التنمية البشريّة في بلدان الرّبيع العربي .. تداعيات اللآمركزيّة للحكومات الوطنيّة في سياق التنمية البشريّة
    الأحد 1 مارس / أذار 2015 - 18:46
    د. يوسف بن مئير
    رئيس مؤسسة الأطلس الكبير - المغرب
              ينبىء الربيع العربي بفترة امكانات كبيرة لمعالجة التحدّى الأولي الذي تواجهه حاليّا ً الحكومات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وهو بالتحديد: دفع التنمية البشريّة لمسافة ولمستوى غير مسبوق من الفعاليّة. وفيما يتعيّن هذا إنجازه بالنسبة لغالبيّة السكان المتضررين، قد تعالج النتائج الإجتماعيّة والسياسيّة بشكل ٍ فعّال الأسباب الجذريّة للثورات الشعبيّة نفسها.
              يعتمد محرّك التنمية البشريّة المستديمة على المجتمعات المحليّة وضواحيها وذلك بتحديد وتخطيط وتنفيذ المشاريع الإجتماعيّة والإقتصاديّة والبيئيّة التي هي بأمسّ الحاجة إليها. ولتحقيق ذلك، من الضروري جدّا ً أن تقوم الحكومات في المنطقة بتحفيز ودعم هذه العمليّات المحليّة بطريقتين، وهذه بالتحديد:(1) لامركزيّة السلطة والإمكانيات وخلق هياكل أو أطر إداريّة ضروريّة للدّفع بالتنمية المحليّة إلى الأمام و (2) دعم التدريب التجريبي في تسهيل التخطيط التشاركي لأعضاء المجتمعات والمنظمات المدنيّة والحكوميّة وتنفيذ المشاريع التي تختارها هذه المجتمعات. وقد أنشأ المغرب عددا ً من الإطارات الوطنيّة الضروريّة لتعزيز هذه التنمية، غير أنّ تنفيذها غير ملائم بسبب الإفتقار للتمويل والتدريب الفعّال وتطبيق الطرق والوسائل التي تعزّز الحوار المجتمعي والتخطيط الديمقراطي لمشاريع التنمية.
              تقدّم هذه الدراسة توصيات برنامجيّة وإداريّة للبناء الفعّال للقدرات المدنيّة والحكوميّة والخاصّة للمساعدة في تنفيذ التنمية البشرية التي تسيّرها المجتمعات المحليّة. وتعتمد هذه التوصيات على أساس الخبرة المكتسبة في المغرب وما ورائها. وتدور الدراسة حول نموذج تنمية بشريّة متأصّل في اللآمركزيّة لأوضاع بتداعيات إقليميّة قويّة كما هو الحال في العراق وفلسطين والصحراء الغربيّة (المغربيّة).  وقد تمّ فحص التنمية البشريّة في سياق التجارة الحرّة مع توجيه انتباه خاصّ للمناطق الريفيّة التي يتركّز فيها معظم الفقر.
    تمهيـــد
    تقوم هذه الدراسة على أساس أنّه للمضي قدما نحو الازدهار المشترك المستدام والتنمية البشريّة والإستقرار السياسي، وبالأخصّ في دول الربيع العربي، على الدوّل المعنيّة أن تقوم بلامركزيّة لمستويات إقليميّة – محليّة تلك الموارد الضروريّة لتحفيز وتنفيذ التنمية المجتمعيّة.  أضف إلى ذلك، تتطرّق الدراسة إلى أنّ المملكة المغربيّة منذ صعود جلالة الملك محمد السادس إلى العرش في عام 1999 قد أدخلت مبادىء الإدارة اللآمركزيّة والتنمية البشريّة في برامجها ومواثيقها وخططها الوطنيّة المركزيّة والإقليميّة وكذلك في استراتيجياتها. ويعتبر المغرب بشكل ٍ متزايد نموذجا ً للتقدّم الناجح في دول العالم العربي نظرا ً لاستقراره وفرصه وتنوّعه الثقافي والحضاري. ولذا يُفهم تبنّي النموذج المغربي على أنّ لديه القدرة لاستلهام المزيد من النتائج التحوّليّة للمنطقة.1 وهناك في نفس الوقت أيضا ً تحديّات داخليّة في منتهى الصعوبة قد تقوّض مستقبل المغرب وهي: الفقر الريفي، قنوط الشباب والتفاوت الإقتصادي الحادّ والإستغلال الشائع للعمالة.
    فإذا تمكّن المغرب من تنفيذ التنمية التشاركيّة بفعاليّة من خلال الأنظمة الإداريّة اللآمركزيّة في جميع أرجاء المناطق السكنيّة، حينئذ ٍ يمكن لهذا النموذج أن يحتذى به ويكيّف لمساعدة خلق طرق لشعوب دول الربيع العربي الأخرى لتحقيق المستقبل الإجتماعي – السياسي الذي ينشدونه. وبإمكان المغرب أن يقود ويرشد المنطقة بتجربته التي تعتبر مثالا ً للتنمية الديمقراطية المجتمعيّة – أو الحركات المدنيّة من "القاعدة إلى الأعلى" – التي بدعم ٍ من الحكومة قادرة على تحسين ظروف الحياة عبر المجتمعات المحليّة والأقاليم وعلى المستوى الوطني المركزي كذلك. ولذا، فخبرات المغرب ودروسه في التنمية إعلاميّة ولها صلة وثيقة بالموضوع إقليميّا ً وعالميّاً.
    تناقش الدراسة تداعيات اللآمركزيّة للحكومات الوطنيّة المركزيّة في سياق التنمية البشريّة. وهي تفحص أيضا ً برامج وهيئات اجتماعيّة مغربيّة محدّدة وتقدّم توصيات حول كيفيّة تحقيق نتائج أكبر وأفضل تعتبر حيويّة في دفع التنمية المجتمعيّة إلى الأمام. وتقدّم الدراسة أصولا ً من حقبات ما قبل وما بعد الحرب العالميّة الثانية  وكذلك أفكار وطرق تؤدي للتنمية، وتناقش كيف باستطاعة هذه أن تضفي معلومات على استراتيجيّات الوقت الحاضر لتبنيها من قبل دول الربيع العربي وذلك إمّا بشكل ٍ مباشر أو من خلال إشراك المجتمع الدولي. وقد اقتبست أمثلة من خبرة وكالات وهيئات أمريكيّة.  وقد ربطت الدراسة أيضا ً علاقات ما بين اللآمركزيّة وحلّ الصّراعات مع الإشارة بشكل ٍ خاصّ للعراق وفلسطين والصحراء الغربيّة المغربيّة. وحيث أنّ الفقر في المجتمعات الريفيّة في هذه المناطق يشكّل قلقا ً بالغ الأهميّة، تقوم الدراسة بتحليل الأوضاع والإستراتيجيّات في سياق التنمية الريفيّة المغربيّة التي ضُخّمت من حيث الأهميّة بسبب الإمكانات الضخمة والتهديد الناشيء من التجارة الحرّة، وبالأخصّ مع الولايات المتحدة، وبشكل ٍ أوسع ما بين الإقتصاديّات الأكثر والأقلّ نموّاً. 
