الحركات الاحتجاجية و تيار الحماية الدولية
    الثلاثاء 29 نوفمبر / تشرين الثاني 2011 - 12:42
    د. لطفي حاتم
    أستاذ جامعي
    ليس هناك فترات تاريخية تشابكت فيها القضايا الوطنية مع السياسة الدولية مثل ما نشهده اليوم وذلك بسبب ترابط وحدة العالم الاقتصادية والسياسية المبنية على سيادة الإنتاج الرأسمالي والسوق الحرة المستندة الى هيمنة الشركات الدولية ومساهمتها في تقرير  كثرة من القضايا الاقتصادية/ السياسية في بلدان العالم المختلفة . وعلى أساس ذلك التشابك تطرح قضايا جديدة على مستوى التحليل الفكري والنشاط السياسي  منها ترابط القضية الوطنية مع المسالة الديمقراطية ، ومنها كيفية الانتهاء من مرحلة الاستبداد السياسي ناهيك عن ضرورة  تشكيل معارضة وطنية ديمقراطية تحمي مصالح البلاد الأساسية وثرواتها الوطنية في ظل  علاقات دولية / وطنية  تفتقر الى عنصر العدالة و المساواة  وما يتطلبه ذلك من بناء مشروع التغيير الوطني ـ الديمقراطي .

    استناداً الى الموضوعات المثارة ومساهمة في السجال الدائر حول تشابك الرؤى السياسية والاقتصادية  لبعض التيارات الوطنية مع السياسة  الدولية أقدم مساهمتي الفكرية متعرضا فيها الى الجذور الفكرية  والقاعدة الاجتماعية لتيار الحماية الدولية    .

    إن تعرضنا لتيار الحماية الدولية  الناهض في الحياة السياسية العربية يشترط بحث ثلاث محاور  رئيسية أولهما سمات السياسة الدولية وثانيهما  الاحتجاجات الشعبية وفصائل المعارضة الوطنية , وأخرهما تيار الحماية الدولية  آملين الاحاطة برؤيته السياسية  وركائزه الفكرية .

    أولاً : ـ سمات السياسة الدولية

    تتسم السياسة الدولية  المعاصرة بكثرة من العوامل المؤثرة في تطور العلاقات الدولية  يمكن الاشارة إليها عبر موضوعات مكثفة : ـ
    ــــ ترابط السياسة الدولية  وموجة الاحتجاجات الشعبية الناتجة عن الأزمة الاقتصادية العالمية و ما يشترطه ذلك من إيجاد حلول اقتصادية لا تخلو من  مغامرات عسكرية هادفة الى تنشيط تجارة الأسلحة ، وتوسيع عمل الأجهزة الأمنية الخاصة فضلا عن إعادة تشغيل الشركات الدولية المختلفة  عبر بناء الدول المستهدفة . 
    ـــ أفرزت الأزمة المالية وبوادر الركود الاقتصادي الناتج عنها مؤشرات جديدة في العلاقات الدولية منها خراب بعض الدول المتعثرة اقتصاديا وقبولها بشروط اقتصادية سياسية أملتها الدول الكبرى ، ومنها عودة الدولة وتدخلها بقوة لصالح الشركات الاحتكارية من خلال  تمويلها لكثرة من البنوك المفلسة الناتجة عن أزمة الديون المستفحلة . ( * ) ، وآخرها اشتداد حدة  المنافسة بين الدول الرأسمالية الكبرى ونقلها نزاعاتها الى الحقل السياسي ـ الدبلوماسي ، وبهذا المسار تحاول دول التحالف الأطلسي توظيف مؤسسات الأمم المتحدة وقراراتها الدولية في خدمة أهدافها الاستراتيجية.
    ــ تبلور تحالفات دولية  اقتصادية / سياسية جديدة تجسدت في معارضة  دول البريكس لسياسة التدخل الأطلسية في الشؤون الوطنية  فضلا عن تطور العلاقات بين الصين وروسيا الاتحادية . ( * * ) 
    ـــ نشوء اصطفافات إقليمية جديدة أفرزتها  الحركات الاحتجاجية تمثلت باصطفاف خليجي ــ تركي مبارك من حلف الأطلسي يدفع  تيار الإسلام السياسي المعتدل الى استلام  سلطة الدولة عبر الشرعية الانتخابية  .
    ــ تطور  النشاط السياسي لدول الخليج العربية باتجاه توسيع منظمة التعاون الخليجي بعد فتح أبوابه أمام دول الشرعية الملكية فضلاً عن محاولة تكريس هيمنة خليجية على الجامعة العربية بهدف صياغة سياسة جديدة تتلاءم والمصالح الاستراتيجية  للدول الرأسمالية الكبرى  .
    ـــ محاصرة إيران الإسلامية ودفعها باتجاه القبول بالشروط الدولية الهادفة الى تحجيم طموحاتها الإقليمية .

