عبادة العقل وعبادة الكائن السامي .. الدين والثورة -1-
الأثنين 9 يونيو / حزيران 2014 - 19:03
د. صلاح نيّوف
حاولت الثورة الفرنسية منذ سنواتها الأولى إلغاء الدين المسيحي وتغييره بما سمته " عبادة العقل"، ثم استبدال هذا المفهوم بآخر هو " عبادة الكائن السامي". أدهشت هذه الفكرة وأخافت الأوربيين، لكنها فشلت في النهاية، مع ذلك كانت مثيرة للاهتمام من خلال طرحها عبادة العقل وعبادة الكائن السامي كانحراف وهذيان ثوري، كما يشير الكثير من مؤرخي الثورة. هؤلاء المؤرخون رؤوا أن تجفيف مبدأ "عبادة العقل" أو تبريد مبدأ " عبادة الكائن السامي" لم يقتنع بها أبناء القرن الثامن عشر، وضمن هذه الرؤية تشكلت فكرة دين للوطن وللإنسانية، ومن هنا كانت عبقرية وخصوبة الثورة، من خلال توجيهها الروح الفرنسية لتعبر طريقا آخرا سوف تعبره شعوب كثيرة فيما بعد.
قدَم [إدغار كانيت 1803ـ1875] رؤية للثورة في موقفها من الدين مختلفة كليا في نتائجها. لم يكن هذا المفكر ضد المواقف القمعية التي اتخذت ضد رجال الدين، لم يحلم بانتصار الفكر الحر، متهما الثوار بالخجل الذي منعهم من تدمير المعتقدات القائمة أو من تغييرها ويأخذ على المسيحيين أنفسهم عدم الانضمام إلى "دين العصر الجديد".
ينتقد بعض المؤرخين الفرنسيين المعاصرين مؤرخي الثورة لأنهم تساءلوا عن التجربة الدينية التي كان يجب على الثورة أن تقوم بها أو تعالجها ولم يبحثوا بما حصل في الواقع، أي أنهم دخلوا في عملية من التقييم وليس في التأريخ. ويتساءل المؤرخ [ألفونس أولارد 1849ـ1928] إذا كان مؤرخو الثورة قد قرؤوا المئات من الكتيبات المعاصرة حول الخطب والشعر والأحداث التي أخذت وجودها من خلال "عبادة العقل" أو " عبادة الكائن السامي"؟ ويتابع " يظهر أنهم لم يطلعوا على النصوص الأساسية التي تتعلق بهذا الموضوع، لم يعرضوا تفاصيل الحدث الأهم في تاريخ فرنسا وربما البشرية. لقد درسوا الثورة بحد ذاتها وبمعزل عن أحداثها الخطيرة والظروف التي سبقتها".
عباد العقل وعبادة الكائن الأسمى في فلسفة [ جان جاك روسو، فولتير، رينال، ديديرو، موبلي، مونتسكيو].
نعرف أن فكرة "الدين الطبيعي" أنها من الأفكار التي أخذت مساحة واسعة في فلسفات القرن التاسع عشر، وقد درس رجال الثورة الفرنسية كثيرا منها وساهمت في تشكل ثقافتهم وفكرهم. يعتبر [جان جاك رسو] المعلم الأخلاقي للثورة الفرنسية، فدين " فيكير سافويارد" الذي تحدث عنه [روسو] في كتاباته أعطى لروبيسبيير فكرة عبادة الكائن السامي بطقوسها وتعاليمها. لا يمكن الفصل بين اسمي [روسو] و [روبيسبيير]، حيث أن هذا الأخير تأثر كثير "بروسو" لاسيما في بعض فصول كتابه "أميل" والصفحات الأخيرة من "العقد الاجتماعي"، فالاحتفال المسمى " حفل الكائن السامي" وبالفرنسية 20 Prairial،جاء تحت هذا التأثير في السنة الثانية للثورة. [ إن شهر prairial يشير إلى الشهر التاسع من روزنامة الجمهورية الفرنسية، وقد جاء هذا الاسم من الخصوبة والحصاد في شهري أيار وحزيران في المروج والبراري prairies].