    التنمية اللآمركزيّة والحكومات الوطنيّة (المركزيّة):
    لقد أحدث الربيع العربي شعورا ً متزايدا ً من الإلحاح على الحكومات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتعزيز التنمية التي تشرك وتفيد بشكل ٍ مباشر أغلبية السكان. فمطلب الشعب القوي للتغيير واستعدادهم لدفع معظم الثمن المأساوي كان بشكل تحويلي. وبالإستجابة لهذا التصميم على النموّ والعدالة الفعليين، لدى الحكومات الآن الفرصة لكسب استقرار أكبر عن طريق زيادة الحكم الذاتي أو الإستقلال المحلّي للمصالح الإقليميّة (المحليّة، العامّة، المدنيّة والتجاريّة). ويعني هذا من الناحية العمليّة بأن يستلم السكان المحليين الفرصة السياسيّة والإجتماعيّة والدّعم المالي لخلق وتنفيذ مشاريع تنمويّة تلبّي احتياجاتهم الإنسانيّة المحدّدة ويقومون هم بإدارة هذه المشاريع بصفتهم المستفيدين المستهدفين. وتخلق الأنظمة اللآمركزية بذلك إطارا ً محليّا ً لصنع القرارات (من خلال الترتيبات التنظيميّة المختلفة على النحو المشار إليه أدناه) وتستفيد من القدرات المحليّة (الماليّة، التشغيليّة والفنيّة) لخلق مشاريع تنمويّة.
              يقوم هذا الفصل بدراسة الظروف والأحوال السياسيّة والإقتصاديّة المعاصرة التي تواجهها الحكومات المركزيّة (الوطنية) في المغرب وفي العراق بشكل ٍ خاصّ. أضف إلى ذلك، إنه يسعى لإظهار بأن التنمية البشريّة المستديمة تعني بالضرورة أن تقوم الحكومات بإلغاء مركزيّة سلطتها لصالح التقدم بالتخطيط والإدارة المحليّة. ولتلخيص ما ذكر، قإن الإحساس الشعبي بالتحكم بشؤون التنمية المحليّة والشخصيّة يحسّن الحياة ويتمّ التوصل إليه من خلال العمليّة التشاركية تعكس التقاليد والأعراف المحليّة يعادل مباشرة طبيعة وعمر النظام السياسي.
              ويعزى الإستقرار الإجتماعي والسياسي النسبي في المغرب - خلال فترة الإضطرابات والثورات الحاليّة – بدرجة ٍ كبيرة للدعم المبكّر والثابت للتنمية البشريّة الذي قام به جلالة الملك محمد السادس منذ عام 2008 والتزامه بحكم ٍ لامركزيّ، وهذا الآن مرسّخ في المادة الأولى من الدستور المغربي الجديد لعام 2011. وتبيّن الخبرة المغربيّة بذلك بأن القادة الوطنيين يكتسبون ثقة الجماهير عندما يبرهنون على التزام ٍ ثابت ودائم للدفع بعجلة التنمية البشريّة إلى الأمــــام. 2 وكان سفير الولايات المتحدة، المرحوم ريتشارد سي. هولبروك (الذي كان أيضا ً في بداية السبعينات من القرن الماضي مديرا ً ل"فيلق السّلام" في المغرب) ينظر للدبلوماسيّة العامّة على أنها تكون فعّالة في نهاية المطاف من خلال الشراكة للتنمية البشريّة حول العالم 3، وهو رأي تدعمه دراسات أجريت بعد عام 2003 .4
              وعلى أية حال، فإن الرؤية الصائبة للتنمية (التي قطع فيها المغرب خطوات ٍ هامّة) وتنفيذها الناجح (الذي لم يحقّقه المغرب للأسف على الوجه المطلوب) أمران مطلوبان وضروريان للحصول على استقرار ٍ إجتماعي – سياسي طويل الأمد في بلدان الربيع العربي. وفي المغرب وأماكن أخرى، على المجتمعات المحليّة في جميع البلديّات أن تعمل سويّا ً لتحديد المشاريع التي هم في أمسّ  الحاجة إليها وينفذوها. وممكن تحقيق هذا الهدف بشرط توفّر ثلاثة عوامل وهي: هياكل (إطارات) وبرامج إداريّة، استثمار محلّي وإرادة وطنيّة (مركزيّة) وسياسيّة.
              قد تكون الحكومات – كحكومة العراق على سبيل المثال – متردّدة في إلغاء المركزيّة لخوفها من أنّ هذه العمليّة قد تشجّع الحركات الإنفصاليّة وتصبح سببا ً من أسباب الصراع. غير أنّ الحال في معظم الأحيان هو بالضبط عدم تفويض السلطة في صنع القرارات على المستوى الإقليمي والمحلّي هو الذي يتسبّب في زيادة المقاومة السياسيّة والتوتّر والصراعات وأعمال العنف الطائفيّة. 5 وفي حين أنّ اللآمركزيّة قد تجعل السياسيين والبيروقراطيين على المستوى المركزي (الوطني) يشعرون بأنهم أصبحوا أقلّ تأثيرا ً، غير أنّ المستوى المركزي على أية حال يبقى حيويّا ً وفعّالا ً في مجالات المسؤولية المكلّف بها مثل السياسة الكليّة للإقتصاد والسياسة الخارجيّة والقضاء الوطني والأمن وأهداف التنمية التي تشجّع التوازن والأداء ما بين الأقاليم.
              إنّ استمرار مثل هذا النهج المركزي قد يساعد أيضا ً على تجنّب ومواجهة مطبّات اللآمركزيّة سيئة التنفيذ، مثل الحماية الإجتماعيّة المقلّصة وإحداث تطبّق اجتماعي وجغرافي كبير. 6 ولذا ينبغي على الحكومات الوطنيّة المركزيّة أن ترى اللآمركزية من أجل التنمية في ضوء ايجابي، أي كإستراتيجية قصيرة وبعيدة المدى في آن ٍ واحد لتلبية إحتياجات الشعب الحقيقيّة، هذا في نفس الوقت الذي تقوم فيه بدفع عجلة الإندماج الإجتماعي والوحدة الوطنيّة 7 وتنمية التمكين السياسي الشعبي – وكلها شروط ضروريّة للمتانة الحكومية.
              هل ستكون الإضطرابات الطائفية والثورات المسلّحة التي يعاني منها العراق الآن أقلّ – أو لربّما تختفي – لو تبنّت الدولة نظام الفدراليّة (وهي نظام لامركزي رسمي) في عام 2006 أو قبل ذلك 8 أو أعادت إعمار العراق بشكل ٍ لامركزي في أعقاب الإجتياح الأمريكي ؟  ومهما بدا ذلك صعب المنال أو التحقيق في الوقت الحاضر، فإن لامركزيّة السلطة لمستويات محليّة تكون قريبة بقدر الإمكان من الشعب هي الطريقة الحيويّة الوحيدة للشعب العراقي للشعور بأنه يتحكم بحياته ومصيره ويكون لديه حتّى فرصة متواضعة لاختبار بعضهم البعض من شخص لآخر، أي تواصل سنّي-شيعي يستطيع في الواقع بناء عمليّات محليّة من اعتراف بعضهم البعض ومن السّلام والتنمية المشتركة.
