العدالة الاجتماعية مفارقه عصيبة ورهيبة
    الجمعة 17 أكتوبر / تشرين الأول 2014 - 20:47
    تعريب: د. محمد سعيد العضب
    لماذا ظلت البشرية تناضل عبر التاريخ  من اجل وهم اطلق عليه " عدالة "  غابت, ولم  يمكن تحقيقها  مطلقا عبر التاريخ  البشري    ؟
     في هذه المقالة يطرح  البروفسور ايجون فلأنج المتخصص في  التاريخ القديم من جامعه روستوك في المانيا , افكار حول العدالة  تبدو  متشائمة  , حينما حاول عبرها ليس فقط  تفنيد وجود مفهوم العدالة ,خصوصا عدالة التوزيع  ,  بل يري  في العدالة  ذاتها   مفارقه غريبه ورهيبة .
    حقا ,  لا يستطيع البشر العيش  من دون  الامل والترقب في  ان الرابطة الاجتماعية التي تجمعهم ,لابد بمقدار معين  ان تحقق لهم امكانيه توجيه  واداره  نمطا معينا  , او شكلاو ترتيبا خاصا  لعدالة معينه .
    فمثل  هذه الاماني  يمكنها ان تتحقق لمجموعات من الناس قيم  معينه  في الحياه,  لكن  الانجاز هذا  يتم  فقط عن طريق  الاقهار المستمر,و استخدام اساليب  الحكم والتسلط من ناحيه  , او من  خلال معسكرات العمل القهري والإبادة  والمقابر الجماعية , الرق والعبودية من ناحيه اخري .
      الافكار والتصورات   المعروضة  في المقالة  سعت  تجاوز  المفهوم  التقليدي  السائد  للعدالة , الذي يركز علي  اعتبارها " فضيله" او "عمل  خير"  انساني ,اي تعتبر  العدالة ضمن هذا المفهوم الضيق  مجرد   ظاهره "أحسان وطيبه ".
      بلاشك ان منهج  المعالجة المطروح هنا  يلاقي    صعوبات جمه, كما  انه يخرج تماما  عن  تأكيدات  افلاطون   حول " الفضيلة" البشرية , التي برزت  بجلاء    في كتابه الموسوم  ( الدولة الدستورية )  (  للعلم  حرر هذا الكتاب في  عام  370 قبل الميلاد , واسماه الدولة او الدولة الدستورية ).
     من هنا  تم التركيز   في هذه المقالة علي مفهوم خاص للعدالة يتمحور في انها مجرد لحظه تنظيميه لعلاقات افراد .
      شكلت  نقطه  انطلاق  تحليل  الموضوع هذا  من  مقوله عمانوئيل كانت  التي وردت في  كتابه "ميتافيزيقيا الاخلاق",حينما قال" حينما تغيب  العداله , تتلاشي قيمه استمرار او ديمومه  الانسان علي الارض , بذات الوقت استخدمت  تصورات  دوستويفسكي  حول العداله التي بدورها  اكدت علي استحاله  خلق  او انتاج العداله  سواء علي الارض او حتي في امبراطوريه  الخلود وشكلت  هي ايضا  تملص من المأزق  الفكري حول العدالة .
    عليه تعتبر هذه المداخلات  الإيجابية او السلبية مساهمه في تحديد مدي تواجد العدالة من عدمه , كله يشكل ليس  فقط مفارقه وتناقض, بل ايضا امرا رهيبا ومخيفا .    استخلصت هذه المفارقة هذه   من خلال خمس  مقولات او اطروحات هي:
                                          (1)
    تصب جميع اصناف عدالة التوزيع في نهاية المطاف في الغاء الديمقراطية  و انكار الحرية السياسية . فإلغاء الديمقراطية من ناحيه, وانكار الحرية السياسية  يشكلان تبعات حتميه  لنظريه العدالة  كما تبرز بوضوح  بما يلي  :  الغي  افلاطون   الاستقلالية السياسية تماما في  كتابه " الدولة الدستورية " , حينما  اكد بإصرار فقط  علي  خلق العدالة , بالتالي  اختفي من كتابه مجمل  المجال  السياسي. تابع هذا  التوجه و التصور  ذاته  " جون راؤول "  , حينما اكد عبر برنامج نظريته   بخصوص العدالة علي  مقوله  او مطلب  "حق صوت  غير متساوي لمواطن غير متكافئ"
    ففي  اطار مثل  هذا المقياس  يصبح حق "الصوت المرجح" حسابيا  قضيه عادله بالأخص حينما يتمتع  بعض افراد  المجتمع  بمزايا معينه ...  الحكمة..., التفوق  والقدرة الجيدة علي اتخاذ القرارات, وحسم الامور  في الزمان والمكان المناسب . عليه تظل فئات واسعه في المجتمع  تعاني من الغبن  السياسي ,وان يحدث ذلك تحت رايات العدالة .  في نهاية المطاف يعني ذلك ,من شك  تقويض  الديمقراطية او انعدامها  نهائيا .
