطالبين بالمخصصات الليلية وزيادة علاوة الاشتغال في العمل الإضافي بنسبة تتراوح 5- 10 دنانير وقد قدم وفد من عمال اللاسلكي مطالبهم إلى (المستر كلت) وكيل مدير الموانئ العام (انظر جريدة الثغر البصرية 17 تشرين الثاني 1953) وقد نجح الإضراب منذ بدايته حيث نال تأييدا جماهيريا واسعا في البصرة وبغداد إذ وردت برقيات التأييد للمضربين من كثير من النقابات العمالية في بغداد ( عمال معمل سيكاير) . كما نال الإضراب في يومه السادس تأييد ومشاركة جميع (عمال اللاسلكي) في الفاو والسيبة والمعقل . غير أن السلطات المحلية في المعقل والسلطات البوليسية السرية في البصرة (الشعبة الخاصة) بدفع من وزير الداخلية امتنعوا عن الاستجابة لمطالب المضربين والاتجاه نحو كسر الإضراب وقد أدى إلى نيل تأييد بعض عمال الموانئ الكويتية والإيرانية والسعودية ، التي سارعت بإرسال برقيات تأييد مما شجع عمال الحفارات في الفاو يوم 20 – 11 – 1953 على إعلان الإضراب تأييدا لرفاقهم عمال اللاسلكي وتوقفت الحفارات كليا عن العمل مما أدى إلى توقف حركة دخول وخروج البواخر من والى شط العرب (انظر جريدة الدستور البصرية يوم 23 تشرين الثاني 1953).
تصادف الإضراب العمالي مع الذكرى السنوية الأولى لانتفاضة تشرين 1952 إذ اضرب بالمناسبة نفسها طلاب ثانوية البصرة وخرجوا بتظاهرة تأييد لعمال الموانئ المضربين . نفس الحال جرى في كليات بغداد ومدارسها وقد نجح الضغط العمالي – الطلابي في أنحاء مختلفة من العراق على نجاح عمال اللاسلكي بنيل جميع مطالبهم يوم 1 – 12 – 1953 (انظر جريدتي الثغر والدستور يوم 7 كانون الاول 1953) فهل يتصور كاتب السيناريو مدى غليان الشارع العراقي آنذاك ، الذي أهمله فنه ..؟
كانت خطة الإضراب قد أحدثت هزة كبرى في الشارع العراقي كله من دون أن ينعكس ، ولو لدقيقة واحدة ، على مسلسل آخر الملوك . كما كان لقيادة الإضراب بكفاءة عالية من قبل حسين احمد الرضي دور كبير في تحفيز عمال شركة نفط البصرة الاحتكارية على تقديم عرائض المطالبة بتلبية حقوقهم المغدورة غير أن الشركة البريطانية ، مدعومة من قبل السلطات المحلية العراقية في البصرة والسلطة المركزية في بغداد ، رفضت الاستجابة للمطالب العادلة ، مما دعا القيادة العمالية في شركة نفط البصرة إلى عقد الاجتماعات المتتالية لإعلان الإضراب أيضا .
نوقشت قضية البدء في نقطة انطلاق الإضراب هل تبدأ من (قلب) الشركة في قسم المكينة في منطقة الجبيلة أم تبدأ من (شرايينها) الإنتاجية في حقول نفط الزبير ..؟ كان الجواب الذكي واضحا من نفس العنصر القيادي حسين احمد الرضي بتحديد زمان ومكان الإضراب من (العصب الشرياني) النفطي في الرميلة - الزبير .
تم الاستعداد لإعلان الإضراب بتشكيل 3 لجان :
(1) لجنة قيادة الإضراب .
(2) لجنة المفاوضة من العمال هاشم طعمة وشاكر علوان القيسي وطه ياسين وحسن المظفر يشاركهم فيها المحامي سالم الوجيه المتطوع للدفاع عن حقوق العمال .
(3) لجنة الدعاية والإعلام وقد تم اختياري عضوا فيها لكتابة التقارير الصحفية وضمان نشرها في الصحف البصرية والبغدادية . منذ هذا الموقع فأنا اعرف اغلب تفاصيل الإضراب .
من هنا فأنا على معرفة دقيقة وكاملة بأشياء كثيرة عن ما يتعلق بالإضراب وتفاصيله ومعرفتي الشخصية بغالبية قادته . من هذه المعلومات انطلق لمخاطبة سيناريست المسلسل وأحاججه .
