لقد كتب عن ثورة 14 تموز 1958 مئات الكتب وآلاف المقالات والبحوث، ولا زال الجدل حولها مستمراً بين مؤيديها وخصومها. وهذا الأمر طبيعي في الثورات التي تجري تغييراً جوهرياً في طبيعة العلاقات الطبقية في المجتمع. فالثورة الفرنسية العظمى مثلاً، والتي اندلعت في عام 1789، لم يُحتفل بها رسمياً، لوجود خلافات حولها، إلا بعد مرور مئة عام على قيامها!
إن ثورة 14 تموز أجرت تغييراً جذرياً في النظام وعلى مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلكً تغيير طبيعة علاقات الطبقات الاجتماعية. فقد قرر هذا الحدث مصائر بعض الطبقات ومستقبلها، بحيث صار بعضها جزءاً من تراث الماضي، كالإقطاعية والكومبرادورية وكان ذلك لصالح نمو وتطور طبقات وفئات أخرى، وحررت الثورة العراق من الأحلاف العسكرية ومن التبعية للاستعمار، ولذلك فإن لهذا الحدث أنصاره وخصومه.
وسأتوقف هنا عند رأي مهم جداً يتعلق بالمشروعية التاريخية للحدث، فهناك من يعتقد بأنه كان من الممكن للعراق أن ينمو ويتطور سلمياً ولو ببطء بدون ثورة 14 تموز. ويعتقد حملة هذا الرأي بأن ذلك كان أفضل للعراق، لأن هذا الحدث أدخل العراق في دوامة الانقلابات العسكرية والعنف. وهذا الاعتقاد لا يقتصر على الخصوم وحدهم، بل أن هناك وسطاً غيرهم وبعضهم من أبنائها، الذين ساندوها وضحوا من أجل تحقيق أهدافها، يتعاطف مع هذا الرأي. والسبب في ذلك يعود إلى شكل الثورة التي بادر في تفجيرها الجيش العراقي وإلى مسيرة الثورة المتذبذبة ومآلها المخيب للآمال بنهايتها الكارثية، وإلى الحروب والمحن والكوارث التي لحقت بالعراق بعد إسقاط حكومتها غدراً، وحتى يومنا هذا. وهذا الرأي، إن صح، فمن شأنه أن ينفي المشروعية التاريخية للثورة، فمن الأهمية بمكان مناقشته.
إن مجرى تطور الأحداث والظروف التي أحاطت بالبلاد، داخلياً وإقليميا وعالمياً، لاسيما خلال العقد الأخير الذي سبق ثورة 14 تموز ليس لصالح الرأي المذكور. فالأقلية الحاكمة في العراق آنذاك، باتت تشكل حجر عثرة أمام التطورات المطلوبة موضوعيا للعراقً من النواحي السياسيةً والاقتصاديةً والاجتماعية.
وسدت تلك الأقلية السبل السلمية بوجه القوى الوطنية، التي كانت تنشد التغيير وتحمل مشروعا تقدمياً سلمياً، من أن تلعب دورها في تطوير البلد. واستخدمت تلك الأقلية العنف ضد أي تحرك جماهيري بما في ذلك التحركات المطلبية كإضرابات العمال وتمردات الفلاحين السلمية. وسأحاول هنا الإشارة باختصار إلى بعض ملامح تلك الفترة.
فعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، فإن أبرز ما يمكن ملاحظته هو تعمّق التمايز الطبقي في المجتمع خلال السنوات التي سبقت ثورة 14 تموز في كل من الريف والمدينة على حد سواء. ولكن هذا التمايز اتخذ في الريف أبعاداً أوسع، وأفرز نتائج أخطر امتدت آثارها إلى المدينة، لأن تعاظم الفقر الذي حاق بالفلاحين، دفع بمئات الألوف منهم إلى ترك ديارهم والهجرة إلى المدينة حاملين معهم إليها كل أوضار المجتمع الريفي الفقير المتخلف. وكان العامل الأول في إفقار الفلاحين هذا قد نتج عن اتساع عملية استيلاء الملاكين الكبار على الأراضي الزراعية.
وجرت العملية المذكورة نتيجة لسياسة الحكومة التي كان يهمها تطمين مصالح الإقطاعيين الذين باتوا أحد أعمدة النظام الأساسية. فشرّعت الحكومة الكثير من التشريعات لتحقيق تلك السياسة، حتى بلغ التفاوت ما بين ملكية الملاكين للأرض الزراعية وملكية الفلاحين، حداً لا مثيل له في أي بلد في العالم. إن 3% فقط من مجموع مالكي الأراضي الزراعية في العراق كانوا يملكون ثلثي الأراضي الزراعية في عام 1958. . وكان هناك ثمانية ملاكين عراقيين فقط بحوزة كل واحد منهم أكثر من مائة ألف (100000) دونماً.
