ذكريات عراقية، سلسلة جديدة يقدمها أ.د. شموئيل (سامي) موريه (2) مقدمة: التدمير الذاتي في العراق
عندما اتأمل في تاريخ حياة كبار المثقفين العراقيين من أدباء وشعراء وعلماء وصحافيين من الذين قرأت عنهم أو التقيت بهم في المهاجر الأوربية والأمريكية أو راسلتهم بالبريد الألكتروني الذي هدم سدود الرقابة الحكومية بين الشعوب، يأخذني الأسى لما آل إليه مصير الكثير منهم من مطاردة وسجون وتشريد، مما أدى الى هروب الأدمغة والكفاآت والمواهب العظيمة لكثير من العراقيين، فأتذكر البيت التالي الذي يلخص سياسة الحكام العراقيين خاصة نحو الشعب العراقي الكريم:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
ثم أتذكر أبيات بدر شاكر السياب الخالدة في مواطنة مظلومة تلخص محنة العراق الذي لم ينتفع الشعب من ثرواته الطبيعية:
ويح العراق أكان عدلا فيه أنك تدفعين
سهاد مقلتك الضريرة
لملء يديك زيتا من منابعه الغزيرة
كي يثمر المصباح بالنور الذي لا تبصرين؟
وعند تدويني لذكرياتي وقراءتي لمذكرات الأدباء العراقيين، ادركت ان هذه الأبيات تلخص موقف الحكومات العراقية خاصة نحو المواهب الفذة الرائعة التي يتمتع بها الكثير من المثقفين العراقيين وأفراد من عامة الشعب. ويمكن ان نسمي هذه الخصلة التي يتميز بها الحكام العراقيون بخصلة "التدمير الذاتي"، من جراء الاستبداد والظلم والابتزاز، دون التروي والتفكير في العواقب. فهم كما قيل، "قوم إذا أرادوا الثمرة قطعوا الشجرة". ويرون في العنف وقسر الشعب على الاستجابة لأهوئهم، الطريق الوحيد نحو تنفيذ مخططاتهم العشوائية الجهنمية، وهكذا افلحوا في تمزيق وحدة الشعب العراقي وتدميره، وشردوه في جميع اقطار المعمورة.
عند طـُردنا من العراق لم يسمحوا لنا بإخراج بعض مدخراتنا وبيع املاكنا، ووصلنا إلى اسرائيل خاوي الوفاض، والقليل منا من كان يملك الخمسين دينارا، وهي اقصى ما سمحت به الحكومة العراقية الناكرة للجميل، بإخراجه معنا من العراق، فاضطر معظم الشباب للعمل لإعالة والديهم والعمل في اعمال وضيعة، بدل الدراسة في مدارس وجامعات البلاد والخارج، كما منعنا من اصطحاب الكتب والوثائق وآلات المهن المختلفة التي حذقها يهود العراق كالآلات الموسيقية، لذلك أخذ كاتب هذه السطور على عاتقه تشجيع أصدقائه العراقيين من المثقفين والأدباء على تدوين ذكرياتهم وتجاربهم في حياتهم العملية في العراق بصورة موضوعية، للحقيقة والتاريخ ولنشرها في سلسلة منشورات رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق في اسرائيل التي أسسناها عام 1980، أما الذكريات التي تضم عددا قليلا من الصفحات فإني أحاول اليوم نشرها في جريدة "إيلاف" الالكترونية الغراء، الحصن الحصين لحرية الفكر والنشر باللغة العربية، حفاظا عليها من الضياع ولاطلاع القراء الكرام على احداث أيام زمان بحلوها ومرها وخاصة ذكريات التهجير الثاني تحث حكم البعث الغاشم، وقد شجعتني استجابة الاستاذ الصحفي مراد العماري لاقتراحي في كتابة ذكرياته وموافقته على نشرها في "إيلاف" وعلى التفتيش عن ذكريات لأصدقاء آخرين ونشرها في هذه السلسلة الجديدة من "ذكريات عراقية" والتي اعتبرها الجزء الاول من سلسلة المقالات التي اعتزمت على نشرها. أما اليوم فاني أنشر السلسلة الثانية بقلم الاستاذ المرحوم أهارون موريه (معلم) من إخوة رجل الأعمال والشاعر الشعبي من الديوانية الفقيد عزت ساسون معلم مؤلف كتاب "على ضفاف الفرات، ذكريات أيام مضت وانقضت"، مراجعة واعداد الاستاذ نير شوحيط العماري، (شفا عمرو، دار المشرق للترجمة والطباعة والنشر، 1980)، وذكرياته وحكاياته التي نشرها في كتابه "بعيد وقريب"، (شفا عمرو، دار المشرق للترجمة والطباعة والنشر، 1983). وذكريات الاستاذ أهرون موريه-معلم هذه، تعد تتميما للأحداث التي رواها أخوه السيد عزت ساسون معلم. ومن بين الحكايات التي رواها، هي ذكرياته عن نزوله ضيفا علينا في البتاويين كأحد اقرباء الوالد الأعزاء. وهي ذكريات جديرة بإعادة طبعها مرة آخرى ليقف القراء الكرام على الاخاء بين مختلف الطوائف العراقية في الفرات الأوسط "من اليهود وبين بدوه وحضره من العرب، في فترة نافت على القرن تحت حكم متتال – عثماني، بريطاني، ثم عراقي عربي". والسيد عزت ساسون معلم يمت بصلة القرابة الى عائلة والدي، ولقب معلم كان يمنح لرجال الدين اليهود خاصة، لانهم كان يعلمون الشريعة اليهودية، وقليلا ما كانت العائلات المسلمة تتخذ لقب "معلم"، بل كانت تتخذ لقب "مدرس" لتمييزها عن العائلات اليهودية. وقد ربطت بيني وبين السيد عزت معلم، بعد ابتزاز حكومة البعث بصورة دنيئة معمل الطابوق الفني الذي أنشأه مع عائلته في الديوانية وهروبه الى إسرائيل. وقد جمعتنا رغم الفارق في عمرينا، رابطة صداقة متينة الى آخر يوم من حياته، ومدحني بقصيدة نظمها بلهجة الفرات الأوسط لا أزال اعتز بها.
وعندما كنت محاضرا للأدب العربي في وظيفة جزئية في جامعة بار-إيلان في رمات كان، الى جانب عملي الثابت في الجامعة العبرية، كانت السيدة سيلفيا موريه زوجة السيد أهارون موريه من بين طلابي، فطلبت منها أن تحثّ زوجها على تدوين ذكرياته عن الأيام الأخيرة في العراق تحت حكم البعث، وخاصة بعد أن قرأت كتابي أخيه السيد عزت ساسون معلم، فاستجاب مشكورا. ومضت السنون ثم سمعت عن وفاته في مدينة رمات كان، ثم عثرت على ذكرياته بين أوراقي، وطلبت الاذن من ارملته السيدة سيلفيا السماح لي بنشرها لاهميتها التاريخة، فسمحت لي مشكورة.