              تقسم اللآمركزية الفدرالية صنع السياسات وسلطة الإدارة ما بين الحكومة المركزيّة ومستويات من الحكم الذاتي الإقليمي. و قد يكون لشكل الحكم الذاتي الشرعي ضمن السياق الكلّي للسيادة الوطنيّة (الشبيه بالحلّ الذي اقترحه المغرب بالنسبة للصحراء الغربيّة) تأثير خفض وتيرة العنف والصراع ما بين الشيعة والسّنة. 9  وهذا النوع من الترتيبات الإداريّة يبدو أكثر من أيّ وقت ٍ مضى أكثر الوسائل حيويّة ً لتحقيق استقرار طويل الأمد ووحدة في العراق.
              كان بإمكان مجهودات إعادة إعمار العراق بقيادة الولايات المتحدة أن تدفع إلى الأمام المصالحة الطائفيّة بشكل ثابت في البداية عن طريق دمج أساليب مجتمعيّة في عمليّة بناء قدرات إداريّة محليّة ومشاريع تنمويّة. هناك طرق تشاركيات مختبرة جيّدا ً تدمج أجراءات بناء ثقة قادت فصائل في الصراع في أماكن أخرى للتعاون المشترك في تخطيط المشاريع. 10
              علاوة ً على ذلك، ومن وجهة نظر التنمية البشريّة، ما يتعذر تفسيره بالنسبة لإدارة إعادة الإعمار هو أن تكون معتمدة على مصادر خارجيّة، أي ليست بأيدي العراقيين أنفسهم بل بأيدي شركات ووكالات أمريكية، بما في ذلك الجيش الأمريكي. ويبدو أنّ فرصة مرور عشرات المليارات من الدولارات في المخصصات الأمريكية لإعادة إعمار العراق عبر منظمات ومؤسسات أمريكية لكي تقوم بإدارة إعادة بناء العراق كان إغراءا ً كبيرا ً جدّا ً.  وهناك في حالات عديدة قبول بين الشركات والوكالات العالمية للتنمية لافتراض ٍ خادع مفاده أنه سيكون هناك فعاليّة أكبر في تنفيذ المشاريع (من حيث التكاليف والجداول الزمنيّة) كلّما زادت رقابتها على إدارته. لقد استنتجت الأمم المتحدة من إعادة الإعمار الذي أجري بعد حرب الخليج الأولى بأن العراقيين قادرون على إدارة المشاريع بدون مساعدة في الموقع من مقاولين أجانب. 11 وبناء على ذلك، فبدون شعور العراقيين بملكيّة هذه المشاريع بقي العديد منها غير منجز أو تمّ تخريبها. 12 والعقيدة الراسخة التي تمّ قبولها بحلول عام 2006 في العراق والتي تقول "بأن الناس لا تدمّر مشاريع هي تتحكّم بها وتستفيد منها" قد لُقنت مرّة أخرى بطريقة صعبة ومأساويّة وهي أنّ (318) موظفا ً أمريكيّا ً من طاقم إعادة الإعمار قد فقدوا حياتهم خلال فترة الحرب. 13
              إعادة الإعمار عن طريق الأجانب مشكوك بأمره بأنه لخدمة نفسه وهو مذلّ للشعب المضيف وقد يسبّب خسارة هائلة للإمكانيات والموارد. فلو قمنا بمقارنة ما صرفته الولايات المتحدة على إعادة الإعمار في العراق، وهو مبلغ 60 مليار دولار أمريكي، بالتكاليف الأقل بكثير من ذلك لمشاريع التنمية البشريّة الناجحة في المغرب، تتضح لنا مهزلة أخرى لهذه الحرب وهي أنّ ليس كلّ عراقي يستفيد في الوقت الحاضر بطريقة مباشرة وبشكل ملموس من مشاريع إعادة الإعمار التي قادتها الولايات المتحدة. فلو صرف هذا المبلغ الضخم على مشاريع مجتمعيّة محليّة - بإدارة مستفيدين محليين في جميع مراحل المشاريع – بما في ذلك التكاليف الإلتفافيّة للأمن لحماية أطقم إعادة الإعمار الأمريكيّة، إذن لخلقت التنمية الإجتماعيّة من "القاعدة إلى الأعلى" وكذلك التشاركيّات المتعددة القطاعات في الواقع نظاما ً إداريّا ً لامركزيّاً.
              وفي تقييم أجراه الكاتب، فإن بلدية مغربيّة واحدة (عادة ما بين 10.000 إلى 20.000 نسمة) تمرّ بتحوّل تنموي (مشاريع مستدامة في الزراعة والمياه النظيفة وفي مشاريع مدرّة للدخل وكذلك الصحة والتعليم وإدارة الموارد الطبيعيّة) باستثمار يقدّر ب 3 مليون دولار. ونظريّا ً، فالمغرب ب (729) بلديّة ريفيّة تابعة له ينبغي أن يحقق نهضة اجتماعيّة – إقتصاديّة وبيئيّة ريفيّة عن طريق التخطيط الديمقراطي التشاركي بتكلفة لا تزيد عن 2 مليار دولار. (هذا مع العلم بأن العراق والمغرب متساويان تقريبا ً من حيث عدد السكان، مع الأخذ بعين الإعتبار أنّ في العراق حوالي 10 % من السكان أكثر من المغرب يعيشون في المدن). فلو تحققت التنمية التشاركيّة من خلال أنظمة لامركزيّة ستأتي التوفيرات من استخدام المعرفة والموارد المحليّة. والعمالة النوعية ستأتي كذلك من المستفيدين، هذا ناهيك عن التكاليف الإدارية المنخفضة لأنّ المشاريع تكون تحت صيانة المجتمع المحلي.
    ما هي مشاريع التنمية البشريّة ؟
    من حيث الجوهر، لكي تكون مشاريع التنمية البشريّة – كالمبينة أدناه – مستدامة من النواحي المالية والفنيّة والإجتماعيّة والبيئيّة، عليها أن تستخدم طرق تحفّز وتنظم مشاركة الناس، وهم المستفيدون المستهدفون. وتبيّن تقييمات مثل هذه المشاريع أجراها البنك الدولي والوكالة الأمريكية للتنمية الدوليّة (USAID) والأمم المتحدة ومنظمات أخرى لا تُحصى عبر عدّة عقود ٍ من الزمن وبشكل ٍ ساحق بأن المشاركة الفعّالة للمستفيدين من هذه المشاريع – كما هو الحال بالنسبة للتمويل المناسب – أمر ضروريّ لتحقيق استدامة للمشاريع. 14 ومنذ تسعينات القرن الماضي، وبعد طريق استمرّ عقودا ً من الشرعيّة، فقد تمتّع النهج التشاركي بالقبول السائد في طليعة ممارسات التنمية البشريّة.
