يُدعى الجواهري الى المغرب اواسط العام 1974 ويحظى بحفاوة ورعاية بالغتين، بما في ذلك ضيافة ملكية متعددة الأوجه... فضلاً عن منحه وسام "الكفاية الفكرية" وهو الاعلى في البلاد. ويردّ الجواهري على ذلك بقصيدة شكر للعاهل المغربي آنذاك الحسن الثاني، تعبيراً عن الثناء للاهتمام والتقدير غير المسبوق الذي لقيه، ككبير للشعراء العرب، ورمزهم في القرن العشرين، على الاقل ... ويثير ذلكم الأمر عدداً من الكتاب والسياسيين العراقيين والعرب. تارة تحت حجة مواقف الحكم المغربي من القضايا العربية آنذاك، وحيناً عن موضوعة العلاقة بين السياسة والثقافة، وتارة في اثارة نعرات الخلاف بين الكلاسيكية والحداثة، وما شابه ذلك. ولعل ما يفيد الاشارة بهذا السياق الى مقال كتبه الناقد المصري غالي شكري حول الجواهري بعنوان "سقوط آخر العمالقة"... والمقال يقرأ من عنوانه كما يقال، والعنوان واضح النيّة كما نرى!.. وقد ردّ الجواهري لاحقا بقصيدة لاهبة سنتحدث عنها في حلقة قادمة من هذه الحلقات عن بعض لواعج الجواهـري، ومواجهاته..
كما تسوّقَ من تلك القضية مثقف، وقيل شاعر، وسياسي عراقي تخبأ تحت اسم "حمدان القرمطي" فأرعد وأزبد في محافله "الثورية" الحقيقية او المدعاة، وكذلك في الصحافة "ذات العلاقة" حول ابيات الجواهري لمكرميّه المغاربة. وقد مرت اعوام وعقود ولم يمتلك ذلك "الثوري" الجرأة لأن يكشف اسمه، مع اجتهادات هنا وهناك حوله... وقد كال من السباب الرخيص، البعيد عن السياسة والثقافة اللتين تلبس لباسهما في كتابته هذه، وعلى مرأى حتى من المحبين الذين لم يفتحوا فاهاً، وهم الذين قال فيهم الجواهري عام 1962 في موقف مشابه حين قال:
وتفــرج المتفيقهـــون فلا دم يغلي ولا قلــم يذود ولا فــمٌ
لم تنفقئ خجلا عيون ابصرت، وجه الكريم بكف وغد تلطمُ..
وفي " تحية... ونفثة غاضبة" وهو عنوان قصيدة الجواهري التي القاها في الحفلة التكريمية التي اقامتها على شرفه وزارة الدولة المغربية للشؤون الثقافية، برعاية وزيرها الحاج محمد باحنين، على مسرح محمد الخامس في الرباط، مساء اليوم العشرين من ايلول / سبتمبر عام 1974 يبتدئ الشاعر الردّ على "دعاة ذلك الاستغلال والانتهاز تحت شعارات مزيفة".. ويجيء مطلع القصيدة التي تقارب ابياتها التسعين:
سماحاً إن شكا قلمي كلالا، وإن لم يُحسنِ الشعرُ المقالا
وإن راحت تُعاصيني القوافـي بحيثُ الفضلُ يُرْتَجَلُ ارتجالا
أتبغونَ الفُتوةَ عند هِــمٍّ على السبعينَ يتّكلُ اتكالا
فما شمسُ الظهيرة وهي تَغلي كمثل الشّمس قاربت الزّوالا..
ولعل أبيات المطلع أعلاه تبعد الشك عن القاريء، بل وتزيده يقيناً، بان "القلم لا يشكو أدنى كلال" وان "الشعر يحسن المقال" تماماً... وان القوافي لم تعاص ِ الشاعر، والفتوة زادت عند ذلك "الهـمّ" الذي يستند على تجاريب السبعين حينها.. كما وتوثق بأن شمس الجواهري- وهي وان زعم تقارب فترة الزوال- لم تزل تغلي، توشم المعتدين لأجيال..
وتستمر القصيدة في اداء اكثر من غرض: التحية المطلوبة رداً لجميل المكرمين، واعجاباً بجمال البلد، ومحبة لمواطنيه، وبثاً للشكوى وتأرخة لبعض المعاناة، ثم لتصل بعد ذلك الى "بيت القصيد" وهو اكثر من بيت كما سنرى:
وقلتُ لحاقدينَ عليّ غيظاً لأني لا أُحبّ الاحتيالا
هَبُوا كلّ القوافِلِ فـي حِماكُمْ فلا تَهْزَوا بمن يَحْدُو الجِمالا
ولا تَدَعُوا الخصامَ يجوزُ حدّاً بحيثُ يعودُ رُخْصاً وابتِذالا
وما أنا طالبٌ مالاً لأني هنالِكَ تاركٌ مالاً وآلا
ولا جاهاً، فعندي منه إرثٌ تليدٌ لا كجاهِهِمُ انتِحالا..
