الورقة البيضاء والإصلاح المالي الفاشل
    الأحد 18 أكتوبر / تشرين الأول 2020 - 07:17
    صباح نعوش
    باحث إقتصادي
    تعاني الورقة البيضاء من عدة سلبيات يتعين على المسؤولين التصدي لها قبل تطبيقها. سوف لن تستطيع تحقيق هدفها المالي في معالجة العجز الهائل والمزمن لأنها تعتمد على إجراءات ضعيفة الفاعلية ومبنية على أسس توفيقية.
    أصبحت الأزمة المالية في العراق خطيرة خاصة بعد تدهور أسعار النفط وتفشي جائحة كورونا. لذلك قدمت الحكومة في العاشر من تشرين الثاني 2020 برنامجاً إصلاحياً أطلقت عليه اسم الورقة البيضاء.
    تحتوي الورقة على 96 صفحة. انصرف النصف الأول منها إلى دراسة الوضع الحالي. واهتم النصف الثاني بمجموعة من التدابير العلاجية وزعت على خمسة محاور. وسوف نهتم هنا بالمحور الأول وهو الأساس الذي تقوم عليه الورقة. عنوان هذا المحور تحقيق الاستقرار المالي المستدام. ويتناول ترشيد النفقات وزيادة الإيرادات.
    لمناقشة هذه الورقة بصورة موضوعية وضعت المعيار التالي للفصل بين الإصلاح الناجح والإصلاح الفاشل. يمكن لغرض هذا المقال ترتيب برامج الإصلاح وفق الدرجات التالية:
    الدرجة الأولى: برنامج يتضمن تشخيصاً سليماً ومتكاملاً للأزمة ويحتوي على إجراءات مناسبة لمعالجتها وفق مراحل محددة بدقة. ولا توجد عراقيل تحول دون التنفيذ. وتم فعلاً الحصول على نتائج إيجابية قادت إلى تحسين الوضع الاقتصادي ورفع مستوى معيشة المواطنين. هذا هو البرنامج الذي ندافع عنه.
    الدرجة الثانية: برنامج يشخص الأزمة بصورة صحيحة ويقترح حلولاً مناسبة لها. لكن تطبيقه العملي يواجه عقبات.
    الدرجة الثالثة: برنامج يتخبط في التشخيص ولا يضع بالتالي حلولاً ملائمة. ويصطدم بعقبات ترتبط بالفساد المالي وسوء إدارة الشأن العام.
    الإصلاح ليس فقط ورقة كيف ما كان لونها. بل هو نتائج عملية. وبالتالي فأن الورقة البيضاء برنامج من الدرجة الثالثة وفق التصنيف الذي وضعناه. لكن وجوده أفضل من لا شيء. فلا ينكر هذا التصنيف الجهود الطيبة التي بذلها واضعو الورقة وإشارتهم إلى عدة مشاكل كريعية الاقتصاد العراقي وتضخم القطاع الحكومي والمحاصصة الطائفية وزيادة عسكرة المجتمع. كما أنها محاولة أولى للإصلاح وقد تتطور نحو الأحسن. لكن هذا التطور لن يحدث إذا استمرت الورقة في التقيد بضوابط واعتبارات بعيدة عن المصلحة العامة وفي مقدمتها رغبة المليشيات والأحزاب والمصالح الإيرانية وتوصيات صندوق النقد الدولي.
    يرتكز المحور الأول على معالجة العجز في ميزانية الدولة عن طريق ترشيد النفقات وزيادة الإيرادات.

    ترشيد النفقات
    تقترح الورقة أربعة إجراءات لتقليص النفقات العامة.
    الإجراء الأول: تخفيض العجز المالي إلى نسبة لا تزيد على 3% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد نص قانون الإدارة المالية الاتحادية رقم 6 لسنة 2019 على هذه النسبة. وقد تطرقت إليها بصورة مفصلة في مقالي المنشور على هذا الموقع بعنوان "المعيار القانوني للعجز المالي في العراق". وسوف لن اكرر هنا ما جاء في هذا المقال من معلومات. والخلاصة أن هذه النسبة لا تتناسب مع الوضع الاقتصادي للبلد. ولا يمكن تحقيقها تحت ظل الظروف الحالية.
    الورقة تخلط بين الهدف والوسيلة. من الناحية المالية نسبة 3% هي الهدف الذي تسعى إليه الورقة وليست الوسيلة. كما لا تقتصر هذه النسبة على النفقات بل تشمل أيضاً وبنفس الأهمية الإيرادات. إدراج هذه الفقرة ضمن إجراءات ترشيد الإنفاق العام يدل على ضعف واضح في منهجية التحليل.
    الإجراء الثاني: تخفيض مرتبات الموظفين من 25% إلى 12.5% من الناتج المحلي الإجمالي خلال ثلاث سنوات.
    خصصت الورقة حيزاً كبيراً لتضخم القطاع الحكومي وتزايد عدد الموظفين وتضاعف حجم المرتبات. وبالتالي لا يمكن لهذه الحكومة أو أية حكومة أخرى أن تغض الطرف عن تأثير المرتبات على مالية الدولة. الإدارة السليمة للمالية العامة تستوجب إعادة النظر في هذه المشكلة بصورة مدروسة دراسة وافية.
