أ. د. شموئيل (سامي) موريه
يعاهدني لا خانـني ثم ينـكث وأحلـف لا كـلمتـه ثـم أحـنـثُ
وذلك دأبي لا يزال ودأبـه فـيـا معشر الناس عـنا تحـدثـوا
أقول له صلني يقول نعم غدا ويكسر جفنا هازئا بي ويعبثُ
أمولاي إني في هـواك معذب فحتامَ أبقى في الغرام وأمكثُ
فخذ مرة روحي ترحني ولا أُرَى
أموتُ مرارًا في النهار وأبْعَثُ
فإني لهذا الضيم منك لحامل ومنتـظـر لطفا من الله يحدث
البهاء زهير
غناء سليمة مراد ودواد الكويتي
--
سوق الأمانة في البتاويين- تصوير الأديب مازن لطيف- بغداد، 2009.
--
كلما حاولت كتابة تتمة انطباعاتي عن لقاءات في مؤتمرات عقدت صيف 2009 في إنكلترا، في سلسلة "يهود العراق، ذكريات وشجون، 49"، بعد الخطاب التاريخي الذي ألقاه سمو الامير الحسن بن طلال في جامعة كمبريدج في مؤتمر "يهود الحضارة العربية"، يلوح في ذاكرتي بالحاح اقتراب تاريخ أهم الأيام في حياتي وهو يوم 25 نيسان (أبريل) من كل سنة. وما ادراك يا صاح معنى هذا التاريخ؟ إنه تاريخ لن انساه ما دمت حيًا، وفي هذه السنة خاصة، سيصادف مرور تسـعة وخمسين عاما على اطول يوم مرّ في حياتي وستين عاما على بداية مغادرة يهود العراق الذين اختاروا الهجرة الى اسرائيل بعد ان لم يبق في قوس صبرهم منزع. ترددت في كتابة ذكرياتي عن ذلك اليوم الطويل الحزين. وسألت نفسي لماذا ألقت الأقدار على عاتقي تدوينها؟ ولكني استدركت مناجيا نفسي، ولماذا لا أدون ما عانيته؟ أليست هي قصة عذاب كل من طرد من جنة وطن طفولته وصباه، قصة الملايين الذين طردوا في هذا العالم الذي مزقته اطماع الدول وصراع الحضارات والأديان والأجناس. أليست هذه قصة كل لاجئ في العالم مع الاختلاف في بعض التفاصيل؟ فلأدونها بالرغم من انها ستعيد الذكريات الأليمة لكل من عانى من اقتلاع جذوره عنوة وتنكأ جراحات الماضي الأليم، لعله يتأسى ويرى فيها صدى لما جرى له وتخفف من عذاب الذكريات.
كان ذلك يوم 25 نيسان (أبريل)، 1951، استيقظت مبكرا لأعيش يوما حافلا بالاحداث التي لم استطع فهم مغزاها وخطورتها، ولم اكن أعي هل أنا في كابوس مخيف، أم تمر بي احداث حقيقية لم تكن في الحسبان، أم إنه كان، كما كان يقال، تحقيق حلم تاريخي ظل يهود بابل خلال 2500 عاما يحلمون به ويرددون في كل عيد فصح، الذي يسميه اليهود "عيد الحرية", حين كنا نقرأ "الهجدا" أو قصة خروج بني اسرائيل من مصر وتـَخـَلـّصِهم من عبودية فرعون على يد النبي موسى كليم الله. هل كانوا يفهومون حقا مغزى الشرح العربي باللهجة العامية، "في السنة الجاية في ارض اسرائيل، بنين المطلوقين". هذا الحلم دفع بعض المتدينين المشعوذين من شيوخ الطائفة اليهودية في بغداد الى بث بشرى عجيبة إثر الاعلان عن قيام دولة إسرائيل عام 1948 واندلاع الحرب العربية الإسرائيلية. وزع بعض الشيوخ النصابين بطاقات كتب عليها اسماء الله سبحانه وتعالى وأسماء ملائكته بالحروف العبرية، وأكدوا ان ليلة اعلان دولة اسرائيل هي ليلة مقدسة، وان على النساء اشعال القناديل والصلاة لسلامة يهود العراق وقراءة دعاء العيد، "الحمد لله الذي احيانا وابقانا لنرى هذا اليوم السعيد"، وأن على الجميع الاستحمام ولبس الملابس النظيفة والجلوس على السطوح وشرفات المنازل والانتظار الى منتصف الليل، بترتيل المزامير وقراءة الادعية والصلوات بانتظار ملائكة الله التي ستأتي لنقل يهود بابل الى اورشليم العامرة على اجنحتها. ضحك الوالد وأخي يعقوب وعقلاء الرجال من هذه الأخبار والمعتقدات والبطاقات التي انطلت على السذج من النساء وضعاف العقول والاولاد، وجلسوا في شرفات البتاويين بانتظار الملائكة وقد ارتدوا افضل واجمل انواع البيجامات الحريرية. ومر الوقت في الجدل كيف ستحمل الملائكة هذه الجموع، وكيف ستحط بهم في ارض الميعاد ومن سيستقبلهم؟ فمعاناة الظلم ويأس الشعوب من الحكومات الظالمة يخلق الأمل في الخلاص من الجور عن طريق احلام يقظة مستحيلة رغبة منها في أن لا تنهار معنوياتهم وتبقي العقول سليمة في الحقب الحرجة من تواريخ الأمم. وعندما أعلن أولئك الذين يملكون ساعات اليد أنه حانت الساعة وستنشق السماء عن اسراب الملائكة، توقفت الانفاس بانتظار هبوطها، وارهفنا السمع لنشنف آذاننا بحفيف اجنحة الملائكة المباركة التي ستأتي لانقاذ اليهود من فرهود آخر انتقاما لقيام دولة اسرائيل. ومر الوقت بتوتر منهك للأعصاب، ومرت الدقائق بطيئة ثقيلة منتظرة ساعة منتصف الليل الحرجة، ولكن هيهات. لم يُشرّف اي ملاك أية شرفة تكدس فيها يهود البتاويين والحارات الأخرى وهم يلهجون بآيات المزامير. بدأ اليأس ينسل الى القلوب الواجفة، وسرى خدر التعب والنعاس في الاجساد المنهوكة من الانتظار ونام الأطفال في احضان امهاتهم وانقضى ليل الانتظار الطويل بدون ملائكة ودون معجزة "خروج" اخرى. وأخيرا ادركنا ان هذا عصر لا تجترح فيه المعجزات بل تنشب فيه الحروب والمذابح وقنابل الدمار الشامل، أو بالأحرى أن هؤلاء النصابين افلحوا في بيع اكبر عدد من الطاقات.
