عشرات الردود وصلتني ردّا على مقالي ليوم أمس ( هيفاء الأمين ظلموك ولم ينصفوك ) والذي دافعت به عن النائبة هيفاء الأمين , الجزء الأكبر من هذه الردود حمل انفعالات بعضها يقف مع رؤيتي لمفهوم التخلّف ويشاطرني الرأي في دفاعي عن النائبة الأمين ويعتبرني منصفا , والبعض الآخر من هذه الردود حمل طابعا انفعاليا متطرفا حيث يعتبر أصحاب هذه الردود أنّ النائبة الأمين قد أساءت لبلدها العراق في محفل دولي , وأساءت لأهل الجنوب حين وصفت جنوب العراق بأنّه أكثر تخلّفا من بغداد أو كردستان , ردود أخرى تفتقر للياقة الأدبية والأخلاقية تطالب ( العاهرة ) هيفاء الأمين بالرحيل عن العراق والرجوع إلى السويد حيث جائت , أنا شخصيا أشعر بالأسى والألم لكل من أساء لهذه المناضلة التي قاتلت الديكتاتورية لعشر سنوات في جبال كردستان , ويبدو من خلال هذه الردود أنّ البعض يعتبر مصطلح التخلّف هو إساءة لعراق الحضارة والثقافة والإبداع , حتى وصل الأمر بكاتب ومفكر مثل حسن العلوي أن يتّهمها بعدم قراءة التاريخ ومعرفة الجواهري والرصافي والوردي .. فيا ترى هل كان الوردي يعتبر المجتمع العراقي مجتمعا متحضرا ؟ هذا السؤال موّجه للعلوي بشكل خاص الذي احتّج على النائبة الأمين واتهمها بعدم معرفة الوردي , ومن أجل الوقوف على هذا الجدل الدائر .. هل هنالك معايير للتحضر والتقدّم تعتمدها الهيئات والمنظمات الدولية لتصنيف البلدان كونها متقدّمة أو متخلّفة ؟ والسؤال الأكبر هل عراق اليوم بلد متقدّم أو متحضر ؟ .
وقبل الإجابة على هذا السؤال علينا التفريق بين مفهوم التحضر أو التمدن وبين مفهوم التقدّم والتخلّف , فالتحضر مفهوم يتعلّق بسلوك المجتمعات أي بالوعي الجمعي للمجتمع وسلوك الأفراد في هذه المجتمعات , أما مفهوم التقدّم والتخلّف فهو مفهوم أخر يتعلّق بتقدم وتطور البلد من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية , وبما أنّ الجدل الدائر يدور حول العراق , فسيكون الحوار منصّبا حول تحضر المجتمع العراقي وتقدّمه , وسأضع سنة 1975 ( السنة العالمية للمرأة ) كسنة قياس للوقوف على مستوى التحضر والتقدّم للمجتمع العراقي والعراق كبلد , وسنأتي على بعض المظاهر الاجتماعية للوقوف على حقيقة كون العراق قد تقدّم للأمام أو تراجع للخلف عشرات السنين ..
أولا / مستوى التعليم بكل مراحله وعلاقة المدرسة بالأسرة أو علاقة المعلم والأستاذ بالطالب , فهل مستوى التعليم الحالي أكثر تطوّرا عمّا كان عليه سنة 1975 ؟ وهل تطوّرت علاقة المدرسة بالأسرة إلى الأمام أم تراجعت ؟ .
ثانيا / سيادة القانون .. من مظاهر تحضر أي بلد في العالم هو التزام أبناء هذا البلد بقانون المرور والإشارات الضوئية والعبور من المناطق المخصصة للعبور , فهل تقدّم العراق في هذا الجانب عمّا كان عليه في سنة 1975 أم تراجع للوراء عشرات السنين ؟ وهل لا زالت المصاعد الكهربائية المخصصة لعبور المشاة موجودة في شوارع بغداد أم تلاشت هي الأخرى ولم يعد لها وجود ؟ .
ثالثا / القيم والعادات .. هل هنالك تقدّم في عادات المجتمع وقيمه بما يواكب منجزات العصر العلمية والتكنلوجية ؟ أم تراجعت لصالح قانون العشيرة البائس والمتخلّف ؟ وهل السانية والكوامة والدكة العشائرية من مظاهر التقدّم والتحضر ؟ .