    أن تقليص المرتبات إلى النصف أمر حسن. ولكن لابد من ملاحظتين حول هذه الفقرة:
    الملاحظة الأولى أن تقليص المرتبات يجب أن ينحصر بالجهاز العسكري وبالحشد الشعبي وبهيئات الأوقاف. لكن الورقة لا تشير من قريب أو من بعيد إلى ذلك. والملاحظة الثانية أن الورقة تهتم بإيقاف التعيينات. كما توجد بوادر لتحجيم مرتبات السجناء القدامى. لكن هذا الإجراء لا يكفي وبالتالي لا يمكن للورقة بلوغ هدفها.
    الإجراء الثالث: تخلي الميزانية العامة عن تمويل صندوق التقاعد بصورة تدريجية وحصر الدفع بهذا الصندوق.
    سيقود هذا الإجراء إلى هبوط المرتبات التقاعدية المنخفضة أساسا. لا يمكن الدفاع عن هذا الإجراء إلا إذا اقتصر على أصحاب المرتبات العالية وفق ضوابط محددة..
    الإجراء الرابع: تقليص الدعم الحكومي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي بدلاً من 13% حاليا.
    الدعم الحكومي موجه بالدرجة الأولى للبطاقة لتموينية والأدوية وبعض المحاصيل الزراعية. ففي ميزانية 2019 بلغت مخصصاتها 1.5 ترليون دينار لكل باب من هذه الأبواب الثلاثة.
    تقليص الدعم على هذا النحو يقود بالضرورة إلى تراجع مستوى معيشة المواطنين وارتفاع أسعار الأدوية والمواد الزراعية الأساسية. في حين كان من اللازم اتخاذ قرارات عكسية. الورقة لا ترى سوى الجانب الحسابي للمالية العامة. وهي بذلك تستجيب لبرنامج صندوق النقد الدولي الخاص بالإصلاح الهيكلي لمالية العراق. تقليص الدعم شرط أساسي من شروط الاقتراض من الصندوق. ولا تقتصر هذه الحالة على العراق بل تشمل جميع الدول المثقلة بديونها الحاصلة على هذه القروض.

    زيادة الإيرادات
    تعتمد مالية الدولة اعتماداً أساسياً على العوائد النفطية. تسعة أعشار إيرادات الدولة نفطية. أما الإيرادات الأخرى فتتأتى بصورة خاصة من الضرائب المباشرة والرسوم الجمركية.
    لا تتطرق الورقة في هذه الفقرة إلى العوائد النفطية. وهذا أمر منطقي لأن زيادة هذه العوائد ترتبط بعوامل خارجية تتعلق بالأسعار. بمعنى أن جميع إجراءات الورقة تنصب على عُشر الإيرادات العامة فقط.
    تنصرف زيادة الرسوم الجمركية والضرائب المباشرة إلى الإدارة والتحصيل حسب تعبير الورقة. أي إلى مكافحة التهرب الضريبي والرشاوى. وهذا جيد وممكن التحقيق رغم صعوبته. لكن الحصيلة الضريبية تعاني من مشكلة أخرى أكثر خطورة لم تتطرق إليها الورقة وهي سيطرة المليشيات والأحزاب على المنافذ الحدودية أي على الرسوم الجمركية. من الصعب على الحكومة معالجة هذه المشكلة دون الاصطدام بهذه المجموعات.
    لكن الحكومة سوف تستطيع زيادة أسعار الكهرباء للحصول على إيرادات أكبر. وسوف يؤثر هذا الإجراء تأثيراً سلبياً على المواطنين ويدعوهم إلى تعزيز حراكهم.
    أما استرداد الأموال المهربة والمسروقة فيجب تشجيعه بقوة. لكن وضعه موضع التنفيذ الفعلي سوف لن يكون سهلا.
    وتقترح الورقة إصدار سندات الخزينة وعرضها للتداول العام. سوف لن ينجح هذا الإجراء لسببين على الأقل. السبب الأول عدم ثقة المواطنين بمالية الدولة. والثقة كما هو معلوم الأساس الذي تستند إليه سياسة الاقتراض. والسبب الثاني أن التدهور المرتقب لسعر صرف الدينار الذي أشارت إليه الورقة لن يشجع على تهافت الأشخاص على شراء مثل هذه السندات. إذ أن هبوط سعر صرف الدينار يعني خسارة للمقرض بنسبة تعادل نسبة هبوط هذا السعر. فإذا كانت نسبة هذا الهبوط أعلى من سعر الفائدة فأن ذلك يعني خسارة حقيقية للمقرض.
    وتجدر الإشارة إلى أن القروض تنقلب لاحقاً إلى ديون يتعين دفعها للدائنين. أي أنها تقود إلى ارتفاع النفقات العامة وبالتالي زيادة العجز المالي.
    انطلاقا مما تقدم يتضح بأن الورقة سوف تفشل في معالجة العجز المالي. وبالتالي لن يتحقق الإصلاح الاقتصادي بالمفهوم الوارد فيها. لكن الإصلاح الحقيقي يجب أن لا ينبني على معالجة العجز بل بالعكس تماما.
    يعاني العراقيون بشدة من الفقر والبطالة وارتفاع كلفة المعيشة وغياب الأنظمة الاجتماعية وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية والطاقية والأمنية. ناهيك عن دمار المدن وانهيار البنية التحتية. هذه المشاكل لا تعالج بتقليص العجز بل بزيادة وتوجيه النفقات العامة نحو الميادين الإنتاجية الصناعية والزراعية.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media