د. خالد السلطاني
واخيراً.. صدر كتابي "عمارة القصور الأموية: تجلي "العمارة المدنية" الإسلامية وتمثلاتها" في عمان، /الناشر "دار الاديب" 2015، وبهذا، فقد اتممت ما كنت اسعى اليه طيلة سنين عديدة من الجهد البحثي والتقصي والتحليل ومن ثم الوصول الى نتائج محددة، تبين اهمية موضوعة الكتاب وخصوصيتها ضمن منتج العمارة الاسلامية. لقد قدمت العمارة الإسلامية أجناساً إبداعية تمثلت في تنويعات "تايبولوجية" Typology مختلفة. وكانت بعض نماذج تلك الأجناس الإبداعية على درجة عالية من الاتقان المهني والمعماري، بحيث عدّت كنوزاً للثقافة الإنسانية وفقاً لدارسين كثيرين، نظراً لما تمتعت به من قيّم مبتكرة وغير مسبوقة تكوينياً وفنياً وجمالياً، وما قدمته من تحف تصميمية، تمازجت فيها العمارة مع فنون أخرى، لتؤسس نوعاً من المصاهرة المعمارية – الفنية بمستوى إبداعي رفيع. ولقد عدّ هذا المنجز الحصيف إثراءً مميزاً في ذخيرة العمارة والفنون اللتين تفتخر بهما البشرية. وبينما حُظيت عمارة الأبنية الدينية وأمثلتها ومدارسها العديدة، باهتمام دراسي مقبول نوعا ما، إلا أن جنساً إبداعياً آخر من إبداعات العمارة الإسلامية لا يقل شأناً وأهميةً ، لم ينل كثير إهتمام، مثلما نالته الأنشطة الإبداعية الأخرى، وأعني بذلك "العمارة المدنية" التي تمثل ممارسة تصميم القصور والدور السكنية واحدة من تجلياتها المهمة. لكن ما منح أهمية قصوى وأسس لظهور "تايبولوجيا" محددة في المشهد المعماري الإسلامي ، وحتى في خطابه، هو ذلك النشاط المبهر والخاص "بعمارة القصور الأموية" المبثوثة مبانيها في بوادي الشام. بمعنى آخر أن هذا "الجزء" التايبلولوجي، لفرط فرادته وفردانيته، ولعمقه التصميمي أيضاً، بات ممثلاً كفءاً عن "الكل" الذي ينتمي إليه. ونظرا لتلك الأهمية المعمارية، والتميز الذي اتسم به النشاط المعماري للقصور الأموية ، ولفعاليتها المفعمة بالريادة، والمنطوية على قيمة تصميمية عالية، سعينا إلى تكريس موضوعة كتابنا هذا لها. وبالرغم من الإقرار بتنوع وريادة صنيع عمارة القصور الأموية وأهميتها الكبرى في النشاط المعماري الأموي، فإن تناولها لم يكن متسقاً مع تلك الأهمية، والإبداعات المبتكرة والجريئة والرائدة لها. ثمة أسباب عديدة تقف وراء ذلك التغافل والتجاهل.
لقد توخينا أن يكون الكلام عن عمارة القصور في العصر الأموي ـ وهي إحدى الحلقات المهمة ، بل الأهم في المسار التطوري لتنويعات العمارة المدنية الإسلامية لاقترانها بمرحلة التأسيس- يشتمل على أحداث نزعم أنهما أساسية وهي : الانجاز والريادة ثم التأثير. فمهمة العمارة، أية عمارة، تكمن في قيمة إنجازاتهـا، وما حققته من مبانٍ وانشاءات، وما تتسم به من ريادة غير مسبوقة، وما يتضمنه ذلك الانجاز من إمكانيات التأويل والتفسير. ولهذا طمحت محتويات هذا الكتاب أن تعكس، بصدق، تلك المقاصد والغايات، مبتدئةً بأهمية الفضاء المعماري الذي توافرت في بيئته أسباب ظهور هذه العمارة التي هي جزء لا يتجزأ من خصوصية تلك البيئة - البيئة بمعناها الفيزياوي ـ الجغرافي ، ومعناها الاستدلالي ـ الثقافي.
