... مما جاء في ديوان الجواهري بصدد القصيدة هذه: ان رهطاً من الحاكمين، يساندهم نفر من طلاب مجد كاذب، وزعامات مزيفة، قد تألبوا على الشاعر – عام 1953- اثر فضحه تحالفاً سياسياً بغيضاً، وأغرى كل واحد من الفريقين، دعاته المأجورين والحاسدين والحاقدين، بشتمه...مما فرض على الشاعر الكبير أن يتصدى لهم بهذه البائية الغاضبة:
عدا عليَّ كما يَستكلبُ الذيبُ
خَلْقٌ ببغدادَ أنماط أعاجيبُ
خلق ببغدادَ منفوخ ، ومُطَّرح
والطبلُ للناس منفوخ ومطلوبُ ...
لو شئتُ مزَّقْتُ أستاراً مُهَلْهَلَة
فراحَ سِيَّان مهتوكٌ ومحجوبُ
* ... وللقاريء أن يرى، ومن المقدمة، كم هي الآلام التي يخلفها تجاوز الذئاب، بدوافع الحقد واللؤم لا غير... كما سيرى في مسار القصيدة كم هي قدرة الشاعر – أي شاعر فما بالكم بمثل الجواهري – ان يتدرع بسلاح الكلمة والحرف، ليردّ على هجمات المتجاوزين من طلاب
المجد السياسي والثقافي الزائف:
إنّي لأعذِر ;أحراراً; إذا برِموا
بالحرِّ يَلويه ترغيبٌ وترهيبُ
والصابرينَ على البلوى إذا عَصَفوا
بالصَّابر الشَّهْم آدَته المطاليبُ
والخابطينَ بظلماء كأنَّهُمُ
;بغلُ الطواحين; يَجري وهو معصوبُ ...
عُفْرُ الجباه على الأقدام شيخهُمُ
من السِّبالين بالايماء مسحوبُ ...
والعالفون حصيدّ الذُّلِّ راكَمَهُ
هُمْ والجدود ! فموروثٌ ومكسوبُ ...
منافقون يُرُونَ الناسَ أنَّهُمُ
2
شُمٌّ ، أُباة ، أماجيد ، مصاحيبُ ...
والنَّاسُ واللَّهُ يدري أنَّهُمْ هَمَلٌ
غُفْلٌ ، سَوامٌ ، عضاريطٌ ، مناخيبُ
* ... وبعد العرض، والتوصيف أعلاه، يصل الشاعر الخالد في قصيدته ذات الاثنين والأربعين بيتاً إلى توكيد اندحار;الذئاب; المهاجمين، وليثبت لهم وسواهم، وبالتوثيق التاريخي
كم هي خيبة المتطاولين، مذكّراً بما حدث للمتنبي العظيم الذي قال عنه الجواهري أكثر من مرة
أنه ;صديقي، وجاري، ولصق داري; ... فتضيف البائية العصماء:
مشتْ إليَّ بعوضاتٌ تُلدِّغُني
وهل يُحسُّ دبيبَ النمل يَعسوبُ
ما أغربَ الجلفَ لم يعلَقْ به أدبٌ
وعنده للكريم الحرِّ تأديبُ ...
تسعونَ كلباً عوى خلفي وفوقَهُمُ
ضوءٌ من القمر المنبوح مسكوبُ
ممَّنْ غَذَتْهُم قوافيَّ التي رضعتْ
دمي ، فعندَهُمُ من فيضه كوبُ
وقبلَ ألف عوى ألفٌ فما انتقصَتْ
أبا محسَّدَ بالشَّتْم الأعاريبُ
* ... وبزعمنا – على الأقل – نرى ان التياع الجواهري، من إيذاء أولئك المتطاولين، قد ولد قصيدة هجاء فريدة في هدفها وثورتها... وقد عبّرت، وتعبّر، بشكل مباشر عن لوعة كل من عانى ماضياً، ويعاني حاضراً، من الذئاب البشرية، وإن تبرقعت بأردية وألسنة الادعاء والتنطع والتثاقف... ثم يستمر الشاعر فيترفع ويفضح وينور جنباً إلى جنب، في تداخل لا فكاك منه، كل يكمل الآخر، ويترابط معه:
يا منطوينَ على بُغضي لعلمِهمُ
أنّي لدى النَّاس ، أنَّى كنتُ ، محبوبُ
تُغلي الحزازاتُ فيهم أنَّ أرؤسَهُمْ
دُونٌ ، وكعبي رفيعُ الشأن مرهوبُ
ويَستثيرُ شَجاهم أصيدٌ عَصَرتْ
منه الخُطوب وشّدَّته التَّجاريبُ
يردِّد الجيلُ عن جيل أوابدَه
3
فهُنَّ في الدَّهر تشريق وتغريبُ ...
ما كنتُ أوَّلَ محسود تهضَّمه
وَكْسٌ ، وحاربه بالسبِّ مسبوبُ
ولستُ أوَّلَ مأخوذ بمجتمع
يمشي الضلال به ، والإفك ، والحوبُ
ولستُ آخرَ رَكاض مشى رَهَقاً
فجاوزَ العدوَ ، مشيٌ منه تقريبُ
* ... ولكي لا يبقي الشاعر ثمة عتباً ما، أو غضباً كابتاً النفس، تأتي الأبيات الأخيرة لتوجز، وكما جرت العادة في الفرائد الجواهرية، خلاصات بينة، تبقي "القصيد لظىً" "وتذري مع الريح الأكاذيب"... ولا نعرف حتى اليوم من بقي من تلكم "الذئاب" التي عنتهم القصيدة... ولكننا نعرف، ومع الجميع، خلود الجواهري، الذي يختم مخاطباً المتجاوزين، وأذنابهم:
... مُسَهَّدين على مجدي ونسبتِهِ
كما تُسَجَّلُ للنَّهْر المناسيبُ
يُريحُ جَنبيَ أنْ يُذكي جوانحَكُمْ
جمرٌ من الضِّغْنة الحمراء مشبوبُ
أطَلْتُ هَمَّكُمُ والدَّهرُ يُنذركمْ
أنْ سوف لا ينقضي همٌّ وتعذيبُ
يَبقى القصيدُ لَظىً والأرض مشربة
دماً، وتُذرَى مع الريح الأكاذيبُ
---------------------------------------------------*