ثم يواصل التذكير والتحذير في ان واحد، فيقول:
حَذارِ فإنّ فـي كَلِمي حُتوفاً مخبأةً، وفـي رَملٍ صِلالا
وأنّ لديّ أرماحاً طِوالاً ولكنْ لا أُحبّ الاقتِتـالا
تَقَحّمْتُ الوَغى وتَقَحّمَتْني وخُضْتُ عَجاجها حَرْباً سِجالا
فكانَ أَجَلّ مَن قارعتُ خصمٌ ، بنُبلِ قِراعـه رَبِحَ القِتـالا
ولم أرَ كالخُصومة من مَحَكّ يبين لكَ الرّجُولةَ والرّجـالا
وكم من قَوْلةٍ عندي تَأَبّى لها حسنُ الوِفادةِ أن تُقالا
ستُضرَبُ فيهم الأمثالُ عنها إذا انطَلَقَتْ وجاوزتِ العِقالا
وعندي فيهمُ خبـرٌ سَيَبْقى، تغامَزُ منه أجيـال تَوالى
حَذارِ فكم حَفَرتُ لُحودَ عارٍ لأكرمَ منهُمُ عَمّاً وخالا..
وفي سياق التأرخة هذه نثبت ايضا ان الجواهري قد خيب "ظنون" وربما "تمنيّات" حاسديه ومتربصيه، فلم يُقم في المغرب سوى بضعة اشهر، برغم كل الامتيازات التي قدمت له، وأبرزها ضيافة رسمية لفترة غير محدودة... وبهذا الخصوص تجدر الاشارة أيضاً الى ان العراق الرسمي، وقد كان آنذاك مناقضاً للسياسة المغربية، قد "زَعَـلَ" على الجواهري، وان بدون ضجة، أو اعلان صريح..
... وحتى بعد سنوات عدة، لم يتردد الجواهري في الدفاع عن موقفه ازاء النهازين كما يحب ان يسميهم. وبهذا الخصوص يشير في حوار مسجل للكاتبة والصحفية اللبنانية، اعتدال رافع، في دمشق اوائل التسعينات الماضية:"اما القصيدة التي انشدتها في المغرب فقد كانت رداً على الحفاوة والتكريم الذي لقيته اثناء وجودي هناك... وعندما طلبوا مني ان تغنى تلك الابيات اعتذرت... لست نادماً على هذه القصيدة لانني شاعر، واذا كنت قد ألقيت كلمة بدلاً منها، معنى هذا انني استخف وأهين من كرموني، لأنني كنت دائماً وأبداً منسجماً مع نفسي، ولا احسن الكذب والنفاق. كان ذلك موقفاً مني ورداً على التكريم والوسام الذي خصوني به"...
وفي موقع آخر من الحوار ذاته يقول الجواهري: "استغل العاوون هذه القصائد ليشهروا بنباحهم... في الماضي كانوا يقولون الجواهري شيوعي، وأيضاً مداح؟ كيف يجتمع النقيضان، ويلتقي الضد بالضد؟ هل لكي يفترسوا رمزاً... أنا حصتي ارذل ما في اليمين انني شيوعي، وأقصى ما في اليسار بأنني مداح ..المُسف يجب الا يُسف عندما يتعرض للنقد. يكتب الذي ليّ، والذي عليّ".
وهنا، لعل من المناسب ان نضيف اشارة اخيرة بخصوص الفترة المغربية – ان جازت الاستعارة – في حياة الجواهري: ان الحاج محمد باحنين وزير الدولة المكلف بالشؤون الثقافية بعث بتاريخ 21/1/1975 رسالة شخصية، لا ارق منها، الى الشاعر العظيم - محفوظة لدى مركز الجواهري في براغ - يؤكد فيها دعوة رسمية للمشاركة في مهرجان تخليد الذكرى الألفية لولادة شاعر الاندلس، ابي الوليد احمد بن زيدون.. ويقرر الجواهري الاعتذار عن المشاركة لعدم اعطاء فرصة جديدة للمتربصين.. وقبيل ارسال جواب الاعتذار بأيام ألغي الاحتفال لأسباب سياسية مغربية، و"كفى الله المؤمنين شر القتال"...
* رواء الجصاني
الجواهري