مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي -12-
    الثلاثاء 2 سبتمبر / أيلول 2014 - 04:17
    كمال يلدو
    كاتب وإعلامي عراقي مغترب
         تحت سماء الوطن، فتحوا ابوابا، ورسـموا احلاما لأجيال كثيرة، ومع الوقت اضحت هذه المهنة، ظلّهم الذي يلازمهم ويصاحبهم، فمنحوها قلوبهم،  واجمل سنيهم. ورغم مضي زمن غير قصير منذ ان غادروها، او تقاعدوا منها، الا ان كلمة (سـت) أو (استاذ) مازالت حاضرة في وجدانهم، و قادرة على حملهم الى العالم الجميل الذي كان سائدا.
    فبالرغم  من اننا نعيش في بلاد جديدة ، الا ان هذا لا يمنع ابدا من تكريم جيل المعلمين والتدريسيين الذين قدموا الكثير، فمسيرتهم  تلك تستحق منّا، نحن ابناء العراق الأوفياء، ان نشكرهم اينما كانوا منتشرين في بلاد الغربة، ان كان بالكتابة عنهم أو بنشر قصصهم وذكرياتهم وصورهم.  دعونا  نقوم سوية برسم واقع جديد فيما بيننا، واقع الأحتفال والأفتخار والأعتزاز بكل مبدع، خدم بصدق وتفان، حتى وأن تجاهلت المؤسسات المعنية دورها في القيام بذلك!
    وفي هذه المناسبة، ادعوكم  لرحلة قصيرة مع بعض الوجوه العراقية التي خدمت في سلك التدريس في عهود مختلفة. ويقينا ان في جعبة كل واحدا منهم قصصا كثيرة وحكايات وذكريات، وستسمعوهم سوية وهم يصبوها في مجرى واحد كبير، هو حب الأنسان ورفعته.

    المربي ســليم منصـور كثاوا
    المربي ســليم منصـور كثاوا
         ولد في مدينة تلكيف وفي محلة (شعيوتا) في العام 1919، متزوج من السيدة بـدرية عزيز عيسـو، ولهم 5 بنين و 4 بنات و 18 حفيد و 4 من ابناء الأحفاد.
    اكمل الأستاذ سليم الأبتدائية في مدينة تلكيف بمدرستها الوحيدة، ثم انتقل الى الموصل ليدرس المتوسطة في منطقة (شهر السوق)، ثم اكمل الثانوية في ( ثانوية الخضراء) ، انتقل بعدها الى بغداد لغرض ايجاد فرص أفضل لأستقبال الحياة بعد انجاز الثانوية، لكن ظروفا قاهرة جعلته يختار التعليم أخيرا، فدخل دورة لمدة 3 شهور  كانت مخصصة لتخريج المعلمين (بسرعة فائقة) لتلبية حاجات البلد في هذا السلك، وكان اول توظيف له في،
    - مدرسة ابتدائية في (سوق الشــيوخ) ثم نقل الى،
    - مدرسة ابتدائية في مدينة (الناصرية)، ثم طلب نقله ، فخيّر ما بين المنطقة الشرقية اي (كركوك) او مدينة  (جمجمال) فأختار الأخيرة  للتدريس، بعدها نقل الى ،
    - مدرسة في مدينة (باطنايا) التابعة الى لواء الموصل آنذاك، ثم انتقل الى ،
    - مدينة تلكيف، التابعة لمحافظة  نينوى ايضا وفي مدرسة تلكيف الثانية (العرفان) وبعدها الى،
    - مدرسة في ( لواء كركوك) اعقبها نقل اداري الى،
    - مدرسة في مدينة (جمجمال) التي كان قد درّس فيها سابقا،  وبعد عدة سنوات نقل الى،
    - مدرسة في العاصمة بغداد، اما آخر محطاته التدريسية فكانت في،
    - مدرسة (المتوكل) في مدينة بغداد، وفي جانب الرصافة، حتى استحقاق التقاعد في نيسان عام 1970.
    موظفي الناحية يحتفلون بيوم 14 تموز في نادي الموظفين .1960
    لم يمض وقت كثير بعد التقاعد حتى غادر العراق مهاجرا الى الولايات المتحدة ملتحقا بشقيقه الذي وصلها قبله بسنين طويلة والكثير من الأهل والأقرباء،  في العام 1971.  وعندما حط به الرحال في مدينة ديترويت، لم تستهويه كثيرا فكرة ســن (التقاعد) أو الجلوس في البيت، فأنخرط في الأعمال التجارية التي افتتحها ابنائه، وأنصرف  الى مسك الحسابات ، ومتابعة معاملات وسجلات البنوك، والعلاقات التجارية، وبرع بها حتى اواخر الثمانيات، حيث طلب منه الأبناء الأنصراف للراحة والأستمتاع  بالحياة  وبالأحفاد الذين ما برحوا يملؤن بيته  بالفرح والسعادة، على ان جزءا من وقته كان يصرفه في الكتابة والنشر في مجلات الجالية بديترويت اضافة للمشاركة بالنشاطات العامة، مع قضاء وقتا جيدا في مطالعة كتب الأدب والتأريخ  وباللغتين العربية والأنكليزية.

    سفرة الى آثار نمرود 1961 مع مدير الناحية وموظفين ومعلمين
     يقول الأستاذ سليم: لقد كان لمنزلة والدي في مدينة تلكيف وهو (المعلم والشماس) أثرا كبيرا في المسؤلية التي ورثتها عنه بالتعامل مع ابناء وعوائل المدينة، فقد كانوا يشيرون لي ب (إبن المعلم) نسبة الى ابي كما قلت، لكن تربية والديَّ لي وجدت صداها في نوع العلاقات والحب والتقدير المتبادل الذي رافق مسيرتي ان كان مع التلاميذ او الهيئات التدريسية المختلفة، وهذا ما اعتز به لليوم، وكثيرا ما يصادفني او يصادف ابنائي وبناتي اناس (تلاميذ) او (معلمين) درســـتهم او عملت معهم وهم يكيلون المديح او كلمات الثناء، وأنا بالحقيقة اشكرهم على عمق هذه المحبة التي لم ينســاها الكثيرون رغم تقادم السنين. لقد احتفظت بعلاقات طيبة مع مدير الناحية آنذاك وجميع الموظفين، اضافة للمعلمين الذين تطورت العلاقات لتصل مداها في السفرات الترفيهية او في الزيارات العائلية، وكذا مع الجلسات في (نادي الموظفين) الذي افتتح لينهي معاناتنا في الألتقاء بالمقاهي التي كانت تضج بالضوضاء . اما للتلاميذ ذوي الدخل المحدود، فما جعلتهم يوما يشعرون بذلك خاصة عشية ايام الأعياد، فقد كنت اقدم لهم (هدية العيد) متعللا بأنها من المدرسة، في الوقت الذي كنت اصرفها من جيبي الخاص، انها ايام كانت مليئة بالطيبة والمحبة والنظر للأنسان كأنسان.
