الصِبا والحياة والنغم المكتوم!!
    الجمعة 22 مايو / أيار 2015 - 04:15
    د. صادق السامرائي
    ترعرعنا في مدينة سامراء المنورة بعبق الروح والفكر والثقافة والسحر والجمال , والمتناوسة على أنغام القراءات الفياضة النفحات والتهدجات الصداحة السامية , النابعة من قلوب نقية منغمسة بسلاف المحبة والإنتماء الأصيل للعروبة وجوهر اللغة والدين.

    المدينة المتوجة بالحضارة , والمسافرة في  آفاق الإنسانية منذ مبتدأ خطوات البشرية , وأول تعبيراتها الفكرية والإبداعية والفنية , التي حفظها لنا "تل الصوان".

    مدينة كانت ذات حسن ونكهة وأفياض روعة وسرور , وبهجة تتماوج على الشطآن , وتتلألأ في النفوس والمشاعر والوجدان.

    وفيها كنا صبية نتمتع بالموسيقى والأدب والفن , والثقافة والشعر والمعارف العالمية في  مكتبتها التي أنشِئَت مع تأسيس دولة العراق في الربع الأول من القرن العشرين.

    وكنا نجتمع في المساء لنداعب أحلامنا , ونباري أذهاننا , ونطلق ما فينا من الطاقات والقدرات , التي تميز كل واحد منا , ومن بيننا  الذي يمتعنا بصوته الشجي الرائع , وهو ينطلق مصدحا بالمقامات العراقية , وكان أخاذا ومؤثرا ورائعا , وبقي صداه في مخيلتي , حتى جعلني أتصور أن لا قارئ مقام يتفوق عليه , فكأنه وُلد والمقامات مزروعة فيه , فلم يدرسها أو يتعلمها على يد قارئ , وإنما هي موهبة كامنة فيه وتفتقت كالبركان.

    ودارت الأيام وفعلت فينا الحروب والحصارات فعلها , فتفرقنا وتشتتنا في بلاد الغرب أوطاني , وقبل بضعة أشهر تواصلتُ مع صاحب النغم المكتوم , فأيقظ أيام الصبا , وأعاد مياه الحياة الإبداعية إلى مجاريها , وكنت متشوقا لسماع المقام العراقي بصوته المنحوت في ذاكرتي, وإذا به يصدح شاديا عبر الهاتف , فألهب روحي وأجج مشاعري وأشعرني بالحياة التي كنا نتطعم بها ونتغرغر بهنائها , والبراءة والصفاء يحفان بنا.

    الإنسان الرائع الموهوب العذب الروح , لا يزال بذات الصوت الجميل محافظا على روح الموهبة التي حباه الله بها , لكنه تمنّع عن البوح بها وإطلاقها , لأنه من عائلة متدينة , تأبى عليه الغناء , وتوصيه بأن لا يغني أبدا.

    والموهبة ليست ملكا للشخص أو للعائلة , إنها رسالة الحياة للحياة!!

    لكن صاحب النغم المكتوم لقوة موهبته وفوران طاقاتها إتخذت طريقا آخر , فبرع بالرسم والسيراميك , حتى قدم لوحات ذات قيمة فنية عالية , وقطع سيراميكية رائعة الصياغة والتقنية والأصالة , التي تحمل روح المدينة التي نشأنا في مواطنها الغنّاء.

    تحية لصديق الصبا , الذي أعادني للرسم بعد أن سرقه الطب والقلم مني , وأبهجني بعطاءاته الفنية , ذات الحضور العالمي والإنساني السامق , كملوية وجودنا الروحي والفكري الشماء!!

    د-صادق السامرائي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media