    ان لوحة التغيرات الطارئة على السياسة الدولية والإقليمية انعكست على أطراف المعارضة الوطنية الديمقراطية وأساليب كفاحها الهادف الى بناء أنظمة سياسية تستند الى الشرعية الديمقراطية .

     ثانياً : ـ الحركات الاحتجاجية وأساليب كفاحها الوطني

    بات معروفاً ان القوى الاجتماعية المشاركة في الاحتجاجات الشعبية تفتقر لوحدة الوسائل والأهداف  لهذا أصبح ضرورياً تحديد طبيعة المعارضة الوطنية المطالبة بالتغيير الديمقراطي وأساليب كفاحها  ناهيك عن برامجها السياسية والاقتصادية الرامية  الى أعادة بناء النظم السياسية بعد التغيير .
    استناداً الى تلك المحددات  يتحتم علينا تناول القوى السياسية الوطنية المشاركة في الاحتجاجات الشعبية عبر الرؤى الآتية  : ـ
    الرؤية الأولى : ـ  ـــ تتشكل المعارضة الوطنية المطالبة بإنهاء حكم الاستبداد من  ثلاثة تيارات أساسية أولهم  التيار الاسلامي  المبارك من دول الخليج العربية وتركيا وثانيهم التيار الوطني الديمقراطي الذي يدفع باتجاه توسيع  قاعدته الشعبية لغرض تطوير توجهاته الديمقراطية ومساراته السلمية ، وأخرهم التيار الليبرالي المتحرك صوب إصلاحات سياسية اقتصادية  بمشاركة دولية  .

    الرؤية الثانية : ـــ تترابط طبيعة القوى الاجتماعية  الناشطة في الحركات الاحتجاجية العربية والأسلوب الكفاحي الذي تعتمده  القوى السياسية المحتجة والمتمثل  بالأشكال الآتية : ـ 
    أ : ـ طريق الانتفاضة الشعبية السلمية واعتبار الشارع المنتفض مصدرا للشرعية الوطنية حتى تحقيق مستلزمات  التغيير السياسي الوطني ـ الديمقراطي .
    ان نجاح هذا الإسلوب الكفاحي في مصر وتونس اعتمد على قوة الحركة الجماهيرية وزخمها المتواصل الذي وضع البلاد في أزمة سياسية مستحكمة وعطل قدرة الأجهزة البوليسية على ممارسة نشاطها الإرهابي .
    ب : ـ بسبب تركيب تشكيلتها الاجتماعية  العشائرية أفرزت الحركة الاحتجاجية المتواصلة في اليمن طريقاً كفاحياً  تمثل بانحياز قطعات عسكرية لصالح التغيير الديمقراطي والتحول السلمي لسلطة الدولة  .
    ج: ـ طريق الحماية الدولية وما نتج عنه من  تدخل عسكري أطلسي اشترطته  كثرة من العوامل الداخلية والخارجية في ليبيا منها تفكك مؤسسات الدولة وسيادة البنية العشائرية في تركيبتها الاجتماعية ، ومنها  كراهية الدول الخليجية ورؤساء الغرب لشخصية العقيد القذافي وآخرها أطماع الغرب في ثروات لبيا النفطية   .
     د : ـ طريق  العنف المسلح في سوريا والذي فرضته عوامل سياسية  منها محدودية الحركة الشعبية المناهضة لنظام الحزب الواحد ، ومنها عزوف كتلة المثقفين عن المشاركة في العمل السياسي المناهض ، ومنها موالاة المدن الرئيسية  للنظام السياسي فضلا عن قوة وتماسك مؤسسته العسكرية . ( *** )

     استناداً الى ما جرى استعراضه  تواجهنا عدة أسئلة أهمها ما هي القوى السياسية الراغبة في تدويل النزاعات الاجتماعية ؟ . وما هي القوى الاجتماعية المطالبة بالتغيير والمستفيدة من التدخل الدولي؟ . وقبل هذا وذلك ما هي الكلفة السياسية الاقتصادية للتدخلات الدولية ؟ . 
     