أما القطاع الصناعي فقد حُرم من أموال مجلس الاعمار بحجج مختلفة. وظلت الشركات الاحتكارية الأجنبية تحتكر معظم تجارة التصدير والاستيراد حتى ثورة 14 تموز بالتعاون مع بعض التجار المحليين الكبار.
لقد شهدت البلاد في خمسينات القرن الماضي نهوضاً وطنياً عاماً عكس نفسه في الاستعداد الجماهيري لخوض النضالات المطلبية والسياسية، والنزوع القوي نحو الاستقلال الناجز للعراق ورفض جميع الاتفاقيات المكبًّلة لحريته مع الدول الاستعمارية. وكانت الظروف الدولية مشجعة لذلك، وتمثل ذلك في انتصار الثورة الصينية وحصول الهند واندونيسيا والعديد من الدول الآسيوية الأخرى على استقلالها، والبدء عملياً بتصفية الإرث الاستعماري وتحرير المستعمرات نتيجة لنضال شعوبها. وعلى الصعيد الإقليمي، نالت سوريا ولبنان استقلالهما، وأممت إيران نفطها، وسقط النظام الملكي الموالي للاستعمار في مصر، وتصاعدت حركة السلام العالمية، وظهرت كتلة عدم الانحياز. في مثل هذه الظروف كانت الأقلية الحاكمة في العراق تسبح ضد التيار، وتسعى بكل قواها إلى ربط العراق بالأحلاف العسكرية الاستعمارية. وقد حققت الفئة الحاكمة ذلك بانضمامها إلى حلف بغداد، بعد بطشها بالشعب وقواه الوطنية. وبذلك فضحت نفسها أكثر فأكثر باعتبارها فئة موالية للاستعمار.
في صيف عام 1954 أصبح نوري السعيد رئيساً للوزراء من جديد. وقد أصدر من 22 آب إلى 12 تشرين الأول جملة من المراسيم التعسفية التي اشتهرت باسم (المراسيم السعيدية). كانت هذه المراسيم معادية لأبسط الحقوق الديمقراطية ومخالفة لدستور البلاد. وكان باكورة هذه المراسيم مرسوم حل المجلس النيابي، الذي كان يضم 11 نائباً معارضاً لم يتحملهم نوري السعيد وكان شرطه الأول لتشكيل الحكومة هو حل المجلس المذكور! ولم يحظر نوري السعيد نشاط الأحزاب المجازة فحسب، بل حلّ جميع الجمعيات المجازة بمختلف أنواعها وأغراضها أيضاً، وألغى امتيازات جميع الصحف. وأجاز فقط ثلاث صحف موالية للحكومة. وألزم نوري السعيد السجناء الشيوعيين الذين ينهون مدة محكومياتهم بإعطاء براءة من الشيوعية والتعهد بخدمة الملك وإلا ستسقط عنهم الجنسية العراقية! وأقدمت حكومته فعلا على إسقاط الجنسية عن عدد من الشيوعيين والديمقراطيين.
وبادرت حكومة نوري السعيد إلى شن حملة اعتقالات واسعة في صفوف القوى الوطنية. وفصلت عدداً كبيراً من أساتذة الجامعات والمدرسين والمعلمين والموظفين والطلبة ذوي الميول الوطنية والديمقراطية وحجزتهم في معسكرات تحت عنوان أداء الخدمة العسكرية. وباتت (البراءة) من الشيوعية مطلوبة للقبول في الكليات حتى ولو كان المرء قومياً! وأضحى جلياً بأن كل هذه الإجراءات هي مقدمة وتمهيد لربط العراق بالأحلاف العسكرية الامبريالية.
إن سياسة نوري السعيد قد عزلت العراق عن شقيقاته العربيات، وراح يتآمر ضدها على المكشوف، مما وسع السخط وعمّقه ضد الحكم الرجعي. فعندما حصل العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في 29 تشرين الثاني 1956، تأججت المشاعر الوطنية والقومية لدى الشعب العراقي. ولكن الحكم الرجعي واصل مواقفه المنافية لأبسط مستلزمات التضامن القومي. فاندلعت انتفاضة تشرين الثاني 1956 لنصرة مصر وكانت حركة التحرر الوطني العربية في أوج نهوضها. وخرجت الجماهير الشعبية العراقية في مظاهرات احتجاجية عارمة على العدوان ولنصرة مصر الشقيقة، وهتفت بسقوط حكومة نوري السعيد وحلف بغداد. وجوبهت المظاهرات من قبل حكومة نوري السعيد بالقمع العنيف وذلك بإعلان الأحكام العرفية وتعطيل الدراسة في الكليات والمدارس. وسقط الكثير من الضحايا، وتعرض حوالي عشرة آلاف طالب إلى الفصل والإبعاد والسجن، وأرسلت المحاكم العسكرية المئات من المناضلين إلى السجون. وكان كاتب هذه السطور واثنان من أخوته من ضحايا تلك المحاكم.