وفي الأيام التي اعقبت هذه الخيبة، أقبل مكان ملائكة الخلاص المزعومة، زبانية الارهاب، وأخذوا يصولون ويجولون في شوارع بغداد اليهودية. "ولك شلون اتصير دولة لليهود؟؟ مو أنكتب عليهم الذل والمسكنة؟ والله متصير، هاي دولة مزعومة!" انطلق الزبانية يشبعون اليهود الذين يصادفونهم في الدروب بالاهانات والضرب والبصاق تقربا من الله تعالى. قبع أغلبهم في بيوتهم متوجسين قيام فرهود جديد. سرت اشاعات بان هناك حركة سرية مسلحة تقوم بحماية الشوارع والمحلات التي يقطنها اليهود من المعتدين ليكيلوا لهم الصاع صاعين. وتكاثرت شكوى الرجال الذين فصلوا عن وظائفهم الحكومية وخاصة بعد إلغاء إجازات التصدير والايراد، من ضيق الحال. ودار الشباب المناضل على محلات ودكاكين اليهود يطالبونهم بالتبرع لإنقاذ فلسطين، أعقبتها موجة من هروب الشبان الذين التحقوا بالمنظمة الصهيونية السرية وبالحزب الشيوعي العراقي للتخلص من القاء القبض عليهم بالهروب الى أيران والى سوريا ولبنان ومنها الى اسرائيل. وكثر القاء القبض على كل من تصله رسالة من الأرض المحتلة او عثر على كتب عبرية ومجلات يهودية في بيوتهم في موجة التفتيش عن اعضاء المنظمة السرية. كان هذا بعد محاكمة التاجر شفيق عدس وشنقه أمام داره بالبصرة عام 1948. ثم تلا ذلك اعتقال كل من مردخاي بن بورات ويهودا تاجر في محلات اروزدي باك، وامتلأت السجون بالمعتقلين اليهود من الذي القي القبض عليهم في محاولة الهروب من العراق، واخذت المدارس تفرغ تدريجيا من طلابها اليهود. إلى أن اضطرت الحكومة العراقية إلى اصدار قانون اسقاط الجنسية والاعلان عن السماح ليهود العراق سنة 1950 بالهجرة والخروج إلى إسرائيل عن طريق قبرص. وجاءت الطائرات التي شارك في تأجيرها كل من نوري السعيد وابنه صباح وغيرهما من الشركاء الذين تقاسموا الأرباح من صفقة نقل اليهود الى إسرائيل. واقلعت الطائرات الضخمة في مطار بغداد تقلهم الى ارض الميعاد بدل الملائكة التي لم تهبط على شرفات اليهود الذين خابت آمالهم وظنونهم بوعود شيوخهم وصلواتهم.
كنا نشق طريقنا في الزحام الشديد إلى بوابة كنيس مئير طويق، حيث عقد قبل سنوات زفاف أختي اسبرونس على زوجها الوسيم يعقوب كوهين، وحيث كنا نصلي في الأعياد، ويرمي علينا بعض الرعاع الحجارة في طريقنا اليه وفي أوقات الصلاة. أما في ذلك اليوم فقد تحول الكنيس الى مكتب للتسقيط ولملء الاستمارات والتوقيع عليها. وعندها تبدأ مرحلة مراجعة قائمة المسافرين وتواريخ السفر وساعاتها. وقفتُ أمام القائمة في شهر أبريل عام 1951 وفجأة عثرت على اسمي، خفق القلب وشعرت بالاضطراب، اذن فقد حان الرحيل، واصبح الامر حقيقة لا يمكن التراجع عنها. ما هذا الذي فعلته؟ والى أين سأذهب؟ وماذا سيكون مستقبلي ومصيري؟ ولحسن حظي انني كنت قد اجتزت امتحان البكلوريا واستطعت الحصول على قائمة المعدلات التي نلتها في الامتحان من إدارة مدرسة شماش، وأسرعت الى وزارة الداخلية ووضعت ما نشرْتـُهُ في الصحف العراقية من الشعر المنثور والترجمات تحت اسم "سامي ابراهيم" في ملف، طالبا باخراجها معي الى إسرائيل. فلما استلم الرقيبب المسؤول الملف، سأل "هاي القصاصات من الجرايد شنو؟" قلت، "اشعار وترجمات نشرتها في الصحف العراقية"، القى نظرة خاطفة عليها وانبسطت اسارير وجهه وابتسم، وشجعني على مواصلة الكتابة وربت على كتفي ووقع عليها وختمها وكتب عليها "لا مانع من الاخراج". عج شارع الرشيد باليهود الذين أسقطت عنهم الجنسية العراقية وبدأوا يتأهبون للسفر وشراء الملابس والحاجيات من افخر المحلات التجارية وقد ظنوا انهم سيخرجون الى نزهة وأفراح وولائم لا نهاية لها.