أيضا كان لفولتير تأثيرا واضحا على السياسة الدينية للثورة، حيث رأى الثوار في فولتير الكثير من النصوص المختلفة والقاطعة التي كانوا بحاجة لها لتبرير ما يتعلق بسياساتهم الدينية. عندما أُعلن "المجلس التأسيسي" للثورة الفرنسية عام 1789، وهو أول مجلس تأسيسي فرنسي، كمجلس فيه الكاثوليك، الرسوليين والرومان، رافضا أن تكون الكاثوليكية دين للدولة، هنا يظهر تأثير فولتير وتحذيره الدائم من الدين الذي رأى فيه العدو الحقيقي.
لقد كانت تهكمات فولتير ضد البابوية قد رسخت في النفوس وعلى جميع الشفاه، حتى أن اللغة الفرنسية نفسها تأثرت كثيرا بنكات فولتير. هنا لا يمكن نهائيا نسيان أن فولتير كان أحد أكبر الداعين إلى إصلاح المسيحية. ردد فولتير جملته الشهيرة " Il faut absolument épurer la religion" [من الضروري بشكل مطلق تنقية الدين]. ولكن كيف؟ هل نغير المعتقد ويتم التركيز فقط على الأخلاق؟ أن فولتير نفسه من أشاع فكرة " الكاهن هو ضابط للأخلاق، الكاهن قاض للسلام، الكاهن الطبيب، والكاهن المزارع".
[.... هل تريدون أن تكون أمتكم قوية وسلمية؟ وأن قانون الدولة يقود بدلا من الدين...؟]
[.... ما هو الأقل سوءا من كل الأديان؟ هل هو ما نراه أقل عقيدة وأكثر فضيلة، ما هو الأفضل...؟]
[ .... البابويون Papistes، اللوثريون، الكالفينيون، جميعها فصائل متعطشة للدماء. البابويون عبيد يقاتلون تحت راية البابوية، الطاغية. اللوثريون قاتلوا من أمرائهم، الكالفينيون من أجل الحرية الشعبية...].
[.... الجونسينست jansénisme " حركة دينية ثم أصبحت سياسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ضد الكنيسة الكاثوليكية والحكم الملكي المطلق"، هؤلاء أعطوا قوة لفرنسا، المولينست Molinisme " مذهب لاهوتي تطور على يد اليسوعي Luis Molina [1536ـ1600]، أيضا هم كذلك. أما اللوثريون والكالفينيون فقدموا المآسي الدموية في إنكلترا، ألمانيا، وهولندا...].
[ .... المعتقد أدى إلى قتل عشرات ملايين المسيحيين، الأخلاق لم تؤدي حتى لجرح صغير.].
[ ...مازال المعتقد يقود إلى الانقسام، الكره، في الأقاليم و المدن و داخل العائلات...].
" من Dieu et les Hommes، أعمال فولتير".
يرى فولتير أن "الدين الطبيعي" وهو:" مبادئ الأخلاق المشتركة لكل أصناف البشر"[éléments de la philosophie de Newton]، هنا، "يجب نقل البشر بقدر ما نستطيع إلى الدين البدائي، إلى الدين الذي المسيحيون أنفسهم يعترفون به" [De la Paix perpétuelle]. يقول " ألفونس أولارد":" بالتأكيد لم يكن فولتير مسيحيا، وكان لدى روبيسبيير الحق في كرهه. ولكن كم مرة كتب فولتير في أكثر من مكان في مؤلفاته، وذلك قبل روبيسبيير، أن الدين ليس جيدا إلا إذا تأسس على عدد قليل جدا من المعتقدات، الإيمان بالله، والإيمان بخلود الروح؟ هل بنى فولتير معبدا لله، وهل فعل روبيسبيير شيئا آخرا عندنا أسس "عبادة الكائن السامي؟". إن لم يكن فكر فولتير موجودا في كل تجليات السياسة الدينية للثورة الفرنسية، فإن روحه موجودة بالتأكيد.
