راشد الغنوشي .. واجتثاث البعث
    الخميس 30 أكتوبر / تشرين الأول 2014 - 04:47
    فرات ناجي
    أخيراً .. انجلى غبار المعركة الانتخابية التونسية عن تقدم واضح وفوز لحزب نداء تونس وتراجع حركة النهضة الإسلامية إلى المرتبة الثانية ، وسط تغني بالشفافية ، وتمكن تونس من تجنب مصائر غيرها من بلدان الربيع العربي ، كعلاج نفسي على ما يبدو للذات العربية الجريحة بعد أن ذوت أزهار ربيعهم الذي إلى جليد وعقوبة لمن أذنب وفكر يوما بالحرية .

    محاولة ترميم الربيع العربي بوصفة تونسية ، والمخاوف من مصير مرسي كما قالت صحيفة تليجراف البريطانية على ما يبدو ، كان يحكم تعاطي زعماء النهضة مع النتائج ، فقد اتصل راشد الغنوشي بزعيم حزب نداء تونس القائد السبسي مهنئاً إياه بالفوز الانتخابي ، على وفق قاعدة (مكره راشد .. لا بطل)! ،كما شبه الغنوشي خسارة حزبه بصلح الحديبية مؤكدا أن ما حصل في تونس هو فتح !

    تحمل نتائج الانتخابات التونسية دلالات عدة ، مهمة وخطيرة ومفيدة في ذات الوقت :

    هي تمثل أولاً ، عودة واضحة لرموز النظام السابق من النوافذ الانتخابية ، بعد أن هربوا من الأبواب الرئاسية ! ، فمؤسس حركة نداء تونس السبسي ذو الـ88 عاماً من ( الفلول ) المتميزين ، فهو رئيس البرلمان في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي فضلاً عن  توليه مناصب في السلك الدبلوماسي في العهد نفسه ، ناهيك عن كونه عضو اللجنة المركزية للحزب الحاكم حتى 2003 مع ما يعنيه ذلك من انتماء أيديولوجي لفكر المؤسسة السياسية التي أطاحت بها الثورة .

    ( لم تتبق سوى عودة بن علي ) هكذا علق عمر صحابو أحد أبرز الصحافيين التونسيين على هذه العودة اللافتة للأنظار لرجال ووزراء الرئيس المطاح به...في وقت لم يكن أحد من هؤلاء في انتخابات 2011  قد تجرأ على الظهور إلى العلن ، فما بالك بالترشح !!

    وتقرأ النتائج ثانياً بأنها تراجع للحركة الإسلامية التونسية أمام خصم مشتت لا يجمعه إلا رفض الإسلاميين ، فالسبسي لا يراهم سوى (رجعيين ) و ( ظلاميين ) يفصله عنهم 14 قرنا ، و ( أكبر خطر على تونس ) ! ، لا بل يعتقد أن ( النهضة والنداء خطان متوازيان لا يلتقيان إلا بإذن الله ... فإن التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله ) وهو أمر يعبر عن توجه صارم ، وبداية مرحلة جديدة ليست بالهينة على حركة النهضة التي تحتاج لتلافي مخاطرها المتوقعة .

    ويبدو من اللافت أن الغنوشي الذي وصف خطابه دوماً بالمتميز والمغاير لغيره من الإسلاميين لم ينجح في تحجيم اتساع شعبية منافسيه ، كما إنه ظل يسير على قناعة الاستفادة من نكبات غيره ، فوقع فيما كان يحذر منه ، لأنه على ما يبدو لم يحسن قراءة تجاربهم ، ولاسيما في العراق  !

    ففي نيسان 2010 كتب الغنوشي عن (تطييف الإسلام وخطر الحل العلماني ) مستشهداً بالتجربة العراقية ، وناعياً نظام المحاصصة المتخلف ، ومشيداً وقتها بما أفرزته الانتخابات العراقية من بدايات مهمة ( هكذا ) لتوجه وطني واضح، وبخاصة في وسط السنة العرب الذين صنعوا المفاجأة من خلال انضوائهم بشكل عارم ضمن القائمة العراقية الوطنية المتجاوزة للطوائف، فكان متزعمها علمانيا شيعيا ضمن توجه عام لتجاوز المنطق الطائفي المدمر !! .