      من هنا   يلاحظ  ان افكار  جون راؤول التقت مع  افلاطون  بخصوص  الغاء الديمقراطية . عليه تصبح عدالة التوزيع " وهم" مطلق ,بل ربما  "خيال" مطلق, يمكن  استشفافه  بوضوح من   تأكيدات" برامج راؤول", الذي زعم فيه علي ان  النظام الاجتماعي بذاته قد يمكنه  ايضا  تطويع قوانين  الطبيعية  والتحكم بها .اي بكلمات اخري قد تم عبر افكاره  المتطرفة هذه  الغاء حاله  اللاعدالة في الطبيعة  التي تعتبر من الضرورات الحتمية    . فمثل هذا الهدف او  المسعي  يعني  ليس فقط امرا غربيا, بل يعتبر  قضيه مستحيلة ,  حيث  ينهار المجتمع في نهاية المطاف  حينما  يحاول الغاء لا عدالة الطبيعة.
                                        (2)

    " تستند العدالة علي متساويات المتكافئات.  يخضع  فعل الشر فقط" حصرا  للعقاب  او للكفارة , حينما يمكن  موائمة وتكييف  الافعال غير القانونية , من هنا  تعتبر موائمة او تكيف احكام  العقوبات ا والكفارة من معضلات  الوصول  او استهداف حقيقي للعدالة, خصوصا ,ان  الموائمة المثالية  او التكيف القضائي والشرعي يشكل بحد ذاته عدالة  مطلقه.  عبر كانت عن ذلك بما يلي:
       " ان كافه  اشكال  ودرجات العقاب, كما ان  كافه المبادي والاحكام   التي تعتمدها العدالة العامة  تصب جمعيها  في مضمون  او مبادئ العدالة.
     عليه تتجلي  مثاليه العدالة الشرعية  الوحيدة  المصاغة حسب تأكيدات عمانوئيل كانت  في حق الرد والانتقام .فالتعويض هذا اطلق عليه " العين بالعين والسن بالسن " فهذا التعويض او "التاليو" يعني في كتاب الوصايا القديم ان "الغني لا يمكنه ان يدفع فديه عن جرم اقترفه في قلع عين فقير, او في محاولته  شراء ه بالمال," جريمة" قتله  فقير .
      من هنا تصبح عمليه  التعويض بالمال  او شراء المعاناة الناجمة  عن عمل شر او انتهاك  حق ,  احتقار حقيقي  لمضمون  العدالة, عليه  لابد ان تتم مساوا ه  او  تحقيق تكافئ حقيقي  بين فعل  الشر وكفاره المعاناة, غيره  تظل  العدالة غير قائمه  .
    لهذا اكد كانت  علي حتميه قانون العقوبات, بشرط ان تكون   نصوصه  امور قاطعه. فهذه الفكرة لم ترد لدي كانت اعتباطا.  فالمصلح الكبير المدعو كونيج برجر قد دافع عن عقوبة الاعدام للمجرم القاتل, حينما اضاف  ان العدالة الحقه لا تحتاج الي وكيل او وسيط او بديل  .
    ان عقوبة الاعدام تخلق المساواة بين عمل الشر  والمعاناة الناجمة عنه .   رغم  ذلك وباسم  حقوق الانسان  تصاعدت منذ زمن طويل,  مطالب  الغاء هذه العقوبة     , سواء  في  عهد بيزنطة القرون الوسطي او في روسيا الجديدة  . 
    ان الغاء حكم الاعدام علي قاتل  يعرقل بلاشك  تنفيذ العدالة الحقه  .هذا بدوره  يعني  ان العناصر الأساسية للمفاهيم  الإنسانية السائدة منذ قرن من الزمن تتعارض كليا مع العدالة .