في 4 كانون الأول أعلن عمال شركة نفط البصرة إضرابهم عن العمل في حقول نفط الزبير احتجاجا على عدم استجابة الشركة لمطالبهم التي تقدموا بها ، التي تضمنت حق تأسيس نقابة خاصة بهم وزيادة أجورهم وتحسين ظروف معيشتهم ، حتى بلغ عدد المطالب 14 مطلبا بعد يومين أو ثلاثة أعلنت الشركة موافقتها على تلبية المطالب الثانوية فقط خاصة ما يتعلق بتخفيض أسعار وجبات الطعام في مطاعمها ..! لكنها رفضت تلبية 12 مطلبا أساسيا فتوسع الإضراب ، شاملا كل حقول النفط في منطقة الرميلة وميناء الفاو لتصدير النفط وفي الإدارة بمنطقة الجبيلة أي في (شرايين) الشركة وفي (قلبها) وقد تظاهر العمال المضربون في مسيرة سلمية من منطقة الجبيلة إلى منطقة العشار أمام مبنى المتصرفية المحافظة وقد جرى تفريقها من قبل قوات الشرطة . في نفس الوقت قام العمال بمظاهرة سلمية في حقول الزبير أيضا ، احتجاجا على عدم الاستجابة لمطالبهم ، واحتجاجا على اعتقال بعض العمال المتظاهرين في الجبيلة ، فما كان من الشركة وشرطتها إلا التصدي للعمال بإطلاق النار عليهم مما أدى إلى جرح ستة عمال توفي احدهم متأثرا بجراحه (انظر جريدة لواء الاستقلال البغدادية في 17 كانون الأول 1953) وكان المستر موني معاون مدير الحقول النفطية في الزبير قد أطلق الرصاص من بندقية صيد على بعض العمال فقتل واحدا منهم هو العامل جاسم محمد حسن وقد دافع المتصرف(المحافظ) عن هذا الإجراء إذ صدر التحقيق القضائي مشيرا أن القتل لم يكن متعمدا بل بالمصادفة فأوقف المستر موني بضعة أيام ثم جرى تسفيره إلى لندن مما دعا فرعا حزبي الاستقلال والوطني الديمقراطي في البصرة إلى كتابة البيانات الاحتجاجية الصارخة في جريدتيهما بالبصرة . كذلك فعلت الجريدتان المركزيتان لهذين الحزبين في بغداد وقد استمر العمال في إضرابهم بتأييد مباشر من الطلاب الذين أعلنوا إضراباتهم في البصرة والعشار وأبي الخصيب والقرنة .
كان صدى الإضراب كبيرا جدا في إيران حيث اتخذت السلطات الإيرانية إجراءات بوليسية واسعة في جميع الحقول والمؤسسات النفطية . نفس الشيء فعلته السلطات السعودية والكويتية في منشأتهم النفطية ، خاصة بعد انتقال صدى الإضراب إلى الصحافة العالمية في باريس ولندن خشية اتساع فعالية المضربين وتحولها إلى مطالبة شعبية عراقية لتأميم النفط . لذلك اهتمت حكومة بغداد بهذا الأمر فأوفدت ، أولا ، وزير العمل والشئون الاجتماعية حسن عبد الرحمن لمعالجة الموقف وإنهاء الإضراب ثم وصل بعده وزير الداخلية سعيد قزاز . اختلف الوزيران في الموقف بين مطالب عمال عراقيين ومصالح شركة احتكارية أجنبية . كان الوزير حسن عبد الرحمن مع تلبية اغلب المطالب العمالية (10) مطالب ودراسة بقية المطالب لاحقا ، بينما كان موقف سعيد قزاز مصرا على عدم الاستجابة لمطالب العمال وقمع إضرابهم بالقوة البوليسية الفورية . على أثر هذا الموقف المتشدد للوزير قزاز انسحب الوزير حسن عبد الرحمن عائدا إلى بغداد بينما أصر سعيد قزاز على رئيس الوزراء محمد فاضل الجمالي بضرورة إعلان الأحكام العرفية في لواء (محافظة) البصرة وقمع الإضراب ، ومحاكمة المضربين ، وزجهم بالسجون ، خاصة بعد أن أضربت مدارس وأسواق ودوائر الدولة كافة تضامنا مع عمال النفط . بالفعل كان لسعيد قزاز ما أراد فأعلنت الأحكام العرفية بالبصرة وحوكم المضربون وزجوا في السجون كما اتخذ مجلس الوزراء قرارا بإحالة كل من جريدة (لواء الاستقلال) الناطقة بلسان حزب الاستقلال وجريدة ( صوت الأهالي ) الناطقة بلسان الحزب الوطني الديمقراطي إلى المحكمة العرفية .
بودي أن أدعو السيد فلاح شاكر لمطالعة محاضر جلسات محكمة الشعب – المهداوي الجزء الثاني وإذا كان لا يؤمن بعدالة هذه المحكمة أو بوثائقها فليذهب إلى جريدة (الجريدة ) القومية والى جريدة (الزمان) البغدادية المستقلة والى جريدة (الوقائع) الرسمية عدد 3333 الصادرة كلها خلال الفترة من 10 كانون الأول 1953 لغاية 27 كانون الأول 1953 ليرى بنفسه أن سعيد قزاز لم يكن إلا مسئولا (قامعا) من مسئولي العهد الملكي لا يعرف غير التنكيل والتعذيب والمحاكم والسجون وسيلة لإخضاع المعارضين لحكومته . يا حبذا لو رأى فلاح شاكر بنفسه أن لا هذا الوزير ولا رئيسه محمد فاضل الجمالي يعرفان أي شيء عن حقوق الإنسان مما يؤيد أن مسلسل (آخر الملوك) تجلى صمتا عن عذاب الشعب العراقي والكادحين خصوصا . كما أن الحقيقة تظل دائما قائمة على أن شركات النفط الاحتكارية لن تكون حسنة النية مع عمالها وان المسلسل ظل عاجزا من بدايته حتى نهايته عن التفريق بين الضحية والجلاد.
منهج تضييع الحقائق التاريخية / مسلسل آخر الملوك نموذجا -3- جاسم المطير
تنازل متعمد عن حقائق تاريخية / مسلسل آخر الملوك نموذجا -2- جاسم المطير
منهج تضييع الحقائق في الدراما التاريخية / أخر الملوك نموذجا -1- جاسم المطير