من أجل فحص إشكالية موضوعة الكتاب ومعاينتها بصورة موضوعية وشاملة، ارتأيت تقسيم متن الكتاب إلى فصول، طبقاً لخاصية "الثيمات" التي تعاطت معها تلك الفصول. كما أن وجهة نظرنا جاءت متوائمة مع وجهات نظر الكثير من الدارسين القائلة بأن الحدث الإبداعي لا يأتي من فراغ ، ما لم يكن قد سبقه وجود مثمر لما يسمى بـ "تراكم الخبرات". كما أن "الانطلاق" السليم والصائب يتعين دوماً أن يبدأ من تلك النقطة التي توقف عندها الآخرون ، مع الأخذ بالحسبان الحوافز الجديدة التى توفرها طبيعة المناخات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة الحاثة للابداع . إن إدراك قيمة المنجز المعماري المتحقق في عمارة القصور الأموية، ينبغي أن يمتحن في ضوء تأثيراته على ما تبعه من منتج تصميمي، مفصول عنه زمنياً. بعبارة أخرى، رتبت فصول محتوبات الكتاب بحيث تعكس بوضوح خلفيات الحدث الابداعي لمنجز القصور الأموية، وإدراك قيمة هذا الحدث الإبداعي في تلك العمارة، وتقصي تنويعاته الحاصلة في تطبيقات عمارة القصور لاحقاً، وتأثير ذلك الحدث على المسار التطوري للعمارة الإسلامية . إن دراسة شاملة، وموضوعية ، تتبنى مثل تلك المقاربة البحثية كفيلة، في اعتقادنا، بتبيان غاية الكتاب وهدفه وأهميته وموضوعه. هذه الدراسة تعد كذلك إيماءة احترام وتقدير لذلك المنجز المهم والريادي الذي ندعو إلى دراسته وإعادة قراءته، وفق أدوات المقاربات النقدية التي توفرها مناهج النقد المعاصر. وانطلاقاً من تلك الرؤى، جرى تقسيم الكتاب إلى خمسة فصول، يتناول الفصل الأول منها " البيئة المعمارية في بلاد الشام قبل الحكم الإموي". والتى نعتقد أن تبلور وظهور ونضج المنجز المعماري للقصور الأموية، لم يكن له أن يتم بتلك السرعة المذهلة، ما لم تشترك في تغذيته البيئة المعمارية التى ولد فيها. ثمة نجاحات معمارية مهمة ومرموقة تكاتفت في تحقيقها جميع الشعوب التى سكنت منطقة الشام الجغرافي، وأمست حاضنة ابداعية لما يمكن أن يأتي لاحقاً. هذا الامر هو الذي جعل من مفهوم "تراكم الخبرات" وسيلة ناجعة للنهوض بالأثر المعماري وتحقيق تلك النجاحات الكبرى التى شهدتها حضارات تلك الشعوب التى استوطنت يوما ما أراضي الشام. يتناول الفصل الثاني من الكتاب، وهو الخاص "بالمشهد المعماري في بلاد الشام بالعهد الأموي" إشكالية نراها ذات أهمية معرفية هامة، معنية بترسيخ وتأكيد بديهية مفترضة مفادها أن النجاحات في جنس إبداعي معين يمكن لها أن تخلق أصداء وترددات بمقدورها أن تؤثر على الصياغات التصميمية لأجناس أخرى. اما الفصل الثالث والمعنون " القصورالأموية: اللغة المعمارية وخصائص البنية التكوينية" فيشير إلى واحدة من قضايا الكتاب الأساسية التي نرى في تناولها نوعاً من المساهمة الجادة في رؤية حدث عمارة القصور الأموية من جوانب متعددة وبصورة موضوعية. يعد الفصل الرابع أهم فصول الكتاب وأغناها بالمخططات والصور، وهو مكرس لعرض "نماذج القصور الأموية في بلاد الشام" على نحو "بانوراما" معمارية تشي بالقيمة التصميمية العالية التي تحققت بظهور هذا المنجز الإبداعي من تنويعات العمارة المدنية إبان العصر الأموي. كما أفردنا الفصل الخامس (والأخير) لموضوعة تأثيرات المنجز التصميمي للقصور الأموية على الممارسة التى تبعت ظهور زمن القصور إياها. ونعتقد أن أهمية عمارة القصور لا تكمن في ذاتها فحسب، برغم أهمية حدث الظهور وريادته وفرادته، وإنما فيما يمكن أن يؤثر تصميمياً على الممارسة اللاحقة أيضاً. فالفكرة، أية فكرة، لا تصح بذاتها، وإنما في قدرتها على التأثير، وفي خلقها إمكانات للتواصل والتفاعل، واجتراح نوع من "تناصية"Intertextuality ، تكفل ظهور مقاربة خلاقة، تتمرد ضد "مركزية" المعنى الواحد والفهم الواحد، وتكون قادرة على التأثير المستقبلي على سياق الممارسات المعمارية اللاحقة. وهذا الفصل معني في التعاطي مع تأثيرات عمارة القصور الأموية المفترضة على الممارسة التصميمية المماثلة التى ظهرت في مناطق جغرافية أخرى، بيد أنها تظل تدين لظهورها وتعزو تشّكل عناصرها التكوينية الأساسية إلى ذلك النشاط الرائد والمؤسس الذي اجترح، يوماً ما، في العصر الأموي.
