الأطفال كأجهزة سعادة
    السبت 23 مايو / أيار 2015 - 05:51
    صائب خليل
    في أحد فصوله الشيقة، يثير الكتاب القيّم، رغم رأسمالية كاتبه، "مستقبل الرأسمالية" مشكلة الأطفال في الرأسمالية، فيناقش الطفل كمشروع إقتصادي فاشل وكثير الكلفة، ويأتي بأمثلة وأرقام عن عزوف المجتمعات الرأسمالية عن إنجاب الأطفال كرد فعل رأسمالي طبيعي (وإن كان إشكالياً بالنسبة للمستقبل). فالطفل بحاجة إلى طعام وملابس والعاب ومدرسة وجامعة...الخ، وبدون أي مردود على الوالدين بشكل عام. وحتى إن قيل أن الأبناء والبنات يسندون والديهم مادياً في كبر سنهم،  فمن السهل حساب أن الوالدين سيكونان أغنى بكثير لو أنهما وفرا ليوم شيخوختهما ما صرفاه على أطفالهما، وسيكونان أكثر أطمئناناً إلى أن تلك الأموال ستكون لهما فعلاً. أمر منطقي؟ لا شك في ذلك، لكن....أنا لدي نظرية أخرى.

    ****
    لنتفق أولاً على أن "السعادة" هي الهدف النهائي والأخير، للإنسان كما لكل الحيوانات، فالسعادة لا يمكن أن تكون وسيلة لهدف آخر أعلى منها، لأن هذا الآخر لن يجد مبرراً له في النهاية سوى السعادة نفسها، وينطبق ذلك حتى على التضحيات والكرم وتحمل الألم والعبادة.

    لنعد الآن إلى الأطفال. ولنتذكر كم كان الحصول على السعادة سهلاً أيام الطفولة! كانت تكفينا قطعة حلوى لنقفز فرحاً ومتعة! شيئاً فشيئاً، نفقد تلك القدرة على إسعاد انفسنا، وتفقد الأشياء قدرتها على أن تسعدنا مثلما يفقد الخمر تأثيره مع الزمن على من يشربه، فتجده يحتاج كميات أكثر وأكثر ليصل إلى الإنتعاش، أي يصبح الشخص عسيراً على الإنتعاش. ها نحن نجد أنفسنا بمرور السنين "عسيري" الإسعاد، لا تستثير فينا قطعة الحلوى أو الكرة الصغيرة الجديدة أية مشاعر تستحق الذكر. ونكتشف أننا لكي نشعر بتلك السعادة التي كانت قطعة الحلوى القديمة تعطينا إياها، يجب علينا أن نحصل على شيء أكبر ثمناً بكثير..."هارد دسك" كبير للحاسبة مثلاً، أو مكيف هواء للبيت أو تلفزيون جديد. صارت إثارة سعادتنا تكلفنا أكثر من قبل بكثير!

    لاتفسير لذلك سوى أن حساسيتنا للسعادة قد تدهورت بشدة عن زمن الطفولة، مثلما تتدهو حاسة اللمس أو الذوق أو قوة النظر. أي بعبارة أخرى، ما كان يكلفنا من السعادة ديناراً، صار يحتاج مئة أو ألف دينار. ولذا نحن إلى زمن الطفولة الجميل، زمن السعادة الرخيصة، ونتمنى لو أنه يعود.....ننظر إلى الأطفال، يشرق وجههم بالحبور لهدية صغيرة، ونقارن هذه البهجة المتوهجة في وجوههم، بلا أباليتنا المتزايدة مع الأيام، لكل ما كان يثير فينا السعادة والحبور، فنشعر بالأسف على أنفسنا قليلاً، وربما حسدنا الأطفال قليلاً، ثم ننسى فنضحك معهم ونفرح لفرحهم، فالسعادة ، كالحزن والخوف والشجاعة، شديدة العدوى!

    وهنا نظريتي يا أصدقاء! ما دامت السعادة معدية، ومادمنا نجد مخلوقاً يسهل إسعاده بدينار، فلنسعده بهذا الدينار، ولنتركه يصيبنا بالعدوى، بدلاً من أن نضطر إلى صرف مئة دينار على أنفسنا لنكسب نفس السعادة! إنه كالصقر، تكفيه لقمة صغيرة لينطلق ويصطاد السعادة ويعود لنا بها!

    ليس هذا شعراً ولا وعض أخلاقي وليس ما أقول دعوة للتضحية أو حب الأطفال، بل هو حساب "رأسمالي" بسيط وواضح. كذلك ليس هناك من حيلة وهو ليس استعمال للتعابير الأدبية بقصد زيادة التأثير.
    فمادام الصياد يحصل على نتيجة أكثر اقتصادية في النهاية، فالأحمق وحده من يرفض أن يستعمل الصقر، ليجري بنفسه خلف الأرنب، على اعتبار أنه الصقر سيكلفه بعض الطعام! وبنفس الطريقة فأن من يحجم أن يشتري للطفل شيئاً بسيطاً يسعده، وهو يعلم أن ذلك سيثير  في الطفل دفقاً من السعادة، وأن ما سيتطاير من رذاذ السعادة من عيني الطفل ليصل اليه، سيكون أكثر مما تستطيع تلك النقود شراءه من السعادة المباشرة لو أنه صرفها على نفسه! نحن إذن لا نضحي حين نسعد الأطفال بهدية، ولا هو كرم منا ولا عطاء بلا مقابل، بل "حساب" رأسمالي بحت يبحث عن الأرباح. دعوني ابرهن لكم: من منكم أهدى يوماً شيئاً لطفل، دون أن يحدق في عينيه، ليرتشف السعادة التي ستقفز منها؟
     
    لا ادعي أنني أكشف هنا سراً يعلمنا كيف نكسب كماً أكبر من السعادة، فنحن جميعاً نفعل ذلك يومياً، فنسعد بسعادة أطفالنا وأطفال غيرنا، ونظرية "إقتصاد السعادة" هذه نستعملها جميعاً حتى حين لا نعي ذلك، تماماً كما كنا نستعمل نظرية نيوتن للجاذبية قبل أن يكتشفها نيوتن ويخبرنا بها.
    لكن، ورغم أن معرفة قوانين نيوتن، لم تزد الجاذبية علينا ولم تقللها، فأنها تساعدنا على فهم علاقتنا بالأرض. كذلك فأن نظرية إقتصاد السعادة هذه قد تفيدنا في فهم علاقتنا بالأطفال، وهي تتحدى الفكرة الرأسمالية التي ترى الطفل مشروع مكلف خاسر، وأنه يبتز "طيبتنا” المتوارثة، فنصب فيه تضحياتنا بلا مردود لأنفسنا، كرماً ونبلاً.

    كلا...بل أن "جهاز السعادة"، أو "مضاعف السعادة" هذا يعيد ما نمنحه إياه، مضاعفاً، فإن عجزت عن إسعاد نفسك، ولم يكن لديك جهاز منها فابحث عن واحد تستعيره من صاحبه مؤقتاً وتستعمله لقنص بعض السعادة! فمن تتصورون الذي يجب أن يشكر الآخر حين نهدي طفلاً قطعة شوكولاته أو لعبة في عيد ميلاده ثم نحاصر عينيه لنلتقط منها ما يفيض منها من بريق مدهش؟ ومن هو صاحب الفضل على الآخر إذن، نحن أم أطفالنا؟ هم بالطبع أصحاب الفضل ونحن المستفيدون! إشششش لا تخبروهم وإلا تدللوا اكثر، وأتركوا هذه النظرية بيننا فقط!
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media