كانت الأحزاب السياسية حتى انتفاضة تشرين 1956 عازمة على إجراء التغيير في الحكم سلميا. وقد نصت وثيقة الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العراقي، الذي يمثل الجناح اليساري في الحركة الوطنية، الصادرة في أيلول 1956 على اعتبار المعركة "ذات طابع سلمي غالب". وكانت هذه الانتفاضة ثالث انتفاضة خلال ثمانية أعوام، ولم تتمكن من تحقيق تغيير في طبيعة الحكم.
فقد قمعت الحكومة بقسوة شديدة وبالحديد والنار جميع المبادرات النضالية. وتهجم نوري السعيد في خطابه رداً على انتفاضة تشرين بعنف وصلافة. وقد ختم خطابه مردداً باستهتار الأهزوجة لمعروفة (دار السيد مأمونة)، ليستفز المشاعر الوطنية والقومية ويدفع جميع القوى الوطنية إلى اليأس من إمكانية إجراء التغيير سلمياً. وهكذا لجأت الأحزاب السياسية إلى الجيش فوجدته جاهزاً للعمل.
وهكذا نرى أن نظام الحكم الملكي بزعامة نوري السعيد لم يقف عائقاً أمام تطور البلد فحسب، بل وقد سد كل السبل أمام الشعب وقواه الوطنية والتقدمية من أن تلعب دورها في تقدمه بالطرق السلمية. ومن هنا اكتسب سقوط النظام الرجعي، الموالي للاستعمار والإقطاع، وبالعنف، مشروعيته التاريخية.
ولم يكن ما حدث في 14 تموز انقلاباً عسكرياً كما يسميه خصومه بهدف انتزاع مشروعية الثورة التاريخية، فالانقلاب العسكري يقتصر على تغيير النخبة الحاكمة بالعنف عسكرياً، أو التهديد به، وتبديلها بأخرى. ولا تهدف إجراءات الانقلاب العسكري إلى تغيير طبيعة العلاقات الطبقية في المجتمع، أما دور الجماهير فيه فيكون صامتاً ومتفرجاً عموماً. بعكس الثورة التي تستهدف تغيير جذري في العلاقات الطبقية في المجتمع وتلعب أوساط واسعة من الجماهير في صنعها وتقرير نجاحها، وهذا ما حصل في ثورة 14 تموز.
ويعلق المؤرخ المشهور حنا بطاطو على دور الجماهير في كتابه الثالث (العراق:الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية ص 115) بالقول " كان لخروج مئة ألف شخص إلى الشوارع، والوحشية التي عبر فيها بعضهم ـ على الأقل ـ عن مشاعره، وزن كبير في تحديد النتيجة التاريخية لذلك اليوم المصيري... فقد عرقلت هذه الحركة أية أعمال مضادة معادية ممكنة لسدها الشوارع والجسور، لا في بغداد فحسب بل في مدن أخرى أيضاً. والأهم من هذا هو أنه كان للجماهير، بفضل عنفها، تأثير نفسي هائل، إذ إنها زرعت الرعب في قلوب مؤيدي الملكية وأسهمت في شل إرادتهم، وأعطت الانقلاب طابع العمل الذي لا سبيل إلى مقاومته، وهو ما شكل الحصن الحصين له".
وهكذا أسدل الستار على نظام الحكم الملكي الموالي للاستعمار والإقطاع، والذي عانى الشعب منه كثيراً واستلمت السلطة المعارضة متمثلة باللجنة العليا للضباط الأحرار وقادة من جبهة الاتحاد الوطني. وكان ذلك، فضلاً عن مساهمة الجماهير الفعالة في مساندة الثورة، بمثابة دلائل مهمة على أن الحدث ثورة، وهذه أولى حلقاتها. وتوالت الحلقات الأخرى سريعاً في السنة الأولى من الثورة. فقد ألغيت أغلب المراسيم التي أصدرها نوري السعيد. وأطلق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين. كما صدر قانون لتطهير الجهاز الحكومي وآخر لتطهير الجهاز القضائي. وشُرّع قانون الإصلاح الزراعي الذي حرر ملايين الفلاحين من سطوة الإقطاعيين وكبار الملاكين. وشاهد الفلاح بأم عينه واقتنع بأن سطوة الإقطاعيين والأثرياء التي ورثها أباً عن جد لم تكن قدراً من الله ينبغي الاستسلام له. فغدا مرفوع الرأس وأخذ يميّز بين أعدائه وأصدقائه.