تعود ملكية غالبية الصور الفوتوغرافية المنشورة في الكتاب للمؤلف شخصيا. فقد عملت عليها وعلى تجميعها طيلة سنين عديدة، منذ أن شغفت بهذا الموضوع المعماري بصورة عميقة في منتصف التسعينات، عندما شاهدت ميدانياً، وللمرة الأولى ، "قصير عمرة" ومنجزه المعماري والفني الرائع الذي لا يضاهي. ثم "سرى" ذلك الشغف بعدئذٍ إلى موضوعة "القصور الأموية" بوجه عام، فتعقبت أمكنتها وزرت مواقعها قدر المستطاع في بوادي الأردن ومدنه، وبوادي الشام وفي حاضرته العظيمة دمشق، عاصمة الأمويين وموقع نجاحاتهم المعمارية، وفي بادية العراق عند "قصر الأخيضر"، مرورا على قصور سامراء، عاصمة العباسيين "الأسطورية"، وصولا إلى الأندلس في إسبانيا. وقد صورّت تلك القصور مرات عديدة، حتى تسنى لي جمع لقطات متنوعة تخص تلك المواقع المعمارية طيلة عقدين من السنين في متابعة تظهر التغييرات التى طرأت على نماذجها المبنية. وفي أحيان كثيرة كنت أجلس أمام الأثر، أو عند حائطه أو في فنائه الوسطي، كي يمكنني أن استشعر بما يحيطني من روائع تصميمية، واستحضار توق المعمار المجتهد وطموحاته، مع عماله الحرفيين البارعين، لتحقيق تلك الأمثلة المعمارية المبهرة، التي تعد الآن فخر منتج العمارة الإسلامية، ومنتج العمارة العالمية على حدٍ سواء. وليست مصادفة أن غالبية تلك الأمثلة المعمارية المثيرة، هي الآن ضمن لوائح <اليونسكو>، الواجبة الحفاظ والمشمولة في قائمة التراث الثقافي الإنساني. كنت (ولازلت!) أجد متعة كبيرة، وأنا في حضرة تلك الأمكنة ، أتابع بشغف كبير نوعية المادة الانشائية المشغول بها الأثر، وأتأمل ملياً قرارات المعمار المتخذة، المرتكزة على خبرة واسعة تثريها وتغنيها معلومات عديدة عما تم انجازه سابقاً، لتصار إلى نماذج تصميمية، تحمل في ذاتها نوعاً من الجماليات الخبيئة. في بعض الأحيان أحس بتماهٍ خاص مع تلك الجماليات التصميمية، وأشعر بانتمائي لها وأنني ذو صلة وثيقة بها. لقد أحببتها كثيراً، وتماهيت معها ومع عمارتها. ولفرط تماهيي مع المكان، كنت أحياناً، <أتحدث> مع شاغلي، تلك القصور من أمراء ورجال دولة .. ونساء جميلات، سَكنّ تلك الأحياز وبقيت أنفاسهن، مثلما ظلت أنفاس أولئك "الساكنين" مرابطة للمكان، برغم مرور هذا الكم الهائل من السنين، بل قرون عديدة من السنين!
يتضمن الكتاب كذلك مخططات وصوراً عديدة أخرى مستلة من مصادر ومراجع موثوقة، وذات صدقية علمية عالية. إنها صور عالية الحرفية والمهنية في آن. وإذ أقدر عاليا الجهد التصويري الذي حققه أولئك العلماء المحترمين الذين سعوا وراء ترسيخ "اميج" عمارة القصور بلوحات فوتوغرافية شديدة الدقة وعالية الحرفية ، أجد أن "الصورة" التى التقطها "الويس موزيل" لقصر عمرة عام 1898، بصندوق "كاميرته" الثقيلة، ذات الحوامل الثلاثة (أرجل) العالية، من الصور المثيرة للعاطفة، والتي تمنحني، كلما رأيتها نوعاً من السرور المفعم بالابتهاج، فهي الصورة "البكر": الملتقطة فوتوغرافيا لذلك القصر "المنيف"!
جاء الكتاب الذي قمت بتصميم غلافه، واعداد الاخراج الداخلي له، بـ 464 صفحة من القطع الكبير (28 × 29.5 سم) وبغلاف فني سميك. وتم طبعه في مطابع "دار الاديب" بعمان الاردن، وصدر في 2015.□□
د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي