شجرة العسل..!
    الأربعاء 17 سبتمبر / أيلول 2014 - 06:11
    د. مظهر محمد صالح
     كم كانت الطبيعة صادقة عندما استطلعت مبكراً تلك الأشجار التي دانت لها الأرض ليتسلل جمالها بين عيني وهي تحاكي قيم الجمال التي تشابكت عروقها في مخيلتي وغرزت عبقها بعفوية ماكرة، مولدة في مداركي حالة صارخة من الغرابة واللا شعور استقرت همساتها في نفسي على رائحة زكية دون أن تجعل من الحياة عبئاً ثقيلاً. وانهمكتُ حينها متوغلاً بين مساراتها وظلالها بمتعة قاسية استطعت من خلالها أن أرى نفسي في أعماق غابة عظيمة سميت (كاتينو) وهي تقع على أطراف وأنامل مدينة كندية حالمة اسمها (اوتاوا). فالغابة الغنّاء التي غرست ألسنتها بغزارة في رغباتي، اكتشفت أنها ترمقني بنظرة باردة لا تعرف الانفعال وتملك السماحة والعفو ومن السهل سبر أغوارها.. قلت في سري، لقد أحببت هذا المكان الذي تكاد أشجاره العملاقة تتكاتف مع بعضها وان مياهه المفضفضة وطيوره الحرة وعصافيره المزقزقة تعرفني كما أعرفها، على الرغم من أنني من بلاد لم تجالس هذا النوع من البساتين والأشجار وتختلف في آفاق الطبيعة البرية. فالخريف قد ميّز هذه الأرض عن غيرها بشجرة مقدسة تسمى (الاسفندان) التي انقلبت أوراقها الخضراء مع بدء الخريف الكندي لتزدان باللونين الذهبي والأحمر وهما اللونان اللذان امتزجا في ترتيب بارع أطَّرته سماء الغابة الزرقاء. فالدفء العاطفي يمكنه أن يلامس كل عقل مفتوح وهو يمسك بالهامات لا يألفها إلا من يسكن الطبيعة ويتبادل فيها الخيال ويتعاطى الواقع والبراءة والحرية والمتعة الخالصة والإلهام الحر.
    أيقنت آنذاك أن غابة (كاتينو) التي ازدانت بأشجار الاسفندان الملونة هي ملهاة صادقة لا يجدر بنا هجرانها، فأسندت حينها رأسي على جذع واحد من أشجارها التي ارتاحت الى سرار طبيعتها واطمأنت الى نفسها لتبلغني تلك الآرومة الكثيفة الأغصان وهي تهمس في اُذني أن الشتاء آتٍ لا محالة وينبغي أن تغادرني حالاً ايها القادم من شرق المتوسط قبل أن يحل المساء..! هيا انظر ايها الرجل فقد تلبدت السماء بغيوم فضية وهي حبلى برقائق الثلج. ولم يمض من الزمن إلا القصير منه حتى وجدت ان اشجار الاسفندان قد تلفعت بملاءتها الثلجية البيضاء وأسدلت الرياح القارصة زينتها التي اعتنت بها، لتلقح الريح مستقبلها القادم.
    غادرت الغابة مساءً بعد أن صار الجو متخشباً تحت بياض المغيب الذي تخللته رقائق الثلج المتساقطة بكثافة وأنا ما زلت أودع شجرتي التي وضعت رأسي على جذعها وانا مطلق الرأس والعنق وهي مختبئة متدثرة بالبياض وتقول بصوت خافت: أعرف ايها القادم من شرق المتوسط، ان من يتحمل مرارة الصبر فليلقاني في فصل الربيع دون شكوى أو توجع أو اعتذار!!.
    وهكذا حل الربيع حقاً وبدأت أفتش مجدداً عن شجرتي بين آلاف الأشجار التي اكتظت بالمزارعين وأمامي شبكة من الخراطيم التي وضعت على جذوع أشجار الاسفندان التي اكتست بأوراقها الخضر وهي تصب من نسغها عصارة بنية اللون ذات طعم سكري يماثل العسل وكأنها شجرة تُولد رحيقها!. قال لي أحد المزارعين إنها شجرة العسل Honey Maple Tree وان علم الامة الكندية يجمع أجناس هذه البلاد من مختلف مشارب الأرض تحت ظلال أوراق شجرة الاسفندان. وتفطر الأمة الكندية في كل صباح على عسل شجرة الاسفندان التي باركها الرب واحتظنتها الطبيعة وأكرمها الشعب. قلت في نفسي إن كل هذا لا يفقدني بوصلة الرؤية. فنخيل بلادي هو ظل الأمة المغروس في قلبها وضميرها وان عسل التمر هو الدم الذي يجري في عروقنا نحن شعب العراق.
    ختاماً، ما كان عليَّ إلا أن أودع شجرة الاسفندان في غابة كاتينو بالصدق والفطرة البريئة وهي تقطر عسلاً، لتستقبلني نخلة بلادي بالشوق والحب المطلق دون الحاجة الى تفسير لغربتي، فجذوع نخيل بلادي هي ممتلئة ثقةً ونماءً وتبشرنا على الدوام أن الشعور بالحرية والإحساس في عالم جمالي مشحون بالتفاؤل سيظل قوة راسخة ونحن من بلاد ظلت مركز الكون وان اسمها ما بين النهرين، وهي قوية جادة بلا عائق طالما تصبُ خيراً ويقطر نخيلها عسلاً.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media