حول اشكالية تجسيد الانبياء - 2 -
    الثلاثاء 3 مارس / أذار 2015 - 00:10
    عدي عدنان البلداوي
    ما الإشكالية في تجسيد شخصية نبي  من الأنبياء؟
    كان الأنبياء موجودين بأشكالهم وذواتهم بين الناس وهم يؤدون رسالاتهم السماوية الموكلة اليهم، ولم يكونوا يؤدون ادوراهم من خلال رسل ووكلاء .. فما الفارق بين وجود شخص النبي في حياته بين الناس، وبين تجسيد دوره في فيلم بعد غيابه؟
    ان وجود شخص النبي في حياته بهيئته البشرية المجسدة في المجتمع الذي أنيط اليه إلهيا القيام بالدعوة فيه، كان مدعوما بالبعد السماوي الغيبي أو هو الوحي أو هو البعد الروحي، فالأنبياء لم يكونوا بعيدين أو غائبين عن الناس، بل كانوا يعيشون مع الناس حتى أدق التفاصيل، وكان للباعث الإلهي، أي المعجزة دورها في شد الناس الى النبي ليتمكن من خلال الإعجاز الإلهي أن يمدهم بالوعي اللازم الذي يراد للمجتمع أن يبلغه كي يتجاوز أزماته ومعاناته وجهله، أي أن النبي كان يبين للناس فاعلية البعد الروحي في الارتقاء بالإنسان من كونه مجرد كائن بشري مادي الى إنسان واعي مدرك ذي أبعاد أكثر من البعد الوجودي المجرد ..
    ترى ما الحكمة في ذكر العصا في قصة النبي موسى، ابتداء من  (وما تلك بيمينك يا موسى)، حتى (فأوجس في نفسه خيفة موسى) لما رأى عصاه تتحول الى أفعى، لكنه اطمأن عندما اخبره العزيز الجليل (سنعيدها سيرتها الأولى)، وصولا الى (اضرب بعصاك البحر)،  ترى أكان الهدف من إظهار تلك المعجزة هو شد الناس تحت تأثير الخوف والقوى الغيبية لإرادة ورسالة موسى؟ أبدا لم يكن الأمر كذلك دلالة انه جل شأنه طلب من موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولا لينا، على الرغم من تصريح القرآن الكريم ب (انه طغى)، هنا رسالة واضحة جدا لمفهوم القوة، وفي دعاء جبرائيل عليه السلام (سبحانه من قوي ما أحكمه) ، لم يقل ما اشده، أو ما شابه، لقد قرن القوة بالحكمة، وهذا هو المراد من تعريف القوة، هذا هو مشروع كل نبي من الأنبياء على اختلاف أزمنتهم ومجتمعاتهم، فمع تمكن النبي موسى من سحرة فرعون وإذعانهم له، لم يستخدم قوة الغيب أو قوة البدن كوسيلة لتأدية الرسالة السماوية وإيصال الوعي الى الناس، بل كان ذلك عن طريق البعد الروحي عندما اخبرهم أن كل ما حصل كان بأمر الله، وان الهدف من اظهار هذه المعجزات هو الإذعان لقدرة الله والإيمان به، لذلك آمن الناس، مقتنعين انه لم يكن سحرا ولا قوى خارقة، بل هو إشارة الى وجود مقتدر عالم يريد لخلقه أن يبلغوا قدرا كافيا من الوعي على يد أنبيائه ليكونوا صالحين، مدركين لقيمة وجودهم ودورهم في الحياة .. والعصا التي ضرب بها النبي موسى البحر لينجو ومن معه، ثم يغرق فرعون وجيشه، ظهرت على شكل كويكب صغير يسقط على البحر في الفلم الذي يتناول قصة النبي موسى .. يبدو لي ان الأمر مبني على أساس الفهم المادي للقوة المجردة للعلم، اذ لا تفسير علمي لإستجابة البحر لضربة من عصا موسى، لذلك لا يبدو لي ان القائمين على هذا الفلم يريدون ان يغيروا ماورد في المصادر المقدسة عن قصة النبي موسى، ولا يريدون ان يتعرضوا لشخصية النبي بالسوء، بقدر ما يريدون ان يقدموا التاريخ للمشاهد وفق البعد المادي للعلم والقوة بمفهومها في العصور الحديثة، وليس وفق البعد الروحي، وهذا العمل بتكاليفه الباهضة التي تتجاوز المائة مليون دولار في بعض الأفلام، هدفه المشاهد وحسب ..
    واذا كان النبي محمد وهو محاط بعدد من الفقراء المستضعفين، يستمد قوته بوجود عامل النبوة والمعجزة الإلهية، فمن أين استمد أبو ذر الغفاري وسلمان المحمدي وعمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر وغيرهم من المسلمين قواهم وهم يتصدون مدافعين عن دين نبيهم بوجه قوى متسلطة ودول جبارة وإمبراطوريات عظيمة .. انه البعد الروحي الذي أودعته النبوة في أعماق نفوس ارتبطت أجسادها بجذور تراثها وتاريخها وأصولها فكانت قوة قلبت كل الحسابات المادية للطرف الآخر ..
    وعلى الرغم من أن العلم المادي لا يتقبل بقاء جسم الإنسان مدة زمنية طويلة بلا أضرار، فقد بقي أصحاب الكهف كل تلك السنين الطوال، دون أن تبلى أجسامهم، وظهروا إلى الناس بعد مئات السنين ليوصلوا رسالة رب العلمين اليهم، ثم ماذا حصل بعد ذلك؟ لم يلبث أصحاب الكهف طويلا بعد ظهورهم حتى ماتوا، وهنا تتجلى صورة الحكمة والقوة وفق البعد الروحي ..
    كلنا نفتخر بأن الإسلام وصل بلاد فارس والروم والى مساحات كبيرة وبعيدة، لكن أكثرنا لم يسأل كيف تمكن أولئك المستضعفون الفقراء المهاجرون بعيدا عن ديارهم وأهلهم أن يصلوا بالإسلام الى أرجاء الأرض ..

    1. حول إشكالية تجسيد الأنبياء - 1 - - عدي عدنان البلداوي
      01/03/2015 - 16:30 مقالات
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media