              وفرضيّة المشاركة هي أن يقع تحديد أوقات الإجتماعات وتنفيذ المشاريع وعملية التتنمية بشكل ٍ عام على عاتق الناس - الذين يعملون في التجمعات المحليّة – الذين يحددون المشاريع ويجدون وينفذون الحلول ويستفيدون من المبادرات التي وُجدت لذلك. وعندما تقوم المجتمعات المحليّة بتنفيذ فحوصاتها وتحاليلها وتنفيذ المشاريع، فإن لمعرفتها (المبنيّة بشكل ٍ دقيق خلال عملية توليد البيانات وتبادل المعلومات) صلة مباشرة بالموضوع.
              لقد تطوّر النهج التشاركي وامتدّ ليشمل على مئات "العائلات" من طرق تنفيذ حوارات المجموعات حول احتياجات المجتمع وجمع البيانات لتحديد المشاريع وتحقيق أهداف تطوير المشاريع. ولتمكين عملية التخطيط الشاملة من الحدوث، فإن الطريقة تتضمن المخططات البصريّة - التي يمكن الوصول إليها بشكل ٍ عام – والتخطيط المتمركز حول مشاريع تتصدّى لأهداف ذات أولويّة عالية ومحليّة واجتماعية- إقتصاديّة وبيئيّة. وتتضمن الطرق النموذجيّة للتحليل وضع الخرائط التي تحلّل من خلالها المجتمعات المحليّة رفاهية الأسرة والمخاطر وأصول المجتمع وثغراته. وتبيّن الرسوم البيانيّة المؤسسات الرئيسية للتنمية ونشاطات العمل عبر المواسم والجداول الزمنيّة التاريخيّة والأسباب الجذرية للمشاكل. وباستخدام منهجيّة تقوم على البصر، يحسّن أعضاء المجتمع قدراتهم لتحديد وتقييم حلولا ً للمشاكل، إنشاء وتقديم خطط عمل، ربط الأموال المتوفرة بالأولويّات، إدارة المشاريع والدّفع بالمبادرات المحليّة الناجحة لنطاق ٍ أوسع.
              لقد تمّ تطبيق نهج التخطيط المجتمعي التشاركي بنجاح في طائفة واسعة من الحالات. وقد برزت المشاريع المبينة أدناه جميعها من تقييمات مجموعات لاحتياجاتها الخاصّة.
              لقد حدثت تحسينات في المناطق الريفيّة في مجال أنظمة الزراعة، 15 إنتاج الطعام، 16، إدارة الموارد الطبيعيّــــة، 17 التعاونيّـــات، 18 إستخـــدام الأراضي، 19 إدارة مكافحــة الآفـات، 20 الصرف الصحي 21 وإدارة المناطق المحميّة. 22
              وبشكل ٍ مماثل، فقد سجّل في مجال التجارة والخدمات العامّة تحسينات في إدارة الأعمال والإنتاج، ومشاريع البنية التحتيّة، والتخفيف من حدة الفقر والتنمية الإقتصاديّة، وفي التطورات التكنولوجيّة شاملة البرمجيّات والتخطيط المعماري والرقابة المجتمعيّة على الشرطة والمدارس، وخلق وتوريد الخدمات والتخلّص من النفايات. 23
              وفيما يتعلّق بالرعاية الصحيّة، فقد لوحظت تحسينات فيما يتعلّق بدخول وتمكين المعاقين،24  ومكافحة الأمراض (الثقافة الصحيّة)، 25 والصحة الجنسية والإنجابيّة، 26  والصحة العامّة، والتغذية. 27
              وفي علم البيداغوغيا (التربية)، فقد ثبت أنّ هذه المنهجيّة تساعد بشكل ٍ رسمي وغير رسمي التعليم، 28 التعلّم التجريبي والإتصالات، 29  وتعليم الكبار 30،  و – في حرم الجامعات – في زيادة إشراك الطلبة في اتخاذ القرارات الجامعيّة، 31  والشراكات ما بين الجامعة والمجتمع، 32  وتطوير الجنسين والشباب، 33  وفي التغلّب على التحيّز العنصري وأشكال أخرى من التمييز. 34
              وتحسّن منهجيّة التخطيط التشاركي إدارة الكوارث، شاملة حالات الأزمات مثل الحرب والجفاف 35  وكذلك تحسّنها / بناء السّلام، 36  وإدارة النازحين والمهجّرين، 37  والإغاثة الطارئة في حالات الصّراع، 38  وعمل المنظمات الخيريّة. 39
                    وأخيرا ً فقد استشهد به كعامل مهمّ جدّا ً في تحسين التطوير التنظيمي، 40 وبناء المجتمع المدني، 41  وإدارة الموارد البشريّة، 42 وتقييمات المشاريع والبرامج، 43 وممارسات الإدارة، 44 وتطوير السياسة والإصلاحات والدفاع. 45
                    التنمية البشريّة على مدى العقود.  عظات للربيع العربي
    يستطلع هذا الفصل بدايات نظرية التنمية الإجتماعيّة وتطبيقاتها من حقبة ما قبل الحرب العالميّة الثانية إلى الوقت الحاضر دوليّا ً. وتقدّم هذه المواضيع والخبرة التنمويّة سياقا ً للتأكيد بأن المجتمعات في بلدان الربيع العربي لديها القدرة للتغلّب على التحديات النوعيّة، شاملة ً الفقر الريفي وتلك التحديات المرتبطة بالتجارة الحرّة. علاوة ً على ذلك، قد تمنع الدول العربيّة التي لم تمرّ بالإضطرابات والثورات الناتجة عن الربيع العربي مثل هذه الثورات إذا هي قامت باستباق وتبنّي طرق واستراتيجيّات التنمية هذه.
    فترة ما قبل الحرب لغاية خمسينات القرن الماضي
    لقد أجريت تحليلات للعلاقة ما بين المشاركة الشعبيّة والتنمية الإجتماعيّة من الفترات الزمنيّة للإغريق. غير أنّ المشاركة (التي عُرّفت حينئذ ٍ "كالمشاركة المدنيّة في الحياة السياسيّة") بدأ يُنظر لها  فقط خلال القرن التاسع عشر كشرط أولي للتغلّب على عدم المساواة الإجتماعيّة. وأخذت مبادرات المجتمع المحلّي تأخذ مكانها في أواخر القرن التاسع عشر – بشكل ٍ عام في الضواحي الفقيرة من المدن وذلك لتحسين الظروف المعيشيّة – بإلهام ٍ من التراث الفكري لأليكسيس دي توكويفيل (1805 – 1859). وقد برز الوجه العصري للتنمية المجتمعيّة في الستينات من القرن الماضي في الولايات المتحدة.