واليوم بعد المحن التى مرّ بها العراق الجريح، ما احرى بالحكومات العراقية والعربية اليوم بالإتعاظ بهذه الذكريات وأخذ العبرة منها في معاملة الأقليات الدينية والطائفية معاملة تليق بابناء الوطن الواحد الذين بنوا حضارته ومجده قبل الفتح الإسلامي وساهموا مساهمة كبيرة في بنائه باخلاص. وفي هذه المرحلة الحرجة من حياة الشعوب العربية، مرحلة يقظة الشباب العربي الناهض وانتفاضتهم ضد طغيان حكامهم الذين أستأثاروا بثروات البلدان العربية وألهوا شعوبهم ببعبع خطر اسرائيل الوهمي للبقاء في الحكم أطول مدة ممكنة ولتوريثه لأبنائهم الذين تربوا على فكرة ان الشعب هو بقرة حلوب يتمتعون بخيراتها دون الاهتمام الحقيقي بحاجات شعوبهم في العيش بكرامة وتحسين اوضاعهم المادية والاجتماعية والثقافية وحرية العبادة والفكر.
فإلى القراء الكرام أهدي هذه السلسلة الجديدة من ذكريات أحد ضحايا حكم البعث الغاشم، الذي دمر العراق تدميرا وأوقع بين طوائفه واديانه، انشرها للعبرة والتاريخ.
شموئيل (سامي) موريه
25 آذار، 2011
ذكريات عراقية، سلسلة جديدة يقدمها أ.د. شموئيل (سامي) موريه (2)
ذكريات من العراق
بقلم أهارون موريه (معلم)
الحلقة (1)
كيف تطورت علاقاتنا مع المواطنين العرب
نشأنا في مدينة الديوانية الواقعة في وسط العراق، كان أبى المرحوم إلياهو رئيس عائلة (معلم) قد كرس حياته للديانة فقط وكان كبير عائلتنا أخي الأكبر المرحوم ساسون معلم وهو شخصية معروفة لدى الكثير من العراقيين عرباً ويهوداً كرجل أعمال ومزارع كبير وقد تعلمنا منه نحن أفراد عائلته الاستقامة والأخلاق الفاضلة وإكرام الضيف ومحبه الغير ونحن كنا وما زلنا نؤمن بالنظام العائلي فكبير العائلة له مكانته واحترامه لدى أفراد العائلة.
كانت علاقتنا مع بقية السكان غير اليهود ودية لا أحقاد في القلوب ولا ضغائن في النفوس، لا تفرقه في الدوائر الحكومية ولا في المدارس، حيث لا فرق بين طالب يهودي وأخر غير يهودي وقد شارك كثير من اليهود الرجال العرب في أعمالهم التجارية، كما وقد اشغل اليهود الدوائر الحكومية والشركات والبنوك والتعليم والوظائف الكبيرة منها والصغيرة، كما وقد خدم في الجيش العراقي عدد من الضباط اليهود وتخرج من الكلية العسكرية كثير من ضباط الاحتياط برتبة ملازم ثاني منهم ابن أخي المهندس نعيم شيمش وأخي المرحوم ناجي معلم وغيرهما، ولذا فقد قام اليهود بدور كبير في إنهاض العراق وتقدمه ثقافيا واقتصاديا بعد تحرره من الاستعمارين التركي والبريطاني نظرا لثقافتهم ونشاطهم في كل الميادين في الوقت الذي لم يكن بين المواطنين العرب في العراق من المثقفين إلا القليل كنتيجة لفترة الاستعمار التي مرّ بها الشعب العراقي وحرمانه من المدارس في حين كان للشباب اليهود مدارس خاصة بهم.
كنا نشارك أهالي مدينة الديوانية ويشاركوننا الأفراح والأتراح بالأعياد وبحفلات الزواج وحتى في تشييع موتاهم إلى مدينة النجف وغير ذلك من المناسبات الاجتماعية المختلفة وكانوا يستقبلوننا بكل تقدير واحترام ونستقبلهم كذلك. كنت اشعر بسرور عندما كان أخي المرحوم ساسون معلم يترأس وفدا من أبناء عائلته وبعض أصدقائه يزور وجهاء البلد في دورهم لتقديم التهاني بمناسبة العيد فيستقبلوننا بحفاوة وود حيث تقدم القهوة العربية والحلويات وكانوا هم يزوروننا بتلك المناسبات أيضا ويلاقون منا أحسن استقبال، وعند وفاة المرحوم الملك فيصل الأول أقيمت في كنيس اليهود في مدينة الديوانية حفلة تأبينية كبرى حضرها متصرف اللواء وكبار الموظفين وجمهور غفير من الأهالي ألقيت فيها الخطب التأبينية من قبل اليهود والعرب وكان من بين الخطباء فيها الدكتور نسيم عزرا نسيم الذي شغل في إسرائيل منصب معاون رئيس بلدية رمات-كان حاليا مع كاتب هذه السطور، كما وأقيمت حفلة تأبينية مماثلة بوفاة المرحوم الملك غازي الأول، كنت احد الخطباء فيها وخطب أيضا المرحوم داود سلمان خلاحجي والآنسة صبيحة ربيع.
وكان اليهودي بنظر المواطنين العرب رجل أمانة وثقة واني أتذكر جيدا كيف كان بعضهم يودع نقوده أمانة عند احد سكان المدينة المدعو الياهو جبره وذلك قبل تأسيس بنك في المدينة آنذاك بدون وصولات أو أي مستحقات، وفي اجتماع لجمعية مكافحة السل في الديوانية انتخب أخي المرحوم ساسون معلم أميناً لصندوق الجمعية وحساباتها. هكذا كانت العلاقات السائدة بيننا وبين المواطنين العرب، علاقات ودية طبية وصافية من الشوائب. ترى هل يعود يوما ذلك الصفاء والتآخي بيننا وإننا لذلك لمنتظرون. وعندما كنت أرافق أخي المرحوم ساسون معلم في بعض سفراته إلى مضايف شيوخ العشائر يأخذني العجب مما أرى من حسن الأخلاق والتقاليد العربية الأصلية الطيبة وكرم الضيافة منذ قديم الزمان، فأطباق (صواني) التمن الكبيرة ذات الرائحة الزكية التي اشتهر بها التمن المزروع في الفرات الأوسط مرصوف عليها الذبائح الأغنام الصغيرة (القوازى) والخبز الحار الذي اخرج من التنور توا تثير الشهية وتدل على الكرم والسخاء. يأكل الضيوف أولا ثم يعقبهم أفراد العشيرة علما بأن مضيف شيخ القبيلة هو دار الضيافة التي تستقبل أي فرد يلجأ إليها للأكل أو المبيت مجانا وهو النادي الذي يتسامرون فيه وهناك تروي الأخبار والقصص، وإكرام الضيف واحترامه عند العرب من أهم الواجبات الأجتماعية وقد أغلقت هذه المضايف بعد ثورة 14 تموز سنة 1958 التي قام بها المرحوم عبد الكريم قاسم بسبب مصادرة أراضيهم الزراعية بموجب قانون الإصلاح الزراعي وانقطاع مورد تمويل هذه المضايف.