    افتتاح طريق تلكيف – الموصل من قبل مدير الناحية بحضور بعض المعلمين وموظفي الناحية 14 تموز .1962
    يبقى للأستاذ ســليم كثاوا (كثاوا – من كاتب او عارف بالكتابة) ذكريات مع جيل كبير استقر به الأمر في مدينة ديترويت وخاصة، جيل التدريسيين الذين اما تتلمذوا على يده او شاركوه المهنة، ويأتي في مقدمتهم المربي الأستاذ يـلدا قلا، الذي خص الأستاذ (سليم) بأحدى مقالاته في كتابه الموسوم (نعمة الذاكرة – صفحة43) وتحت عنوان –المربي الفاضل – اذ يقول (( وجدته شخصية محبة الى جميع الذين عاشروه وتعاملوا معه في مجال التعليم او في المجالات الأخرى. وجدته منفتح العقل والقلب على كل الأفكار الجديدة، لايعاند ولا يتعصب. وهذه صفة الأنسان المتحرر والمثقف. وجدته عادلا متوازنا في قوله وفي عمله يعرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات. لايخاصم ولا يعادي. وجدته بهذه الصفات الكريمة
    سليم كثاوا مع كاتب الناحية عبد الكريم عيسى، وكاتب النفوس غانم الحصّان، كاتب البلدية الياس الصادق، شـمّو كاتي و حبيب كتولا
    يسـتحق منّي على الأقل كل التقدير والأحترام والذكر الحسن. وما انا في موقفي هذا اتجاوز حدود الوفاء لرجل أنصفني في كثير من المواقف فأنصفته بكلام قصير.  وفي مجال التعليم أقول عنه: إن كان في المدرسة معلم يهتم بهندامه ومظهره فهو سليم كثاوا. وإن كان في المدرسة معلم يتجاوب مع الأدارة تجاوبا  تاما  دون معارضة او ضجيج  فهو سليم كثاوا.  ثم أقول: إن كان في المدرسة معلم يرتقي الى مستوى الآباء في حنانهم  وفي صرامتهم فهو سليم كثاوا. وإن كان  في المدرسة معلم يتشوق التلاميذ الى درسه  فهو سليم كثاوا. وأقول ايضا في قناعة تامة: إن كان في المدرسة معلم يحظى بأحترام جميع ابناء بلدته فهو سليم كثاوا......الخ)).

    سـفرة الى (دير السيدة) في القوش عام 1962
    ينهي الأستاذ سليم كثاوا كلامه بالقول: أقف اليوم وأنا على اعتاب عامي  الخامس والتسعين، 95،  وأرقب المشاهد التي ينقلها التلفزيون عن بلادي وعن مدينتي الغالية ( تلكيف) بقلب مدمى يعتصره الم ما بعده الم لما آلت اليه اوضاع هذا البلد، وكيف ان  أعتى المجرمين والقتلة قد هجموا على مدينتي الجميلة ، مركز ولادتي ومرتع شبابي، بعدما اجبروا اهاليها على الهجرة او القتل، وبعدما ســرقوا ما تمكن لهم سرقته من آثاث او مؤون، ليس هم وحدهم، بل اناس عشنا معهم وتقاسمنا وأياهم الحلوة والمرة في السنين، وضنناهم  جيران اوفياء، ولم نعلم بأنهم انما اكثر مكرا من الحرباء  وأكثر سما من  لدغات العقارب، هؤلاء الذين غدروا بأهالي تلكيف ودلوا المجرمين على بيوتها  وعلى عنابرها، تبا لهم وتبا  لثقافتهم
    من اليمين سليم كثاوا، هرمز طليا، حبيب كتولا وكاتب النفوس غانم الحصّان في نادي الموظفين 14 تموز .1962
    البائســة. وأكرر القول، بأن البناء والمؤون والممتلكات والنقود كلها قابلة  للتعويض بجهد الأنسان العظيم، لكن من سيعيد ثقتنا بجارنا  الذي خاننا  في وضح  النهار؟

    الأستعراض الرياضي العام في نيسان 1960 وفي الوسط يظهر شـمّو كاتي، سليم كثاوا، دانيال وصبري جـّدو وبعض اولياء الطلاب
    لوطني الغالي، وأبنائه وبناته، للأحياء فيه او للذين ناموا قريري العين في تربته، للنساء والفتيات والأطفال والتلاميذ الذين يشقون طريقهم بأمل نحو حياة أفضل، لكم مني محبتي وأمنياتي بالأمن والأمان وأن ينتهي هذا الليل المظلم وتشرق عليكم شمسا لها اول وليس لها نهاية.