              وفي الفترة التي تلت الحربين العالميتين أكّدت سياسات التنمية على النموّ الإقتصادي وإعادة الإعمار، وبدرجة ٍ أقلّ أيضا ً على التنمية البشريّة. وخلال الفترة ما بين 1948 و 1952، تمّ توفير أكثر من 13 مليار دولار كمساعدة إقتصاديّة أجنبيّة أمريكيّة عن طريق خطة مارشال لعدد من البلدان لدعم إعادة بناء بنيتها التحتيّة وكمساعدات غذائيّة وتدريب على الإدارة وبناء المؤسسات وتحسين الإنتاج الزراعي. وقد أدّى نجاح خطة مارشال إلى قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتوسيع نطاق مساعداتها للدول النامية في جميع أرجاء العالم، وهذه عمليّة أجريت في البداية ضمن إطار القانون الصادر عام 1949 المتعلق بالتنمية الدوليّة (المعروف أيضا ً ببرنامج الأربع نقاط). وبالرجوع إلى خطاب تنصيب الرئيس ترومان في عام 1949، يمكن تلخيص أهداف النقاط الأربع على النحو التالي: (1) دعم لقرارات الأمم المتحدة، (2) إعادة تنشيط الإقتصاد العالمي، (3) "تقوية" الشعوب التي تتوق للحريّة حول العالم ضد شرور العدوان"، و(4) التحديث ورأس المال الإستثماري. واستلمت الدول الأوروبيّة المتاخمة للمعسكر الشيوعي (63 %) مساعدة عسكريّة و (54 %) مساعدة تنمية. 47 وخلال فترة الخمسينات من القرن الماضي صُممت برامج مساعدة أمريكيّة ثنائيّة في إفريقيا للمساعدة في بناء البنية التحتيّة للدول المعنيّة، وتعزيز النموّ، وضمان استقرار الحكومات المتعاطفة مع الولايات المتحدة ولمساعدة الشركات الأمريكيّة على دخول أسواقها ومواردها.
              وخلال فترة الخمسينات من القرن الماضي، ارتاب التيار الرئيسي للإقتصاديين المطالبين بالتحديث – اللذين كانوا يؤكدون لتحقيق النموّ على رأس المال، التقنية، الأيدي العاملة، الدّخل، الإستيراد/التصدير والتحضّر – ممن اعتبروه عمل التنمية "الشعبيّة" للأخصائيين الإجتماعيين والنشطاء الميدانيين. كانوا ينظرون للجماهير على أنها تفتقر للمهارات والبصيرة للتخطيط للمستقبل وفكّروا بأن العمليّة قد تدعو إلى عدم الإستقرار السياسي. 48.  ولذا فقد برزت التنمية البشريّة كفكرة في البداية اعترافا ً بإبداع المجتمعات المحليّة والمجموعات المهمّشة، قيمها، التعبير عن الهويّة والإحتياجات. 49.  ومن البديهي والمنطقي أن تكون المجتمعات المحليّة على أفضل علم ٍ ودراية بظروفها المحليّة حيث أنها تعيش معها ولذا هي موجودة في موقعها لإدارة ومراقبة النشاطات التنمويّة بطريقة مستدامة. وحيث أن التخطيط الديمقراطي للتنمية المحليّة يتقدّم بخطى ً وثيقة، يشعر الناس بالتأكيد – وهو شعور شعبي يمكن أن يدعو للإستقرار من الناحيتين السياسيّة والإجتماعية بشكل ٍ خاصّ في سياق الربيع العربي.
    ستينات القرن الماضي: نظرة الناس ورضاهم
    بدأت خلال فترة الستينات من القرن الماضي (التي يشير إليها البعض على أنها "العقد الأول من التنمية" 50 ) بدأت مبادرات التنمية الرئيسيّة تعكس نظرة أنّ التنمية الإجتماعيّة الشاملة – وليس فقط رأس المال، التقنية، العمالة والدّخل – ضروريّة لتخفيف حدّة الفقر. 51  والتعبير التاريخي الرئيسي لذلك هو قانون الولايات المتحدة للخدمة الخارجيّة (1961) الذي تمّ تمريره تحت قيادة الرئيس جون كينيدي. لقد سجّل محاولة لنزع سياق مساعدات التنمية الأمريكيّة عن إطار المصالح العسكريّة والسياسيّة والإقتصاديّة للولايات المتحدة الأمريكيّة.  أضف إلى ذلك، فقد أنشأ قانون عام 1961 وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية المعروفة ب. (USAID) وكذلك "فيلق السّلام"
              وفيما يتعلّق ب "فيلق السّلام" الحالي، ففي حين أنّ مهمات التطوّع النمطيّة لعامين من المحتمل أن تكون محرّمة في العديد من دول الربيع العربي، فإن "استجابة فيلق السّلام"، برنامج الوكالة الأقصر، والمهمات ذات الطابع الخاصّ قد تكون مناسبة أكثر للمنطقة في الظروف الحاليّة. ينبغي عرض "متطوعي الإستجابة" للجامعات في بلدان الربيع العربي، وبالأخصّ أنّ مثل هذا التواصل قد يكون مدخلا ً ممتازا ً لفرص التنمية البشريّة للطلاب في مشاركتهم مع الجاليات والمجتمعات المحليّة. وتعتبر جامعة الحسن الثاني أول تجربة مغربيّة – ونجاح مغربي كذلك – في الإستفادة من متطوع استجابة بهذه الطريقة. وتعتبر كمية المشاريع التطوّعيّة من خلال الوكالة منخفضة هيكليّا ًمن حيث الضرورة وذلك بسبب حجم الدّعم المالي الضئيل جدّا ً المتاح للمتطوعين (أحيانا ً أقلّ من 500 دولار لكلّ متطوع في السنة يمنحها برنامج مساعدة المشاريع الصغيرة المموّل من قبل الوكالة الأمريكيّة للتنمية الدولية  USAID). أضف إلى ذلك، وكجزء من وكالة حكوميّة، هناك حدود لمدى قدرة المتطوعين على جمع الأموال لمشاريع المجتمع المحلي. وأخذا ً بعين الإعتبار، على سبيل المثال، بأن نظام مياه صالحة للشرب لقرية يكلّف ما بين 5.000 إلى 25.000 دولار أمريكي، ينبغي من الناحية المثالية أن يستلم متطوع علاوة سنويّة لتنمية المشروع قيمتها 5.000 دولارا ً أمريكيّا ً لإنجاز تأثير تنمية بشريّة محليّة ذات شأن. وهذا مقترنا ً مع تدريب مناسب للمتطوعين في تيسير التخطيط التشاركي قد يجعل من "فيلق السّلام" أكبر وكالة تنمية دوليّة منتجة للولايات المتحدة  (ولربّما لأية حكومة أخرى) وأكثرها فعاليّة من حيث التكلفة. وبتبنّى هذا النهج واقترانه برؤية كنيدي لتوسيع الوكالة لتصل إلى 100.000 متطوّع، قد يحقّق "فيلق السّلام" قدرته العالمية الكامنة للدّفع بالتنمية الشعبيّة إلى الأمام.