بدأت العلاقات بيننا وبين المواطنين العرب تتغير تدريجيا عند ظهور بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في العراق والتغيير الذي طرأ أولا كان لدى قلة من المواطنين وعندما ظهرت النازية المجرمة وبثت سموم دعاياتها بعمق بواسطة أجهزة إعلامها القوية أثرت في نفوس الكثير من العراقيين تأثيرا معاديا لليهود انعكس ذلك على علاقاتنا مع الدوائر الرسمية بصورة سلبية وظهرت بوادر التفرقة بين اليهودي وغير يهودي وعندما بلغت هذه الدعاية أوجها وحصلت ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد الانكليز سنة 1941 قتل وجرح المئات من يهود بغداد ظلما وبدون أي سبب وحصلت تلك المجزرة المعروفة "بالفرهود" بتحريض الدعاية النارية لمواطنين ضد اليهود ليس إلا - ويحضرني هنا حادث قد يكون طريفا، فقد كنت ذات يوم من أيام ثورة رشيد عالي ماشيا في الشارع الرئيسي لمدينة الديوانية فرأيت الشاب حسقيل يعقوب ماشيا يتأبط ذراعيه رجلين خوفا من هروبه يحيط به عدد من الرجال والأولاد متجهين به نحو سراي الحكومة، فسألت احد المحيطين به عما فعله هذا الشاب اليهودي ولماذا يقودونه إلى الشرطة، فإجابتي إن المذكور ضبط وهو يقطع بالمقص أسلاك التلفون الممدودة على الأرض والتي تربط بين وحدات الجيش المرابطة للدفاع عن مدينة الديوانية، فتابعت الموكب عن كثب لأرى النتيجة وعندما بلغ الموكب مركز الشرطة سأل مأمور المركز الذين أتوا به قائلاً: أين المقص الذي كان يقطع به الأسلاك التلفونية؟ أجابوه لقد ابتلعه، أما مأمور المركز فقد أمر بتوقيفه إرضاء للذين اقتادوه بسبب غليان العواطف آنذاك، وبعد انصرافهم أطلق سراحه. وفي حديث لي مع ضابط كردي في الجيش العراقي حول ما لحق بنا من الظلم والخسائر في النفوس أثناء تلك الثورة، قال مواسياً، إن شر البلية لم يقتصر عليكم وحدكم فقد شمل علماء وأكابر وضباط كثيرين، فأجبته من قتل أو سجن من غير اليهود كان معارضا لرجال الحكم، أما من قتل منا فقد كان ضحية للنازية المجرمة.
بعد ثورة رشيد عالي الكيلاني كانت الحالة بالنسبة لليهود بين مد وجزر تارة حسنة وأخرى سيئة حسب أهواء ومتطلبات الطاقم الحاكم، فإذا احتاج إلى كبش فداء أو سلم للصعود أو استعراض العضلات، كان اليهود طوع أمرهم يتحملون الظلم والجور بصبر، وعند قيام دولة إسرائيل (1948) وهجرة يهود العراق الجماعية (1950) زودوا اليهود الذين أبوا مفارقة مسقط رأسهم بالبطاقة الصفراء المعروفة بهوية عدم إسقاط الجنسية العراقية، وبدأت حملة ظالمة ضد يهود العراق الباقيين بعد انقضاء السنة المخصصة لإسقاط الجنسية العراقية على اليهود الراغبين في الهجرة، واشتدت الحملة بعد اكتشاف منظمة الصهيونية السرية (التنوعة) في بغداد والقبض على معظم أفرادها، وكانت محاكمتهم مثيرة للعواطف ضد اليهود وزاد الطين بله إعدام التاجر الكبير المرحوم شفيق عدس في البصرة (1948) بعد محاكمة عسكرية بتهمة إرسال أسلحة لإسرائيل، كان لهذين الحادثين وقع سئ على نفوسنا سيما وان رسائل الإعلام العراقية استغلتهما لبث الحقد والكراهية ضد اليهود استغلالا واسعا. تلا ذلك حملة قوية من قبل الحكومة استهدفت تقليص أعمال اليهود حين فصل جميع الموظفين من وظائفهم في الدوائر الرسمية والبنوك وسحب إجازات المستوردين ومنع قبول الطلاب اليهود في الجامعات وألغيت اعتمادات التجار في البنوك وغير ذلك من الإجراءات التعسفية المختلفة.
في يوم 14 تموز سنة 1958، قامت ثورة المرحوم عبد الكريم قاسم وزملائه من الضباط تلك الثورة التي أطاحت بالنظام الملكي في العراق، وفي اليوم الأول من قيامها وفي قمة هيجان العواطف وتحريض الشيوعيين، قتل جميع أفراد العائلة المالكة بما فيهم المرحوم الملك فبصل الثاني الشاب ومربيته البريطانية الجنسية، وقد قال لي ضابط كبير في الحرس الملكي إن العراق خسر ملكا ذو شخصية محبوبة وأخلاق فاضلة وذكاء واسع، كان من الممكن للعراق الاستفادة منه كثيرا في تكوين مستقبله، أما الأمير عبد الإله الذي كان وصيا على العرش قبل أن يتوّج المرحوم فيصل الثاني ملكا، فقد ربطت جثته بسيارة نقل وسحلت في شوارع بغداد الرئيسية وسحلت كذلك جثة - السياسي المخضرم نوري السعيد الذي ترأس الوزارة العراقية لفترات كثيرة ويعتبر من أشهر ساسة العراق وأكثرهم حنكة ودهاء، سحلت حثته في شارع الرشيد والشوارع الرئيسية الأخرى، وكان قد أطلق النار على نفسه عندما عثروا عليه في مجلة البتاوين في بغداد متنكرا بزي امرأة ومحاولا الهرب إلى خارج العراق، وأثناء سحل جثته كان هذا الشخص أو ذاك يقطع قطعة من الجثة إلى أن بقى منها فخد واحد فقط أخذه الساحبون للأشلاء جثته إلى صوب الكرخ وجمعوا حطبا لشيه وحرقه أمام قصره، وعندما حلّ الظلام وأعلن نظام منع التجول انصرفوا عنه. وكان لمدينه الديوانية نصيب أيضا من حوادث السحل حيث قتل عقيد في الجيش العراقي داخل ثكنات الجيش على يد الجنود ثم سحلت جثته بالحبال من قبل ثلة من الجنود من الفرقة الأولى إلى الجانب الثاني من المدينة وعلقت على شجرة أمام سراي الحكومة.
وعندما نعود بالذاكرة إلى ثورة عبد الكريم قاسم لا يغيب عن البال محكمة المهداوي، فقد شكل الانقلابيون محكمة عسكرية سميت بمحكمة الشعب برئاسة فاضل عباس المهداوي، وكان المقدم ماجد أمين مدعيا عاما فيها، لقد كانت تلك المحكمة منبرا عاما للهتافات والشعارات الشيوعية البراقة وجد فيها الشيوعيين متنفسا لشعاراتهم ومشاعرهم المكبوتة خلا الحكم الملكي وكل بضعة دقائق تمر اثنا المحاكمة كنا نسمع الشعارات الهاتفة بسقوط (الاستعمار والرجعية والامبريالية) وغيرها يسبقها هتاف "يعيش" أو "يسقط"، حسب الحاجة ثم يليه تصفيق يصم الآذان بالإضافة إلى خطب المهداوي وماجد أمين التي لا تخلو من السب والاهانات للذين جاءت بهم الأقدار إلى قفص الاتهام أمام هذه المحكمة، ووقف في قفص الاتهام جميع رؤساء وزارات ووزراء وقادة الحكومات السابقة تقريبا وهنالك وسط جموع المشاهدين الغفيرة تلقوا من الشتائم والاهانات الشيء الكثير فاعدم من اعدم وسجن من سجن.
