هل يطلع سياسيّو العراق على تجارب الدول ، مثل فنلندا ؟
    الأحد 1 فبراير / شباط 2015 - 09:04
    يوسف أبو الفوز
    السؤال ليس من عندي، بل من مواطن فنلندي، مهندس مدني، التقينا صدفة في المسبح العمومي، وتحديدا، في حمام الساونا اولا ـ كما خلقنا الله ! ـ تبادلنا حوار مجاملة عاديا، فسألني من اين انت؟ وهذا هو السؤال الذي ينتظره كل شرقي يعيش في البلدان الاوربية تتبعه جملة من اسئلة تعتمد على شخصية المتسائل، ومع السنين، تعلمت اجادة الاجابة على هذا السؤال بطريقة ألوي فيها الحديث بالشكل الذي يعجبني. وفي كافتريا المسبح ـ بشورت السباحة هذه المرة ! ـ ، وصل بنا الحديث الى الميثولوجيا وعلاقة ملحمة جلجاميش بملحمة الكاليفالا الفنلندية، التي جمعها وحررها الطبيب والشاعر الفنلندي الياس لونرت (1802 ـ 1884) واصدر طبعتها الاولى عام 1835.  ووجدت محدثي على اطلاع جيد على ما يدور في بلادي والمنطقة بل ومتعاطف مع معاناة شعوبها، ولديه اهتمام بالتأريخ رغم تخصصه العلمي. وتحدثنا عن الاوضاع الحالية في العراق، وبعض المحطات من تأريخ فنلندا الحديث، وسرعان ما وجه لي السؤال الذي وضعته عنوانا لهذا النص !
    في  العديد من المحاضرات والنشاطات، واللقاءات الصحفية، التي كنت طرفا فيها، لطالما كررت ان الفنلنديين، ربما من اكثر الشعوب تفهما لاحوال العراق، استند في هذا الى اطلاع متواضع على تاريخ هذه البلاد التي اقيم فيها من عام 1995 وصارت لي وطنا ثانيا ، ولكون فنلندا سبق لها ومرت بالعديد من المحطات التي مر بها العراق في تأريخه الحديث. ففنلندا تعرضت لاحتلالات ولعقود طويلة من قبل دول اخرى، وعانى شعبها من مجاعات وحصارات، وناضلت طويلا لاجل استقلالها من نير الحكومات الغاصبة، وبعد الاستقلال في عام 1917، دارت حرب اهلية طاحنة عام 1918 ، ونشبت حروب مع الجيران، وكانت طرفا في الحرب العالمية الثانية ، حين تحالفت حكومتها اليمينية أيامها مع قوات هتلر النازية فخضعت بعد نهاية الحرب الى عقوبات دولية قاسية، ومن كل هذا خرج الشعب الفنلندي بتجربة كبيرة، كانت دروسها العميقة اساسا لتنهض فنلندا من الرماد وتكون بلدا مثلما نعرف الان !.