     لغرض الاحاطة بمضامين الأسئلة المثارة أتوقف عند تيار ليبرالي الحماية الدولية  باعتباره التيار السياسي المطالب   ( بأنظمة ديمقراطية سياسية ) عبر التدخل الخارجي .

    ثالثاً : ـ تيار الحماية الدولية 

    لعبت التطورات السياسية والاقتصادية  المتمثلة بسيادة التطور الرأسمالي كخيار للتطور الاجتماعي  وما صاحبها من انتشار الليبرالية الجديدة  دورا كبيراً في نشوء الليبرالية العربية وتطور حركتها السياسية  ، وفي هذا المسار  لابد من التأكيد على ملاحظتين أساسيتين الأولى  منهما تتمثل في أن شعارات الليبرالية العربية والشرائح المثقفة المنحازة إليها لا تعبر بالضرورة عن قوى اجتماعية تاريخية ناهضة تسعى لتشكيل مرجعية وطنية لهذا البلد العربي أو ذلك. أما الملاحظة الثانية تتلخص في أن قوى الليبرالية العربية لم تنصهر في كتلة سياسية موحدة ، الأمر الذي يحتم علينا ضرورة البحث عن فصائلها والفكر السياسي الناظم لنشاطها  فضلا عن مواقعها الاجتماعية والتي أجدها في الموضوعات الآتية: ــ

    1 : ـ ليبراليو التحالف الطبقي الجديد  : ــ يتشكل هذا التيار من الليبراليين العرب الذين تتشابك مصالحهم مع القوى البيروقراطية السائدة في الدول العربية حيث تتبنى جمهرة  من الإداريين ، الكتاب ، السياسيين والأكاديميين  الليبرالية الجديدة بنسختها الاقتصادية المتضمنة تحرير الدولة من وظائفها الإنتاجية / الخدمية مع تشريع قوانين  ديمقراطية شكلية تحافظ على احتكار السلطة ، وبهذا المعنى فإن هذه الجمهرة من الليبراليين تعبر في نهاية المطاف عن مصالح قوى طبقية جديدة في طور التكوين يمكن تسميتها  بالكمبرادورية الجديدة تتشكل من اندماج قوى القطاعين الاقتصاديين الخاص والعام المترابطة أجندتهم الفكرية / السياسية مع الكتلة البيروقراطية الهادفة الى تملك الثروات الوطنية تحت شعارات تحرير الاقتصاد الوطني من هيمنة الدولة الوطنية.

    إن اغتراب الكتلة البيروقراطية المتنفذة في الدولة عن المصالح الوطنية يتأتى بسبب رعايتها لمصالح القوى الطبقية الجديدة الناهضة في الدول العربية المتحالفة والشركات الاحتكارية الكبرى الساعية إلى تأبيد السوق الحر في العلاقات التجارية الدولية والرافضة لتدخل الدولة الوطنية في الأنشطة الاقتصادية.
    أما الميزة الفكرية الثانية لهذا الفصيل الليبرالي فيمكن تلمسها في رؤيته الرافضة للديمقراطية السياسية واستبعاده لموضوعة التداول السلمي للسلطة تحت شعارات الخصوصية الوطنية والخشية من تفجر الأوضاع المحلية.
    2 : ـ الليبرالية  الوطنية  : ـ يتكون تيار الليبرالية  الوطنية  من جمهرة واسعة من المثقفين والأكاديميين والصحفيين فضلا عن الكثير من الشخصيات السياسية الوطنية المنسلخة  عن انتماءاتها الفكرية  اليسارية والقومية السابقة تمشيا ( وروح العصر )  الأمر الذي يشير الى أن تيار الليبرالية  الوطنية  يمكنه  التحول الى تيار ديمقراطي سياسي ناشط في الحياة السياسية العربية شريطة تحوله من تيار هلامي الى تشكيل سياسي فاعل تغطي برامجه السياسية الروح الديمقراطية المنبثقة من مصالح بلاده الوطنية .  