    حقبة السبيعنيات من القرن الماضي وتعزيز التنمية الريفيّة المعتمدة على الذات
    لقد تماشت التنمية البشريّة مع وجهات نظر العلماء والناس - خلال حقبة السبعينيات من القرن الماضي في جميع أرجاء العالم النامي – الذين اعتبروا نموذج التحديث موجّه بشكل ٍ مفرط نحو الإستهلاك والذي اعتقدوا أنه لا يراعي حسابا ً لواقعهم الإجتماعي ولا أنه مكشوف أو موضّح بطريقة عالميّة. 52  وبموجب هذا النظام الدولي أو وجهة نظر الإعتماد الدّولي، فإن تصدير الدول النامية لخاماتها ومنتجاتها الزراعية الفائضة عن حاجتها يقود إلى نظام اقتصادي يؤدي إلى فقرهم وتفككهم الإجتماعي وتقليص حكمهم الذاتي، والذي يعزّز من الناحية الأخرى تركيز الثروة في الدول المتقدمة. 53
                    لقد وصف جلالة الملك محمد السادس هذه الرؤية بوضوح في خطابه عام 2014 أمام الجمعيّة العامة للأمم المتحدة عندما قال:"ما ينطبق على الغرب ينبغي ألا يُستخدم كالمعيار الوحيد لتحديد فعاليّة نماذج أخرى من التنمية، ولا ينبغي لأحد أن يعمل مقارنات بين الدّول – مهما كانت ظروفها متشابهة – حتى وإن كانت هذه الدول تابعة لنفس المنطقة الجغرافيّة. وعليه، أوّل نداء ينبغي أن أوجهه من هذا المنبر يتعلّق بالحاجة إلى احترام القيم والمبادىء المميّزة لكلّ دولة لأنها هي التي تبني نموذجها الخاص للتنمية. وهذا صحيح بشكل ٍ خاصّ بالنسبة للبلدان النامية التي ما زالت تعاني من تبعيّات الإستعمار". واستطرد جلالته قائلا ً:"بدلا ً من تقديم المساعدة التي يحتاجها الناس المعنيين بالأمر، بعض البلدان الغربيّة، التي لم تستأذن أحدا ً لاستعمار بلدان الجنوب، تستمرّ في فرضها عليهم شروط قاسية تعيق المسار الطبيعي لهذه الدول نحو التقدّم". 54
                    وعلى سبيل المثال، ما هي سمات الفقر النظامي في المناطق الريفيّة الموجود في المغرب حاليّا ً، وكيف كان أداء جهود الوكالات والشركات الأمريكية في سعيها لتحسين الوضع، خصوصا ً منذ عام 2006 عندما دخلت اتفاقية التجارة الحرّة ما بين المغرب والولايات المتحدة حيّز التنفيذ، تلك الإتفاقيّة التي رجّحت منذ ذلك الحين ميزان التجارة لصالح الولايات المتحدة ؟ ليس هناك ما هو كاف ٍ تقريبا ً من مشاريع المنتجات الخامّ ذات القيمة المضافة، وبالأخصّ بين المجتمعات الزراعية حيث يتركّز معظم الفقر. 55  فبدون إضافة عمليّات لتصنيع أو معالجة هذه المواد الخامّ أو الحصول على شهادات العضوية للمنتجات الزراعية و/أو غيرها من القيم، تخسر المجتمعات المحليّة جزءا ً كبيرا ً من الإيرادات وأكبر أرباح من المنتجات الزراعية المغربيّة يجنيها آخرون، معظمهم في أوروبا. وصادرات المغرب لمنتجاتها الخامّ لغرض التصنيع أو المعالجة في أي مكان خارج المغرب هي في جذور فقر المناطق الريفيّة، الأمر الذي يتماشى مع النظام العالمي/ تفسير الإعتماديّة. ويعتبر مؤيّدوه بشكل ٍ عام التنمية البشريّة علاجا ً مناسبا ً لهذه المشاكل التي تشترك فيها بلدان الجنوب. هذا وتعزّز التنمية البشريّة أيضا ً أهدافها من حيث تقديم الفوائد الإجتماعية-الإقتصاديّة لتلبية الإحتجات الملحّة وتحثّ في نفس الوقت الإصلاحات الهيكليّة الدستوريّة التي تبنى الإعتماد على النفس، موقفة ً بذلك تزايد الديون الخارجية (التي تعتبر سببا ً لتخفيض قيمة العملة، والتضخّم والبطالة وعدم الإستقرار السياسي.)
              وفي المغرب، فإن الحواجز أو المعيقات المهيمنة لتحقيق فرص القيمة المضافة وفرص السوق تشمل حاجة متفشية للبنية التحتيّة للريّ، مهارات فنيّة، معرفة فرص التجارة، خطّ تصنيع زراعي (من شتلات الأشجار والنباتات لغاية السوق) وجمعيّات اتحاديّة لتعزيز التنمية المستدامة. واستنادا ً للوكالة المغربيّة للتنمية الزراعية، فإنّ 80 % من سكان الريف البالغ تعدادهم 14 مليون يعتمدون على الإيرادات القادمة من القطاع الزراعي. ويشكّل سكان الريف المغربيين 43 % من إجمالي سكان المملكة البالغ عددهم 32 مليون، و 75 % من أسرهم تكسب أقلّ من المتوسط الوطني للدخل (الصندوق الدولي للتنمية الزراعية  IFAD، لعام 2013). ويعتمد المزارعون بشكل ٍ رئيسي على ايراداتهم من الشعير والذرة، وتعيق على أية حال الزيادة في عدد السكان وقيمة سوقية متدنيّة النموّ الإقتصادي في البلد. هذه المواد الغذائيّة مزروعة على ما يزيد عن 70 % من الأرض الزراعيّة، غير أنها لا تشكّل سوى 10 – 15 % من الدخل الزراعي. ولذا ترى المزارعين يتحوّلون إلى المحاصيل النقديّة، وهذه عادة ً أشجار فاكهة ونباتات، لكي يحصلوا على دخل ٍ أكبر. غير أنّ الطلب العالي على الأشجار اليافعة قد جعلها غالية جدّا ً لكثير ٍ من العائلات الزراعية والمشاتل والمهارات للحفاظ عليها غير منتشرة بشكل ٍ كاف ٍ. وتقول وزارة الزراعة بأنّ هناك حاجة لمليارات الأشجار والنباتات في عمليّة التغلّب على ممارسات الكفاف.