بعد أن هدأ الغليان الناتج عن ثورة 14 تموز سنة 1958 أعاد المرحوم عبد الكريم قاسم لليهود حريتهم واطمئنانهم فكان ينادي دائما في خطبه بالمساواة بين المواطنين بغض النظر عن اختلاف الدين أو اللغة أو القومية وهذا ما حصل في عهد حكمه قولا وعملا، فقد تمتع الشعب العراقي بكافه طبقاته بالحرية التامة مما جعل المرحوم عبد الكريم قاسم اقرب زعيم إلى قلوب الشعب العراقي بكافة طبقاته ما عدا الفئة القليلة المعارضة الطامعة في تسلم الحكم، وأعاد لليهود معظم حقوقهم وقبل أبنائهم في الكليات، واستمرت هذه الفترة من الحرية حتى استيلاء عبد السلام عارف على الحكم بانقلاب عسكري دموي أطاح بحكم المرحوم عبد الكريم قاسم، وأصبحت الانقلابات مألوفة لدى العراقيين لكثرتها، فكثيرا ما كنا نصبح على بيان رقم 1 لقائد إحدى الثورات معلنا الثورة باسم الشعب، بينما أفراد الشعب في دورهم نائمين ولا يعلمون ما يجري حولهم، وفي هذه الثورة المضادة لثورة 14 تموز قتل عبد الكريم قاسم زعيم الثورة وكثير من أتباعه في الحكم ورئيس محكمة الشعب فاضل المهداوي والمدعي العام ماجد أمين وعرضت جثة الزعيم في التلفزيون العراقي للمشاهدين وبصق أحد جنود الجيش على وجهه وهو جثة هامدة، كذلك عرضت جثة رئيس محكمة الشعب والمدعي العام فيها ولم يراعوا حرمة الموتى.
يتبع – ذكريات أهرون موريه - رقم 2
ذكريات عراقية – يقدمها أ.د. شموئيل (سامي) موريه (2)
ذكريات من العراق
بقلم اهارون موريه (معلم)
الحلقة (2)
مجازر حزب البعث
بعد حرب الأيام الستة وانتصار الجيش الإسرائيلي الساحق الذي أدهش العالم بفترة قصيرة استولى حزب البعث على الحكم في العراق بانقلاب عسكري كالعادة وأبعد الرئيس عبد الرحمن عارف إلى تركيا وشيئا فشيئا احكم سيطرته التامة على كل أجهزة الحكم في العراق وأصبح لعضو الحزب المنظم الكلمة العليا في دوائر الجيش والشرطة والإدارة وباقي دوائر الحكومة فلا وزن لرتب العسكرية ولا قيمة للمناصب الإدارية وجرى تصفية كل من يشم منه رائحة معارضة بوحشية في حمامات دم لا رحمة فيها والظاهر كانوا يهتدون بقول الشاعر. (والظلم من شيم النفوس فأن تجد ذاعفة فلعلة لا يظلم).
بدأ اضطهاد اليهود من قبل البعثيين بقطع التلفونات عن بيوتهم ومحلات أعمالهم ومنعوا من السفر إلى خارج العراق ومن بيع أملاكهم بالطابو وبدأت اعتقالات كانت أولا بأوامر (حجز اليهودي فلان حفظا لحياته) ثم تحولت إلى إلصاق التهم وأهمها تهمة الصهيونية والتجسس لحساب إسرائيل وعقوبتها الإعدام وتطور الأمر إلى إعدامات بالجملة والمفرد. وفي يوم 26 كانون الثاني سنة 1969، وكان من أسوء الأيام التي عاشها يهود العراق وأعمقها أثرا في نفوسهم اعدم عشرة يهود دفعة واحدة، ففي صباح ذلك اليوم الباكر كانت جثثهم معلقة على أعواد المشانق المنصوبة في ساحة التحرير والغوغاء يرقصون من حولهم ويغنون مثلما يفعل أكلوا لحوم البشر في مجاهل إفريقيا والراديو والتلفزيون يحثان أهالي بغداد للتوجه إلى ساحة التحرير للتفرج، واحمد حسن البكر رئيس الجمهورية يحضر الاحتفالات ويعلن ذلك اليوم عطلة رسمية عامة احتفالا بالنصر العظيم الذي حققه على أناس أبرياء عزل لا حول لهم ولا قوة، وبقيت جثثهم معلقة حتى ساعات الظهر، لقد كان يوما حالك السواد شديد المرارة ترك أثرا عميقا في نفوسنا بحيث اشعر الان وكان الحادث وقع بالأمس القريب، تلا هذا الحادث إعدامات أخرى علنية ثم تطور الأمر إلى قتل اليهود داخل السجون وبدون محاكمة فمنهم من سلمت جثته إلى ذويه مثل المرحوم المقاول داود زبيده الذي اعتقل لمدة ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع سلمت جثته إلى ذويه الذين لم يجرؤا حتى السؤال عن سبب وفاته، أما المرحوم نسيم يئيير الذي اغتيل في السجن وضعت جثته في ثلاجة لمدة ستة أشهر حاول أهله خلالها معرفة مصيره دون جدوى ولم يتركوا بابا الا وطرقوه وكان موظفو السجن يستلمون ما يرسله له أهله من الطعام والملابس في حين هو جثة هامدة في الثلاجة وقد طلب ذووه من العم عزرا أبو النيل مساعدتهم لمعرفة مصيره فطلب من صديقه سكرتير وزارة الدفاع التحري عما إذا كان حيا وعندما سأل المسولين عن السجن أجابوه بأنه حي يرزق فكذبوا حتى على سكرتير وزارة الدفاع وهو ضابط برتبة كبيرة، كانت هذه أساليب حكام البعث في معاملة ضحاياهم وبعد مضى ستة أشهر من اغتياله داخل السجن سلمت جثته إلى ذويه وكذا كان الحال بالنسبة للمرحوم فؤاد شاشا الذي قتل ولم يعرف أهله وكان جثته، أما المرحوم التاجر شوع سوفير فقد اغتيل داخل السجن وظلت زوجته السيدة مارسيل تفتش عنه في جميع المواقف والسجون دون جدوى وكانت لا تصدق أو لا تريد أن تصدق بموته رغم كثرة الإشاعات عن اغتياله وأخيرا قيل لها أن زوجها هرب من السجن، كما واغتيل الكثيرون من اليهود داخل من اليهود داخل السجون وبدون محاكمة ولم يعرف ذووهم أين دفنوا أمثال الخياط المرحوم عزرا قحطان وأخيه والمحامي يعقوب عبد العزيز وشاؤل شماش وشاؤل رجوان وكثيرون غيرهم وقد شهدت حجرات قصر النهاية وهو الموقف الكبير الخاص بحزب البعث فقط شهدت أقسى أنواع التعذيب وأشدها فظاعة ورددت جدرانها صدئ أهات المعذبين وصيحاتهم ومن دخل هذا الموقف وحالفه الحظ وخرج منه حيا خرج عليلا على الأرجح وهذا الأمر ينطبق على باقي المواطنين من غير اليهود أيضا.
