دراسات ديمقراطية

د. لبيب سلطان

بحث في فشل النظم الجهورية ونجاح الملكية العربية

06/02/2023 07:51
يتكون العالم العربي ،الممتد من المحيط  الى الخليج ، من  17 دولة منها 9 دول انظمتها جمهورية (العراق، سوريا، لبنان، اليمن،  مصر، السودان، تونس، ليبيا والجزائر) ويمكن القول ان جميعها فاشلة، و 8 دول بأنظمة ملكية ( عمان، قطر، البحرين، الامارات، الكويت ، السعودية ، الاردن، والمغرب) وهذه يمكن الادعاء انها اما انظمة ناجحة او شبه ناجحة على اقل تقدير. والفشل والنجاح لكل منهما يمكن اثباته من خلال المعطيات الكثيرة المتوفرة والمتراكمة وعلى مدى نصف قرن الماضي. قبل خمسين عاما كانت الدول الجمهورية اليوم تتبؤأ مركز الصدارة  في الاقتصاد والتعليم والثقافة والفن والتطور الحضري عموما، على مستوى منطقة الشرق الاوسط اوحتى مع جنوب وشرق اسيا، واليوم تراجعت الى اخر القائمة الاقليمية والدولية وعلى كافة المستويات، بينما تقدمت الملكيات خلال نفس الفترة، وموضوع البحث تشخيص ومعرفة الاسباب لكل منهما.
عموما تكونت الانظمة العربية، سواء الجمهورية او الملكية ،جميعها ، على مدى القرن العشرين وعلى يد الفرنسيين والانكليز بعد  دخولهم للمنطقة وسيطرتهم عليها بعد هزيمة وانحلال الدولة العثمانية  عام 1918 بعد الحرب العالمية الاولى. اقام الفرنسيون نظما جمهورية بعد إنهاء الانتداب والاستقلال في  الاربعينات في سوريا ولبنان وتونس واقام البريطانيون ملكيات في العراق ومصر والاردن وليبيا وبعدها في دول الخليج ، ولم تكن السعودية واليمن في عدادها كونها اساسا لم يتم احتلالها من الانكليز او الفرنسيين.
وموضوع البحث في هذه المقالة هو تحليل ومعرفة وتشخيص اسباب استقرار ونمو الدول العربية الملكية اليوم بينما تعاني شقيقاتها الجمهورية من تراجع عام وشامل وعدم استقرار وانظمة ديكتاتورية وشبه فوضى في ادارة الحكم والمجتمع والاقتصاد ، بعد ان كانت دولا معتبرة قبل نصف قرن في مراحل متقدمة جدا عند نيل استقلالها مقارنة بالملكيات التي كانت لحد فترة قريبة اغلبها محميات صغيرة، قليلة السكان، وأغلبهم بدو، واقتصادها وحضارتها في الغالب رعوية بدوية، بينما كانت دولا مثل مصر وسوريا والعراق تمثل الثقل الحضاري والسكاني والاقتصادي والثقافي والسياسي في العالم العربي، وهي اليوم دولا فاشلة في كل المقاييس . كيف ولماذا انقلبت الاية، وتحول الوزن الى نظم الملكيات، التي لم تكن تذكر في اي وزن  قبل نصف قرن وحتى سماها العرب الشماليون مثلا امارات او ملكيات بدوية ربما تحتاج اربعمائة عام للتحضر ( هذا ماقاله لنا نصا استاذنا الوطني كمال النعيمي  في الثانوية المركزية في بغداد عندما منعنا من الخروج من الصف للاحتفال باعلان بريطانيا عن استقلال  الامارات العربية عام 1968 قائلا انه لم يسمع لا بأبوظبي ولا رأس الخيمة ولا عجمان ، فهذه عشائر مقيمة في جزرا وصحارى قاحلة على الاطراف السعودية ، وسيستغرق الأمر  400 سنة لتتحضر اولا وبعدها ربما تصبح دولا، فلا احتفال بدولة لا توجد ، ولاخروج من الصف). وبعد اربعين سنة تحقق ذلك للامارت ورجع العراق بعد 40 عاما ليكون كالامارات عام 1968، بأنقسامات عشائرية وطائفية.