    3 : ـ ليبراليو الحماية الدولية  : ـ  يتشكل تيار الحماية الدولية   من السياسيين المنفيين  والعاملين في المراكز البحثية ، وكذلك وسائل الإعلام والمؤسسات الاكاديمية المصطفين مع التغيرات الجديدة التي أفرزتها العولمة الرأسمالية ورغم توافر شروط البحث في بلاد المهجر وإمكانية المساهمة في صياغة رؤى جديدة للتغيير في عالمنا العربي إلا أن هذا الفصيل الليبرالي  بدا متيقناً من صحة الأفكار والشعارات التي أنتجتها المراكز البحثية في الدول الرأسمالية المتطورة متجاهلاً وقائع وسمات التشكيلات الوطنية في بلداننا العربية.

    ان الرؤى الفكرية / السياسية لليبرالي الحماية الدولية  تتكامل إذا أضفنا إليها  السمات الفكرية السياسية الآتية : ـ 
    أ: ــ غياب الرؤية التاريخية في التحليل وسرعة الانتقال من موقع فكري إلى آخر الأمر الذي أضعف الرصانة السياسية لدى كثرة من ناشطي هذا التيار وأبعدهم عن المساهمة الجدية في حل المشاكل الفعلية لبلداننا العربية .
    ب: ــ اغتراب ليبرالي الحماية الدولية  عن المصالح الحقيقية / الاجتماعية / الاقتصادية لبلدانهم ، رغم أن الكثير منهم  انخرط في الكفاح السياسي الوطني في مراحل تاريخية مختلفة  .
    ج:ـ ـــ يتبنى ليبراليو الحماية الدولية  الفكر الانقلابي  بطبعته العسكرية اعتماداً على المؤسسات الدولية والقوة العسكرية الخارجية وما يعنيه ذلك  من استبعاد أساليب الحوار والتفاوض الهادفة لحل أزمة الحكم السياسية ( **** )  .
    د :ـــ يحظى  تيار الحماية الدولية  برعاية دولية إقليمية تتمثل بالدعم المالي والإعلامي ويجري تغطية أنشطته السياسية وأساليبه الاحتجاجية من قبل مؤسسات حقوقية ودولية ، وبهذا المسار يشكل  تيار الحماية الدولية 
    الحامل الاجتماعي لسياسية التدخلات الدولية .
    هـ : ـ يترابط الفكر السياسي لتيار الحماية الدولية في بعض توجهاته مع الأهداف الاستراتيجية للدول الكبرى الساعية الى تخريب الدول الوطنية وتفكيك تشكيلاتها الاجتماعية وصولا الى  إعادة بناءها على أسس عرقية مذهبية .

     إن التقسيمات المشار إليها وكذلك الجذور الفكرية / السياسية لقوى التيار الليبرالي تقودنا إلى نتيجة واحدة تتلخص في أن التيار الليبرالي العربي المبارك دولياً تيار مفكك الأوصال يفتقر لقاعدة اجتماعية فكرية موجهة وهذا ما يجعل فعاليته السياسية وتأثيراته الآنية ذات كلفة وطنية تتخطى إنهاء الأنظمة الاستبدادية  الى أبعاد تدميرية مجهولة النتائج .


    الهوامش
    *: ـ بلغت البنوك المفلسة في الولايات المتحدة الأمريكية لحد شهر تشرين الأول من السنة 2011 83 بنكاً وما نتج عن ذلك من خراب اقتصادي لشريحة كبيرة من السكان .
    ** تبلور موقف دول بريكس من التدخلات الدولية  في سوريا باستخدام النقض المزدوج من قبل الصين وروسيا الاتحادية .
    ***: ـ تشير المساندة الدولية والإقليمية لعنف أطراف قوى الاحتجاجات الشعبية في سوريا وحثها على رفض الحوار الوطني رغم توجه النظام السياسي الى إحداث إصلاحيات هيكلية الى ان القوى الدولية والإقليمية المتحالفة معها تسعى الى تحقيق أهداف إستراتيجية بعيدة عن الديمقراطية والاصلاح .
    **** : ـ على الرغم من انحسار ضاهرة الانقلابات العسكرية في الدول الوطنية إلا ان تشابك العلاقات الدولية أفضى الى تزايد التدخلات العسكرية الهادفة الى الإطاحة بالأنظمة السياسية وما يعنيه ذلك من ترحيل الانقلابات العسكرية من محيطها  الوطني الى مجال السياسة الدولية .
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media