أسعار النفط الى أين؟
    الأثنين 27 أبريل / نيسان 2015 - 20:10
    د. باسم سيفي
    معد ومحرر مجلة قضايا ستراتيجية
    لسنوات عديدة وأسعار النفط العالمية تتسلق في الصعود في موجات من الركود والتراجع والتصاعد. منذ اواسط عام 2014 وأسعار النفط في رحلة هبوط وصلت الى في بداية هذا العام الى اقل من 50% من الاسعار السائدة لسنوات وسببت وتسبب ارباك شديد لقادة العراق في ادارة امور الدولة المالية. في هذه المقالة نسلط الضوء على بعض الامور المهمة في قضية اسعار النفط المستقبلية وكيفية التعامل مع تقلبات الاسعار والمستجدات والتوقعات.
    قبل عدة عقود مضت صرح يوما وزير النفط السعودي احمد زكي اليماني، على ما أتذكر، بأن سعر النفط يقرره العرض والطلب على المدى الطويل والقرارات السياسية في المدى القصير. هذا الفهم طبقته السعودية في عدة مناسبات لتخفيض اسعار النفط من خلال زيادة الانتاج النفطي او عدم تخفيض مستوى الانتاج عندما يزيد العرض عن الطلب، مثلما يحدث الان (بداية عام 2015)، ولكي نفهم اهمية المقولة في معرفة توجه اسعار النفط من الضروري شرحها ببساطة وبيان خلفيتها. فهم تغيرات اسعار النفط الحادة يتطلب أيضا مناقشة ما استجد من معارف وعوامل تؤثر على الانتاج والاستهلاك في المدى القريب والبعيد مثل طبيعة العرض والطلب في سلعة النفط، موضوع الهضبة النفطية، مسألة بدائل النفط، المشاكل البيئية، مصالح البعض في تغيرات حادة والعامل النفسي وسلوك القطيع، وموضوع الندرة والتقدم التكنولوجي. زيادة معارف العراقيين حول النفط مهمة لان النفط اصبح الان، وسيبقى لعدة عقود، اساسي في اقتصاد وحياة العراقيين.
    بلغة الاقتصاديين نقول بأن العرض (الانتاج) في النفط غير مرن وهذا يعني بأن المنتجين لا يستطيعون زيادة الانتاج او تقليله بدرجة كبيرة بشكل سريع او على المدى القريب لأسباب متعددة اهمها الطاقة/القدرة الانتاجية وهذه مرتبطة باستثمارات ضخمة تصبح كلفة ثابتة تتحكم او تؤثر على مستوى الانتاج نحو الاستقرار، فأي انخفاض في الانتاج يعني زيادة الكلفة الثابتة لبرميل النفط المنتج بالاضافة لانخفاض العائدات. فإن ارتفعت اسعار النفط 50% فقد لا يتمكن المنتجون في زيادة الانتاج على المدى القصير بأكثر من 5% او نحوها (تختلف مع اختلاف البلدان والمناطق والتقنية المستخدمة) وأكثر من ذلك بكثير على المدى المتوسط والبعيد نظرا لتحرك الرأسمال نحو القطاع للاستفادة من الربحية العالية المتوفرة وهذا يزيد من الطاقة الانتاجية. وإن انخفضت اسعار النفط 50% قد يصعب على المنتجين تخفيض الانتاج كثيرا نظرا لحاجتهم لإيراد النفط وأهمية استرداد الاموال المستثمرة وبنفس الوقت يتوقف الاستثمار في القطاع وهذا يؤدي الى انخفاض الطاقة الانتاجية.
    بلغة الاقتصاديين نقول أيضا بأن الطلب (الاستهلاك) على النفط غير مرن وهذا يعني بأن المستهلكين لا يستطيعون تخفيض او زيادة استهلاكهم من النفط بدرجة كبيرة في المدى القريب وإن ارتفعت او انخفضت اسعار النفط بدرجة كبيرة لأسباب عديدة اهمها صعوبة وتكلفة التحول الى بديل آخر. فمن لديه سيارة ويستعملها للذهاب للعمل وللأغراض المختلفة يصعب عليه تغيير نمط استعماله للسيارة في المدى القريب حتى وان ازداد سعر النفط العالمي بدرجة كبيرة، خاصة وهناك تكلفة تحويل النفط الخام الى بنزين وضرائب تفرضها الحكومات على الوقود وحديثا اصبحت هناك أيضا ضرائب بيئية تجعل السعر العالمي للنفط الخام اقل كثيرا من سعر البنزين للمستهلك، ففي اوروبا مثلا تشكل كلفة النفط الخام في سعر البنزين حوالي الثلث. لذا فإن زيادة سعر النفط الخام 50% قد لا يسبب في انخفاض الطلب على المدى القصير لأكثر من 5% او نحو ذلك.