ازدادت الحالة سؤا وعشنا آنذاك في جحيم من الرعب لا يطاق ويكفي أن يدق جرس الدار في دار أجحد اليهود ليلا ليدخل الخوف والفزع إلى قلوب ساكنيه وكثرت الإشاعات عن تجميد أموال اليهود الباقيين وحجزهم في مخيمات خاصة وفي كل صباح عندما يلتقي يهوديان يسأل احدهما الأخر عن اليهود الذين اعتقلوا في الليلة السابقة وأقراص الغاليوم المهدئة لا يخلو منها أي دار فيما كانت شرطة الأمن تلاحق اليهود في دورهم وأماكن عملهم دون هوادة وتحصى خطواتهم وانقطعت أبواب الرزق عن البعض إما بسبب إخراجهم من وظائفهم اون لفقدانهم مصادر عيشهم من أعمال حرة مما حدا ببعض أساتذة مدرسة فرنك عيني إلى القيام مشكورين بجمع التبرعات وتوزيعها على العوائل المحتاج سرا لسد الرمق. كنا آنذاك أقلية صغيرة تحت رحمة حكومة ظالمة لا حول لنا ولا قوة لا جبنا فان تأريخ اليهود الطويل عبر ألاف السنين يشهد بشجاعتهم. وخاصة في الحروب والانتفاضات الوطنية ضد المستعمرين ولم يكن لنا والحالة هذه ما نفعله سوى الصوم وإقامة الصلوات الخاصة في الكنس نتضرع من خلالها إلى الله تعالى أن يزيل عنا هذا الكابوس المرعب وكانت الدموع تذرف من عيون النساء والرجال غزيرة هذا ما كنا قادرين على القيام به الأمر الذي كان يمنحنا بعض الواحة النفسية والأمل وقد دفع هذا الوضع بالكثيرين من اليهود إلى الهروب عن طريق إيران إلى إسرائيل بالرغم من المخاطر التي قد يتعرضون لها، لقد دامت هذه الحالة إلى أن شنت وسائل الإعلام العالمية حملاتها على حكومة العراق مستنكرة سفك الدماء البريئة كنا وان الدول الصديقة لإسرائيل بذلت مساعها الحميدة لدى حكومة العراق مما اضطرها للتخفيف من حدة الضغط فهدأت العاصفة ومرت فترة من الزمن لم يجر خلالها اعتقالات ولا إعدامات ولا اغتيالات داخل السجون ولا حتى مضايقات بسيطة وسمح لبعض اليهود بمغادرة العراق وقد وجهت الدعوة إلى الأديب والشاعر الكبير الأستاذ أنور شاؤل المحامي مرتين للظهور في ندوات أدبية في التلفزيون العراقي كما وقد أرسل له الرئيس احمد حسن البكر باقة من الزهور عند دخوله إلى المستشفى للعلاج فرأينا بهذه اللفتة بادرة طيبة لحسن النية واستبشرنا خيرا وحسبنا أن عهد الظلم ولى وانقضى غير أن ذلك الهدوء كان كالهدوء الذي يسبق لعاصفة وعلى حين غرة وبدون أي سبق مبرر بدأت الحملة الجديدة ضد اليهود بمذبحة عائلة قشقوش التي تناولتها بعض وسائل الإعلام العالمية (عادت حليمة إلى عادتها القديمة) فقد ذبحوا جميع أفراد العائلة في عقر دارهم. الأب، الأم، ولدين كبيرين، بنت واحدة، ونجت البنت الثانية لكونها كانت غائبة على الدار أثناء تنفيذ المجزرة، وهي الان من سكان الولايات المتحدة الأميركية، ذبحوا الجميع ثم قطعوا جثثهم إلى قع وضعوها في حقائب حملاتها سيارة شحن أمام أعين الناس وفي وضح النهار كما وان عائلة قشقوش الثانية المكونة من رجل وزوجته اغتالوهما بعد أن اغتصبوا الزوجة أمام أعين زوجها وهنا يجدر بنا السؤال في أي عصر نعيش؟ هل قي عصر العلم والنور؟ أو في العصر الالكتروني؟ أو عصر هبوط الإنسان على القمر؟ ولأي درك وصلت إليها أخلاق بعض البشر؟ نعم قد تحصل مثل هذه الجرائم من قبل شخص معتوه فلا غرابة بذلك، أما وقد حصلت من قبل المسؤلين عن الأمن وبعلم من الحكومة القائمة فهنا الطامة الكبرى، ولماذا ارتكبت هذه الجرائم وما ذنب ضحاياها الأبرياء؟ .. تلا هذين المجزرتين اعتقالات واغتيالات أخرى داخل السجون دون معرفة مصير جثثهم فكانوا يساقون إلى السجون يدخلونها ولا يخرجون، ترى هل ارتوت نفوس قادة البعث وشرب الداء من اليهود وغير اليهود أو لمرتو بعد؟ وقبل أن اختم هذا الفصل أود أن انوه بأننا لم نلق أية مضايقات أو تحرشات من قبل أفراد الشعب العراقي وكل ما حدث لنا من الماسي والمصائب وجرائم القبل وسلب الأموال كان بتدبير وإيحاء من حكام حزب البعث وعلى الموظفين التنفيذ فقط والويل لمن يخالف لهم أمرا.
يتبع – ذكريات أهرون موريه - رقم 3
ذكريات عراقية – يقدمها أ.د. شموئيل (سامي) موريه (2)
ذكريات من العراق
بقلم اهارون موريه (معلم)
الحلقة (3)
ذكريات من السجون العراقية أيام حكم حزب البعث - 1
دق جرس الباب في حولي الساعة الحادية عشرة مساءً ليلة "عيد المظلة" في الدار التي أسكنها في محلة الهندية في بغداد، وعندما اتجهت أنظارنا نحو النافذة رأينا سيارة شرطة الأمن رابضة قرب الباب وقد جلس في وسطها ابن أخي وشريكي في معمل الطابون السيد صالح معلم تعلو وجهه إمارات الحيرة والارتباك يحيط به نفر من شرطة الأمن، وأنت لا تعلم أيها القارئ الكريم ماذا يعني هذا المنظر بالنسبة لنا آنذاك، فقد كان مجرد سماع دقات جرس الدار ليلاً يبعث الفزع في نفوس ساكنيه فزبانية حزب البعث كانوا يعتـقـلون ضحاياهم ليلاً وفي جنح الظلام، والاعتقال معناه التوقيف والمحظوظ من عاد من التوقيف حياً وفد لا يعود إطلاقا.