وأطلقت الثورة إلى حدود معينة الحريات العامة والنشاطات الحزبية، فأمكن خلال فترة قصيرة جذب أعداد غفيرة، من شغيلة المدن والأرياف، نساء ورجالا، إلى النشاط السياسي. وتم تنظيمها في النقابات العمالية والجمعيات الفلاحية والاتحادات الطلابية، وكذلك في مختلف المنظمات الديمقراطية والمهنية. وامتد هذا النشاط السياسي إلى كل زاوية من زوايا البلاد. وفي هذه الفترة تواصلت المظاهرات والاجتماعات للمطالبة بتحقيق المطالب الشعبية المهمة التي لم تكن قد تحققت حتى ذلك الحين. وتولت كوادر ديمقراطية ويسارية مهمة الإشراف على الإذاعة والصحافة.
واستجابة لمطالب الجماهير، ورداً على حملات ناصر الدعائية، أقدمت حكومة عبد الكريم قاسم على فك ارتباط العراق بحلف بغداد في 24 آذار 1959، وإلغاء الاتفاقية الخاصة مع بريطانيا، واتفاقية الأمن المتبادل مع أمريكا مع ملحقاتها الاقتصادية والعسكرية. وأعلنت الثورة الخروج من منطقة الإسترليني. وعقدت الحكومة مع الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الأخرى مجموعة من الاتفاقيات الاقتصادية والفنية والتجارية تساعد على نهوض البلاد الصناعي والزراعي. وبتحقيق الاستقلال الناجز، وقضت الثورة على فئة الكومبرادور، وهي الفئة الاجتماعية التي ارتبطت مصالحها بمصالح الاستعمار.
وأصدرت حكومة الثورة قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، وهو أول قانون مدني ينظم العلاقات العائلية في العراق بعد أن كانت تخضع لشرائع وأعراف مختلف الطوائف والأديان المتواجدة في العراق. كما صدر القانون رقم 80 لسنة 1961 الذي حرر 5, 99% من منطقة الامتياز الذي كان يشمل كل الأراضي العراقية من سيطرة شركات النفط الاحتكارية.
ولكن بعد السنة الأولى من الثورة تراجعت قيادتها أمام ضغط القوى الرجعية وبما يشبه الاستسلام لها، ومن ثم تحولت إلى حكم عسكري فردي. لقد وفر هذا الحكم، بسياسته المنافية لحقوق الشعب الديمقراطية وانعزاله عن جميع الأحزاب والقوى السياسية الحريصة على الاستقلال الوطني والنهج الديمقراطي، الأجواء الملائمة للنشاط التآمري والرجعي. فتزايدت صلافة القوى الرجعية وتجاوزاتها على حقوق الجماهير التي حُرمت من وسائلها لتنظيم نفسها للدفاع عن حقوقها، وبالتالي الدفاع عن الحكم. وجاءت الحرب التي شنتها الحكومة ضد الشعب الكردي، لتُضعف كثيراً من قدراتها العسكرية، وتُزيد من أعبائها المالية، في وقت كان الحكم يُعاني من ضغط شركات النفط وسياساتها في خفض الإنتاج، مُستهدفة من ذلك إشغال الحكم عما كان يُدبّر له. وزادت مشكلة الكويت ومُطالبة عبد الكريم قاسم بها، من التعقيدات السياسية التي كان يواجهها. وهكذا وفر الحكم الظروف الملائمة لإسقاطه.
فهل سقطت ثورة 14 بسقوط حكم قاسم العسكري الفردي؟ أعتقد بأنها لم تسقط،، بمعنى معين، لأنها لم تكن، في التحليل الأخير، انقلاباً عسكرياً. فبقيت روحها حية في قلوب وعقول وضمائر العراقيين الذين واصلوا ويواصلون كفاحهم ببسالة من أجل تحقيق هدفها الأساسي، ألا وهو إقامة نظام وطني ديمقراطي مؤسساتي يسعى لتحقق العدالة الاجتماعية ويلبي، مطامح الشعب الكردي القومية، وكذلك حقوق القوميات وكافة مكونات الشعب العراقي.