    موازنة الانتاج (العرض) والاستهلاك (الطلب) العالمي للنفط تدور حاليا حول 90 مليون برميل يوميا حصة اوبك منها حوالي الثلث وهناك آلاف من مصادر (حقول) الانتاج تتراوح فيها كلفة الانتاج من عدة دولارات في حقول النفط التقليدي الغزيرة والكبيرة على اليابسة كما في جنوب العراق وشرق السعودية الى عشرة او عدة عشرات من الدولارات للبرميل في المناطق البحرية وأكثر من مائة دولار للبرميل في بعض حقول النفط الحجري والرملي في الولايات المتحدة وكندا. فحالة عدم المرونة في العرض والطلب لمادة النفط على المدى القريب تسمح بارتفاع كبير في الاسعار عند حدوث انخفاض في العرض لعدة ملايين من البراميل يوميا لأسباب تتعلق بقرارات سياسية من مقاطعة او تدهور امني او حرب وأيضا بانخفاض كبير في الاسعار في حالة زيادة العرض عن الطلب ولو بنسبة قليلة كما يحدث الان ومنذ أواخر عام 2014 بسبب زيادة انتاج النفوط الحجرية والرملية العالية الكلفة ولكن مع ذلك ذات جدوى اقتصادية جيدة عندما يقترب سعر برميل النفط من مئة دولار وأكثر، خاصة اذا لم يؤخذ بنظر الاعتبار التكاليف البيئية لهذه النفوط.
    في اواسط العقد الماضي ارتفعت اسعار النفط بدرجة كبيرة ولسنوات عديدة بسبب عدم تجاوب الانتاج مع زيادة الطلب العالمي الناتجة من زيادة النشاط الاقتصادي فتعدى حاجز المائة دولار للبرميل لفترات طويلة خاصة 2007-8 وحتى قاربت ال 150 دولار للبرميل أحيانا. هذه الاسعار العالية والتي استمرت حتى 2013  حفز توجه الرأسمال نحو الاستثمار في مصادر عالية الكلفة وبالأخص النفط الحجري الذي توسعت فيه الولايات المتحدة في السابق لأسباب ستراتيجية، رغم تأثيراته السلبية على البيئة. هذا التوجه ادى الى تمويل السوق النفطي بعدة ملايين برميل يوميا مما تسبب في انخفاض اسعار النفط في العام الماضي وانحدر عن حاجز 50 دولار بسبب رفض اوبك بقيادة السعودية عدم تخفيض الانتاج رغم الخسارات الاقتصادية الكبيرة لبلدانها، ولكنه بدأ بالتصاعد مع انخفاض اعمال الحفر في النفط الصخري الامريكي الذي اصبح ينتج بخسارة كبيرة.