فتحت زوجتي الباب ولا مفر من فتحه طبعاً، فدخل معاون شرطة الأمن ومرافقوه فأجلسناهم في الصالون وبعد شرب المرطبات قال لي إن مدير أمن بغداد يرغب في توجيه بعض الأسئلة إليك فيلزم مرافقتنا، فطلبت منه زوجتي أن يسمح بأخذ ملابس نوم وبطانية فأجابها لا حاجة لذلك فبعد نصف ساعة يعود لك زوجك، علما بان زوجتي ظلت ساعات تنتظر عودتي وقد جلست قرب الشباك محتضنة طفليها حتى الصباح وهي ترتعد خوفا حيث بقيت لوحدها في ذلك الجو الرهيب الذي كنا نعيش فيه وهي لا تتمكن من اللجؤ إلى دار ذويها أو احد الجيران في ساعة متأخرة من الليل لئلا تفزعهم.
سارت بنا السيارة مسرعة فوصلنا إلى مديرية أمن بغداد وأدخلونا أنا وابن أخي إلى ديوان مدير أمن بغداد الفخم، فأشار علينا بالجلوس وعندما جلسنا شعرت بشي من الارتياح وقلت يظهر أن الأمر ليس بالخطورة التي تصورناها، ثم قال لنا مدير الأمن أن متصرف لواء الديوانية يطلب حضوركم فورا، فأجبته إننا رهن إشارة السيد المتصرف، واتصل هاتفيا بأحدهم وقال لقد أحضرنا اليهوديين المطلوبين وسنسفرهما على ضوء برقية متصرف الديوانية وغادر مكتبه، ثم عاد معاون الأمن الذي اعتقلنا وقال نعبركم إلى موقف الأمن العام لقضاء ليلتكم هناك وغدا يجري تسفيركم إلى الديوانية، فطلبت منه أن يسمح لنا بجلب ملابس نوم وبطانية، فرفض، توسلت إليه فاجب هذه هي الأوامر الواجب علي تنفيذها. وصلنا موقف الأمن العام بعد منتصف الليل فأدخلونا إلى غرفة صغيرة فيها بضعة موقوفين فتكرم احدهم مشكورا وأعطانا بطانية خفيفة تمددنا عليها أنا وزميلي حتى الصباح. لقد سبق واعتقلنا قبلا أنا وزميلي وأمين صندوق الشركة السيد صبيح جبرائيل وبقينا مدة في التوقيف في موقف الجانب في الديوانية وكانت التهمة الموجهة إلينا ظاهرها الصهيونية والتجسس لحساب إسرائيل وباطنها ممارسة الضغط والتهديد لانتزاع معمل الطابوق العائد لي ولشركائي ولدي أخي السادة عزت وصالح ساسون معلم بدون أي مقابل أو تعويض، ثم أطلق سراحنا لإتاحة الفرصة لنا للمداولة والرد على طلبهم بعد أن حصلنا على قدر لا بأس به من التعذيب النفسي والتهديد والوعيد، ولقد قال لنا صراحة معاون الجانب السيد شمسي، بأن المسؤلين كلفوه بإبلاغنا إذا لم نترك معمل الطابوق ونتنازل عنه طوعا نصبح نحن وعوائلنا شذر مذر، وها نحن الان نتعرض لحملة اضطهاد جديدة، توقعت أن تكون أشد من سابقتها وأقوى.
في الصباح نقلونا إلى موقف السراي لكي يجري تسفيرنا من هناك إلى الديوانية وقد بذلت السيدة خالدة زوجة زميلي الأخ صالح جهودا كبيرة حتى عرفت مكان توفيقنا فأوصلت لنا قنينة حليب وبعض الطعام وبطانيتين. أدخلونا إلى ردهة كبيرة فيها خليط من الموقوفين من كل الأصناف. جلسنا ومرت الساعات بطيئة ننتظر تسفيرنا وكنت وصاحبي نضرب أخماسا بأسداس، ترى لماذا تتخذ كل هذه التدابير الشاذة الصارمة لتسفيرنا؟ إذن الموقف خطير والله يعلم ما ينتظرنا هناك، وبينما نحن في هذه الدوامة من الأفكار اقترب نحوي احد الموقوفين والشرر يتطاير من عينيه وبادرني قائلا: لماذا أعطيت عليّ إخبارية في البصرة أدت بي إلى السجن يا داود؟ أجبته أنا لم اخبر عنك لسبب بسيط وهو أنني لست داوداً، بل اسمي هارون ولم أكن في البصرة منذ أكثر من عشر سنوات، فقال لا أنت داود واحتد الجدل بيننا إلى أن تدخل احد الموقوفين وأنبه بشده فعاد إلى مكانه.
قضينا يومين في هذا الموفق وفي صبيحة اليوم الثالث قادونا إلى سيارة هيكلها عبارة عن صندوق محاط بالأسلاك غليظة وأدخلونا فيها بعد أن قيدونا أنا وزميلي معاً يدا بيد بالحديد (كلبجة) وقفلوا بابها. طافت بنا السيارة داخل بغداد فترة، تارة لملء خزان البانزين وأخرى لأخذ موقوفين من هذا الموقف أو ذاك استغرق زمنا، حتى سارت السيارة على الطريق العام نحو الديوانية. وما أن وصلت السيارة إلى المحمودية حتى أوقفها مفوض الشرطة وأمر السائق أن يعود بها إلى بغداد. حاولنا أنا وزميلي أن نجد تفسيرا لذلك فلم نفلح، أخيرا وصلنا إلى موقف السراي أي عدنا إلى المركز الذي خرجنا منه، ففتح باب السيارة معاون الشرطة وحملق في وجوهنا واقفل الباب مجددا. وهنا علمنا بان احدهم اخبر الشرطة بان سيارة خاصة تنتظرنا خارج بغداد لكي نعبر إليها لتنقلنا إلى الديوانية بعد رشونا سائق السيارة، ولذا أمروا بعودة السيارة للتأكد من عدم نزولنا منها. عادت السيارة وسارت بنا نحو الطريق العام إلى الديوانية. كان الهواء البارد يعصف بنا طوال الطريق ويدانا مقيدتان بالحديد أنا وشريكي معا، وأنا شارد الذهن أحملق في السحب المتناثرة هنا وهناك في السماء ولعلي كنت أحاول الهاروب من التفكير في الحالة السيئة التي نحن فيها. وصلنا مدينة الديوانية مساءً واستغرقت السفرة من الصباح حتى المساء ثم طافت بنا السيارة داخل بلدة الديوانية إمعانا لإذلالنا وأهانتنا، وكنت ألاحظ على وجه من يرانا من معارفنا ونحن بهذه الحالة المزرية إمارات الاستغراب والإشفاق. أدخلونا السجن الكائن في الصوب الكبير ففكوا القيود من أيدينا وبعد تفتيشنا أدخلونا إلى غرفة طويلة مكتظة بالمساجين تمر فيها ساقية صغيرة يجرى فيها مياه قذرة تنبعث منها روائح كريهة فذهبنا إلى مأمور مركز السجن فاستعطفناه لتغيير مكاننا فحولنا إلى غرفة صغيرة فيها موقوف واحد من أبناء العشائر متهم بالإخلال بالأمن، وقد رحب بنا وقال لا تحزنوا فالسجن هو مدرسة للرجال الشجعان. وما أن حل الظلام وقبل أن نأخذ قسطا من الراحة استدعانا مفوض السجن وابلغنا بان مدير شرطة اللواء يرغب في مقابلتنا، فنقلنا إلى جناح مديرية شرطة اللواء. أدخلونا على مدير شرطة الديوانية فأشار إلينا بالجلوس وطرح علينا بعض الأسئلة عن معمل الطابوق وعن الشركاء المساهمين، كميات الإنتاج، محتويات المعمل، متى أنشئ إلى أن دخل إلى صلب الموضوع فقال هل أبلغكم المعاون شمسي بقرار المراجع العليا فيما يخص التنازل عن المحل عندما كنتم موقوفين سابقا؟ أما قال لكم إن لم تتنازلوا تكون العواقب وخيمة عليكم وعلى عوائلكم؟ عندها علمنا أن كل هذه المناورة هي من ضمن نطاق التهديد والتعذيب لإرغامنا على التنازل مجانا عن المعمل. حاولت إقناعه قائلا إن شريكنا رجل مريض في بغداد ونحن كما ترانا ثلاث عائلات تعيش على واردات المعمل وليس لنا أي مورد آخر فكيف نعيش إذا تركناه وماذا يمكننا عمله في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها يهود العراق، لقد وضعنا كل ما تملك من مال وما ربحناه وما استلفناه على توسيع وتجديد المعمل ولم تبق لنا والحالة هذه الطاقة المادية أو المعنوية لنبدأ حياتنا من جديد، فأجابني ببساطة قائلا خير لكم أن تتركوه فقد ربحتم منه ما فيه الكفاية وهربتم الكثير إلى إسرائيل. ثم أشار إلى المعاون شمسي فاصطحبنا إلى موقف الجانب حيثما كنا موقوفين سابقا للسبب الذي نحن موقوفين من أجله الان وهو لإرغامنا للتنازل عن معمل الطابوق في حين كانت التهمة التي أوقفنا من أجلها هي التجسس والصهيونية. أدخلونا إلى غرفة التوقيف وهي غرفة صغيرة لا شباك فيها، لها باب من القضبان الحديدية وفي ركن فيها توجد صفيحة فارغة للتبول- وكنت لا اشرب الماء بتاتا لكي لا اضطر لاستعمالها- وعلى جدرانها ترى طوابير القمل صاعدة نازلة وفيها موقوفين من مختلف الأصناف وعند دخولنا ارتمينا أنا وزميلي على البطانية ورحنا في سبات عميق حيث إن حوادث الأيام الماضية وقلة النوم ومشقة السفر أنهكت قوانا وحطمت أعصابنا ومعنوياتنا.
في صباح اليوم التالي تعرفت في الموقف على الشيخ سلمان الناصر وهو من شيوخ عشائر الرميثة ورئيس إحدى عشائرها وبالمناسبة نذكر إن عشائر الرميثة كانت معروفة بشدة باسها وشجاعة أفرادها في القتال وهم الذين هزموا الجيش البريطاني في معارك العارضيات قرب الرميثة وذلك أثناء الثورة العراقية سنة 1920 فقتلوا أو اسروا جميع أفراد القوة الموجودة في المنطقة آنذاك وهم الذين أنشدوا الهوسة المشهورة (الطوب(1) أحسن لو مكواري(2)). والشيخ سلمان هو رجل ذكي وقور وبالرغم من عدم تلقيه ثقافة في المدارس فقد كان واسع الاطلاع في مجريات السياسة الداخلية في العراق وهو ذو أخلاق ممتازة وكان وجوده في التوقيف بسبب نزاع دموي حصل بين عشيرته وعشيرة أخرى فحجزوه في التوقيف كي لا يتجدد القتال بين العشيرتين. دعانا للجلوس إلى جواره وكنا نتجاذب أطراف الحديث مما خفف عني بعض الهموم والهواجس التي كنت أعاني منها فحكيت له أسباب توقيفنا وعن الضغوط والتعذيب والتهديد التي نتعرض لها لإرغامنا على التنازل عن معمل الطابوق المصدر الوحيد لإعالة ثلاث عائلات وكيف إن هذا المعمل كان الوحيد في المنطقة بتنظيمه وسعته وجودة إنتاجه وكيف أن حياتنا مهددة من قبل الحكومة على لسان موظفيها المكلفين بحماية أرواح المواطنين، فأيدى أسفه الشديد للمأزق الذي كنا فيه،ً ومرة قال لي (شوف يا هارون) صحيح إن تقاليدنا تقول إن الرجل يتوجب عليه أن يموت دفاعاً عن عرضه أو دينه أو ماله ولكن نصيحتي لكم هي أن تفكروا بالموقف بحذر، فإذا تطور إلى درجة الخطر على حياتكم حينئذ يجب التضحية بالمال حفاظاً على حياتكم، ولا يمكنكم مقاومة إرادة الحكومة فأنت تراني محجوزا في هذه الغرفة القذرة مع رجال من السراق والمجرمين وأنا رئيس قبيلة كبيرة. ولقد ارتحت إليه كثيرا طوال أيام الفترة الثانية من توقيفنا في هذا الموقف وهو الوحيد بين الموقوفين الذي تمكنت من تبادل أطراف الحديث معه بين الحين والأخر.
يتبع – ذكريات أهرون موريه - رقم 4
ذكريات عراقية – يقدمها أ.د. شموئيل (سامي) موريه (2)
ذكريات من العراق
بقلم اهارون موريه (معلم)
الحلقة (4)
ذكريات من السجون العراقية أيام حكم حزب البعث - 2
مرت الأيام في موقف الجانب بطيئة وعلى وتيرة واحدة يخرجونا كل يوم صباحاً ومساءً إلى فناء المركز لمدة نصف ساعة لاستنشاق الهواء الطلق ثم يعيدوننا حيث كنا، وذات صباح استدعانا معاون مخفر الجانب السيد شمسي وقال لنا نحن ذاهبون لتفتيش داركم. كنا نسكن داراً في محلة حيّ الجزائر أنا وابن أخي وشريكي السيد صالح معلم لوحدنا حيث سبق وسفرنا عوائلنا إلى بغداد قبل تأزم الموقف وسكن شريكنا الثالث ابن أخي السيد عزت معلم في بغداد وكن يزورنا بين الحين والأخر للوقوف على سير العمل. كانت اللجنة المكلفة بتفتيش الدار مكونة من معاون شرطة الجانب ومعاون الجانب الكبير وضابط من الغرفة الأولى وعدد من أفراد الشرطة. دخلنا الدار ففتشوها تفتيشا دقيقا وبعد التفتيش جاؤا بجهاز كاشف الألغام أمروه على ارض الغرف للتفتيش عن أسلحة مخبئة وبعد فحص الغرف بالكاشفة قال معاون الجانب الكبير يجب فحص الجدران أيضا فقد تكون بعض الأسلحة مخبئة بداخلها ففحصوها أيضا ثم انتقل الجميع إلى حديقة الدار وبدؤا بفحصها بكاشفة الألغام بحثا عن الأسلحة وفي وسط الحديقة رنّ جرس الإنذار في الجهاز معلناً وجود شيء. هنا تملكني الخوف وخفق قلبي عالياً، كنت اعلم بعدم وجود أي شيء لدينا مخالف للقانون ومع ذلك أصابني الفزع، قلت في نفسي رحماك يا ربي إن حياتنا مهددة بالخطر من قبل الحكومة وقد سبق واسمعونا صراحة لا تلميحاً وبوسع أي كان اجتياز سياج الحديقة ويكفيه أن يخبئ في أرضها جهاز لاسلكي عاطل أو أية قطعة سلاح فيما نحن موقوفين يكفيه ذلك لإرسالنا إلى حبل المشنقة آنذاك. قام أفراد الشرطة بحفر الأرض بواسطة معاول جلبوها خصيصاً لهذا الغرض في حين شخصت جميع الأبصار على مكان الحفر وكان كلما يهبط معول على الأرض كنت اشعر وكأنه يهبط على جسمي. مرت لحظات حسبتها ساعات إلى أن ظهرت قطعة حديد كانت مدفونة في ارض الحديقة حينئذ قلت شكرا يارب.