    الغنوشي قدم أمنيته آنذاك بأن يرى شيعة وأكراداً ضمن الفعاليات السياسية السنية ! في حين لم يطالب بالعكس ، وهو أمر لافت ويشبه طروحات البعض اليوم للعرب السنة فقط بتبني الخطاب الوطني ، في حين يقف الشيعة ضمن المواكب الحسينية يلطمون ويرددون المقتل المزعوم كما ظهر مؤخراً من قبل المالكي وشلته !

    اليوم وبعد أربع سنوات ، ظهر للعيان خطاً تصورات الغنوشي الخاصة بالعراق ، وإنه أفتى بما لم يعلم ، فالسنّة يجترعون مرارات تأييد القائمة العراقية التي كانت لعبة مخابراتية بعثية ميعت هويتهم أمام تمسك الآخرين بها ، وضيعت سنواتٍ أربع أوصلتنا دون مبالغة إلى العيش تحت حكم داعش وماعش وما بينهما من حشد طائفي وميليشيات ترتدي الزي الرسمي !

    لقد أفرزت الانتخابات التونسية قناعة مهمة وعززتها ، وهي إنه من الخطأ منح الحياة للأنظمة السابقة التي أسست الدولة العميقة التي تغلغلت لأقصى الدرجات في جسد الأوطان ، فالغنوشي وحركته ارتكبوا خطاً فادحاً حين تراجعوا عن قانون ( العزل السياسي ) الذي يشبه إلى حد كبير ( اجتثاث البعث عندنا ) ! ظانين أن خطاب الوحدة الوطنية لديهم ولدينا هو الطريق السليم .

    إن أحزاب الأنظمة المستبدة لا يمكن أن ينصلح حالها ، لأنها أسست على محو الآخر ، وهكذا يجب أن تعامل ! والشواهد كثيرة ، فقبل أشهر ، كان الجميع ينتظر أول ظهور علني لوزير خارجية صدام ( ناجي صبري ) ، وحبس الكل أنفاسه قبل الإدلاء بشهادته للتاريخ الذي ذبحه من اللحظة الأولى بتكرار اسطوانة النضال والمقاومة والممانعة المزعومة ، متماشياً على ما يبدو مع المشروع البعثي الحالي في العودة للسلطة ولاسيما وهو القابع في قطر والمتنعم بخيراتها ضمن مشروع استقطاب البعثيين المريب من قبل دول الخليج !

    إن تجربة البعث في العراق ، وما حصل في مصر ، واليوم في تونس درس بالغ لكيفية التعامل مع الأنظمة السابقة من جهة ، وتأكيد أن تقييم تجارب الآخرين يستلزم وعياً بالبيئة لا تصنعاً للذكاء الذي يخون صاحبه في أول تجربة حقيقة تشابهها !

    ولذلك : 

    مخطئ من ظن يوما أن لصدام وعزة ومبارك وبن علي وزبانيتهم ديناً ..

    فلم ينكّب أهل السنة إلا يوم ابقوا البعث على قيد الحياة ، ومنحوا الفرصة للعقل المأفون ليفكر ويخطط ، تحت مزاعم الوحدة الوطنية والاستفادة من التجارب ، وفي تونس كما العراق يبررون تقبل السبسي لأنه رجل دولة يمكن أن يفيد البلاد بخبرته السياسية ! وهو ذات العذر الذي يحاول البعض فيه إلغاء اجتثاث البعث عندنا ومحو سجلهم الدموي الذي يرفضون حتى الإقرار به !

    ويفوت الغنوشي والكثيرين أن التمسك بهوية المكون هو الأصل للانطلاق في مجابهة مشاريع الآخرين ، ولاسيما حين تحمل طابعاً أيدلويوجياً واضحاً كما هو الحال اليوم في العراق .. وتونس !
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media