لنأخذ نماذج خمسة من النظم الجمهورية ( العراق، سوريا، مصر ، ليبيا، اليمن  ، واختياري لها دون تونس ولبنان انه لم يحدث في الأخيرة انقلاب عسكري غير نظمها من ملكي الى جمهوري ). اضافة ان في القائمة بلدان غنيان بالبترول ، هما العراق وليبيا. ونأخذ خمسة نماذج من الدول الملكية ( المغرب ، الاردن ، الكويت ، عمان، الامارات ) واثنان منها لاتمتلك اية موارد بترولية، هما المغرب والاردن . ان هذا الاختيار ينفعنا لاحقا لتوضيح بعض النتائج والحقائق حول اهمية  الادارة الناجحة سواء بتواجد البترول او بدونه.
ايضا تجب ملاحظة ان اربعة من الدول الجمهورية الخمسة (  هي العراق،مصر، ليبيا واليمن )  كانت في النصف الاول من القرن العشرين ملكية  وتحولت الى جمهوريات بعد انقلابات  عسكرية تحت ادعاء القضاء على النظم الملكية الرجعية لتعبئة طاقات الامة لمواجهة الاستعمار والصهيونية ( اما في سوريا فرغم كونها حمهورية منذ التأسيس الا انها كانت ذات الباع ألأول في الانقلابات تحت نفس الشعارات ومنها اضفتها للقائمة) . ايضا لاحظ ان قائمة النظم الملكية تأسست ملكية وبقيت ملكية دون انقلابات . ان هذا يساعدنا الى اجراء مقارنات في ظروف متناضرة، اي لدينا نماذج من دول بترولية واخرى بدون موارد من كلا الصنفين، كما ولدينا نماذج من نظم كانت ملكية عند التأسيس وتحولت للجمهورية، واخرى بقيت ملكية منذ التأسيس مثل الاردن والمغرب . الملاحظ ان جميع الدول ( بترولية او غير بترولية ) فشلت في الاولى ، ولكن جميع الدول ، أي الملكية، نجحت في الثانية ، ومنه يمكن الخروج  باستنتاج: "أن  مسألة النجاح أو الفشل لاتتعلق في توفرموارد البترول للتنمية والتطوير ، كما يبدو من الوهلة الاولى ، بل لخلل في نظم الحكم والادارة في النظم الجمهورية ".
ومايثبت ذلك، انه لو تم  ارجاع تطور دولا مثل الامارات وعمان والكويت لتوفر الثروة والموارد، فهناك المغرب والاردن ايضا تطورت بشكل مضطرد ومستمر ودائم ،ولكن بدون موارد البترول ، تطور ابطأ ولكنه مستمر ودائم. ومن مقارنة دولا بترولية مثل ليبيا والعراق ، واخرى غير بترولية مثل سوريا ومصر واليمن ، وجميعها فاشلة ، يمكن التأسيس على صواب هذا  الاستنتاج. ومن هذه القراءة الاولى يمكن التحول للتركيز اكثر على اشكالية فشل نظم الحكم والخلل في مفهوم الدولة والحكومة  سببا جذري ادى لتخلف الجمهوريات وتراجعها امام نجاح الملكيات.
من الناحية النظرية يمكن ارجاع النظم الملكية الى النموذج البريطاني بعد عام 1688 ، والنظم الجمهورية الى النموذج الفرنسي الذي قام بعد ثورة عام 1789 على الملكية (لابد من ذكر ان الثورة قامت برفض لويس الرابع عشر التقيد بدستور كالبريطاني ، معلنا عبارته المشهورة     "Je  Suis L’etat "    أي الدولة هي أنا ".