نعم، في مثل هذا اليوم من عام 1951، في عيد الفصح، أقلعت بي الطائرة من مطار بغداد، مع عشرات من يهود العراق من مختلف انحاء وادي الرافدين، ومن جميع الطبقات والازياء في رحلة مباشرة، رحلة متعبة، مقلقة حائرة تنطلق بنا الى المجهول بجميع ما في هذه الكلمة من توجس وهواجس وخوف وضياع. قيل لنا اننا سنحط رأسا في مطار اللد، لا في مطار قبرص، إلى الدولة التي كانت تسمى آنذاك بـ"ـدولة عزرائيل المزعومة"، وكنت لا استطيع استيعاب معنى ان تكون الدولة التي أُرحّـل إليها مزعومة، وإذا كانت كذلك، فكيف ستحط فيها طائرة ملئية بالمسافرين ليعيشوا فيها كقادمين جدد؟ وإذا كانت مزعومة حقا، فهل لها ارض وكيان؟ فقد عاد الجيش العراقي الذي ذهب بين التهليل والتكبير لانقاذ فلسطين وشارك معظم الطلاب اليهود طلاب المدارس الأخرى في الاحتجاج على قيامها هاتفين "فلتعش فلسطين حرة مستقلة". ثم كانت عودة الجيش العراقي "ظافرا" في مسيرات نصر امتدت من شارع الرشيد والى شارع غازي. إذن، كيف سنرحل الى دولة مزعومة بعد هذه الانتصارات؟ كانت غصة مريرة في الحلق من هذا المجهول. وها أنا حتى اليوم أحاول التخلص من تلك الذكريات الأليمة، التي كنت اتمزق فيها بين حبي لمسقط رأسي، وطني العراق، وبين الجرح الدامي الذي احدثته الاحداث الغريبة منذ فرهود عام 1941 وحرب 1948 التي ابتدأت في الساعة الأولى من قيام هذه الدولة المزعومة التي يحاول البعض الانتقام منها من اليهود العزل تقربا الى الله بإهانتنا في كل خطوة نخطوها خارج البيت. وها أنا احاول الآن كبح جماح الذكريات لكي لا تنكأ الجراح، ولكنها تعود فتنتصب امامي كالمارد الجبار العنيد تجعلني اجترها قسرا، بل الانكى من ذلك، فهي تدفعني الى تسجيلها ليقرأها الأخرون. ولماذا أسجلها أنا بالذات وهناك الملايين من جميع الاجناس والأديان الذين هـُجّروا في الحرب العالمية الثانية وما بعدها قسرا من مسقط الرأس الى بلاد آخرى لم يحلموا بها من قبل؟ ولكن الذكريات، كما قال أحمد شوقي أمير الشعراء، هي "صدى السنين الحاكي". وأما ذكرياتي فإني اشعر أنها ليست "الصدى الحاكي" فحسب، بل شريط سينمائي ناطق بالأغاني العراقية الشجية الحزينة، وأفراح أيام سعيدة قضيناها بين الأهل والاخوان وعلى ضفاف دجلة وفي الجزرة مع اصدقاء من كافة الطوائف والاديان. ثم تعود اصوات أخري في هذا الشريط تقذف حمم شتائم الحقد والاحتقار، وما أزال اشعر بحرارة الجو الربيعية التي تعكر صفوه عواصف رملية من الغبار التي تجتاح العراق في شهر نيسان، عندما تزدهر اوراق العنب والأزهار والورود بعد سبات الشتاء، وتنبت الاعشاب بكثافة في كل مكان، بل ما ازال اتذكر رائحة ذلك الغبار ممزوجة بشذي زهور الربيع في حديقة دارنا بالبتاويين وأمام حدائق شاطيء أبو نواس وبارك السعدون وبستان مامو.
في ذلك اليوم شعرت بألم مريع وبيأس مخيف، هذه جذوري الممتدة في أكثر من الفين وخمسمائة سنة في تربة العراق الخصبة المعطاءة تجتثها الأحداث بقسوة لا تعرف الرحمة، قسوة غاضبة عنيفة مفاجئة، تضاربت فيها العواطف والأحاسيس وتتراوح بين خيانة الصداقة والتشفي برحيلنا انتقاما لفلسطين، وبين ترحم الاصدقاء الأوفياء والجيران المحبين وبكائهم معنا حزنا على فراقنا وعلى ايام العشرة والخبز والملح. كان لبعضنا معهم صداقات تمتد من الاجداد الى الاباء والبنين. نعم ستون عاما مرت كلمح البصر ولا ازال الى اليوم اشعر بنفس الالم المريع الذي حز في نفسي من جراء مغادرتي العراق برغم ارادتي، عندما طفح الكيل ولم اعد احتمل الاهانات والشتائم والسباب من بعض الحاقدين. كانت لحظة القرار الحاسمة التي دفعتني للذهاب الى كنيس مئير طويق قرب دارنا لاسجل اسمي في قائمة التسقيط عند ضباط وزارة الداخلية وأوقع، والقلب لا يطاوعني، على قرار التخلي عن بطاقة الجنسية العراقية، فقد كنت أعلم علم اليقين بأنه ليس من المستطاع التخلي عن الجنسية التي تجري في الدماء خلال عدة آلاف من السنين؟
ثم جاءت لحظة القرار الحاسم، جاءت مفاجئة قاسية بإحساس لسعة سوط (قرباج) ظالمة اهوى به على ساعدي الايسر احد الشباب الغيورين على فلسطين الجريحة، شفعها بمسبة الدين والآباء، سألته بغضب: "ولك ليش؟ اسويت لك؟" أجاب ببديهية ساخرة لا يمكن مناقشتها: "كِـيفْ انت ايهودي، روح ولي الفلسطين!". نظرت الى مكان الضربة، فرأيت خطا ازرق متورما يرشح بالدم القاني. آلمتني الأهانة اكثر من الألم المحرق في ساعدي. وسمعت في لسعة السوط ذلك الصرير الذي صاحب سقوط اطول نخلة في بستان مامو عندما بدأوا في قلع النخيل لبناء سوق الأمانة الجديد والبيوت المجاورة له، منها ٍبيت التاجر مهدي طعيمة وبيت نسيم كوهين امام بيتنا في البتاويين. كان لضربة الفأس الأخيرة في جذع النخلة، دوي لعلعة ذلك السوط الذي جرح ساعدي وحز في فؤادي. هوت النخلة وارتجت الارض تحت قدمي وأنا اشاهدها تسقط بحزن معذب بقامتها الباسقة الى الأرض بكبرياء جريحة واحتجاج مدوي. ثم تلاها قلع باقي اشجار النخيل وطرد اصحاب الأكواخ الذين سكنوا في هذا البستان الذي شهد اجمل ساعات العمر. جاء رجال الشرطة يحملون البنادق وبدأوا بوالد الفتى الذي استقبلنا بالكفر بالدين في أول يوم خرجنا فيه عام 1936 باكرا، أخي وأنا، لنلتقط التمر المتساقط في الليل. قال له رجال الشرطة "ولك كواد، قلنالك هِدّ الكوخ وولي ورا السدة"، أجاب، "هذا بيتي وين اروح أولي؟"، وكان الجواب ضربة قاسية باخمص البندقية في بطنه طوحته من "الطوفة" (سياج التبن المزوج بالطين المجفف في الشمس) المحاذية لكوخه أمام دار عقيد الركن. نظر الفلاح إليّ نظرة كسيرة مستنجدة، وهوى الى الأرض، واكمل رجال الشرطة هدم الكوخ. لم اكن ادرك آنذاك ان مصيرنا سيكون مثل هذا الترحيل القسري لهؤلاء الفلاحين المساكين.
كانت لعلة السوط هذه في عام 1950 وكان علي ان التقي بالوالد في شركة اندرو- واير الانكليزية للايراد والتصدير، حيث كان يعمل فيها رئيسا للمحاسبين. ثم التحق بها أخي يعقوب (جاكوب) بوظيفة "شورت هاند تابيست" (مختزل وكاتب على الآلة الطابعة) وسكرتير المدير الانكليزي وذلك قبل هجرته عام 1950 للدراسة في الجامعة العبرية مع الأفواج الأولى من رحيل اليهود الذين اختاروا تسقيط الجنسية العراقية الى "الدولة المزعومة". نظر والدي الى الجرح وقال: "ما هذا؟" قلت، "ضربة قرباج!" - "ليش؟" – "كيف أنا ايهودي". هزّ الوالد رأسه ألما وأسفا. قلت له: "الآن قررت الهجرة الى إسرائيل، سأذهب للتسقيطّ". لم يعلق على قراري. قال: "إذن ستلتحق بجاكوب، كونوا سوية وتعاونوا فيما بينكم"، ثم اردف، "حل محله صديقنا تشارلس روفائيل حوريش، وهذا امر يعزيني". كان المرحوم تشارلس يدرسني الرياضيات تمهيدا للامتحانات. نجح في عمله في هذه الشركة وافلح في الحصول على وكالات لشركات اجنيبة، وصار من كبار الأغنياء ولكن ثروته وغناه تسببا في اصدار حكم الإعدام عليه بتهمة الصهيونية ضمن تسعة من يهود العراق بينهم فتى في السادسة عشرة من عمره أغروه بتغيير سنه، علقهم حزب البعث عام 1969 في ساحة التحرير انتقاما لهزيمة 1967 وتصفية لاموالهم، ودعا راديو بغداد جماهير الشعب العراقي الى الاحتفال بشنق "الجواسيس الصهاينة" والرقص حول جثثهم المعلقة.
وقبل حرب انقاذ فلسطين عام 1948 بدأت السياط تتوالى على يهود العراق، وكان أخي يعقوب أول من شعر بلسعة السوط هذه بين أفراد العائلة. كان ذلك عام 1943. عاد الى دارنا والدم يسيل من رأسه ووجهه بصحبة شاب يهودي وقد صبغ الدم القاني قميصه وتحطمت نظارته ودراجته. اخبرنا بغضب باكٍ انه عندما وصل الى محلة "باب الشيخ" رجمه بعض الفتيان بالحجارة، فأصابوا وحهه وسقط عن دراجته فأخذوها منه وهربوا بينما كان الآخرون يصرخون محرضين على مواصلة ضربه: "ولك حيل ضربه على راسه، هل ايهودي!". فأنقذه احد الشيوخ المسلمين الخيّرين وأعاد اليه دراجته وسلمه الى احد الرجال اليهود الذي أوصله إلى دارنا متورم العينين ينزف دما.
أما لذعة السوط الثانية التي اصابته، فقد كانت رفض قبوله لإلتحاق ببعثة دراسية حكومية الى لندن بالرغم من انه كان من الأوائل على العراق في امتحانات البكلوريا العراقية. قيل للوالد "ترا ما تمشي المسألة بلا واسطة وبلا دستة دنانير تسلم لاحد المتنفذين في وزارة المعارف". قال الوالد باصرار: "أبني متوفق في دراسته وقد حاز على أعلى المعدلات، فلا يمكن رد طلبه، ولا اريد ان اعلمه على شق طريقه في الحياة عن طريق الرشوة والبراطيل". وقع خبر رفض طلبه للأتحاق ببعثة حكومية وقوع الصاعقة علينا جميعا. جاء في الرسالة على ما أتذكر: "التلميذ يعقوب ابراهيم معلم يضع نظارات طبية. وعليه فلا يمكن قبوله في بعثة دراسية الى الخارج"، كان هذا والله حكم قراقوش! ولكنه كان يوما حزينا لنا جميعا، فقد خابت الآمال في عبقري العائلة بقبوله في بعثة لمواصلة الدراسة والحصول على شهادة من جامعة لندن في الاقتصاد. وفي أول فرصة سنحت له لمغادرة العراق قام بالتسجيل للهجرة الى اسرائيل للدراسة في الجامعة العبرية.
كان الجو مشحونا بالخوف والارهاب بعد أعلان استقلال دولة إسرائيل وحرب عام 1948 لانقاذ فلسطين، عانى فيها اليهود من الاضطهاد والفصل من العمل في الوظائف الحكومية والعامة وتضييق الخناق عليهم وتجميد الاموال المنقولة وغير المنقولة، وقد آلم والدتي تجميد مدخراتها في بنك الرافدين وتجميد بيوت اخوتها في البتاويين ومحلة حنون صغير. فوجئوا بقانون التجميد، ولم يصدقوا بانهم لا يستطيعون التصرف باملاكم التي اشتروها بعرق جبينهم أو ورثوها عن آبائهم. ولما حان يوم الرحيل لم يبق لهم مناص إلا ان يقفلوا الأبواب ويسلموا المفاتيح الى جيرانهم المسلمين، باكين هلعين، قال لهم جيران العمر: "ما يخالف، مو انتو رايحين الفلسطين وراح يسكن ابيوتكم لاجئين فلسطينيين بدالكم! هذا تبادل سكان عادل، والعوض عند الله!". كنا قبل ذلك قد وقفنا على مرارة هذه الحرب التي كنا نخاف نتائجها مقدما، سبعة جيوش عربية مدججة بالسلاح الثقيل واسراب الطائرات تهدد بسحق "شراذم عصابات اليهود في فلسطين" في ساعة ولادة هذه الدولة، وكيف ستستطيع هذه الحفنة من المستوطنين والناجين من المحرقة النازية، الوقوف أمام هذه الجيوش المتحمسة لخوض معركة المصير والمتفائلة بالنصر المبين على المعتدين الغاصبين لترميهم في البحر؟ فقد تواعدوا على أن تكون "تل أبيب الموعد".
ثم سمعنا فجأة أن هناك لاجئين فلسطينيين اسكنتهم الحكومة العراقية في المدارس والنوادي اليهودية التي صادرتها ليقيمون فيها. أي لاجئين هؤلاء بعد دحر الصهاينة المعتدين؟ مرّ من امام دارنا ذات صباح فتية بيض الوجوه بملابس اوربية ولا يرتدون الدشداشة العراقية، وعجبنا من يكونون؟ سألناهم، "من وين انتم؟" قالوا: "نحن لاجئون فلسطينيون نقلونا الى هنا بعد ان صدقنا وعود القادة العرب بان علينا ان نخلي بيوتنا لكي تتمكن جيوش الانقاذ العربية من تحرير فلسطين واعادتنا الى ديارنا سالمين غانمين، وهكذا جاءوا بنا الى هنا لننتظر الجولة القادمة!" قال لهم ابن مهدي طعيمة : " ولكم انتقموا من اليهود هنا، ضربوهم، كتلوهم!"، قال بعضهم، "ما شأن يهود العراق بضياع فلسطين"، أما الآخرون فقد بدأوا بمنع اليهود من المرور امام النادي اليهودي الذي اصبح معسكرا للاجئين، وقام البعض الآخر بتحطيم زجاح السيارات اليهودية التي كانت تمر بهم. ثم كان ذات يوم سمعنا فيه ضوضاء تنبعث من المعسكر، فلما استفسر البعض عما جرى، قيل لهم: "شرطي عراقي اغتصب لاجئة فلسطينية!" شاركت النساء اليهوديات في الاسى والحزن الذي ساد المحلة، وقلن، "أشلون ظلم اسود؟ مساكين، راحت عليهم، هم مالهم وهم عرضهم، الله يقبلها؟"
كان بعض طلاب مدرسة شماش قد بدأوا بالاهتمام بالادب والشعر العراقي كسالم الكاتب وداود أصلان وساسون والتعرف على الادباء العراقيين في المقاهي التي كانوا يرتادونها، أتى زميلي ساسون القاطن في محلة بستان الخس والذي درس معي في مدرسة شماش الثانوية لزيارتي في بيتنا بصحبة شاعر فتي قدمه باسم زهير أحمد القيسي ليتعرف على سامي ابراهيم الذي نشر بعض الاشعار المنثورة وترجم من اللغة الانكليزية قصائد للشعراء الانكليز والامريكيين الرومانسيين. وعندما سمع زهير بانني متفوق في الرياضة والملاكمة أيضا، وفزت بالمدالية الاولى في وزن الريشة في الملاكمة عام 1949، ارتجل هذا الشاعر البغدادي بيتا شعريا للدلالة على سليقته في نظم الشعر الموزون المقفي ارتجالا، فقال على الفور مداعبا وموظفا كلمة "هَـمْ" الفارسية بمعنى "ايضا":
هـَمْ رياضي وْهـَم أديب ناسي نفسه بتل أبيب
ضحكنا لهذا البيت المرتجل، ولكن الوالدة توجست خيفة من جراء تلميحه بتهمة الصهيونية وهي تهمة كانت كافية آنذاك للالقاء بأي يهودي في غياهب السجون. وعندما نشر الاستاذ مازن لطيف مقاله عن الشاعر زهير القيسي ملتمسا من الحكومة العراقية أعانة هذا الشاعر الكبير في شيخوخته ومرضه، كتبتُ له رسالة مستفسرا فيما اذا كان زهير يتذكر تلك الزيارة ولقاءه بنا في دارنا؟ تأسفت لعدم اسعاف ذاكرة هذا الشاعر الموهوب بهذه الحادثة التي حفرت في ذاكرتي التي لا تنسى اية شاردة وواردة من حياتي. كان الله في عونه في شيخوخته.
وفي أثناء تجوالي في شارع الرشيد بين المحلات التجارية لشراء الملابس قبل الرحيل، مررت بصالونات الجابي للحلاقة وكان صديقي عبد الرحمن زميلي في مدرسة السعدون واقفا أمام الصالون الذي كان يديره والده. رحب بي وسألني السؤال المعتاد الذي كان يجرى على ألسنة الجميع: "ها! سـَقـّطِتْ لو ما سَـقـّطِتْ؟"، فلما اجبته بالايجاب قال مستنكرا "ولك ليش؟ لا تروح لأسرائيل، مو هناك عايشين بالخيام وميتين من الجوع ويحتقرون اليهود العرب". أجبته، " مو انت تعرف الاوضاع هنا ومبقيتوا إلنا عيشة وياكم!"، قال: "بعد شوية تستقر الأوضاع وتتبدل الامور، وهي أحسن من الأوضاع باسرائيل الفقيرة". تذكرت وعد عبد الرحمن بحمايتي قبل أيام من الفرهود وقد أحاط بي اصدقاء المدرسة متسلحين بالسكاكين والقبضات (بوكس) الحديدية للاعتداء عليّ وعلى كل من سصادفونه من اليهود. هل أصدقه اليوم، وقد خانني ونكث عهده معي مرة، و"المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين". من يضمن عدم العودة الى نكث العهود في الفرهود القادم؟ أجبته بأسى، "سـَقـّطِتْ واتجمدتْ الاموال وبعد ما اكدر اغيّر وأبَطـّل التسقيط، راح أسافر والله كريم!".
ايقظني الوالد صباحا وهيأنا الحقيبة وملأناها باغلى وافخر الثياب التي اشتريناها من شارع الرشيد، ولم ننس شراء القبعات الإفرنجية وبالكاد استطعنا شراء حقيبة صفيح من سوق الصفافير وضعنا فيها الحاجيات الضرورية وارتديت، بنصيحة بعض المطلعين على أحوال المسافرين، عدة فانيلات وقمصان وبنطلونات الواحدة على الاخرى للتخفيف من وزن الحقيبة. لم استطع النوم تلك الليلة فقد فرق القلق و"السهد بين الجفن والوسن"، وفي الصباح عندما ايقظني الوالدان للوداع، وضع الوالد يده على رأسي ليباركني بركة الرحلة، كما بارك يعقوب اولاده، "ليبارك الرب ويحفظك " وسقطت دمعة من عيني الوالد حاول اخفاءها، أما الوالدة فقد اغرقتني بالقبل والدموع، "سلمنا على جاكوب وريمون ومراد، سالحق بكم عن قريب مع أختك كلادس. دير بالك على نفسك والله يحفظكم!"، أوقفنا عربة وأدرك العربنجي من حقيبة الصفيح أنني ذاهب الى كنيس مسعودة شمطوب حيث الترحيل يجري من هناك منذ اسابيع على قدم وساق، قال "يابا! انت رايح الفلسطين من الكنيس اللي ضربوا عليه قنابل من شغلة الصهاينة؟" كان بعض طلاب مدرسة شماش قد اصيبوا بشظايا القنابل وهم جالسون في المقهى واكدوا بان الرجال الذين القوا القنابل اليدوية كانوا من غير اليهود، وقد تعرفوا عليهم من سحناتهم ولهجتم البغدادية. وزنوا حقيبة الصفيح مع المحتويات وفتشوا عن مواد ممنوعة وخاصة الثياب التي كانت بلون الخاكي العسكري، ثم سافرنا الى المطار الذي كان يعج بالمهاجرين، وانتظرت دوري للمثول بين يدي مفتش الجمارك بعد أن عيل صبري، فقد انهكني التعب والعطش والجوع. نظر هذا الموظف إلي غاضبا وهو يلعن ويسب ويضرب قفا كل من يتقدم لفحص محتوات حقيبته. عبس في وجهي وهمّ برفع كفه الى وجهي. نظرت اليه نظرة غضب واحتقار وتحدٍ فإذا بيده تقف في الهواء وتهبط بفشل وخجل على كتفي وتتحسس حشية أكتافي وجيوبي. طلب نزع الحذاء الجديد وأخذه بيده يقلبه، ولم افهم سبب ذلك إلى أن قال: " أكو ذهب ابجعب القندرة؟" فتعجبت لسؤاله، ولما فتح الحقيبة وشاهد ملف القصائد، أخذه بيده وسألني بنترة متحدية كأنه شعر ان هذا الملف أغلى عندي من الذهب الذي كان يفتش عنه: "ولك شنو هذا؟" أجبته منتظرا اطراءً آخر، "هاي اشعاري سمحت الوزارة باخراجها، وهذا ختم وتوقيع الموظف!"، فاذا به يصرخ محتدا: "ولك ايهودي شتسوي بالعربي باسرائيل، مو أنت راح تصير جندي هناك وترجع اتحاربنا خاطر تصير دولة إسرائيل، من الفرات الى النيل!". أخذ الملف بحدة ومزقه والقاه في سلة المهملات. وعندها أتي حمال يحمل عدة حقائب فاخرة بصحبة أمرأة يهودية تتزين بالمجوهرات النفيسة وترتدي آخر مودة باريسية، ودس في يده ظرفا وقال، "الباشا يسلـّم عليك ويكول سهّـل!"، انبسطت ارسارير وجه هذا الكمركي الفظ وهو يتناول الظرف الثقيل ويدسه في جيبه. انتهزت فرصة انشغاله بالسيدة الجميلة المعززة وتناولت ملف أشعاري الممزق ووضعته في حقيبتي وأنا اعجب لهذا التغيير المفاجئ في تصرّفه.
وأخيرا صعدنا الى الطائرة واقلعت بنا وحامت في الجو فوق بغداد وعلى الجسر الذي يجري من تحته نهرنا الخالد الذي روى عروقي وعظام آبائي خلال آلاف السنين. انتهزت الفرصة لكي ألقى نظرة وداع أخيرة على مراتع الطفولة والصبا، وشعرت بالحزن والوحشة والضياع مرة أخرى. هل يا ترى ستتاح لعشاقك فرصة العودة اليك يا عراق ويا بغداد، يا حبيبتي، يا جارحة القلوب! فما زال الجرح يؤلمني وما زال فراقك يؤسفني، وما زال شهداؤك من الجانبين ومن الأقليات يثيرون في نفسي الألم واللوعة يا عراق، يا قاتل عشاقهِ ومحبيه!
وفي الطائرة كان هناك فتى مقعد حملوه واضجعوه على بطانية قرب سلم الطائرة. قال والده مناديا زوجته بخشونة، "قومي يا مغة، ديغي بالك على ابنك المكسّغ!"، اجابته، بلطف وأمل "وي ابدالو، ليش بقى مكسغ، اسا يغوح اليسرائيل ويداوونو ويسيغ معافى كنو ورد". كانوا يظنون ان اسرائيل تجترح المعجزات في الطب والعلوم وأخذوا ولدهم المصاب بالكساح لمداواته. ولما استوت الطائرة وصرنا فوق صحراء الأردن صارت الطائرة تغوص في مطبات هوائية قابلها المسافرون في أول رحلة جوية في حياتهم بصراخ وخوف وهلع، "والله هسا توقع الطياغة وكلنا انموت"، ولأول مرة في حياتي رأيت رجالا ونساء يتبادلون قبلات الوداع والهلع قبل ان تهوى الطائرة بهم الى الموت المؤكد. جلست بجانبي فتاة وطفاء ساحرة العينين واحتمت بي. طمأنتها بان الطائرة سوف لا تسقط، وما هي الا جيوب هوائية باردة تدخلها الطائرة فتهبط ثم تحملها مرة اخرى جيوب حارة الى الأعلى. كانت الفتاة تتحبب الي، ثم ادركت فيما بعد ان بعض النساء كن يقلن للفتيات اليهوديات لتشجيعهن على الهجرة الى اسرائيل، انه ما ان تحط الطائرة في مطار اللد حتى يكون في انتظارهن شباب يأخذون بيد من اعجبوا بهن ويعرضون عليهن الزواج على سنة موسى وشريعته. اما هذه الفتاة فقد ارادت ان تستبق الاحداث بتعلقها بي، فالعصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة؟ وقبل هبوطنا من الطائرة الى باحة المطار، رشنا احدهم وهو عابس الوجه بمادة الدي دي تي. سكتت على مضض، فقد اعتبرت هذه الخطوة المهينة من فروض المحافظة على صحتنا. وعند خروجي الى ساحة المطار رأيت بعض الرجال والشبان يركعون لتقبيل الارض المقدسة ثم الاتجاه الى سيارات الحمل التي أرسلت لأخذنا الى الكرنتينة في معسكر بريطاني مهجور جعلوا منه محجرا صحيا للقادمين الجدد اطلق عليه اسم "بوابة الهجرة" ويقع على سفح جبل الكرمل الأشم قرب حيفا. لحقت بي الفتاة الوطفاء وصاحت: "لا تتركني وحيدة خذني معك!"، وبدفعة دلع منها، اندفعت حقيبة يدي بين قدمي، واختل توازني وسقطت على ركبتي فارتطم جبيني بأرض المطار. خفـّفتْ حافة القبعة الاوروبية من ألم السقطة، وكنت في وضع يشبه الركوع وتقبيل الأرض، هل تجبرني الأقدار على تقبيلها؟ لاحظت أمرأة بغدادية سقوطي ودفعة َ الفتاة لي، فصاحت وقد اخذتها النخوة: "بنت الكلب، وكيحي وما تستحي، وقعتو الغجال وقتتمقلج (تتدلع) ويانو بلا حيا قدام العالم!". وبلمح البصر عادت بي الذاكرة الى زينب بنت رشيد. كان مروض الخيل يعلمني الركوب، وربط الفرس الأصيل الى سير طويل وضع طرفه بيده، وشرع في تعليمي الخبب على صهوة الفرس. مرت من أمامنا فتاة وطفاء ساحرة العينين، أخذت تحدق بي كما حدقتْ عبلة بعنترة، وهي تشد عباءتها الصوفية على رأسها وتسير الى الوراء لكي لا اغيب عن عينيها، هبت نفحة نسيم خفيفة فانفتحت العباءة وأطل نهداها الكاعبان الساحران. صاح المدرب بغضب، "هاي زينب بنت رشيد العربنجي، هاي بنت كلب، وقحة وما تستحي، منبوشة الصفحة". بقيت سهام نظراتها مغروسة في قلبي عاشق الجَمال. قررت العودة للقائها. اكتريت فرسا وطلبت الركوب وحدي، فقد اصبحتُ في نظري فارسا مغوارا يخرج للتفتيش عن حبيبته. امتطيت صهوة الفرس وأنا امني النفس بلقاء زينب، عدوت بالفرس مسافة كيلومتر وأنا اتلفت مفتشا عنها وهو يخب بي بهدوء. وفجأة ثنى عنانه نحو الطـُولـَة (الاصطبل) وانطلق كالسهم نحو بابها المفتوح، ادركت بسرعة البرق ان اسكفة الباب العليا ستطيح برأسي كالمقصلة. جذبتُ عنانه بشدة لاكبح جماحه، شاهدني صاحب الاسطبل وصاح، "سدوا باب الطـُولـَة بالعجل، سدوا الباب!"، خرج ابنه واغلق باب الاسطبل في آخر لحظة ووقف في وجه الفرس ورفع يديه ليكف جماحه، وقبل امتار قليلة من الباب المقصلة، شب الفرس على قدميه الخلفيتين وحاول ضرب وجهي برأسه مرتين واسقاطي عن صهوته. تشبثت بعرفه وبالرشمة (العنان)، وبقيت منتصبا فوق السرج. أسرع صاحب الاسطبل الى انزالي عن صهوة جواده الجموح وهو يردد "الحمد لله على السلامة، اشكان خلصنا من ابوك!". هل كان هذا فألا ينذرني بتجنب الفتيات الفاتنات والاستجابة لمغازلتهن لي؟ ومنذ حادثة زينب وإلى اليوم كلما احببت حسناء أو استجبت لتحرشها تجرح قلبي الذي لم يلملم الى اليوم شباكه من طرق الحسان، وما زال الجرح الذي خلفته في قلبي حبيبتي بغداد اللعوب، جارحة القلوب، يؤلمني، "فيا ويح قلبي، كم يحن وكم يصبو!".
--
كنيس مئير طويق في البتاويين، تصوير الاديب مازن لطيف- بغداد، 2009.
--
(التتمة في الحلقة القادمة، رقم 51)
كتبت هذه الذكريات لتنشر في مجلة "إيلاف"،
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف،
لا يجوز نشر هذه الذكريات بأية صورة كانت بدون اتفاقية وإذن خطي من المؤلف.