    فالذي يشعر  بالإنسانية بتجرد وابتذال عليه ان لا يجعل من العدالة  منطلقة, او قاعده يستند عليها  في الحياه  . فأيديولوجية تقرير المصير او الاعتراف     تؤثر مبدئيا  وبشكل  عكسي  علي العدالة . فعندما  تطالب مثلا  اقليه في يومنا  الحاضر   بالاعتراف بها  , فلابد ان يقصد زعماءها  وجوب تمتع اقليته بخصوصيات  وامتيازات مختلفة,  اي  بكلمات اخري يهدف منه , الحصول علي معامله خاصه  ومتميزة  ,  عليه كما  معروف  فالمعاملة الخاصة او التميزية,  لابد ان  تتعارض كليا  مع المساواة, بذات الوقت  تنشأ  حاله  لاعدالة .  
                                              (3)
    تواجه كافه اشكال العدالة  تحديات ,حيث يمكن ليس فقط   الطعن بها بل ان جميع  متكاتفاتها  هي ايضا   مشكوك فيها  ".فالعين  بالعين" تبدو عدالة مطلقه لا نها متساوية مطلقه ,لكنها  غير موجوده ميدانيا او متوفرة في عالم الواقع ,لهذا استمرت المجموعات البشرية  سواء كانت علي شكل مجتمعات او دول  تناضل من اجل العدالة, كما لم يتوقف هذا الكفاح من اجلها  بتاتا  . علما ان مثل هذه المتساويات تستند علي اتفاقات من صنع الانسان وتخضع لتصرفات  البشر . لهذا ليس من الصعوبة في دحضها , او الغاء هذه الاتفاقات ,او الادعاء بانها  نظمت لخدمه  الاقوياء . هذا ويمكن تجاوز,  وإهمال رموز متساويات العدالة ,ا واركان صيرورتها من جميع افراد المجموعات البشرية سواء كان  الفرد متعلما او جاهلا  فكلما كان المجتمع تعدديا, ازدادت المجموعات المعارضة للاتفاقات التي تستند عليها متساويات  العدالة  .لذا يظل الجميع في دوامه من اجل  اعادة النظر في هذه المتعادلات , كما تستمر  البشرية في القيام بذلك لغايه الوصول ليوم معهود من الامان والهدوء والطمأنينة وظهور مؤسسات دوليه وجمهوريه عالميه كما تلك التي روج لها كانت
                                    (4)
    تتجلي الكارثة الكبرى في تصورات ضرورة تحقيق عدالة  لما يطلق عليه "عدالة بين  الاجيال", اي بكلمات اخري  تحميل اجيال حاضره مسوليه جر ائم او اعمال شريرة اقترفها اسلافهم.
    لنتصور  ان تقوم  الاجيال الحاضرة  في تعويض ضحايا الرق  والعبودية. مما  يجب ان يدفع المستعبدون غاليا  ومبالغ قد تفوق البلايين  من الدولارات   للاثنيات  من الساحل الافريقي  مما استوجب ستوجب عليها دفع تعويضات  او مبالغ  من   عبيد  جلبوا   الساحل الافريقي ( الطوارق ,اليوربا , الفولبا , الهوسا  والاشتاني ) التي تجاوزت اعدادها  50 مليون رقيق   ,  خلال فتره  امتدت   1200 عاما   .
     السؤال المطروح... لماذا يجب تحميل  اجيال  حاضره  عن اعمال استعباد اثنيات  وشعوب اخري  قام بها اسلافهم واجدادهم      ؟
     لمن يتم دفع التعويضات ؟ حيث ان احفاد  العبيد   في اميركا, ينحدر معظمهم  من اثنيات قامت هي ايضا  في ممارسه العبودية  والرق  لفئات اخري .كما ان كثيرون  تم   الحصول عليهم عبر مصائد العبودية التي وضعها اعدائهم او ان سوء الحظ  وقعو  في طاله  العبودية  من جراء عدوات قبليه وعشائرية : عليه  يبدو  ان ضحايا  الرق  هم ايضا  بذات الوقت جناة .
     هل ينبغي تعويض الاحفاد ؟ كيف يمكن معرفه الضحية  الحقيقية  لمثل هذه العبودية  التي   حصلت في اميركا مثلا  حوالي عام  1730؟
    ان محاوله  خلق العدالة في هذا المضمار تقود او ربما  تؤدي الي نتائج غربيه, ا وتترتب عنها , ونتيجة لها  دفع تعويضات ومكافئات بملايين المرات لأحفاد جناه  عبودية لم  يحالفهم الحظ السعيد في تبرئه  آثام  غيرهم .  من يتحمل كلفه هذه التعويضات ؟ هل يتم  التعويض علي حساب اناس   ابرياء  لا تتحمل  مسؤوليه اعمال اجراميه قام بها  اسلافهم واجدادهم؟
     ان مجرد التفكير بمثل هذه التصورات  يخلق  حقا  ليس بلبه فكريه, بل  قد يجعل الانسان  في دوار وصداع مستمر    . من هنا  يصعب  انتاج "  عدالة" لا كبر جرائم حصلت في تاريخ البشرية  هي الرق والعبودية  وتظل عائمة  فقط  في  صيغ  خطابيه وتراتيل لغويه لا غيره  .
