بئر أبي ذر الغفاري
    الثلاثاء 28 أكتوبر / تشرين الأول 2014 - 21:52
    د. ماجدة غضبان المشلب
    البئر أظلم عميق..
    سمعت صراخهم..
    _أتسمعون يا رفاق؟، هنالك من يصرخ..
    _عاد لما كان عليه..
    _أنت تسمع ما لا نسمع، و ترى ما لا نرى..
    _عدت الى جنونك من جديد..
    _الدليل اننا خمسة افراد، و لم نسمع شيئا..
    حطمت دائرة الأذرع المغلقة، المبطنة بضحكات السخرية و الاستهجان..
    _الى أين ذاهب؟
    تدلت اصواتهم في الهواء كثمار مجوفة..
    _الى البئر حيث يصرخون..
    _دعه انه مجنون..
    _لن يجد البئر، و سنكون في استقباله بنكات لاذعة..
    _سيكون تسليتنا الوحيدة هذا المساء..
    غادرتهم مسرعا، و انتهى لغطهم عند الخط الفاصل بين الشمس و حمرة البحر الهاديء حتى ذاب كعدم لم يكن..
    الى الأمام، و على بعد بضعة خطوات انفجر بركان الصرخات..
    تناثر الزعيق و كلمات الغوث كالحمم من فوهة بئر يقذف ما فيه نحوي بغضب و قوة..
    بخار و دخان و عواء بشري مرعب لامس جلدي دون أن أشعر بحرقة أو ألم..
    _من هناك؟..
    _نحن هنا في الأسفل..
    بدا التشابه بين الأصوات التي ودعتني بسخريتها قبل قليل و بين بوق الاستغاثة الجماعي واضحا..
    _من انتم؟
    _ من سخر قبل لحظات منك..
    _كيف سقطتم في البئر، و قد تركتكم خلفي؟..
    _لا ندري.. هات لنا بحبل، و اربطه بصخرة لعل احدنا يخرج و يعين من بقي على الخروج أيضا..
    _لا أملك حبلا..
    _مد لنا يدك..
    _البئر ليس عميقا..
    _لكنه شديد اللزوجة..
    _لا نستطيع التسلق نحو الأعلى..
    تدلت ذراعي صوب عتمة شديدة..
    _هل ترون يدي؟
    _اني ارى سبابتك
    _انا لا ارى سوى ابهام..
    _لا ليس هناك سوى الخنصر..
    _كلا انه بنصر فحسب
    _ايها الحمقى هذا اصبع الوسطى و لكنه شديد الضخامة..
    شعرت بابهامي يكاد ان يتحطم تحت ضغط يد هائلة الحجم..
    _اترك ابهامي و امسك بيدي كلها..
    _الظلام شديد لا ارى سوى الابهام..
    _انا سأتعلق بالخنصر فهو واضح امامي جدا..
    _انا سأمسك الوسطى الضخمة..
    _و انا لدي السبابة..
    _و هذا البنصر يبدو لي كعمود كبير..
    _ايها الاغبياء اتركوا أصابعي.. انكم تسحبونني نحو الظلام، اتركوا أصابعي، ليمسك أحدكم بيدي كلها، لا يمكن ان اخرجكم جميعا..
    كادت أصابعي ان تغادر أماكنها، و الايادي تطبق عليها و باصرار شديد..
    أصبح نصف جسدي في عتمة الهوة..
    رفست الارض بساقي و انا اقاوم السقوط..
    _اتركوا يدي..
    تمادت صرختي برفرة نحيلة مغتالة سكون خمد بين أرض و سماء.. الا انها كانت متأنية بموازاة سرعة التهام الهوة لي..
    أحاط بي الظلام و اللزوجة معا..
    سمعت قهقهة أحدهم في الأعلى حيث لم يعد بامكاني ان ارى أي شيء..
    _انظر الى هذا الغبي، قد رمى نفسه في بئر عميق لا قرار له..
    _قد صدق حقا ان هنالك أناسا في البئر..
    _صدق الاصوات التي ضجت في رأسه..
    _هذا الجنون بعينه..
    _اتركوه في البئر، انه يستحق البقاء هناك..
    ابتعد ضجيجهم.. ساد الصمت بعد رحيل آخر خطوة..
    أحاط بي طوق هائل من أشواك الوحدة و اليأس و بدا كأنشوطة مشنقة معدة لقتلي..
    لا أظنهم سيسمعون صراخي.. ، فهم لا يسمعون ما أسمع..
    و إن سمعوا.. فلا أظن ان لديهم رغبة برؤيتي على وجه الارض مرة اخرى..

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media