    العامل الاساسي في تحديد سعر النفط عالميا هو العرض والطلب. منظمة الطاقة الدولية تتوقع استمرار زيادة سنوية في الطلب على النفط قدرها 1% سنويا خلال العقود القادمة ومعظم هذه الزيادة ستكون في البلدان النامية ذات الاقتصاد المتوسع وبالأخص الصين والهند. هذا المعدل يمكن ان يزداد او ينخفض بفعل قرارات سياسية مرتبطة بعوامل ستراتيجية وبيئية وأيضا لها علاقة بالتقدم التكنولوجي. نمو العرض ليزيد او ليقل عن نمو الطلب يتأثر بالقرارات السياسية بدرجة أكبر من تأثر الطلب. توجه الولايات المتحدة نحو التوسع في انتاج النفط الصخري كان ولا يزال سياسي أكثر من اقتصادي وإن كان سعر النفط العالمي يؤثر على مدى التوسع او التقلص في انتاج النفط الصخري. ان ننتج في العراق 3 او 6 او 9 او 12 مليون برميل باليوم قرار سياسي-اقتصادي-اجتماعي-ستراتيجي، ومخطأ من يعتقد بإمكانية حساب مستوى الانتاج على اساس اقتصادي فقط. حاليا تستخرج وتستهلك البشرية سنويا حوالي 30 مليار برميل، اي حوالي  1.5% من الاحتياطي المعلن، ونحو عام 2030 نكون قد استهلكنا حوالي ربع الاحتياطي فهل سيكون بإمكان البشرية ان تحافظ على نمو الاستخراج لتلبية الطلب المتزايد؟
    هذا السؤال يقودنا الى موضوع الهضبة او القبة النفطية التي يجادل فيها عدد من الباحثين لتسبب زيادة الاسعار لعدم تجاوب الاستخراج مع الطلب. فكرة الهضبة هو تزايد الاستخراج في بداية العهد النفطي مع تصاعد الطلب ليستقر بعدها بسبب انخفاض الاكتشافات وارتفاع تكلفة الاستخراج او الطاقة اللازمة لاستخراج وحدة نفطية مع تقادم الآبار ثم تبدأ مرحلة انخفاض الاستخراج ويتبعه الاستهلاك مع توقف الاكتشافات تقريبا وانخفاض الاحتياطي واستمرار ارتفاع التكلفة لتعلن بدأ انتهاء العصر النفطي. ارتفاع اسعار النفط خلال العقد الاول من هذا القرن يمكن ان يعزى الى دخولنا قبة الهضبة وعدم تجاوب الاستخراج مع الطلب.
    تكلفة الطاقة البديلة اصبحت عاملا مهما في تحديد اسعار النفط وهذا يشمل الطاقة بشكل عام مثل المفاعلات النووية وتكلفة السوائل النفطية غير التقليدية مثل النفط الصخري وهو الاهم حاليا نظرا لتوفر كميات كبيرة منه ويمكن ان يكون منافسا قويا للنفط التقليدي عند ارتفاع سعر الاخير وإذا استمرت البشرية بعدم شمول الاضرار البيئية في تكلفة الانتاج النفطي. البدائل المنافسة بشكل جدي هما ولعقود قادمة الفحم الحجري والنفط الصخري نظرا لتوفرهما بكميات كبيرة وبكلفة تقل احيانا عن تكلفة استخراج نفط تقليدي. الطاقة النووية والشمسية والحيوية والطاقة المنتجة من الرياح والأمواج والمياه الساقطة تعاني من مشاكل متعلقة من بالوفرة والتكلفة وحتى البيئة احيانا ومن غير المتوقع ان يصبح احدهم وعلى المدى القصير والمتوسط منافسا قويا للنفط خاصة وبقاء اسعار النفط في حدود المائة دولار. منافسة الفحم الحجري يمكن استبعادها أيضا، على الاقل حاليا ومدى عقد او عقدين، بسبب التكلفة العالية لتحويله لطاقة سائلة او كهربائية منافسة للنفط، رغم ان الكميات المتوفرة منه تزيد كثيرا عن النفط. لذا فإن تكلفة انتاج النفط الصخري عامل مهم في تحديد سعر النفط وبالأخص على المدي المتوسط والبعيد مع انخفاض تأثير العامل السياسي.
    معارفنا حول التأثيرات البيئية الناتجة من استخراج وتصفية واستهلاك النفط ازدادت بدرجة كبيرة خلال العقود القليلة الماضية وأصبحت البشرية تدرك وترفض التدهور البيئي في مناطق الاستخراج والتلوث الذي تحمله الرياح والمياه الى مناطق واسعة وحتى التغيرات المناخية الناتجة من استخراج وحرق النفط والأنواع الاخرى من الوقود الاحفوري. من المتوقع ان تصبح مشكلة التغيرات المناخية كبيرة من حيث تأثراتها المتعددة على البشرية والنظم الايكولوجية في العالم، وتعمل الان معظم دول العالم لتقليل المشكلة وضررها من خلال اجراءات متنوعة اهمها زيادة الكفاءة في استخدام الطاقة والتحول عن المصادر ذات التلوث البيئي الكبير. الاضرار البيئية مكلفة ولابد من ان تتحمل الصناعة النفطية، والصناعات الاخرى، تكاليف الضرر البيئي وعند ذلك نرى صعودا بأسعار النفط ومشتقاته وتغيرات كبيرة لصالح الوقود ذو التأثيرات البيئية الاقل وضد الوقود ذو التأثيرات الاكبر مثل النفط الصخري والفحم الحجري.