    لقد أنهت مؤسسة تحدي الألفيّة الأمريكيّة في المغرب في عام 2013  مشروعها الأول الذي استغرق خمسة أعوام. لقد فوّتت مؤسسة تحدي الألفيّة فرصة تاريخية مع شركائها الوزاريين المغربيين للتقدّم بالبلد بشكل ٍ كبير في تحوّله الزراعي. ويبدو أن المؤسسة المذكورة بعد منحها ميزانية قيمتها 320 مليون دولارا ً أمريكيّا ً في هذا القطاع (من أصل إجمالي حوالي 600 مليون) قد قامت بإدارة هذه المبادرة من القمّة إلى القاعدة. ولنأخذ مثالا ً على ذلك، فقد اشترت المؤسسة المذكورة أشجارا ً يافعة وزرعتها بدلا ً من إنشاء مشاتل جديدة من البذور تديرها المجتمعات المحليّة، الأمر الذي كان بإمكانه أن يؤدي إلى ملايين أكثر من الأشجار بنفس التكلفة. أضف إلى ذلك، فقد زرعت المؤسسة بعض الأصناف فقط، بما في ذلك أشجار الزيتون، ممّا أثار استياء بين مزارعي الزيتون في كاليفورنيا الذين شعروا بأن حكومتهم تساعد منافسيهم الدوليين لحدّ غير مناسب. 56  فلو قامت مؤسسة تحدّي الألفية بدلا ً من ذلك بزراعة دزينتين أو أكثر من أصناف بذور الفاكهة والنباتات الأروماتيّة العطريّة التي لا تحتاج إلى مبيدات حشريّة في جميع أرجاء المغرب ومن ثمّ ضمنت لهذه الأصناف شهادة العضويّة، قد تكون بذلك قد ضاعفت بالمعدّل قيمة المنتوجات مقارنة بما يتقاضاه الفلاحون المغربيّون في الوقت الحاضر. إضافة لذلك، فلو قامت المؤسسة بهذا الطرح لعزّزت بدرجة كبيرة ميزة نسبيّة على المدى الطويل وتنوّع اقتصادي، بما في ذلك ضغط أقلّ على سوق منتوج ٍ معيّن.  وأخيراً، على المؤسسة أن تدفع للناس المحليين مقابل قيامهم بسقي الأشجار التي زرعوها، مظهرين بذلك نقصا ً خطيرا ً في ملكية المجتمع، هذا في حين أنّ المستفيدين المحليين يؤدون عملهم بدون مقابل لمشاريع التنمية في حالة ما قرّروا هم أنفسهم تلك المشاريع عن طريق الوسائل الديمقراطيّة التشاركيّة، ويستلموا مقابل ذلك فوائد إجتماعيّة – اقتصادية وبيئيّة. وليحدث هذا، ينبغي أن تكون مشاركتهم في جميع المراحل وفي أسرع فرصة ممكنة. وباختصار، على الناس المحليين أن يديروا من القاعدة للأعلى التصميم والتنفيذ وعمليات تقييم المشاريع بحيث يمكن تسخير القدرة الناشئة عن فرص مماثلة بنجاح ٍ في المستقبل.
    فترات الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي: العولمة، الحافز والتجارة الحرّة
    لقد شهدت حقبة الثمانينات من القرن الماضي صعود حركات مناهضة للتنمية، وتلك برزت في سياق سياسات التحرير والخصخصة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي تمّ دسّها اعتباطا ً على حكومات الدول النامية. والتوافق المشترك هو أنّ هذه السياسات كانت مفرطة في تقشفها الإقتصادي جالبة ً معها عدم استقرار سياسي إلى حدّ بعيد في الدّول الناشئة ومستمرّة في تحمّل نتائج مالية ضارّة في التسعينات. 57
                    واليوم، من وجهة نظر التنمية البشرية اللآمركزيّة، النقاش العالمي ما بين أنصار التقشف والحوافز حول أي إجراء سيعكس الإقتصاديات المتعثرة يخطىء لصالح الحوافز كونها الخيار الأفضل على الأرجح. قد يفضّل حافز التنمية البشريّة آلاف المشاريع الصغيرة على المستوى المحلي تقوم المجتمعات المحليّة بتحديدها ومراقبتها خير من بضعة مشاريع كبيرة مكلفة بمخاطر أكبر مرافقة لها. تأتي المنافع لصالح المجتمعات المحليّة من مشاريع يتمّ تنفيذها بوتيرة أسرع. أضف إلى ذلك، مثل هذه التنمية البشريّة ملائمة بشكل ٍ رائع للمساعدة في تقصير فترة الرّكود الإقتصادي وتعزيز النموّ، وذلك بطريقتين: أولاً: قدرة الناس على التكيّف مع التغييرات ببناء مهاراتهم العمليّة ومهارات التفكير الناقد وزيادة الثقة. 58 وثانيا ً، يُخلق التنوّع الإقتصادي بمخاطر مشتركة أقلّ حدّة على الإستثمارات بتكلفة مشاريع أصغر وتشاركيات جديدة (شاملة مساهمات المجتمع في العمل والمواد). 59
                    بدأت حقبة العولمة في التسعينات من القرن الماضي وهي تكثّف العلاقات متعددة الأبعاد عبر الحدود. إنها "مؤججة" أو مدعومة بانخفاض تكاليف الإتصالات والنقل وثورة تقنية وانتشار التحرر الإقتصادي والسياسي. ويجسّد الربيع العربي بعمق ميزات تمكين عولمة من نوع "الرابطة الدولية – المحليّة"60  و "انضغاط الوقت والحيّز" 61  ويخلق سكان المنطقة تغييرا ً وقيمة محليّا ً، بينما بإمكان الشبكات العالميّة (جزئيّا ً) أن تشكّل وتصبح مشكّلة بالأحداث المحليّة.
              مثل هذا الترابط ما بين الدول والناس في وضع التجارة الحرّة للبضائع والخدمات قد يكون أيضا ً واعدا ً جدّا ً ويساهم في تخفيض احتمال حدوث صراعات إقليميّة ودوليّة.  وقد يحدث ذلك إذا أتت اتفاقيات التجارة الحرّة في صحوتها باستثمارات إضافيّة هامّة ونجاحا ً ملموسا ً في التنمية البشريّة، وبالأخصّ في المناطق الريفيّة، هذا مع الوقت اللازم لمعالجة الإصلاحات الهيكليّة، شاملة اللآمركزيّة، قبل إزالة التعريفات الجمركيّة. وبدون تواجد جميع هذه العوامل، فإن النتائج الإقتصاديّة المحتملة للعولمة بمستواها الذي لا مثيل له من اندماج الإقتصادات الوطنية و إزاحتها الهويّات والمجتمعات نحو ثقافة دوليّة متجانسة ومنتجات، قد تخلخل وتفقر دواخل البلدان وتركز الثروة في المدن الكبيرة.
