بين الحداثة والعولمة
    الخميس 18 سبتمبر / أيلول 2014 - 05:09
    د. جيلالي بوبكر
    استاذ جامعي / الجزائر
    الحداثة البنّاءة غير المفتونة بالإيديولوجيا فكر ووعي وخطاب وممارسة، لها مواصفاتها وخصائصها ومقوماتها، فهي إنسانية الطابع، عقلانية ومنطقية المنهج في النظر والممارسة، حرّة تفلت من قيود المطلق والمقدس، متحرّرة من كل ما يعيقها في اتجاه الإبداع وصوب التجديد والازدهار من خلال تنمية الذكاء وإبراز المواهب وتحريك القدرات وتفجير الطاقات، تستثمر في العلوم والتكنولوجيا نظريا وتطبيقيا، أخلاقها مستوحاة من مقوماتها، محورها ومبتغاها الإنسان، مصالحه وغاياته طموحاتها، تقدّر العقل والإرادة والحرية والمسئولية والعلم والعمل والوقت وكل شروط الأداء الطيب ذي المردود الطيب، فلا غموض ولا تعقيد في الفعل الحداثي وإن كان الفعل البشري مهما بلغ من تطور وازدهار يبقى خاضعا لمنطق النقد والنسبية له وعليه.
    قد يكون للحداثة في فهوم وخطابات الفكر أوجه أخرى حكما ونقدا، بين التقديس أو التسفيه أو القبول أو الإعراض الجزئي أو الكلي أو الرفض التام أو القبول المطلق وغيره، إلاّ أنّ الحداثة التي كانت وراء الحضارة في الغرب الحديث ووراء الحضارات المزدهرة السابقة تمثل الإطار الفكري المرجعي الذي تلتقي فيه الحضارات وتتقاطع عنده الثقافات، حداثة تبني الإنسان وتحرّك التاريخ وتصنع الحضارة.
    الحداثة لا تتعارض البتة مع الدين في أصالته ودعوته إلى إعمال العقل واستثمار الكون إنسانا فكر وروحا ومادة وعالما خارجيا وإلى التسخير وإلى الجدّ والاجتهاد والتحضر تحقيقا لخلافة الإنسان في الأرض وضمانا للنفوذ والسيادة البشرية من خلال اكتشاف واستغلال السنن الكونية في الأنفس وفي الآفاق، فجوهر الحداثة وروحها ومسعاها ليس الجمود الفكري والتخلف الاقتصادي والانحطاط الاجتماعي سلطان العقل القويّ وحركة الفكر الدءوبة وسعي الإنسان الحثيث نحو الأفضل في الوجود، أداء إنساني متميّز مثمر نتائجه تتجلى في الإبداع اختراعا واكتشافا وتغييرا متواصلا لا يقف عند مطلق ولا ينتهي عند مقدس ولا يمنعه تعصب ولا تحدّه حدود أيديولوجية أو فهوم عقائدية مبتغاه بلوغ الأفضل باستمرار.
    لكنّ التوظيف الإيديولوجي والسياسي والحزبي للحداثة يفقدها روحها البنّاءة وطابعها الإنساني والأخلاقي الذاتي والموضوعي وتحيد عن الحق والعدل والخير فيتغير مفهومها وتتحول أهدافها وخطاباتها وممارساتها وتنحرف عن مبادئها السمحة في اتجاه خدمة مصالح أيديولوجية وسياسوية ضيقة، فهي مثل العلم والدين والفلسفة والتكنولوجيا وغيرها في ارتباطها بالإنسان وانبثاقها منه تعاطيا معها لذاتها أو لغيرها.
