أ. د. شموئيل (سامي) موريه
--
سمو الامير الحسن بن طلال مع البروفيسور شموئيل موريه في مؤتمر كمبريدج
--
(إيضاح: قرر كاتب هذه السطور انهاء نشر ذكرياته لضيق الوقت ولأن احدهم نشر هذه الذكريات قبل انتهائها وبدون اذن من المؤلف بطبعة مليئة بالاخطاء المطبعية، وفيها بياض في كثير من الكلمات مما يصعب قراءتها، وقد قطع الطريق أمام اصدقاء طلبوا الاذن بالتعاقد لطبعها مع المؤلف.
و ينتهز كاتب هذه السطور، هذه الفرصة لكي يشكر جميع القراء الذين علقوا على هذه الذكريات بين مقرّظ وناقد، حتى أن بعضهم أصبح صديقا حميما للمؤلف يعتز بصداقتهم. كما يقدم جزيل الشكر الى مجلة "ايلاف" الغراء التي بفضلها شرع الكاتب في تدوين ذكرياته، وخاصة الى محررها الاستاذ عثمان العمير والى محرر زاويتي "كتاب اليوم" و"فنون" الاستاذ الشاعر عبد القادر الجنابي لتشجيعه للمؤلف على مواصلة نشر ذكرياته، كما يقدم شكره إلى الاستاذ نوري علي محرر مجلة "الاخبار" الرئيسية على نشر ذكرياته، وسيتفرغ المؤلف لنشر هذه الذكريات كاملة باللغتين الانكليزية والعبرية.
مع جزيل الشكر، ش. م.)
أنـْبئـْتُ أنّ رَسولَ اللهِ "[بَارَكَنِي]" و"[الْوَعْدُ]" عندَ رَسولِ اللهِ مأمولُ
معارضة لزهير بن أبي سُـلمى
رأيت أن انهي الآن ذكرياتي بهذا الفصل بالرغم من انني كنت عازما على تتمة الفصول السابقة عن لقاءات في مؤتمرات عقدت صيف 2009 في إنكلترا، وعن المحاضرات التي القيت فيها بعد المحاضرة التاريخية لسمو الامير الحسن بن طلال، والتي قطعت حبلها ذكرى مرور ستين عاما على بداية ترحيل يهود العراق عام 1950 إلى اسرائيل (رقم 50). ثم وصلتني نسخة من ذكرياتي التي نشرتـُها في "إيلاف" الغراء من صديقين عزيزين عن طريق برلين وطـُبعتْ في بغداد، 2010 بدون اذن مني وبدون ذكر اسم الناشر الذي تكرم بنشرها وإضاف عناوين من عنده للأقسام المختلفة من الذكريات متغافلا عن ذكر اسم المطبعة، ولما تصفحت الكتاب وجدت أن الكثير من الكلمات غير واضحة والبعض فيها بياض بدل الكلمات واسقط الناشر الكريم بعض التواريخ ومكان طبع الكتب التي نشرتها رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق، الى غير ذلك من التصرف فيها. فقررت التوقف عن الكتابة باللغة العربية ونشر جميع ذكرياتي باللغتين الانكليزية والعبرية وإتمامها مع اضافات غابت عني عندما نشرتها بسرعة باللغة العربية لضيق الوقت. بدأت بنشر هذه الذكريات عام 2006 في مجلة "ايلاف" الغراء، وقد اعيد نشرها في مجلة "الأخبار" بعد ان قمتُ بتلافي بعض الاخطاء المطبعية التي وقعتُ فيها، ضمنتها المقامة البغدادية التي اهديتها الى د. أمل بورتر.