                                 (5)
    حسبما  طرحه مفكر العدالة  الراديكالي دوستوفسكي في  روايته الرائدة    " الاخوان كارا مأسوف  "ان الخالق ذاته  يعجز هو ايضا في  خلق او توفير  العدالة . فمن خلال محادثه استفزازيه خاطفه  حاول  ايفان الكافر والملحد  حشر اخيه  المتدين جدا اليوغا في حيره بائسه,  حينما  قال له ان  الله  الذي خلق  الكون  ليس فقط لم يتمكن من التعويض عن  عذاب طفل صغير عمره 8 اعوام  حينما ترك حامل الدروع  الكب ينهش ويمزق اوصاله امام  اعين امه و الجميع , بل  ظلت عذابات الطفل من دون عقاب  او  كفاره  .  .
     من اللاعقاب  هذا استخلص  ايفان  نتائج رهيبة  , تجلت  في حقيقه  مفادها " تظل جموع الفداء من البشرية تنشد "انك العادل, يا رب"  
     لقد اعترض  ايفان كارا مسوف  الكافرون البداية  علي هذا الدعوات  , وقال لأخيه المرشح لمنصب القساوسة  اليوغا "انني لا ارغب  ان تقوم  الام  بحضن طفلها المعذب ؟ كيف  تتطاول او تجرأ في ان تغفر له  ؟  فان رغبت, فيمكنها ان تسامح نفسها فقط ,ولربما  من اجل  الترويح عن عذابات نفسها والغفران لذاتها   ؟    لكنها بذات الوقت,  حيث قد  يمكنها  عبر ذلك  تجاوز محنتها, وتناسي عذابات الطفل الذي مزق اوصاله الكلب.
    لكن سيظل  الطفل لا يغفر لاحد عما  اصابه من جور وعذاب .من هنا ليس لامه وغيره  حق الغفران باسمه او اجباره  قبول الغفران.
    من هنا اين التناغم بين الجرم والعقاب  ؟هل يوجد احدا في العالم  يمكنه غفران ذلك  ؟ فحينما  يعجز الانسان  عن الاعتذار والتسامح  فلابد ان يتلاشى  التناسق والتناغم بين الجرم والكفارة . ؟ ان تحقيق التناغم بين الجرم والغفران  انطلاقا او استنادا لاعتبارات انحساسيه او من منطلق الحب  للبشرية , فمن الافضل في مثل هذه الحالات  بقاء  الجميع في  عذاب وغضب صامت , وتنكيس ريات   الثأر والقصاص حتي وان كان علي غير حق .ان تنازل ايفان الكافر  من تبعات الخلاص كله ا و انكاره حق القصاص  يعني بذات الوقت انكار فظيع للعدالة .
     اما في حاله الاقرار بالحق ,فان تنازل ايفان ذاته يعني هو ايضا  الابتعاد عن  كافه اشكال الخلاص والفداء  وهي ايضا انكار للعدالة .
       
     عليه  لا يوجد نص فلسفي ينظر الي مسلمات  العدالة بهذا الشكل المتطرف الذي يتم فيها انكار عدالة الخالق  .
    كيف ينبغي للناس  القيام بأشياء لا تتماشي مع الإرادة الإلهية العليا  المتسامحة  مع ذلك يؤكد الكوزموبوليتاني ونجرجر علي ان البشر يعجزون  في العيش من دون عدالة . نحن جمعيا عطشي  نحوها وسيظل هذا العطش يدفعنا نحو التقدم للأمام عبر صحراء التاريخ ليس اربعون عاما, بل الي الابد ما دام  كوكب الارض يستمر في توفير  الغذاء  لنا .



    ترجمت من الألمانية ونصها الاصلي كالاتي :
     
    Warum es Gerechtigkeit nicht geben kann
    By Egon Flaig
    Der Standart Sa,So.,25,26. February 2012
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media