لابد من الاشارة  الاختلاف الوحيد بينهما هو ان السلطة العليا في الدولة يمثلها في الاول ملك متوج ، وفي الثانية رئيس منتخب من الشعب .  ورغم ذلك، فالشبه بينهما ان كلاهما يمثل الدولة بسلطاتها واجهزتها، وبقراءة أوسع لأوجه الشبه بينهما فيما يتعلق بشكل وتنظيم الدولة والحكم وأدارة المجتمع ، سنجد  انها تكاد تكون واحدة ويمكن تلخيصها في ثلاثة مبادئ اساسية: 1.وطنية المؤسسات وتقيد الحكم بدستور ، فلا وجود لحكم مطلق لملك او رئيس ، بل بصلاحيات واسس محددة معرفة في  الدستور وأهمها الحفاظ على السيادة والمصالح الوطنية كأهم مهام الدولة ، وعدم التمييزبين مواطن واخر في عمل اجهزة الدولة وتعاملهم متساويا كمواطنين، وان الملك او الرئيس يمثل مصالح ووطنية الدولة ووطنية واجهزتها وسيادتها ( واركز هنا على هذه العبارة الهامة ، وطنية المؤسسات اي ابعادها عن التحزب، وسيادة الدولة وقارن ذلك برؤساء حزبوا المؤسسات ، وجل همهم الحفاظ على الكرسي والسلطة مقابل التضحية بالسيادة الوطنية كما فعل صدام مثلا عام 1975 مع شاه ايران وتنازل عن نصف شط العرب او مافعله الاسد في سوريا اليوم). 
2.فصل اجهزة الدولة عن سيطرة الحكومة والاحزاب والأنتماء الايديولوجي لتفعيل مبدأ مساواة المواطنين ووطنية اجهزة الدولة ( وهو اهم مبدأ ، أي الفصل ، وتم تجاهله في جميع الانظمة الجمهورية في الوطن العربي واليه يرجع السبب الاساس في فشلها).
3.ضمان شكل الحكم الديمقراطي والممارسة الديمقراطية من قبل الدولة الممثلة بالملك او الرئيس المنتخب على ان تتم وفق ممارسة المواطنين لحقوقهم وحرياتهم ، المعرفة في الدستور، وفي الانتخابات لممثليهم في البرلمان وعلى اساسها تشكيل الحكومات ويتم الرجوع للدولة ، أي سلطات الملك او الرئيس عند خرقها لأقالة الحكومات عند طلب اغلبية الشعب اجراء اصلاحات لاتقيمها الحكومات، و اجراء انتخابات جديدة لتشكيل حكومة قادرة على تلبية مطالب الشعب، فوطنية الدولة فوق الاحزاب والحكومات التي تشكلها ، وهي بيد الملك او الرئيس المنتخب.
ان الدول الديمقراطية المعاصرة في العالم اليوم تأخذ بهذا الشكل او ذاك ،الملكي أو الجمهوري,  ولكن كلاهما يلتزم بهذه المبادئ الثلاثة في الحكم، وأي خرق لأحد هذه المبادئ يؤدي لنظم حكم ديكتاتورية او شبه ديكتاتورية، ومنها يفشل النظام في ادارة شؤون المجتمع، ومنها فشل الدول، وسيتوضح ذلك من خلال طرح الوقائع الساندة لتحليل النظم الجمهورية العربية، كما ويصح ذلك ايضا على نظم ودولا فاشلة عديدة في العالم هي ليست موضوع بحثنا الان.
عودا الى موضوعنا الاساس في البحث عن سبب فشل النظم الجمهورية ونجاح الملكية في عالمنا العربي ، دعونا نفحص الوقائع المرتبطة في الفشل في تطبيق هذه المبادئ الثلاثة فيها.
ولن اخوض كثيرا في اسباب وتبريرات اسقاط النظم الملكية في مصر والعراق وليبيا واليمن ، حيث تمت ،كما نعرف، على شكل انقلابات عسكرية ، سميت ولازالت لليوم تدعى ثورات ، قادها ضباطا، سموا انفسهم احرارا ، لاقامة نظما اكثر تقدمية واستقلالا عن الغرب،  وقوة ومقدرة على مجابهة الصهيونية والاستعمار، وربما هو فعلا مادفع بهؤلاء الضباط ومعهم قوى قومية ويسارية عربية ساندتهم ربما قبل ، ولكن اكيدا، بعد انقلاباتهم .  والسؤال هنا هو لتشخيص اسباب فشلهم ، فالحصاد اتى بعكسه ،بالكساد ، واصبحت دولا  ضعيفة ، تراجعت على كل المقاييس، بل وحتى هي اليوم متشرذمة طائفيا و جهويا( عدا مصر فهي ضعيفة ولكنها ليست متشرذمة ) ،تتصارع فيها الميليشيات ودولا اقليمية  طامعة للسيطرة عليها مثلما نراه في  العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان، بينما بقيت الدول الملكية محافظة على سيادتها وتنعم بأستقرار إجتماعي. بقيت تتطورببطء ولكن باستمرار، مما يذكر بقصة سباق الارنب اوالثور الهائج مع سلحفاة صغيرة ، كما ورد في ادب دمنة وكليلة. 
