العراق وتركيا.. ملف المياه المشتركة بين المخاوف المشروعة والتهويل -1-
    الثلاثاء 5 نوفمبر / تشرين الثاني 2013 - 22:12
    د. حسن الجنابي
    رئيس دائرة حقوق الإنسان في وزارة الخارجية
    اولا:
     حملت جريدة الصباح في عددها الصادر يوم 23 تشرين الاول 2013 عنوانا رئيسيا لافتا باللون الاحمر في اعلى صفحتها الاولى جاء فيه عن لسان حال تركيا: "لا نية لقطع المياه عن الاراضي العراقية"، وكان بمناسبة قبول رئيس مجلس الوزراء العراقي دعوةً من رئيس الوزراء التركي لزيارة تركيا، ضمن مساعي ترطيب الاجواء بين البلدين كما جاء في الخبر. كما ابرزت الصحف العراقية قبل ايام ، بما فيها جريدة الصباح، دعوة نائب رئيس مجلس الوزراء الدكتور حسين الشهرستاني، للحكومة الاتحادية لتشكيل هيئة وطنية لمتابعة حقوق العراق في نهري دجلة والفرات، حيث القى بعض الضوء على حجم برامج السيطرة والتخزين في اعالي النهرين وابدى قلقه من نقص الموارد المائية الواردة الى العراق، مشيرا بوضوح الى ان هذا النقص لا يعود لاسباب طبيعية بل للاعمال التي نفذتها دول الجوار التي تشترك مع العراق بالنهرين وروافدهما.

    ثانيا:
    يظهر العنوان الرئيس لجريدة الصباح مدى حساسية الملف المائي مع تركيا، ليس على المستوى الرسمي فحسب بل على المستوى الشعبي ايضا، اذ مثلت قضية المياه المشتركة مع الجوار قلقا وطنيا حقيقيا منذ السبعينيات، وقد ظهر بأوسع اشكاله بعد العام 2003، في ظل تفاقم جملة من الازمات، بما فيها الوضع المائي، ممثلا بشحة المياه او تلوثها وانحدار انتاجية الارض وانتشار التصحر وكثافة عواصف الغبار، وانكشاف ابعاد جريمة تجفيف الاهوار العراقية، وغير ذلك من مظاهر كان الحديث عنها محرما قبل العام 2003. كما مثلت وقفة البرلمان العراقي السابق في العام 2009 بضرورة ادخال الملف المائي في الاتفاق الستراتيجي مع تركيا مقابل المصادقة عليه، نقلة نوعية بحجم الاهتمام الشعبي والرسمي بقضية المياه، ومثّل ذلك بشكل ما استجابة للقلق الشعبي حول القضايا الوطنية المصيرية ومنها قضية المياه. اما العبارة المقتبسة باللون الاحمر كعنوان رئيس في الصباح فقد لا تكون قد وردت على لسان الضيف الزائر، وهو رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الامة التركي، لكن "نوايا قطع المياه" من عدمها مثيرة للقلق ومخيفة لجهة ان قطع المياه عن العراق امر محتمل، وهنا تبرز اهمية التناول الهادئ والعملي للقضية بعيدا عن الاثارة.

    ثالثا:
    الموضوع الذي اثاره السيد نائب رئيس الوزراء، يمثل هو الآخر تقدما مهما في ادراك قضية الامن المائي في العراق على مستوى السلطة التنفيذية، لان تشكيل مجلس وطني للمياه بصلاحيات واضحة هو آلية فاعلة لاصلاح القطاع المائي في العراق والارتقاء به لمستوى التحديات الجديدة. وللامانة لا بد من تأكيد اني حرصت على اثارة هذا الامر منذ العام 2004 وسبق ان تناولته في محافل وطنية عديدة، وكتبت بشأنه في مختلف الصحف، ومنها جريدة الصباح (راجع موقع ممثلية العراق الدائمة لدى الفاو للاطلاع على سلسلة المقالات حول الموضوع)، واعتقد ان العراق في الوقت الضائع عمليا فيما يخص الملف المائي مع الجوار الجغرافي، وقد تخلف عن الاستجابة لمعطيات الواقع المائي الجديد، وهو واقع تتحكم دول الجوار بمفاصله كلها، على خلاف ماكان سائدا عبر التاريخ، ولم يعد هناك ما يمكن انتظار حدوثه تلقائيا كحل للمشكلات المائية، حتى لو كانت العلاقات الثنائية او المتعددة الاطراف مع دول الجوار المشتركة بمياه الرافدين على افضل مايرام.
    رابعا:
    لقد ادرك برنامج الامم المتحدة الانمائي اهمية فكرة المجلس الوطني للمياه في العراق وعمل على الترويج لها وتنفيذها، وتعاون مع جهات حكومية متعددة واثمرت الجهود المشتركة عن اقرار الحكومة العراقية لمشروع القانون الخاص بالمجلس المقترح، وقُرئت مسودته في جلسات مجلس النواب لكنها التحقت بعد ذلك بقائمة القوانين التي يُنتظر تشريعها لانها قد تكون بحاجة الى توافقات سياسية يصعب تحقيقها في ظرفنا الراهن. ومن المؤسف حقا اخضاع قضية وطنية عليا لتوافقات يتطلب تحقيقها وقتا طويلا، وقد تُفرغ الفكرة من محتواها ولا تكون النتيجة مرضية بسبب معايير واعتبارات افرزتها العملية السياسية التوافقية القائمة على المحاصصة.

    خامسا:
    من الواضح ان الملف المائي مع تركيا يلقي بظلاله على العلاقة الثنائية بين البلدين منذ عقود، وسيبقى الامر كذلك في المدى المنظور، مهما تطورت وتشعبت العلاقات الاقتصادية بين البلدين، بل ان الملف المائي هو حجر الزاوية لاي تعاون قائم على الصداقة وحسن الجوار، ففي العراق مخاوف مشروعة من استحواذ دول الجوار على حقوقه المائية، وتلعب السياسة التركية بخصوص المياه المشتركة دورا في تعميق تلك المخاوف من خلال الاصرار على تنفيذ مشروع جنوب شرق الاناضول وخاصة تشييد السدود الكبرى، وآخرها انشاء سد اليسو على نهر دجلة بالقرب من الحدود العراقية، من دون معالجة القلق العراقي المبرر حول التأثير المدمّر للسد على العراق اجتماعيا واقتصاديا وبيئيا، وهو تأثير سبق لمنظمات ووكالات دولية محايدة ان لفتت اليه انظار الحكومة التركية، واتُخذت اجراءات سُحب اثرها الغطاء الدولي لمشروع سد اليسو، وقبله سد اتاتورك على الفرات، وخاصة لجهة تمويل المشروع، لمخالفته مبادئ القانون الدولي فضلا عن تهديده المحتمل للاستقرار، ولتجنب آثاره البيئية والثقافية حتى داخل الحدود التركية.

    "الصباح"
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media