    أما بخصوص العولمة بمعناها السلبي أو العولمة المتوحشة إذا ما كانت النتيجة الطبيعية للحداثة، يكون الأمر كذلك إذا جاءت الحداثة مغرضة سياسيا وأيديولوجيا وعلميا وتكنولوجيا وعسكريا وإعلاميا كما هو الحال في عصرنا، الحداثة بيد الأقوياء في المركز وغائبة لدى الضعفاء في الأطراف فهي حداثة مأدلجة وسياسوية لذا اتجه العالم نحو عولمة متوحشة تقودها أمركه متصهينة حاقدة مجرمة مقيتة،  وكما حدث لدى الشعوب ودولها القديمة التي عرفت حداثات متباينة في التطور والازدهار فمارست العولمة بمعنى الهيمنة العالمية والنفوذ والاستغلال والسيطرة على غيرها من الشعوب والأمم الضعيفة، أما إذا جاءت الحداثة غير مغرضة سياسيا وإيديولوجيا فلا تفضي إلى عولمة سلبية متوحشة مثل حال الدولة الإسلامية في زمن النبوة وفي العهد الراشدي حيث قامت على العدل والإنصاف، فلا نقول العولمة نتيجة حتمية للحداثة ولا نقول باستحالة تحوّل الحداثة إلى عولمة مستبدة، فالأمر مرتبط بسياق ونسق الحداثة والعولمة معا.
    الحداثة قيّم ومبادئ ومناهج وفكر وخطاب وممارسات نظرية وعملية مشتركة بين جميع الناس تمثل شروط النهضة من التخلّف ولوازم التحضّر وأدوات التحرّر من الجهل والخرافة والجوع  والمرض والتخلص من الاستغلال والاستعمار والتبعية، قيّم الحداثة نقلت الشعوب الأوربية والتي حذت حذوها من التخلّف إلى الحضارة من خلال تأسيس النظر والعمل في الحياة عامة على العقلانية والإنسانية والحرية والإبداع والعلمية والتقنية والمدنية والعلمانية وغيرها، أما العولمة كما هي في حياتنا المعاصرة وكما أرادها روادها في السر والعلن ظاهرها خير وفلاح وصلاح وباطنها شر وهلاك، تتعارض مع السنن الكونية في الإنسان وفي العالم الخارجي، فالحداثة البنّاءة التي كانت وراء النهضة العلمية والتقنية ووراء المجتمع الحداثي المدني قيّم نبيلة ومناهج سليمة ومظاهر طيّبة، لكن إذا وُظفت أيديولوجيا وسياسيا انتهت إلى فساد واستبداد وقد تنتهي إلى عولمة متوحشة كما هو حال عالمنا المعاصر.
    الحداثة الغربية في بدايتها الأولى لم تكن استثمارا إيديولوجيا بل انشغلت بنشر دعوتها  وبترسيخ قيّمها وثقافتها، كما انشغلت بالبناء الحضاري وبان ذلك في دور الشعراء والمفكرين والفلاسفة وكذلك في ما قام به العلماء والخبراء وأهل التقنية فعمّت المعرفة العلمية وسيطرة الآلة، ولو انطلقت الحداثة من الإيديولوجيا ما وصل الغرب إلى ما هو عليه الآن من نهوض وازدهار، ومع الوقت انحرفت الحداثة بإيعاز أيديولوجي فاتجه العالم المتقدم في المركز صوب عولمة متوحشة لا تعترف إلاّ بالأقوياء، اتجه نحو العولمة المتوحشة السلبية بمعنى الهيمنة والتسلط والتعسف في استعمال القوّة في احتلال الأراضي ونهب ثروات الشعوب وإثارة النزاعات والحروب وغزو الأمم ثقافيا وعسكريا وغيره،  والعولمة دوما بنت قوّة الغلبة والحداثة أنتجت القوّة لأصحابها وانحرفت الحداثة عن قيّمها لما تأدلجت فانتهت إلى عولمة ظالمة وطاغية وقبيحة.
    أما قادة الحداثة والعولمة معا في المركز لهم أيديولوجيتهم تحدد مصالحهم واستراتجياهم سياسيا واقتصاديا وعسكريا وثقافيا، هذه حقيقة ثابتة سواء قال بعضنا بنظرية المؤامرة أو لم يقل. وأي توجّه يردّ ضعفنا وانحطاطنا إلى المؤامرة ضرب من الهروب لا يعفينا أبدا من المسئولية، وتخلفنا مرتبط أصلا وأساسا بأسباب ذاتية وأخرى موضوعية وأنا أرى أنّ أصل أزمتنا أخلاقي وما عداه مظاهر وتجليات هذه الأزمة الأخلاقية في بعدها العقلي والروحي والسلوكي الموضوعي. وعود على بدأ لماذا تأخرنا وتقدّم غيرنا؟.

    الدكتور جيلالي بوبكر
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media