    اهمية النفط في الاقتصاد العالمي جعلت منه مادة للمضاربة الواسعة في اسواق المواد الاولية خاصة وضعف المرونة فيه في العرض والطلب وكما اسلفنا اعلاه مما جعله مصدرا لأرباح وخسائر كبيرة من حسن او سوء توقع توجه السعر الآجل، وهو ما صعد من نرفزة السوق والمضاربين وعزز او ضخم من ردود الفعل للأحداث والأخبار والمستجدات التي بمكن ان تؤثر على اسعار النفط. هذا الوضع المتشنج اعطى لكثير من المتنفذين القدرة على التأثير على اسواق وأسعار النفط وعلى تحقيق ارباح طائلة عند لعب اوراقهم بشكل جيد وتوقيت صحيح وحتى التآمري وتزييف المعلومات خاصة مع ازدياد المضاربين الذين يراقبون تحركات المتنفذين واللاعبين الكبار ليعملوا مثلهم. من الامور المضحكة والمبكية والمضرة لاقتصاديات البلدان ان نرى تمكن السعودية من فرض خفض كبير في الاسعار من خلال الانتاج بطاقتها القصوى واحتمال صعود الاسعار وبشدة اذا تمكن اليمنيون من احداث بعض الاضرار في المنشئات السعودية النفطية.
    عوامل الندرة والتقدم التكنولوجي لها تأثير كبير على تطور اسعار النفط. الاول نلاحظه من استمرار وتزايد الاستهلاك في حين تتضاءل الاكتشافات وينخفض الاحتياطي حيث ان البشرية تستهلك في كل عقد حوالي خمس الاحتياطي الاقتصادي الحالي والاكتشافات الجديدة قليلة. الندرة تدفع بارتفاع الاسعار وما شهدناه من ارتفاع في اسعار النفط خلال العشر سنوات الماضية مؤشر مهم على ازدياد الندرة. ومن جهة اخرى يعمل التقدم التكنولوجي على هبوط الاسعار من خلال آليات متعددة اهمها تخفيض اسعار البدائل مثل الطاقة الشمسية والنفط الصخري وأيضا المشاكل البيئية للأخير، تقليل تكاليف الانتاج في النفط التقليدي والمشاكل البيئية المصاحبة، وكذلك زيادة الاحتياط القابل للاستخراج من خلال زيادة ما يمكن استخراجه من المخزون بشكل اقتصادي.
    اذن فالأسعار المستقبلية للنفط تؤثر بها عوامل عديدة من الصعب تحديد مسارها وفعاليتها بدرجة عالية من الدقة. ومع ذلك يمكن القول بأن اسعار النفط في العقود القادمة من المتوقع ان تتأرجح حول سعر 100 دولار للبرميل وقد يرتفع او ينخفض عن ذلك كثيرا ولفترات قصيرة لأسباب سياسية او ازمات تؤثر على الطلب او العرض وتدفع بتوازن السعر مرحليا نحو الصعود او الهبوط الحاد بسبب عدم مرونة العرض والطلب على النفط.
    لذا فمن الحكمة ان نعمل بقوة وعزم على تخفيض اعتماد اقتصادنا على النفط عن طريق تدوير الدولار النفطي لينتج مزيدا من المنتجات المحلية وعلى بناء صناديق احتياط واستقرار تقلل من تأثيرات تقلب اسعار النفط. وكلا الامرين يتطلبان حرصا متزايدا في اعداد وتنفيذ الميزانيات السنوية والخطط الخمسية والستراتيجيات طويلة المدى التي يشارك فيها الشعب وممثليه وأن لا نتمادى في التعيينات الحكومية في فترات الفورة النفطية، فغبي من يلدغ من جحر مرتين.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media