فيما أُثير أخيرًا عن الديمقراطية وعجزها عن تقديم النموذج الأمثل فى بلادنا، (ليست هى السبيل بشكل مطلق، لكنه مرهون بالمستوى الذهنى والعقلى والفكرى والرقى الإنسانى السائد فى المجتمع، وهى تصحح نفسها فى حالة من النضج الاجتماعى، الذى لم نصل إليه فى مجتمعاتنا العربية)، وأتفق مع ما قاله الأستاذ يوسف زيدان، إذا كان يقصد الديمقراطية المنقوصة أو المشوهة، فما تؤول وتعود إليه اختياراتنا تحت مظلة هذه الديمقراطية هو نتاج سيئ ومبتور على كل المستويات، بما لنا من نصيب وافر من الفقر والجهل والعنصرية والاتجاهات الدينية المتطرفة والمتشددة، فأصبحنا فريسة ونهبًا لتيارات الإسلام السياسى أو المال السياسى أو الحكم المطلق، وكل منها أسوأ من الآخر، وهو رأى يتفق مع رأى أفلاطون منذ آلاف السنين: «إنها أسوأ الأنظمة بعد الديكتاتورية، وتمنح الرعاع نصيبًا وحقًّا فى منظومة الديمقراطية، وهو أحد أهم أسباب انحدار الشأن العام»، وإذا ما حلت الكوارث والمصائب نتيجة ديمقراطية العوام، فإن الملجأ والخلاص فى حاكم قوى يعيد المجتمع إلى صوابه، إلا أن الخوف أن يتحول إلى ديكتاتور مستبد متسلط، وهذا هو الأغلب الأعم.
والديمقراطية فى حقيقتها اختيار الأغلبية، والصندوق، وإن كان ترجمة حقيقية للديمقراطية، فإنه ليس كافيًا لاكتمال الممارسة، فالحرية ركيزة أساسية، والتنوع وقبول الرأى الآخر وتداول السلطة بطريق سلمية أساس لاستقرار المجتمع، وإلا تحولت إلى شكل مسرحى هزلى، لا يمارس أحد أطرافه مهماته أو مسؤولياته، وهذا ما دفع أفلاطون إلى رأيه فى فشل الديمقراطية الأثينية، (سعى الأفراد لتحقيق رغباتهم الخاصة والصراع بدلًا من السعى لتحقيق الصالح العام)، وادّعى أفلاطون (أن القيادة الرشيدة كانت مستحيلة فى الديمقراطية الأثينية)، وأزيده أيضًا: ومستحيلة فى بلاد الديمقراطيات المنقوصة والمشوهة بقصد أو بدون، ولو ظهر أفلاطون وسط الديمقراطيات العالمية الآن لغيّر رأيه فى بلاد، واستمر على رأيه فى بلادنا.
إلا أن البديل ليس كما يزعم أصحاب الإسلام السياسى عن الديمقراطية المنقوصة أو المشلولة فى «أهل الحل والعقد» أو أولى الأمر أو أهل الاختيار أو أهل الاجتهاد أو الشورى أو الشوكة أو الرأى، وهم أهل الخبرة التى يستعين بها الحاكم أو الخليفة فى تسيير أمور الرعية، ويرجع إليهم فى أمور الدين والدنيا، ويختارون الخليفة ويخلعونه، وفى هذا يقول «ابن تيمية»: «لا تنعقد الإمامة إلا بموافقة أهل الشوكة»، وعن إمام الإخوان «حسن البنا»، فهو لا يرى أهمية فى إشراك الأمة كلها فى كل نازلة من النوازل، ويرى أن الإسلام لم يشترط استبانة رأى أفراده جميعًا فى كل مسألة، والمعبر عنه حديثًا بـ«الاستفتاء العام»، لكنه اكتفى بـ«أهل الحل والعقد»، وقد مارس مكتب إرشاد الإخوان المسلمين هذا النهج فى اختيار المرشد ومجلس شورى الجماعة وترشيحات الرئاسة.
واختيار أهل الحل والعقد ليس بأقل سوءًا من الاختيار الديمقراطى المنقوص والمشبوه، فما الشروط الواجبة فى أهل الحل والعقد، وكيف يتم اختيارهم؟. وضع الفقهاء شروطًا فى مجملها أولًا: العدالة الجامعة «الإسلام والعقل والبلوغ وعدم الفسق واكتمال المروءة»- وهذا ليس حقًّا لغير المسلمين- ثانيًا: العلم، ثالثًا: الرأى والحكمة، رابعًا: أن يكون من ذوى الشوكة الذين يتبعهم الناس، خامسًا: الإخلاص، إلا أن أحدًا منهم لم يوضح لنا كيفية اختيار أهل الحل والعقد، وزعموا أنه منهج أسس له الخلفاء، وأكاد أجزم أنه لم يكن حاضرًا، ولم يكن فى ذهنهم (أهل حل أو أهل عقد)، فما كانت صحبة أبى بكر لعمر، واتخاذه وزيرًا إلا لقربه وصلته وتأييده فى سقيفة بنى ساعدة، فكان يستشيره، إلا أنه صاحب القرار والأمر والنهى، كما حدث فى حروب مانعى الزكاة «الردة»، وكان لعمر رأى مخالف للخليفة، وكان على صواب، إلا أنه انقاد إلى رأى ولى الأمر وحارب إلى جواره، ولم يكن «تعيين» عمر ستة من الصحابة «جماعة» إلا لمهمة محددة تنتهى وتنفض بعد اختيارهم خليفة منهم، (فلا كانوا أهل حل ولا عقد). وفيما استقر عليه الفقهاء فى الاختيار بعد التعيين
«الحضور»، فإن مَن يتيسر حضوره منهم تنعقد البيعة بهم، (كما حدث فى اختيار على بن أبى طالب خليفة بعد مقتل عثمان، فمَن كان حاضرًا من الناس كان من أهل الحل والعقد).
ولست أتصور أن تُدار أمة بهذا الشكل وبهذا المنطق إلا إذا كانت قبيلة أو عشيرة فى بادية من البوادى، فليس فى تاريخنا الإسلامى ما يشير إلى طريقة منظمة لاختيار أهل الحل والعقد، فلم يظهر لها شكل منظم أو مهام محددة أو عرفنا لها شكلًا أو لونًا أو طعمًا فى يوم من الأيام، ولم نسمع بها فى الخلافة الأموية أو العباسية أو ما قبلهما، ولو كانت حاضرة يومًا فى تاريخنا لما قُتل الآلاف فى معركتى الجمل وصفين، ولما ضُربت الكعبة بالمنجنيق، ولما قُتل الحسين وآل البيت فى كربلاء، وما أُبيحت نساء المسلمين فى الحَرّة، وما أُزهقت أرواح المظلومين تحت سيوف داعش وطالبان. للحديث بقية، الأسبوع القادم.. «الدولة المدنية لا تزال هى الحل».
"المصري اليوم"