وفي كتابي "المسرح الحي والأدب الدرامي عند العرب في القرون الوسطى" الذي نشرته باللغة الانكليزية، توصلت الى نتيجة مهمة وهي أن فن المحاكاة هو فن شعبي قديم عند العرب، منذ رقص سويداء الإيمائي بين يدي السيدة عائشة لاضحاكها، وتقليد الحاكي الحكم بن أبي العاص الذي كان يحكي مشية رسول الله ص (فالتفتَ يوما فرآه، فدعا عليه فلم يزل مخلج المشية عقوبة من الله تعالى، )، ومحاكاة لاعبي الكرج من المخنثين في المدينة في خلافة عمر بن الخطاب للفرسان في كرهم وفرهم، إلى أن اصبح لمصطلح "حكاية" معنى القصة والنادرة، فابتكر الممثلون مصطلحا جديدا وهو "الخيال" أي التمثيل الحي، فلما قدم التمثيل الظلي من الشرق الأقصى اطلق العرب عليه مصطلح "خيال الظل"، أي اللعب بالشخوص الظلية أمام مصباح بحيث ينعكس ظلها على ستارة، وأطلق على الممثل البشري مصطلحات عديدة منها "الحاكي" و"المخنث" و"المخايل" أو "الخيالي" و"اللعّاب" و"المحبّظ"، وهي تمثيليات كانت تحاكي عن طريق الحوار والحركات وتعابير الوجه، وصيغة قالبها الحوار الذي أصبح النموذج الذي قلدته المقامة العربية، ونسج على منوالها كل من ابن شهيد الاندلسي في "رسالة التوابع والزوابع" والمعري في "رسالة الغفران"، وهما، أي المقامة والرسالة الفلسفية، من الفنون التي توظف الحوار بين الشخصيات والتي تعد أوج الفنون النثرية في الأدب العربي الفصيح وفخر الادباء العرب. فالمقامة حسب النتائج التي توصلت اليها، ما هي إلا تقليد لفن الحكاية أو الخيال بمعنى المحاكاة والتمثيل، وهو فن ذو قالب خاص يعتمد على الحوار والسجع وبلاغة اللغة والبديع والزخرف اللفظي والنكات والسخرية من شخصيات متنفذة، و خاصة القضاة منهم، التي تبنى صيغة قالبها بديع الزمان الهمذاني وهو أحد عظماء اساتذة النثر العربي في القرون الوسطى الذي بلور قواعد هذا الفن في مقاماته، ثم تبعه الحريري واضاف اليها محسنات لفظية جديدة.
وفي ذات يوم من صيف سنة 1988 وأنا اقضي عطلتي الصيفية لمواصلة ابحاثي في أحدى الجامعات الأوربية أو الامريكية، بعيدا عن مشاغل الجامعة والعائلة كدأبي كل عام، وكانت هذه المرة في لندن في منزل اصدقائي في شارع برينسس بارك أفنيو رقم 73، في ضاحية جولدرز جرين اليهودية، قررت بعد عشر سنوات من البحث المضني أن لا أنام تلك الليلة حتى انهي طباعة مبيضة الكتاب بنفسي باللغة الانكليزية لارسالها الى الناشر. وعند منتصف تلك الليلة عندما سجى الليل على تلك الضاحية الهادئة طبعت السطر الاخير من الكتاب على الآلة الطابعة القديمة، وشعرت بالارتياح برغم آلام كتفي من طول الجلوس، وراودني الامل في ان يتوفر لدي الوقت الكافي أثناء هذه الزيارة لكي اكرسه لارتياد المتاحف ومشاهدة المسرحيات العديدة التي تعرضها مسارح لندن. كنت منهك القوى ولكني راض عن نفسي وعن النتائج الجديدة التي توصلت إليها والتي أثبتت أن العرب عرفوا المسرح الهزلي والترفيهي والديني الذي يستعيد فيه ممثلون بشر، دون استخدام الدمى أو الشخوص الظلية، لإحياء أحداث الماضي في الحاضر عن طريق الحوار ولهجته وعن طريق الحركات وتعابير الوجه أو ارتداء القناع وأزياء العصور التي وقعت فيها تلك الأحداث. وغرض هذه التمثيليات الهزلية كان وما زال نقد المجتمع أو الشخصيات التي يتناولها المخايلون. وبعد انتهائي من طبع المبيضة، أويت الى الفراش مغتبطا بانجاز مشروعي الذي كرست له عشر سنوات طوال لم يكن باستطاعتي التفرغ لشؤون عائلتي وحياتي الاجتماعية.
أويت الى الفراش وغمرني الشعور بالغبطة والرضى، وفجأة انفتح أمام عينيّ أفق منور ملفع بروحانية لطيفة، ثم تلاه وقع سنابك خيول مطهمة واحتشد الأفق الزاهي بجيش جرار من الفرسان تحيطهم هالات من نور بثياب بيضاء على جياد اصيلة سابحة في فضاء من الضوء القدسي الذي يملأ النفس رهبة وخشوعا. زحف صف الفرسان الأمامي الطويل متقدما نحوي، واصابتني الدهشة عندما شاهدت فوق الفارس الجليل الذي يلفه النور، ملاك يرفرف بجناحيه عليه. وفي هذا الجو الرهيب العجيب سمعت هاتفا ينادي بصوت جهوري رددته الآفاق والروابي، "أين سامي اليهودي؟ هذا محمد رسول الله يريد لقاءه!". هزّ نداء الهاتف كياني، وعقدت الدهشة والعجب لساني، وساءلت نفسي ترى من الداعي وما السبب؟ وبالكاد استطعت ان اجيب بصوت وجل وأنا أتقدم نحو الصف الأمامي قائلا، "أنا سامي اليهودي!". تقدمتُ نحو الفارس الذي شاهدت الملك يرفرف بجناحيه فوقه، وحدقت في وجهه رغبة مني في رؤية وجهه المنير. لم استطع رؤية قسمات وجهه الكريم، فقد كساه نور على نور يعشي الابصار، ولم استطع تبين ملامحه. ترجل الفارس المهيب وترجل معه باقي الفرسان وتقدم نحوي وأخذ يدي مصافحا وقال لي بصوته الهادئ المطمئن الواثق: "خدمت أمتي، فأنت في رعايتي وذمتي، لا تخشَ شيئا!"، شعرت برهبة ودهشة عظيمتين، وقلت لنفسي، ماذا فعلت كي أستحق مثل هذا الشرف العظيم، ليصافحني نبي كريم تتبع هديه البلايين من البشر؟ انتفضت واستيقظت وأنا لا اصدق ما رأته عيناي في هذه الرؤيا المباركة، بقيت مستلقيا على فراشي دون حراك، وانا في غاية الانبهار في تهويمة من السرور والانعتاق من الهموم، مشفقا من تلاشي الرؤيا كليا، ثم دبت الطمأنينة إلى نفسي حين شعرت بحرارة يده المباركة باقية في كف يدي بعد يقظتي مدة نصف ساعة أو أكثر بعد المصافحة. لم استطع النوم بقية ليلتي وأنا أردد وعده الكريم لي لكي لا انساه، "خدمت أمتي، فأنت في رعايتي وذمتي، لا تخشَ شيئا!". وكنت في فرح تشوبه حيرة من مغزى هذا الحلم العجيب!.
بدأت يومي متفائلا باليمن والخير، اخبرت صديقي الدكتور فيليب سادجروف، الذي كان قد انتقل من عمله محاضرا في جامعة ادنبرا الى جامعة مانشستر، بانتهائي من كتابة مبيضة الكتاب، فإذا به يعرض عليّ نشره في سلسلة منشورات مطبعة جامعة ادنبره التي عرضت بدورها على جامعة مدينة نيويورك المساهمة في نشر الكتاب في الولايات المتحدة أيضا. وبعد مدة قصيرة أُرسلتْ الي مسودات الطبع لتصحيحها، وصدر الكتاب في نفس اليوم في انكلترا والولايات المتحدة وقابله النقاد الكبار في مجلات المستشرقين باللغة الانكليزية بتقريظ وإطراء على هذا الجهد الكبير، وقال عنه احد المستشرقين الامريكان، ان كل فصل فيه يمكن ان يوسع الى اطروحة دكتوراة كاملة، وقال عنه البروفيسور تشارس ادوارد بوزوورث، بأن المؤلف انتهج طرقا جديدة في البحث لم يتطرق اليها باحث من قبل، ولم يُبق مخطوطة أو كتابا أو حجرا دون ان يقلبه ويتفحصه. وعندما ارسلت نسخة الى الاستاذ الكبير أنيس منصور في "دار الاهرام" بالقاهرة، قال، "واصلتُ قراءته مدة ثلاثة ايام متوالية دون انقطاع ولم استطع نزعه من يدي حتى اتممت قراءته"، ثم اقترح على أ.د. فوزي فهمي أحمد ترجمته في اكاديمية الفنون والترجمة التي يترأسها في القاهرة، وشرعت في تصحيح بروفات الترجمة العربية التي استغرقت مدة ثلاثة اشهر كاملة، معيدا كتابة الابيات الشعرية والنصوص المقتبسة من مصادرها الأصلية، وأخبرت الاستاذ أنيس منصور عن الرؤيا المباركة بعد انتهائي من طبع مخطوطة الكتاب فلم يعلق عليها. ولكنه نشر تقريظ الاستاذ د. عطية العقاد المسهب لمقالتي المختصرة لفحوى البحث الذي نشرته في مجموعة من المقالات نشرتها الجامعة العبرية تكريما للبروفيسور دافيد أيلون خوفا من أن يسطو احدهم على نتائج بحثي، ثم نشر الأستاذ د. عطية العقاد هذا التقريض في مجلة "عالم الفكر" الكويتية تحت عنوان "تأملات جديدة في أوراق قديمة للمسرح العربي، (مجلد 26، 1997). وعندما سمع صديقي استيفان حديثي عن الرؤيا المباركة، ظن انني اختلقتها، فقلت له بأنني كشرقي ولد في البلاد العربية، اؤمن بكرامات الانبياء واحترم رسالاتهم ولا تطاوعني نفسي على اختلاق احلام أو الكذب في روايتي، وأعد ذلك تطاولا عليهم، فلنا اعتقاد راسخ بحرمة الأنبياء وقداستهم.
وفي عام 1999 رشحتني الجامعة العبرية لنيل جائزة الدولة في الاستشراق في الحفل السنوي الذي يجري كل عام للمتفوقين في العلوم والفنون في يوم الاستقلال والذي يحضره كبار رجال الحكومة ويقوم رئيس الدولة ورئيس الوزراء ووزير التربية والتعليم بتقديم الجوائز والأوسمة على الفائزين. دعيت الى المنصة ووقف رجال الحكومة على اقدامهم عندما كان عريف الحفل يقرأ قرار المحكمين في جائزتي برآسة البروفيسور مناحيم ميلسون الذي شغل سابقا منصب عميد كلية الآداب في الجامعة العبرية، وقد أكـّد القرار على أهمية كتابي عن المسرح العربي وريادته العلمية في بحث المسرح العربي منذ فجر الإسلام وإلى نهاية القرون الوسطى .
وفي عام 2002 سافرت الى جامعة بون بالمانيا لاتمام تحقيق مخطوطة "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" للمؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي بضيافة البروفيسور ستيفان ويلد. وفي ذات صباح استيقظت وانا اتصبب عرقا واشعر بضعف شديد. اتصلت بصديقي البروفيسور ويلد وقلت له باني اشعر بالاعياء الشديد واريد نقلي الى المستشفى، فنصحني باستشارة طبيب واجراء فحوص لتحليل الدم. ذهبت الى طبيب الماني وبعد الفحوصات قرر ارسالي فورا الى المستشفى للاشتباه بمرض في الكبد. أخذني صديقي المخلص الى المستشفى وطلبتُ النزول في غرفة خاصة بي دون ان يشاركني فيها احد لكي لا يزعجني زوار المرضى الذين يعالجون في نفس الغرفة. قرر الاطباء استخراج عيّنة من الكبد بغرز إبرة معقوفة الرأس لاستخارج قطعة صغيرة من كبدي لفحصها، تمت العملية بدون تعقيدات تذكر. قال لي الطبيب المشرف علي، "استخرجنا عينة من الكبد لكي نتأكد فيما اذا كنت مصابا بمرض عضال من امراض الكبد حسبما أشار تحليل الدم سابقا!". شعرت بالضيق والقلق وانتابتني الهواجس وأنا وحيد غريب ومريض بمرض قيل لي إنه قد لا يمهلني اكثر من ستة اشهر حسب نتائج المواصفات التي القمتها بعض الصديقات للحاسوب معتمدات على فحص الدم. نصحتني إحداهن بان اكتب وصيتي، وناحت الأخرى، فقال زوجها ليرفه عنها، يا للأسف، انظري الى جمال شعره، فأجابته والدموع تترقرق في مآقيها، بل انظر الى جمال عينيه، يا للأسف! وفي ذلك المساء بعد العملية ارتفعت درجة حرارتي الى 38:6 مئوية الامر الذي اشار الى تفاقم خطورة وضعي الصحي. وفيما انا غارق في هواجسي تذكرت فجأة في منتصف الليل، الرؤيا المباركة، فقلت في نفسي، مبتهلا وجلا خاشعا، "يا النبي محمد الكريم، اريد علامة منك بانك لم تنسني وانك لا تزال عند وعدك لي بأنني في رعايتك وذمتك، وان لا أخشى شيئا!". حاولت النوم وأنا مخضل الجفون.
وفجأة شعرت بيد توقظني كالمعتاد لقياس درجة حرارتي، توقعت ان تكون الممرضة الالمانية الشقراء التي عينوها لرعايتي، والتي كانت توقظني كل صباح في الساعة السادسة صباحا بقولها: هير دكتور بروفيسور موريه جوتن مورغن، فتحت عيني فوجدت قرب فراشي فتى في العشرين من عمره أسود الشعر وبيده مقياس الحرارة، سألته من انت؟ اجاب أنا الممرض الذي دعيت لاستبدال الممرضة، وقد ايقظوني في منتصف الليل وقالوا لي بان الممرضة لا تستطيع الحضور اليوم لمرض ألم بها وطلبوا مني ان احل محلها. سألته ومن انت؟ قال، انا متطوع في المستشفى بدل الخدمة العسكرية، لانني مسلم من اصل جزائري ولا اريد ان يرسلوني لمحاربة اخواني من المسلمين في الشرق! سألته، وما أسمك؟ قال اسمي محمد!، كررت سؤالي غير مصدق ما سمعت، "ما اسمك؟" أجاب "اسمي محمد"، انتفضت جالسا في فراشي وقد اقشعر جسدي ووقف شعر رأسي، وصرخت: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله"، ابتسم الممرض المسلم وسأل بلهفة: هل انت مسلم؟ أجبته: لا أنا يهودي، ولكنك العلامة التي طلبتـُها من النبي محمد الكريم ليخبرني بواسطتها بانه ما زال عند وعده لي. صدمه كلامي وامتقع وجهه، فقلت له، "لا تخشى شيئا! ما انت الا العلامة التي طلبتها منه عليه الصلاة والسلام فاستجاب لي، وأنا متأكد الآن من شفائي". ثم قاس درجة حرارتي فإذا بها ويا للعجب! 36:8 درجة مئوية، وهي درجة اعتيادية للاشخاص الاصحاء، .هل حدثت المعجزة؟
وفي نهاية الاسبوع تحسن وضعي الصحي، وقرر الأطباء عودتي الى غرفتي في مسكن ضيوف جامعة بون ووعدوني بارسال نتائج فحوصات عينة الكبد والدم التي اجريت لي مدة مكوثي في المستشفى بالبريد. وبعد اسبوع من عودتي الى غرفتي، سمعت طرقا خفيفا على باب الغرفة، نظرت من عدسة الباب فإذا بالآنسة فاطمة الباكستانية الأصل والتي كانت مُشْرِفـَة مع بعض الطلبة على توزيع الرسائل وراحة الضيوف، واقفة وبيدها رسالة، استبشرتُ خيرا فقد كان المشرفون الآخرون من جنسيات أخرى. فتحت الباب وقلت لها، "الآنسة فاطمة! قفي مكانك وسأقول لك من اين أرسلتْ الرسالة وما مضمونها؟ إنها مرسلة من المستشفى وهي تتضمن نتائج الفحوصات ويقول التقرير بأنني خال من المرض العضال!". ابتسمت غير مصدقة وهي تقرأ لي الرسالة باللغة الألمانية. قالت، "كيف علمت ذلك؟"، أجبتها بثقة مطلقة، "اسمك فاطمة، وانت علامة أخرى مؤكدة من النبي الكريم"، واخبرتها بالرؤيا المباركة. فاشرق وجهها بنور عجيب كأنها نفضت عنها غبار المادية الأوربية وهمست بسرور: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسولُ الله!"، وأسرعتْ بالهروب الى غرفتها وهي تتمتم بالشهادتين! ومنذ ذلك الحين، كلما كنت في ضيق وبحاجة الى مساعدة يكون الشخص الذي يساعدني مسلما على الأغلب.
أخبرت بعض الأصدقاء المسلمين بالرؤيا، فقالوا لي، يجب ان تسلم، قلت: "لا، فان النبي الكريم ناداني قائلا ، ولو قال لي بانني مسلم، لأسلمت، كما حدث لصديقة العائلة من أصل عراقي تدعى ليلى من مدينة أكسفورد والتي جاءها النبي محمد عليه الصلاة والسلام في الحلم عند زيارتها لقبر نبي الله ابراهيم الخليل وسألها، ما هو دينك يا ليلى؟ قالت له، أنا يهودية، فقال لها، لا، انت يا ليلى مسلمة، فأسملت في اليوم التالي على يد احد أئمة الحرم الابراهيمي الشريف في الخليل."
سألني بعضهم، كيف تفسر زيارة النبي صلعم ليهودي في هذه الأيام التي احتدم فيها الصراع بين المسلمين وغير المسلمين، فأجبته، لقد كرست حياتي لخدمة الحضارة والأدب العربي، وشكرني قائلا باأنني خدمت امته، ومعظم سكان العالم اليوم يجنحون الى سلم كما جاء في القرآن الكريم، "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله".
نشرت ذكرياتي في جريدة "إيلاف" الألكترونية، وتوثقت عرى الصداقة مع الكثير من كبار الادباء والشعراء وعلى رأسهم الدكتور جبار جمال الدين، وهو علوي النسب شريفه، أثارتْ ذكرياتي والشخصيات التي وصفتها مشاعره، فارسل لي قصيدة نظمها في مدح كتاباتي، وقال لي بانه كان يبكي عند نظمه لكل بيت دون ادراك السبب. وبعدما أخبرته بالرؤيا المباركة، بطل عجبه وآمن بانه نظم القصيدة بإلهام سماوي لدُني. وعندما التقيت بسليل العترة النبوية الهاشمية الشريفة الأمير الحسن بن طلال حفظه الله، قدمت له نفسي باني استاذ الادب العربي في الجامعة العبرية ورئيس رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق، فاحتضنني وقبلني وكأنه يلاقي أخا له بعد فراق طويل. وفي هذه البادرة النبيلة رأيت أيضا علامة أخرى من كرامات النبي الكريم ورضاه. ولذلك اقدمت في ذكرياتي رقم 49، على كتابة الفقرة التالية عن سموه: " لقد كان شعوري بأنني تعرفت أخيرا على المفكر الكبير والوحيد الذي يستطيع بثقافته الواسعة وشعوره برسالته الإنسانية ومحتِده الشريف ونسبه الهاشمي وذكائه ونشاطه الدائم أن يكون ضمير أمة ولسان حالها الداعي الى استبدال الجهاد الأصغر، الجهاد بالسيف، الى الجهاد الأكبر، جهاد النفس، الذي يحتاج اليه العالم اليوم." فما أحوج العالم اليوم الى السلام بين الدول والشعوب لخير الانسانية ومسقبل الأجيال القادمة ورفاهيتها عن طريق التعاون في ميادين العلم والتكنولوجيا الحديثة للقضاء على الفقر والجهل والمرض والتعصب الديني والتصحر وتلوث البيئة.
قرأت وسمعت عن كرامات حدثت لأشخاص من ديانات مختلفة، ولم أجرؤ على تدوين حلمي إلا بعد أن وجدت تفسيرا علميا لمثل هذه الكرامات، ففي الآونة الاخيرة قام بعض العلماء الاسرائيليين بمشاركة علماء أمريكيين بابحاث حول الكرامات التي تحدث للمؤمنين بالتصوف اليهودي المعروف بـ"ـالقباله"، وفسروا هذه الكرامات بالايمان الذي يوحي الى الدماغ الانساني العجيب بأن يصحح الخلل في افراز الهرمونات التي تؤدي الى إلتهابات وتنشيط الخلايا السرطانية، وهكذا تتم المعجزة بتوازن الهرمونات، فيشفى المريض تماما من دائه العضال. وها أنا الأن أترك المجال لعلماء النفس والأطباء ومفسري الأحلام ورجال الدين لتحليل هذه الرؤيا المباركة التي رويتها بأمانة المؤمن برسالات الأنبياء وحوار الأديان والثقافات.
--
الشاعر الدكتور جبار جمال الدين
--
الحلقة الأخيرة من سلسلة يهود العراق- ذكريات وشجون.
كتبت هذه الذكريات لتنشر في مجلة "إيلاف"،
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف،
لا يجوز نشر هذه الذكريات بأية صورة كانت بدون اتفاقية وإذن خطي من المؤلف.
رابط ذو علاقة
الرؤيا د. جبار جمال الدين