    في الوسط يظهر مدير الناحية، والقس روفائيل كانونا، معه معلمي المدرستين والموظفين 14 تموز 1962
    صور المربي سليم كثاوا:
    1- افتتاح طريق تلكيف – الموصل من قبل مدير الناحية بحضور بعض المعلمين وموظفي الناحية 14 تموز .1962
    2- موظفي الناحية يحتفلون بيوم 14 تموز في نادي الموظفين .1960
    3- سفرة الى آثار نمرود 1961 مع مدير الناحية وموظفين ومعلمين.
    4- سـفرة الى (دير السيدة) في القوش عام 1962.
    5- الأستعراض الرياضي العام في نيسان 1960 وفي الوسط يظهر شـمّو كاتي، سليم كثاوا، دانيال وصبري جـّدو وبعض اولياء الطلاب.
    6- في الوسط يظهر مدير الناحية، والقس روفائيل كانونا، معه معلمي المدرستين والموظفين 14 تموز 1962.
    7- سليم كثاوا مع كاتب الناحية عبد الكريم عيسى، وكاتب النفوس غانم الحصّان، كاتب البلدية الياس الصادق، شـمّو كاتي و حبيب كتولا.
    8- من اليمين سليم كثاوا، هرمز طليا، حبيب كتولا وكاتب النفوس غانم الحصّان في نادي الموظفين 14 تموز .1962

    المربي ســلمان داود قونجا
    المربي ســلمان داود قونجا
            من مواليد مدينة تلكيف التابعة لمحافظة نينوى في العام 1941 وفي محلة (مار تشموني)، متزوج من السيدة  ريجينة يوسـف بوجي، ولهم 4 بنات وولد واحد، وعندهم 6 أحفاد.
    وكعادة معظم العوائل في دفع ابنائها وبناتها نحو العلم والمعرفة، فقد سجلته عائلته في ،
    1- (مدرســة العرفان الأبتدائية) وبعد ان اكملها بنجاح انتقل الى،
    2- (متوسطة تلكيف) ثم التحق  عقب ذلك ب
    3- (دار المعلمين الأبتدائية – المجموعة الثقافية) في مدينة الموصل لدورة استمرت 3 سنوات وتخرج منها في العام 1959، وهو ذات العام الذي شــهد التعيين الأول له في ســلك التعليم وكان في ،
    1- (مدرسـة قصر سـيريج) التابعة لقرية بذات الأسـم قرب منطقة عين زالة لمدة 4 سنوات، ونقل بعدها الى،
    2- (مدرسـة تلكيف الأولى) متخصصا بتدريس مادة الرياضيات، في العام 1968 استبدل مع المربي كوركيس شلال
    3- (مدرسة ابو غريب) في منطقة ابو غريب ولمدة 10 سنوات، اي حتى العام 1978، وهو عام مغادرته العراق وقدومه  للولايات المتحدة، وبالذات الى مدينة ديترويت التي يحتفظ فيها بعلاقات قربى وصداقات كثيرة.  ويقول الأستاذ سلمان قونجا :بعد وصولي  لهذه البلاد، كان علـّي العمل الجاد لأعانة العائلة ، فأشتريت مخزنا للبقالة أمضيت فيه حوالي 7 سنوات، بعدها انتقلت الى عمل اكبر وذلك بتأسيس شركة لتوزيع المواد الغذائية واللوازم لمحلات السوبرماركت  ومخازن البقالة  ومحال (الدولار الواحد)، وبعد رحلة طويلة من العمل الناجح دامت حوالي 30 سنة، فقد حانت  سـاعة  الراحة والتقاعد، وأنا الآن اقضي معظم وقتي في زيارة اصدقائي و أفراد عائلتي والأحفاد، كما وأمارس  الرياضة للحفاظ على الصحة واللياقة البدنية الجيدة، اضافة الى ممارسة أجمل هواياتي، الا وهي السـفر وأكتشاف العالم والمناطق الجميلة فيه.