أعادونا إلى الموقف وقد حكيت للشيخ سلمان رفيقي بالموقف ما حصل فقال لي تحلّوا بالصبر فلا بد لهذه الشدة أن تزول. مرت أيام أخرى واشتد بنا الملل وتكررت الأسئلة والأجوبة يتخللها التهديد والوعيد، وذات مرة قلت لمعاون الجانب أرجو أن لا تنجرف مع التيار المناوئ لليهود السائد حالياً، فقال لي نحن شبان مثاليين ليس لنا أراء عدائية ضدكم لكننا نعمل ما نؤمر به فقط. لم تعد أعصابنا تحتمل الموقف نحن في هذه الغرفة الضيفة القذرة وكل يوم يخرج فيه موقوف يأتي أخر أو اثنين والجو خاٍنق والأكل لا يستساغ ولم نذقه إطلاقا ولا مرة واحدة فكانت زوجة المرحوم ساسون سلمان خلاحجي تحمل لنا صينية الطعام كل يوم ظهراً ومساءً جزاها الله أحسن الجزاء بسبب وجود عوائلنا في بغداد وتتوسل إلى الحرس لإيصالها إلينا ونحن لا نأخذ منه إلا القليل بسبب الحالة النفسية التي كنا فيها ولم يحاول احد من أصدقائنا في المدينة الاتصال بنا أو مساعدتنا خوفا من بطش حكام البعث ولم تثمر تشبثات شريكنا الأخ عزت معلم في بغداد لإنقاذ الموقف، كما وقد أرسلت من يكلم محامي الشركة (شركة الطابوق الفني) السيد عبد الله الخفاجي لمحاولة إخراجنا بكفالة على الأقل فلم يعمل شيئا والظاهر كان يخشى التدخل بسبب التيار القومى المناوئ لليهود آنذاك شأنه شأن الكثير من أصدقائنا من كبار الموظفين، إذ كان الإرهاب الذي أشاعه حكام البعث قد طغى على كل اعتبار أخر فطلبت محاميا أخر أغريته بمبلغ كبير فتمكن من إخراجنا بكفالة.
عدنا لمزاولة أعمالنا في مكتب الشركة فيما كثرت الإشاعات في المدينة عن قرب استلام الحكومة لمعمل الطابوق، وكانت المخابرات بين الدوائر الحكومية بهذا الخصوص تجرى بصورة سرية ولم نعرف ما يجرى حولنا وما هي نوايا المسؤلين وماذا يخططون، وبعد يومين من خروجنا من التوقيف جاءنا مفتش ضريبة الدخل حاملاً كتابا يطلب منا فحص سجلات شركتنا للعشرة سنوات الماضية ففحص جميع سجلات الشركة ومستنداتها للسنوات المذكورة واستغرق فحصها أكثر من أسبوعين ولم يجد ما يستوجب إدانتنا، كان ذلك في نطاق الضغوط الموجهة إلينا.
في إحدى الأمسيات فيما كنا جالسين في مكتب الشركة دخل رجل لا نعرفه فأشار لشريكي الأخ صالح بان يتبعه وعندها تبعه إلى خارج المحل صفعه على خده صفعة قوية أمام مكتب الشركة وعلى مرأى من الناس دون أن يتفوه بكلمة واحدة وانصرف. كان لهذا الحادث تأثير سيء في نفوسنا وفي معنوياتنا ورأينا فيه اهانة كبرى لتحطيم معنوياتنا نحن الذين تعودنا أن نتلقى التقدير والاحترام من المواطنين في المدينة إذ ساهمنا في أعمال خيرية كثيرة في البلد قمنا بها برضانا التام وبطيبة خاطر، ساهمنا في بناء الجوامع والنوادي ودور لسكن عوائل شهداء الجيش، وطلب إلينا مساعدة أفراد الشرطة في بناء دور لسكناهم فلبينا الطلب والكل يعرف أن معمل الطابوق ساهم في انفتاح المدينة واتساع عمرانها إلى درجة كبيرة فكيف يتجرأون على مقابلتنا بمثل هذه الإهانة، غادرنا المكتب إلى الدار وما أن وصلناها حتى استدعينا أنا وزميلي الأخ صالح طبعا إلى مديرية الشرطة مرة أخرى.
في الظروف الأولى من المدرسة الابتدائية قرأنا قصة قصيرة وهي قصة الذئب الذي قال للحمل: إن لم تكن أنت قد شتمتني فقد شتم أبوك أبي، وافترسه، هذه القصة تنطبق علينا تماما إذ تبين لنا عند وصولنا إلى مديرية الشرطة أن الشخص الذي ضرب زميلي الأخ صالح بدون أي سبب قصد أهانتنا قد اشتكانا وقال في دعواه (عندما مررت أما مكتب الشركة أشار عليّ هارون بأصبعه وبصق صالح على الأرض) علماً بان المشتكي كان عريفا في استخبارات الجيش ولم نفلح في إقناع الشرطة بكوننا لا نعرف هذا الشخص إطلاقا ولم نره من قبل وان ادعاءه هو محض افتراء وللمرة الثالثة أدخلونا إلى سجن الديوانية وكانت الطبخة واضحة وهي خططت لإعادتنا إلى السجن في نطاق الضغوط لإرغامنا على ترك المعمل.
كان الوقت ليلا والجو باردا ولم نصطحب معنا من متطلبات التوقيف شيئا حتى ولا بطانية نتمدد عليها حيث فوجئنا بالتوقيف على غير انتظار، فتمددنا على الأرض بملابسنا. الأرض باردة ومبلطة بالاسمنت وفي التبليط حفر ونتوأت وهل لجسمي النحيل والحالة هذه أن يرقد ويستريح؟ لم يتطرق النوم إلى جفوني إطلاقا وكنت أسائل نفسي، لما أنا هنا وفي هذا الوضع اللاإنساني الكئيب؟ هل أنا مجرم، قتلت، سرقت، أجرمت في حق البلد الذي عشت فيه ومن خيراته؟ كلا وألف كلا كنت طوال حياتي ول