فيلسوف آخر له تأثير كبير على الثورة الفرنسية، ربما غير معروف اليوم، إنه [رينال]. يقول رينال كما ورد في " التاريخي الفلسفي، ص 533": " الدولة، كما يظهر لي، لم توجد من أجل الدين، بل الدين وجد من أجل الدولة. هذا هو المبدأ الأول. المصلحة العامة هي القاعدة لكل من يريد البقاء في الدولة. المبدأ الثاني. الشعب، أو السلطة صاحبة السيادة هي وحدها لديها الحق في تقييم وجود بعض المؤسسات وتطابقها مع مبدأ المصلحة العامة. المبدأ الثالث. هذه المبادئ الثلاثة لا يمكن الاعتراض عليها".
" إن السلطة التي استمدت سيادتها من الشعب يعود لها اختبار العقائد التي تتعلق بدين ما، علينا أن نتأكد من أن العقائد لا تعرض في أي شيء الدولة إلى عدم الاستقرار، لا تصطدم مع الأخلاق القائمة، لا تضعف من الروح الوطنية ولا تضعف من الشجاعة، لا تؤثر على الصناعة، على الزواج وعلى الشؤون العامة، لا تزعج السكان ولا العلاقات الاجتماعية، لا تدعو لعدم التسامح.....".
بالنسبة لـ [ ديدرو] Diderot، فإنه حبه للإنسانية هو الروح السعيدة والخصبة للثورة. استلهم الكثير من Hérault Séchelles لاسيما في خطابات الفلسفية لعام 1793. لكن تأثيره لم يعرف بشكل واضح ولم تعرف كتاباته إلا في جزئيات منها. يقول عنه [ألفونس أولارد] :" لم يؤخذ منه الكثير فيما يتعلق بالعلمانية، اليوم، حتى وجدنا وفهمنا فكره، و هذه الروح المعطاءة، هذه العقلية العميقة التي تجاوزت عصرا كثيرا بل تجاوزت الثورة نفسها".
[مابلي] Mably، الحاضر في معظم الحوارات الدينية للثورة. يعتبره البعض، بعد جان جاك روسو، كواحد من الآباء لكنيسة روبيسبيير، ومفهوم عبادة الكائن السامي. في دراسته " التشريع"، طلب من رجل الدولة بإعلام المواطنين أنهم " تحت يد الكائن السامي الذي يقود العالم". لم يتحدث أي شخص آخر عن "ضرورة عبادة علنية للكائن السامي، فالمعبد والكاهن والطقوس هي عبادة داخلية غير كافية". بعد 17 عاما من كتاب "التشريع" سنجد مفردات وأفكار [ديدرو] على شفاه روبيسبيير، عندما كان اليعاقبة Jacobins يزمجرون ضد ما سمي Hébertistes، ويحضرون "لمجيء ربهم".
مونتسكيو: مستشارا أم مفكرا سياسيا؟
لقد كان لمونتسكيو سلطة كبيرة على الناس عام 1789، هنا، يقول [ألفونس أولارد]:" لا بد من قراءة كتاب صغير كتبه " غروفيل" ونشر مع بداية الأزمة، كان عنوان الكتاب " سلطة مونتسكيو داخل الثورة الحالية". لكن "غروفيل" لا يعتبر مونتسكيو سوى مستشارا سياسيا. " صحيح أن مذهب فصل السلطات مارس تأثيرا كبيرا على الثورة بكاملها، ولكن نستطيع القول أن مونتسكيو لم يعط للثورة إلا نصائح سياسية" [ غروفيل].
من الناحية الدينية، فقد كتب مونتسكيو بالفعل:" أن الدين الكاثوليكي يتماشى بشكل أفضل مع ملكية، وأن البروتستانتية تتوافق بشكل أفضل مع جمهورية".[ عنوان الفصل الخامس من كتاب "روح القوانين"]. يقول [ألفونس أولارد]:" لقد كان لمونتسكيو تأثيرا في هذا المجال، لكنه تأثير سلبي. لقد اعترض مقدما على فكرة روبيسبيير بتنقية وتسهيل المسيحية، عندما كتب بريشته هذه الجملة الإزدرائية:" إن دينا مليئا بشكل كبير بالطقوس والممارسات يرتبط بنفسه أكثر من دين أقل طقوسا وممارسة". إذا هي إدانة مسبقة لمفهوم " عبادة الكائن السامي".