هناك دروسا هامة لمجتمعاتنا لابد من استخلاصها ومراجعة ماحدث ومالحل  للمستقبل ، فقد حان وقت المكاشفة والمراجعة بعيدا عن الشعارات والمقولات المؤدلجة ، لمعرفة اسس الخلل،  ولفهم شكل ومحتوى الأصلاح القادم، إن كان له ان يحدث. 
ساتناول تطبيق المبادئ الثلاثة أعلاه على كلتا المنظومتين الجمهورية والملكية العربية،. واستعين بالوقائع لفهم ماحدث واين الخلل الذي ساطرحه  في ثلاثة نقاط ايضا: الاولى: سلطوية الرؤساء ووطنية الملوك العرب ( قراءة في تطبيق المبدأ الأول أعلاه) المقصود بسلطوية الرؤساء هو وضعهم السلطة والكرسي فوق كل شيئ، بما فيها وضعها فوق السيادة الوطنية ، ووطنية الملوك هي وضعهم مصالح دولهم اولا في خضم الصراعات الدولية. خذ مثلا ان ملوك دولا فقيرة ،أي غير بترولية، مثل الاردن والمغرب، اقاموا التحالفات شرقا وغربا واقليميا، لجلب الثروات والاستثمار  لبلدانهم، فبلدانهم هي مساكنهم، احيانا تراهم حرامية يسرقون من الخارج وجلبه لمنازلهم ،أي اوطانهم،  واخرى يصبحون نصابين وواضعي افخاخ ومستغلي فرص لجلب الثروة لها ، كما فعلها مثلا الملك حسين مع صدام في الحرب العراقية الايرانية، او تحالف الحسن الثاني مع القذافي في مشروع المغرب الكبير في الثمانينات ، كلاهما امتص المليارات ، وفعلا مثلهما مع روسيا واميركا، ومع السعودية واوربا . قارن ذلك بتبديد الثروات الداخلية في الخارج على يد صدام الذي مول جاك شيراك عمدة لباريس، والقذافي للجيش الايرلندي الحر. كذلك اثبتت الوقائع  الرؤساء العربان همهم الحفاظ على الكرسي على الوطن والسيادة عندما يصبحان عائقا امام الكرسي. مثلا اتفاق صدام في صفوان مع الاميركان  عام 1991 بعد فشل غزوه للكويت بحضر الطيران فوق خط 33، ومثله الاسد بلاشك ، فبدلا من تقديم تنازل لشعبه والقيام باصلاحات عام 2011 لجأ الى اية الله  وبوتين لانقاذ كرسيه. 
بلاشك كلا الانظمة الجمهورية والملكية العربية سلطوية فيما يخص الحفاظ على الكرسي والسلطة، ولكلاهما اجهزة امن سافلة وقذرة ، ولكن الفرق ان الملوك يتجاوبون عادة مع شعوبهم عند خروجها للاصلاح ، ولم نر حملات ابادة ضد السكان والمعارضة  كتلك التي قام بها صدام والقذافي والاسد، مثلا، كما ولم نشهد تنازلا عن السيادة وعن الارض للحفاظ على الكرسي، بل العكس ابعدوا دولهم عن الصراعات الدولية وكرسوا جهودهم للاستفادة منها وجلب الثروات والاستثمار من كل الاطراف ، فوطنهم مسكنهم ، ووضعوا مصالح اوطانهم فوق الايديولوجيات والصراعات الدولية  ،بل الاستفادة منها لصالحهم، ومنها يمكن دعم مقولة وطنيتهم.
الثانية: فشل فصل اجهزة ومؤسسات الدولة عن هيمنة وسيطرة الحكومة والاحزاب في النظم الجمهورية ( قراءة في فشل تطبيق المبدأ الثاني اعلاه) 
ان هذه النقطة هي القاتلة في النظم الجمهورية ، والمنقذة للنظم الملكية. لو نظرنا للنظم الجمهورية التي اقامها الانقلابيون على الملكية ، كما في مصر والعراق مثلا، لوجدنا انها قامت بدمج  الدولة بمؤسساتها وسلطاتها مع الحكومة وسلطاتها بجسم واحد، واقامت سلطة واحدة ، تسيطر على الدولة والحكومة معا، وانهت استقلالية المؤسسات الوطنية التابعة للدولة عن الحكومة، أي عمليا جعلت سلطات  الحكومة هي سلطات الدولة .   ففي مصر والعراق مثلا تم حل مجلس النواب ( المؤسسة التشريعية) واصبح القائد العسكري للانقلاب هو رئيسا للجمهورية ولمجلس الرئاسة (قيادة الثورة ) الذي يصدر التشريعات والتعليمات ويدير كافة شؤون الدولة والحكومة، فهما واحدا مندمجا بسلطة واحدة.
في النظم الملكية، يجري فصل سلطة الدولة ومؤسساتها عن الحكومة وصلاحياتها بشكل واضح . لنأخذ الاردن والمغرب مثالا ، حيث يتبوأ الملك سلطات الدولة ويمثل  مؤسساتها الوطنية ، وهو الذي يختار رئيسا للحكومة اي الوزارة ويعينها بموافقة البرلمان المنتخب ، اي هناك فصلا واضحا بين سلطة الدولة وبين سلطات الحكومة وصلاحياتها، فالخيرة لاتستطيع مثلا تسييس مؤسسات الدولة حزبيا ، فهي مؤسسات دولة وهي وطنية وليست حزبية ، وفي حالة تذمر الشعب  من سوء اداء الحكومة ،مثلا ، وطالب بالأصلاح أو بحكومة مغايرة، لأي سبب من الاسباب، مثل الفساد في ادارة المال العام ، او اقرار قوانين لايقبلها الشعب ، يلجأ الملك لتبديل حكومته، أي يتراجع ، ويقيلها وفق الدستور، او يجري انتخابات جديدة كي يفرز منها حكومة ،موالية او نصف موالية له ، ولكن على اهواء شعبه ( لاحظ كمثال كيف قام محمد السادس في المغرب وعبد الله الثاني في الاردن وفي نفس الفترة تقريبا ، خلال مايسمى الربيع العربي ،بتعيين رؤساء وزارة اخونجية مسايرة لأهواء الشارع العربي ولم يقوموا بحملات قمع على شعوبهم مثل الاسد وقبله صدام،  كونهم يعرفون عند الامتحان يكرم المرء او يهان، فان نجح الاخوان في الادارة والخدمات فهو نجاح له، وان فشلوا ازاحهم وسط ترحيب الجماهير ، وهذا ماحدث). قارن ذلك بممارسات القمع والقتل والتشريد للملايين التي قام بها النظام السوري  وقبله الصدامي مثلا، وغيره من النظم الديكتاتورية في الجمهوريات العربية. ولكن الاهم هنا هو فصل اجهزة الدولة عن الحكومة سواء كانت حكومة اخونجية او ماركسية او قومية التوجه ، فهي تبقى تحت مراقبة واشراف اجهزة الدولة الوطنية ،التي يمثلها الملك.