رابعا / الطقوس والشعائر الدينية .. في بداية السبعينات كنّا ننادي بأهمية تشذيب بعض العادات التي التصقت ببعض الشعائر الدينية , وكنّا نعتبر الاستمرار بهذه العادات غير صحيح ومناف للقيم العليا لهذه الشعائر , فهل نجحنا بعد مرور خمسون عاما بتشذيب هذه العادات أم أننا أضفنا لها المزيد من المظاهر التي لا تمتّ للدين أو العقيدة بصلة من بعيد أو قريب ؟ .
خامسا / في مجال معاملة المرأة .. حين نادت الأمم المتحدة بسنة 1975 عاما دوليا للمرأة , كانت المرأة العراقية قد تخلّصت من الكثير من العادات والقيود الاجتماعية وأصبحت تمارس العمل السياسي وتدخل الجامعات وتدخل دور السينما والمسرح وتعمل جنبا إلى جنب في كل مجالات الحياة , فهل تحررّت المرأة من قيودها الاجتماعية أم تراجعت إلى الوراء عشرات السنين ؟ .
سادسا / مستوى الفن والأدب والثقافة بشكل عام .. هل تطوّرت الثقافة في العراق ؟ وهل لا زال الفن والرياضة والأدب في عصرهما الذهبي في السبعينات ؟ أين هي دور عرض الأفلام الراقية .. الخيام وغرناطة وسمير أميس وبابل والنصر ؟ وأين هو المسرح القومي ومسرح الفن الحديث ومسرح فرقة 14 تموز ومسرح الستين كرسي ؟ وهل لا زالت لبنان تطبع والعراق يقرأ ؟ .
سابعا / الروتين والفساد في دوائر الدولة .. هل يستطيع اي مواطن أن ينجز معاملته في دوائر الدولة بدون أن يدفع رشوة أو تكون عنده واسطة ؟ وهل هنالك التزام بالدور عند مراجعة هذه الوائر ؟ أم أنّ دوائرنا غارقة بالفساد والرشوة والفوضى ؟ .
وبعد هذا الاستعراض السريع الموجز لبعض الظواهر في مجتمعنا , هل نحن بلد متحضر ؟ وهل نحن قوم متحضرون ومتمدنون ؟ أين نحن من المدنية والتحضر ؟ ... أمّا بخصوص التقدّم والتخلّف الذي عنته النائبة هيفاء الامين في حديثها , فهذا موضوع يتعلّق بالتطوّر الاقتصادي والخدمي للبلد , وهنالك معايير اقتصادية واجتماعية وثقافية وضعتها الهيئات والمنظمات الدولية لتقييم البلدان من حيث التقدّم والتخلّف منها .. نسبة مساهمة الفرد في الناتج القومي .. التطوّر الصناعي والزراعي في البلد .. مستوى الطرق والمواصلات والاتصالات أي البنية التحتية للبلد .. مستوى التعليم .. مستوى الخدمات الصحية .. مستوى الخدمات بشكل عام .. المستوى الثقافي في البلد بشكل عام .. هذه هي المعايير التي تعتمدها الهيئات والمنظمات الدولية لتصنيف أي بلد في العالم إذا كان متقدّما أو متخلفا , فهل عراق اليوم وفق هذه المعايير بلد متقدّم أم متخلّف ؟ وهل جنوب العراق أفضل حالا من باق مناطق العراق الأخرى ؟ للأسف الشديد أقول أنّ عراقنا متخلف جدا وجنوبنا أكثر تخلفا , ومجتمعنا غير متمدّن أو متحضر , وماضينا أكثر إشراقا وتحضرا من من حاضرنا في الوعي والثقافة والقيم والأخلاق والوطنية والالتزام الديني واحترام المرأة والاهتمام بالنظافة والالتزام بقانون المرور .. وكل شيء إلا الفساد وسرقة المال العام فقد سبقنا العالم بأسره في هذا المظمار .. فلا تأخذنا العزّة بالأثم ونبقى نجتر بماض لا وجود له على أرض الواقع .
أياد السماوي