    يقول المربي (سلمان قونجا) بأن جيلا من المعلمين والمدرسين الذين مروا على حياته قد تركوا بصمات جميلة لاحقا، وجدت طريقها اليه في حرصة  ومتابعته لتلاميذه، ويذكر منهم مثلا: ميخائيل شـينا ،  ناظـم دلـّو، المعلم شـّمو كاتي و (يونس) في العرفان، اما في المتوسطة فيذكر منهم، المدرس (يوسف – اللغة العربية) و (استاذ صائب – الأنكليزية) و (د. ألبرت رسام) و (الأب هرمز – مادة الدين)، فقد كانت علاقتي بهم مبنية على المحبة والأحترام، ولا  أخفي بأني كنت من الطلبة المتميزين. اما بعد التعيين  فقد كان لي الشرف  المشاركة مع نخبة كنت تلميذا عندها قبل سنين، وصرنا اليوم زملاء في العمل (ارجو الرحمة على ارواح من غادرونا بسلام، وموفور الصحة لمن مازال يرافقنا في هذه الحياة) وأتذكر منهم: المعلم جميل عكام، معلم أسـود، المعلم يلدا قلا والمدرس حنا كلشــو.
    لقد كان توجهي لسلك التعليم لسببين، الأول هو الرغبة بذلك،  اما الثاني فقد كان الحاجة، وبعد تخرجي وحصولي على التعيين، فقد عملت ما في وسـعي لمساعدة تلاميذي على النجاح والتقدم في تدريسي  لمادة (الرياضيات)، وقد ينظر البعض الى اتباعي اسلوبا (خشنا) مع بعض التلاميذ على انه لم يكن تربويا او مبررا، وبالحقيقة، انا لم اقم بذلك (كرها) بهؤلاء الأولاد، وبالحقيقة ان جلهم ان لم  يكن كلهم هم من ابناء مدينتي، وأعرف اهاليهم جيدا، لكن المشكلة هي ان بعض التلاميذ كان بحاجة للشدة حتى تستقيم تصرفاته، ويحدث للطرفة ان التقي ببعضا منهم هنا (ديترويت) وقد اصبح ذو شأن في العلم او في المصالح والأعمال، ويقولون عني بأني كنت (شديدا) وأقول لهم، لولا تلك الشدة لكان مصيركم ربما غير هذا الذي انتم به الآن! لكن تبقى المحبة والأحترام هي سيدة الموقف في علاقاتي مع الكثير من تلامذتي الذين التقيهم بين فترة وأخرى.
     كان لتعلقي بمادة الرياضيات وعشقي للتعليم دوره في المستوى العالي الذي وصلت  اليه صفوفي، فقد كانت نسبة النجاح العام عندي خاصة في الأمتحان الوزاري اكثر من 90%، وهذه الأرقام ترجمها الواقع في كتب التثمين والشكر التي تلقيتها من الوزارة، وكذلك في  اختياري لأداء (الدروس النموذجية)  في مادة الرياضيات  امام مجموعة كبيرة من المعلمين والمعلمات والراهبات اللواتي كن في سلك التعليم. ومن الطريف ان اقول، بأن تفوقي في دار المعلمين، وأعفائي في ثلاثة دروس بالسنة الأخيرة  قد رافقه ضعف كبير في ادائي لمادة (الرسم) التي ربما كانت ستتسبب في تأخيري،  لولا حصولي على درجة (55) والتي كانت كافية للنجاح!
    لقد انعكس تعلقي بمهنة التعليم على طبيعة العلاقات التي نشأت مع الهيئات التدريسية والمربين في آن معا، فقد كنّا مثل العائلة الواحدة (خاصة في مدينة تلكيف) نلتقي يوميا  في (نادي الموظفين) بعد الدوام ونتجاذب اطراف الحوار والحديث، والحقيقة ان الحياة كانت رؤوفة معنا ايضا في هذه البلاد، فقد وصل اليها عدد طيب من هؤلاء المربين، إذ دأبنا منذ  اكثر من 30 عاما على الألتقاء شهريا وتذكّر العراق وأيام زمان ومازلنا لليوم ومن الأخوة (ياســر شـمامي، فاضـل بوتا، ســلام بطـي وبعض الآباء الكهنة)، ويسعدني ان  اشارك  القراء الكرام هذه الحكاية التي جرت في هذا العام، اذ ســمعت ان معلما كنّا ندرس سوية  في دار المعلمين وأســمه (نؤيل عبدالأحد عوديش) قد وصل الى مدينة ســاندياغو بولاية  كاليفورنيا، فما كان منّي الا ان اركب الطائرة وأذهب للسلام عليه بعد انقطاع دام اكثر من 55 عاما!! هكذا كانت حياتنا وهكذا تعلمنا من قيمها السمحة.
    عندما اقف وأسترجع تلك الأيام بحلاوتها ومرارتها يراودني شــعورا جياشا بأن ما قدمته للتلاميذ قد أثمر طيبا مع الكثيرين منهم، وأتلمسها من عبارات الود والمحبة التي يلقونها على مسامعي كلما تصادفنا سوية، اما بالنسبة لعائلتي، فبالحقيقة أشعر بالفرح والفخر كأب ان ارى اولادي فرحين في هذه المرحلة من حياتهم، وأفتخر اكثر فيما حققوا من منزلة علمية او اقتصادية او اجتماعية، ويسري فـيّ مزيجا  من الفرح يمنحني شعورا في منتهى الألق الأنساني، وأقول بأن اتعابي وأتعاب الغالية زوجتي لم تذهب هدرا معهم، بل انها اثمرت واينعت طيبا وخيرا لهم وللكل.
    اما لوطني الغالي، للعراق الحبيب، فأتمنى ان يعود كما كان وأن ارى ناسه فرحانين، وأن ارى فيه رجال الدين المسيحيين محترمون ومعتبرون وفرحين مع ابناء شعبهم، وبالحقيقة لا يمر يوم الا وأسأل عن اخبار العراق وأخبار تلكيف الغالية على نفسي. اتمنى لهم الأمن والأمان وكل الخير.

    المربي نيسـان جرجيس جينا خومورو
    المربي نيسـان جرجيس جينا خومورو
         عام 1941 ولد في مدينة تلكيف وفي محلة (قاشات) ، متزوج من السـيدة مناهل كريم شــمّو زيتونة، ولهم 3 بنين و 3 بنات و 5 أحفاد.
    درسي الأبتدائية والمتوسطة في مدارس تلكيف، وأنتقل بعدها الى العاصمة بغداد، فأكمل دراسته في ( ثانوية المعهد العلمي المسائي) والذي كان كائنا في منطقة البتاوين، وتخرج منه عام 1960. عمل بعدها في الأعمال الحرة حتى العام 1963 اذ انضم الى (الدورة التربوية ذات السنة الواحدة) والتي كانت بنايتها قائمة في  مدينة الأعظمية حيث تخرج منها معلما في العام 1964،  اما تعينه الأول فكان في،
    1- (مدرسـة الحميرية) بمنطقة اليوسـفية، وقد كانت مدرسة من طين وبقى فيها 3 سنوات ثم انتقل الى،
    2- (مدرسـة البديع) في مدينة الشعلة لمدة سنة واحدة وتبعها،
    3- نقل متبادل الى (مدرسة في شارع الكفاح) ومقابل جامع الشيخ عبدالقادر كيلاني لمدة 3 سنوات ثم الى،
    4- (مدرسـة الرشـيد) في منطقة السـنك ببغداد حتى العام 1990 وبلوغ سن التقاعد وتحقيق خدمة 25 عاما.
    يقول المربي (نيسان خومورو) بأنه انصرف للأعمال الحرة بعد التقاعد حتى العام 2001 حين غادر العراق ملتحقا بباقي افراد العائلة، وسكن مدينة ديترويت، وقد عمل في احدى شركات السيارات لعدة سنوات، ثم ترك العمل وأنصرف للراحة والتقاعد بعد الحاح العائلة، ويقضي معظم الأوقات في متابعة اخبار العراق، والعمل في حديقة البيت وممارسة الرياضة بغية الحفاظ على مستوى صحي جيد.

    لايســاورني الشك  (يقول الأستاذ نيسان) حول صحة المقولة التي طبعت حياتنا منذ الطفولة  بأن (التعليم في الصغر،  مثل النقش على الحجر) وهذه تلمستها  حينما عملت في سلك التعليم، اما جذورها فتعود اولا للبيت، اذ كان والدي انسانا هادئا بطباعه، وتعلمت منه هذه الميزة الجميلة، لكني تعلمت الكثير من المعلمين الأوائل الذين مازلت اذكر بعضا منهم، ففي الصف الأول  كان معلمي الأستاذ (صليوا جـدّو) معلم القرأة والكتابة، وفي  المتوسطة المدرس (صائب أمين أحمد) مدرس الأنكليزية، والأستاذ (نزار) مدرس مادة الأحياء، وفي الدورة التربوية ( الشاعر زكي جابر) ، فقد اثروا  كياني بأسلوب تدريسهم البسيط والرائع، وبشخصيتهم الفذة، وبطيبتهم وتفهمهم لمطالب التلاميذ، حيث وضعت هذه المفاهيم في حياتي ايضا،  وقد يكون اسلوبي في التدريس لمادة (اللغة الأنكليزية) وأستخدامي لوسائل الأيضاح والصور المنوعة فضلا كبيرا في وصول نسبة النجاح بصفوفي الى حوالي 80 – 90% وخاصة في امتحانت البكلوريا للسادس ابتدائي. ولكي تكتمل الصورة ايضا، فقد قامت بيننا نحن المعلمين اثناء سني الخدمة، علاقات صداقية رفيعة خاصة في (مدرسة الرشيد الأبتدائية) في السنك، وتحضرني ذكرى المعلم (حبيب قـرّا)، ومديرنا  الأستاذ (خالد) الذي كان من اهالي ديالى، اضافة للأستاذ (زهير محمد عبود) الذي كان مشرفا تربويا، سادت بيننا علاقات زمالية ومهنية طيبة.
    في الختام، يحدوني الأمل وأنا اشاهد مناظر الوطن الغالي التي غلب عليها طابع العنف والدمار والتخلف،  ان ارفع يدّي عاليا وأتمنى ان يعود مثلما كان زاهيا، وأن  ينبذ ابناء بلدي كل اشكال التفرقة  في الأديان او بين الناس، وأن يعيشـوا بالأمن ويرفلوا بالسلام والمحبة.

    كمال يلدو
    ايلول 2014

    1. مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي -1- - كمال يلدو
      01/06/2014 - 18:24 مقالات
    2. مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي -2- - كمال يلدو
      13/06/2014 - 21:28 مقالات
    3. مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي -3- - كمال يلدو
      21/06/2014 - 05:22 مقالات
    4. مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي -4- .. د.عبد الكريم توما: الشـجرة الوارفة بعطائها العلمي - كمال يلدو
      30/06/2014 - 20:12 مقالات
    5. مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي -5- - كمال يلدو
      06/07/2014 - 19:06 مقالات
    6. مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي -6- - كمال يلدو
      12/07/2014 - 18:14 مقالات
    7. مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي -7- - كمال يلدو
      21/07/2014 - 03:49 مقالات
    8. مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي -8- - كمال يلدو
      28/07/2014 - 04:49 مقالات
    9. مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي -9- - كمال يلدو
      06/08/2014 - 03:27 مقالات
    10. مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي -10- - كمال يلدو
      16/08/2014 - 20:00 مقالات
    11. مـربّون في الذاكرة: رحلة مع بناة الأنسان العراقي -11- - كمال يلدو
      23/08/2014 - 08:56 مقالات
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media