كذلك لاحظ اهمية انعدام الفصل بين الدولة والحكومة في فهم فشل النظام الجديد بعد انهاء النظام الصدامي عام 2003 واقامة حكم ديمقراطي برلماني في العراق ، حيث ازداد الفساد وتحطمت مؤسسات الدولة ، ولم تعد توجد مؤسسات وطنية بل متحزبة وحكومية ، اعتبرها الاسلامويون مؤسسات سلطوية: من يشكل الحكومة يستولي على الدولة والحكومة ومؤسساتها ومالها العام ويعبث بها كما يشاء، فهو يعين مسؤولي اجهزة الدولة وهو يقيلهم ،بقرارات حكومية، وليست تحت اشراف وادارة سلطة اعلى ، كالملك في النظام الملكي، او رئيس جمهورية منتخب من الشعب في النظم الجمهورية ، ليتم فيها مساواة المواطنين  وتقديمهم على مقاييس الوطنية والنزاهة والكفاءة والانجاز ، بل يجري اليوم ذلك لاعتبارات حزبية وطائفية وممارسة افساد وانهاء المؤسسات الوطنية وتمكين الطائفية ، وعموما تدمير الوطنية واركان الدولة . 
الخلل واضح : في النظم الملكية يمثل الملك سلطة الدولة وهي اعلى من سلطة الحكومة. وكذلك في النظم الجمهورية ، اما في النظام الجمهوري العراقي الحالي لايمتلك رئيس الحمهورية هذه الصلاحيات ، فهو رئيس تشريفي ، يعين من الاحزاب ،وهو عكس النموذج النظري للجمهورية ، حيث يتم انتخاب رئيسها من الشعب مباشرة ليمثل سلطة الدولة ويقوم بمهمات الملك مثلا في تمثيل سلطة ووطنية واستقلال مؤسسات واجهزة الدولة ، ومنع الحكومة في الهيمنة عليها  ،بل  تقوم اجهزة الدولة بمراقبتها  ومحاسبتها في استغلال وظيفي، او شبهة فساد، او سوء استغلال للمال العام ، كله منظم بلوائح وقوانين واضحة للعمل الحكومي ، ومنه تجد الانظمة الجمهورية ناجحة ومستقرة في الدول التي تفصل مؤسسات الدولة عن الحكومة وتنتخب رئيس جمهوريتها ،أي دولتها ، من الشعب ، وليس من البرلمان والاحزاب كما في العراق. ومنه يمكن الخروج بنتيجتين هامتين : 1.ان سبب فشل النظام الجديد في العراق يعود لانعدام الفصل بين وطنية مؤسسات الدولة وصلاحيات ومسؤولية الحكومات ، أي منع تحزب هذه المؤسسات او السماح لسيطرة الحكومة على اعمالها وقراراتها، وذلك بسبب غياب سلطة ملك او رئيس جمهورية منتخب يقوم بتمثيل وحماية مؤسسات الدولة والمصالح الوطنية بعيدا عن التحزب.
2.لايمكن للعراق ان ينهض وتقوم فيه دولة وطنية عصرية مالم يتم تغيير الدستور الحالي وجعل رئيس الجمهورية ينتخب من الشعب مباشرة، وتبديل صلاحياته لتغطي كل صلاحيات رئيس مجلس الوزراء في الدستور الحالي، بمارفيها اقالة او تعيين الوزراء والحكومة، ووضع فقرات واضحة بمنع التحزب للمؤسسات الوطنية كونها تمثل مصالح كل المواطنين اولا وانها تعمل لمصلحة الدولة وليس لحزب او احزاب ثانيا ، وبحماية مؤسسات الدولة من قبل رئيس الجمهورية ووضعها تحت اشرافه مع  البرلمان وليس تحت رحمة الحكومة.
انها بلاشك النقطة القاتلة في النظم الجمهورية . ان دمج سلطات الدولة ووضعها بيد حكومات متحزبة، وليس بيد رئيس منتخب من الشعب ، ودستور يمنع تحزب المؤسسات،  انهت عمليا ، وقامت باغتيال وطنية الدولة واستقلالية مؤسساتها بابعاد اجهزتها عن التحزب وعن سوء ادارة حكومتها. وكون النظم الجمهورية العربية ديكتاتورية وتدار اما مباشرة من ديكتاتور عسكري ، او من الاجهزة العسكرية، او بنظام حزب واحد مؤدلج ، فكلاهما يلغي استقلالية اجهزة الدولة ويحولها للعمل تحت سيطرة الحكومات المتحزبة.
فالنقطة القاتلة للدول هو عدم فصل اجهزة  الدولة عن التحزب والحكومة  ،  ودمجهما بسلطة واحدة ، وعكسها ، تم فصلهما في النظم الملكية، ومنها نجحت في خلق دولا ومؤسسات وطنية، ومنها تطور الدولة الوطنية.