    كانت فنلندا، البلد الصغير (5,4 مليون نسمة) حتى خمسينات القرن الماضي، بلدا زراعيا، لا تملك من الثروات غير غابات الاشجار ومياه البحيرات وسواحلها المطلة على بحر البلطيق، وما يدره ذلك عليها من ثروة سمكية. ورغم انها تعد البلاد الثامنة من حيث المساحة في أوروبا (338,424 كم مربع ) الا انها أقل بلدان الاتحاد الأوروبي كثافة سكانية (16 نسمة/كم مربع). والمنطقة الشمالية من البلاد (منطقة لابلاند) التي تشكل 30% من مساحة البلاد ، هي صحراء ثلجية ( اكبر من مساحة بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ مجتمعة)، وتصل درجات الحرارة في لابلند الى خمسين تحت الصفر، وعليه يتركز سكان فنلندا في المناطق الجنوبية. والاراضي الصالحة للزراعة في فنلندا محدودة ، ففيها يوجد 178 الف بحيرة، وتغطي الغابات مساحة 86% من مساحة عموم البلاد، واراضيها صخرية، يضاف الى ذلك المناخ القطبي، الذي يجعل الصيف قصيرا (اربعة شهور) والشتاء طويلا، والنهارات قصيرة والليل طويل. والشمس  نادرة هنا، فدخلت لذلك الشعر والاغاني وكلمات الغزل. تجدر الاشارة الى ان علاقات هذا البلد الصغير مع جيرانه مرت بين المد والجزر، خصوصا مع روسيا، الجارة الاكبر، وتقع شرق فنلندا ، وتمتد الحدود معها لأكثر من 1300 كم عبر غابات وبحيرات متشابكة ، بشكل يذكرنا بالحدود العراقية الايرانية !. مع كل ما تقدم ، فأن المجتمع الفنلندي نجح في بناء دولة حديثة، تحتل المرتبة الاولى دائما في العديد من مقاييس المقارنات الدولية  كالشفافية والنزاهة والبيئة ومستوى التعليم وخدمات الطيران والصناعات الاليكترونية وغيرها . وتتزعم قائمة أفضل بلد في العالم في استطلاع مجلة نيوزويك لعام 2010 من حيث الصحة والدينامية الاقتصادية والتعليم والبيئة السياسية ونوعية الحياة. كما تعتبر ثاني أكثر البلدان استقراراً في العالم ، وتعد حالياً ثالث بلد من حيث نسبة الخريجين إلى السكان في سن التخرج العادي حسب كتاب حقائق منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية لعام 2010. نجح الفنلنديون بجهد ونضال ، مستندين الى دستور علماني، في بناء دولة مدنية تكون المؤسسات فيها هي المسؤولة عن حماية وتوفير الرفاه الاقتصادي ويكون المواطن مساهما في تطوير المجتمع وخلق والسلام والامن الاجتماعي.
    والسؤال ، الذي يخطر في البال : كيف تمكن هذا البلد الفقير والصغير، وفقط خلال عدة عقود معدوة من الزمن، من بعد الحرب العالمية الثانية، ان ينهض ليكون في طليعة البلدان المتطورة؟ وللعلم ان فنلندا رفضت الدخول في مشروع مارشال الامريكي لاعادة اعمار اوربا من بعد الحرب العالمية الثانية، وفنلندا طول تأريخها لم تكن بلدا مستعمرا للاخرين لتنهب ثرواتهم !. كيف حدث هذا التطور الاقتصادي السريع في حياة البلاد ، لتصبح من دول الرفاه الاجتماعي؟ كان سؤال محدثي يتعلق بهذا الامر: الم يطلع سياسو العراق على تجارب الشعوب الاخرى ومنها فنلندا ليستثمروها في بناء العراق الجديد؟. ألم يطلعوا على تجربة بناء الديمقراطية الحقيقية، ونظام التعليم، والضمان الصحي، والنهوض الاقتصادي، وغيرها ما يهم بناء دولة حديثة ؟
     قدمت لمحدثي اجوبة متعددة، ولاني حديث المعرفة به ، وخجلا وعامدا اخفيت جوانب بعض الاجوبة، التي يمكن للقاريء الحصيف ان يقدر بعضها، فلو عرف محدثي مثلا ان في بلادي يتظاهر مزورّو الشهادات الدراسية للمطالبة بالموافقة على شهاداتهم المزورة ، ويتلقون دعما سافرا من برلمانين لاجل ذلك، لربما كان له تعليق ما لا يرضيني، وقد يتراجع عن الاقرار بأن حضارة وادي الرافدين كنت اساسا لتطور الحضارة البشرية، وان فايناموينين ، بطل ملحمة الكاليفالا الفنلندية ، ما هو الا حفيد معاصر لجلجاميش العراقي !


     * المدى البغدادية  / ضفحة اراء / العدد رقم (3275) - بتاريخ (2015/01/31) 
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media