              وفتح المكسيك المتسارع لأسواقه للذرة الأمريكيّة والكنديّة بموجب اتفاقية التجارة الحرّة الأمريكية الشماليّة (نافتا  NAFTA) يقدّم مثالا ً مؤسفا ً. فالهبوط الناتج في السعر المدفوع للمزارعين، مقترنا ً مع التخفيضات "الحكيمة" التي أجراها المكسيك على الإنفاق في التنمية الريفيّة أجبرت 1.5 مليون مزارع للنزوح من أراضيهم خلال فترة التسعينات. 62 ومع هبوط أسعار البضائع العالميّة خلال نفس الفترة، ضاعت أيضا ً عشرات الآلاف من المزارع الصغيرة في الولايات المتحدة (رغم تقديم مساعدة مالية لدخلهم)، هذا حتّى بعد تضخّم الفائض التجاري الزراعي مع المكسيك. 63 السياسات التجاريّة والتقنية الجديدة والإعانات المقدمة لشركاء تجارة التصدير دمّرت وأثارت إجراءات مضادة من طرف المزارعين المحليين العاجزين عن التنافس بواردات الحبوب الرخيصة في بلدان عديدة شاملة الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وكولومبيا والإكوادور والهند والمكسيك والبارغواي والبيرو والفليبين وكوريا الجنوبية. 64
              والدرس القاسي المستفاد من الخبرة المكسيكيّة تحت ظلّ اتفاقية "نافتا" – وهو الحاجة لفترة انتقاليّة -  قد أخذ بعين الإعتبار وأدمج في اتفاقيات التجارة الحرّة الحاليّة ما بين الولايات المتحدة والمغرب، وكذلك مع الأردن والبحرين. وعلى أية حال، فالفترة الإنتقاليّة لمعالجة التوزيع الغير متساو ٍ للعبء عن طريق خلق وظائف ومواطن عمل وتنوّع الإيرادات غير منتشر بالسرعة اللازمة، وبالأخصّ في المناطق الريفيّة، مضيفا ً بذلك المزيد من الضغوطات السياسيّة والإقتصاديّة التي قد تؤدي إلى انخفاض في الأجور الحقيقيّة وارتفاع العجز التجاري. ومن الناحية المثاليّة، ينبغي أن تدمج اتفاقيات التجارة الحرّة في تصميمها مبادرات جديدة للتنمية البشريّة الوطنيّة تكون حقّا ً تشاركيّة في تطبيقها. وستكون نتيجة تعزيز التجارة الحرّة مع الدول الصناعيّة في منطقة معيّنة – بدون حكومات في تلك المنطقة (بل مع مساعدة تنمية دوليّة) مع بناء أوّلا ً برامج تنمية لامركزيّة لتنمية بشرية واسعة النطاق – زيادة واضحة في التوتّر الإجتماعي قد يتحوّل إلى فوضى.
    ملك المغرب وتنفيذ اللآمركزيّة والتنمية
    إنّ شغف جلالة الملك محمد السادس بالتنمية البشريّة واضح، والنموذج المغربي للآمركزيّة متجدّد وتقدمي بدرجة عالية. وعلى الرّغم من ذلك، فإن التنفيذ الفعّال – مع الهياكل الإداريّة اللازمة من أجل المصلحة العامّة الوطنيّة / المركزيّة – يُعتبر على نطاق ٍ واسع بأنه غير كاف ٍ، غير أنه قابل للإصلاح من وجهة النظر هذه.  ويشرح هذا الفصل النموذج المغربي للآمركزيّة ويصف إضافة لذلك تطبيقاته الواسعة، تكامله مع المفاهيم الإسلاميّة وصلته في سياق فلسطين.
              قبل سنوات من انطلاقة الربيع العربي كان ملك المغرب يشجّع بثبات التنمية البشريّة ونظام حكم لامركزي لكي يستجيب بشكل ٍ فعال ومباشر وبسرعة لاحتياجات الشعب. وإطار الملك للدفع بالتنمية والديمقراطيّة إلى الأمام يعتمد على ربط العمليتين معا ً بحيث لا يحدث أيّ منهما إلاّ عن طريق الآخر وهما متعاضدتان مع بعضهما البعض. وتحدث التنمية بعد ذلك عن طريق الإجراءات الديمقراطيّة المحليّة و بناء الديمقراطيّة من خلال الطريقة التشاركيّة لتعزيز التنمية البشريّة.
              يتكلّم الملك في مناسبات عديدة عن هذا النهج المتكامل للتنمية الديمقراطية المستدامة في خطاباته وتصريحاته الشعبيّة العلنيّة. على سبيل المثال، هناك مائة تصريح منشور لظهوره من عام 2005 لغاية 2010 في وكالة أنباء المغرب العربي، وكالة أنباء حكومة المغرب، هناك 105 مثل هذه المراجع. وقد يكون من الصعب إيجاد خطاباً أكثر صراحة ً (موجهة لمجلسي الشعب) لأي رئيس دولة على سوء إدارة الحكومة المحليّة (فيما يتعلّق بالدار البيضاء) من خطاب ملك المغرب يوم 11 أكتوبر (تشرين أول) عام 2013.  وما يضاهي هذا الخطاب هو الخطاب الذي ألقاه يوم 20 آب (أغسطس) من نفس العام حول التعليم. 65  يتحدّث الملك بكلّ تفان ٍ عن الوحدة ما بين دول الجنوب، وأيضا ً عن الوحدة ما بين المجموعات الدينيّة والعرقيّة في المغرب، وكلّ ذلك وارد ٌ في دستور عام 2011. إنّه يشدّد بشكل ٍ خاصّ على قيامه بزيارة مشاريع محليّة جديدة خلال جولاته في جميع أنحاء المغرب. وقيامه بإطلاق المبادرة الوطنيّة للتنمية البشريّة (م.و.ت.ب) قد عزّز رؤية لتنمية بشريّة تقدّمية مستدامة وتعتمد على الذات. ورغم عيوبها الوارد تحليلها أدناه، فقد أثارت هذه المبادرة الوطنيّة إجراءات مجتمع مدني ودعم حكومي ومرونة وكانت بشيرا ً للآمركزيّة على النحو الموصوف أدناه.
              ومنذ ارتقائه العرش أشرف الملك المغربي على إضفاء الصفة الرسميّة على أفكاره التقدميّة المتعلّقة بالتنمية المستدامة والديمقراطيّة التشاركيّة، المصالحة السياسيّة الوطنيّة، اللآمركزيّة، المجتمع المدني، العدالة بين الجنسين، شراكة الجنوب – جنوب والتنوّع العرقي-الحضاري-الديني وأخرى. جلالة الملك نفسه يفوز بالتأكيد بقلوب وعقول الشعب المغربي بشكل ٍ عام – وقبل كلّ شيء، فإنّ سنوات التفاني الثابت والمستمرّ للتنمية والتمكين الشعبي تخلق ثقة شعبيّة. وإطلاق الحوار الإستراتيجي بين المغرب والولايات المتحدة هو انعكاس لالتزامه الثابت للتنمية والإصلاحات الديمقراطيّة.
              وعلى أية حال، فبالرغم من أنّ الأطر القانونيّة المؤسسيّة في مكانها الصحيح، غير أنّ كلّ شيء ما زال يعتمد على الأداء الحقيقي: فهل المجتمعات المحليّة تتجمّع وتخلق مبادرات تحسّن من حياتها ؟  الواقع في المغرب هو أنّ تنفيذ التنمية البشريّة والنتائج الملموسة تقع للأسف ما دون الإحتياجات والتوقعات الشعبيّة الحرجة. وبشكل ٍ عام، ترى نسبة مئويّة كبيرة جدّا ً من الشعب بأن تنفيذ المخطّط التشاركي لا يرقى لا للوعد ولا لاحتمال ٍ كبير بنجاحه.
              ومن ناحية تقليديّةً، يعتبر أنّ هناك أربعة مسارات عامّة للدول لكي تقوم باللآمركزيّة وهي: الأيلولة (أي نقل السلطة من الحكومة المركزيّة للسلطات ال
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media