الثالثة:  فشل التطور الأجتماعي عن طريق الانقلابات (الثورات ) ونجاح حركات الاصلاح 
تم قلب الانظمة الملكية العربية بانقلابات عسكرية بدوافع ايديولوجية ، كما انقلاب عبد الناصر عام 1952 , أو حتى دوافع وطنية كما في العراق عام 1958 ، او يمينية قومية كما في انقلابات البعث عام 1963 وقف ورائها الغرب لمحاربة الشيوعية ، واخرى يسارية وقف ورائها السوفيت ، كما هو انقلاب زياد بري في الصومال عام   1969 ومثله   منغستو هيلي مريام في اثيوبيا عام 1974  ، وعموما جرت الانقلابات في العالم العربي ،بل وفي كل العالم الثالث ، تحت يافطات ايديولوجية موالية اما للغرب او للسوفيت، بشكل او باخر.
 الثورات في معناها الحقيقي تختلف عن الانقلابات كونها تتم من خلال حركات شعبية واسعة ، سواء للاستقلال كما في استقلال الجزائر او جنوب افريقيا او حتى والولايات المتحدة والهند ، أو عند العجز في الاصلاح عبر ممانعة النظام في تحقيق تغييرات أو مطالب يطالب بها الشعب ،مثلما قامت به الثورة الفرنسية والبلشفية . وفي كل الاحوال ، سواء قامت الثورات للاستقلال او للاصلاح، فشلت هذه الثورات حيثما فشلت النظم الجديدة في اقامة جمهوريات ديمقراطية ، تفصل الدولة ووطنية مؤسساتها عن الحكم والحكومة ، وتسمح بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة والحريات لعمل الاحزاب والرأي العام والصحافة، والعكس صحيح نجحت كما في فرنسا واميركا والهند وجنوب افريقيا كأمثلة.
اصلاح النظم القائمة هو السبيل الاخر لتطوير النظم السياسي والادارية  للمجتمع ومما يسهله ان تتوفر لهذه النظم الرغبة والقابلية على الاصلاح، وتوفر جزء معقول من جو الحريات  والممارسات الديمقراطية ، فتنتفي عندها الثورات ،وبالطبع الانقلابات، فهي مدمرة للدول والمجتمعات ، كما رأيناها في بلداننا. 
ولكن الاصلاحات تتطلب نخبا سياسية وطنية  ( أي غير مؤدلجة عقائديا بفكر انقلابي)  تتبنى فكر الوطنية هدفا وفكرا ومنهجا للتنمية والاصلاح، مثلما رأيناه عند غاندي او نيلسون منديلا ،مثلا.  تحمل هم بناء دولا وطنية ، وليست حزبية متأدلجة وبعيدة عن التبشير العقائدي . ان الوطنية هي  المحرك نحو الاصلاح، وتقودها نخب وطنية مثقفة ولها معرفة ببناء الدول وتطوير المجتمعات ويهمها بناء وتطوير بلدانها على اسس الوطنية والديمقراطية والتنمية، وليس التبشير بالايديولوجيات والعقائد الانقلابية (يسمونها المؤدلجون الثورية).
المشكلة في عالمنا العربي، خصوصا في البلدان المتضررة من الطرح الايديولوجي الثوري او القومي او الديني ، هو ضعف الطبقة الوطنية الغير مؤدلجة ، مما جعل الجو خاليا للسلفية الدينية ، مثلا، ان تنفذ لعقول وقلوب الناس بأوهام الرخاء والجنة ليخلدوا فيها  في الاخرة ، مقابل طرح ايديولوجي طبقي أو قومي لا يحاكي مشاكل مجتمعاتنا ولا يوفر حلولا لها ، تؤدي لحكم ديكتاتوري كما راته وعاشت دماره شعوبنا. فهي بحاجة لحلول واقعية على الارض وليس لعقائد وتبشيريات مؤدلجة وطرح بديلها برامج اصلاحية اجتماعية  واصلاحية سياسية.

مشاهدة الموقع بالنسخة العادية