(قصة قصيرة)
    أمنية...
    السبت 11 نوفمبر / تشرين الثاني 2017 - 05:20
    أ. د. حسين حامد حسين
    كاتب ومحلل سياسي/ مؤلف روايات أمريكية
    لن انسى ابدا اليوم الذي عادت به امي من طبيب الاسنان وفي فمها حشر طاقم اسنانها الجديدة. كان وجهها الذي قد ارتدى مسحة من غرابة وامتزج مع حزن وغضب مع نوع من استحياء، قد استدعى حالا دهشة ومرارة الجميع من عائلتي، مع ان البعض لم يجد بدا من خنق ضحكة بائسة قد تكون تعبيرا عن التعاطف مع قدر المرأة الطيبة اكثر من كونها فرحا اعتياديا. كان طقم الاسنان يبدوا اكبرحجما من الفراغ الداخلي لفم امي الصغير، بحيث دفع خديها قليلا الى الخارج، فبدت وكأنها كانت مضطرة للابقاء على اغلاقة فمها بتلك القوة. لكن الشيئ الاكيد على كل حال وعلى الرغم من جميع التصورات والتفسيرات الصامتة بين الجميع ، حينئذ ، فان المرأة في تلك اللحظات كانت تستجيب وبقسوة بالغة الى هذا الشيئ الملعون الرابض في فمها والذي لم يكن لدي أدنى فكرة عنه. 
    كنت الطفل الاثير لدى امي، فانا وكما يقولون "اخر العنقود" ، وعليه وجدت نفسي وبحكم العلاقة القائمة بيننا ، اول المرهولين لملاقاتها ، ثم، وببطيئ شديد ، تبعني  اخواي مع زوجتيهما واختي . وبتردد واضح وهمس مكتوم تحلق الجميع حول المرأة الحزينة . جلسنا بوجوم وسرعان ما القيت نظرة فاحصة على الوجه الجديد لامي فزاد ارتباكي. ثم حطت عيناي على الوجوه من حولي فلم اجد صعوبة في رصد ضحكة مكتومة لدى البعض والتي سهلت علي مهمة اطلاق عبثي وبلا حرج. ولم تشفع لي علاقتي القوية بامي ، حيث جائني صوت اخي ناهرا:
    "يا كلب....متى تتعلم الادب....؟"
    همهمت امي بغضب وهي تواجه اخي وحدجته بنظرة قاسية.
    وبعد قليل وصل ابي الى البيت ، وانحنى ليقبل رأس امي وهو يقول: 
    " مبروك عليك يا حاجة طاقم اسنانك الجديد....ستحتاجين وقتا لكي تعتادي عليه ...انها مسألة وقت فقط. كان الله في عونك"
    هزت امي راسها ايجابا .  وعاد الصمت الثقيل من جديد ، بعد ان جلس ابي الى جوارها.
    القيت نظرة اخرى على الوجوه من حولي ، فوجدت الجميع ينظرون الى بعضهم بحذر ولكن كان هناك شبح لابتسامة جبانة فوق كل وجه راح الجميع يقاومونها ببسالة نادرة. 
    عدت بعيوني اتفحص وجه امي فهالني شكلها الجديد ووجومها الذي لا عهد لي به منذ ان غادر اخي الاكبر ارض الوطن في بعثة الى الخارج قبل سنتين. 
    مزق الصمت صوت اختي الشابة:
    - "هل اعمل لكي شاي ...يا امي ...؟"
    اشاحت امي بوجهها ، وعلى الفور جاء صوت احد اخوتي مؤنبا:
    - "شاي؟ وكيف لها ان تشرب الشاي ...يا بومة..."
    زمجر ابي ، والتفت الى اخي ناهرا:
    "ومنذ متى اصبح ممنوعا ان يقول ايا منا وجهة نظره...ماهي المشكلة في ذلك؟"
    داهمتني ابتسامة اخرى , وشعرت بارتياح ، فلست الوحيد الذي تلقى اهانة. 
    احتجت اختي بشدة على اخي، وردت :
    -"هل يعني ذلك ان عليها ان تصوم ...؟؟؟"
    عند ذاك صدرت من امي ايماءة ، انهت ذاك الجدل السفسطائي ، فهطل الصمت من جديد. 
    تمتم اخي مستأذنا بالانصراف ، فتبعته زوجته حالا، وما ان تجاوزا عتبة باب الغرفة ، حتى سمع الجميع ضحكة مكتومة احالها الحياء الى ما يشبه النهيق ، زادت في اتساع مساحات الابتسامات فوق الوجوه الجبانة . في نفس الوقت ، كان هناك بؤسا اضافيا قد حط على الوجه الحزين. 
    راحت عيناي تتجولان في الوجه الذي احبه . رحت اتفحصه بدقة متناهية . كان وجها غريبا علي تماما. لقد تبدل وجه امي ، فغمرني الحزن والخيبة . ترى ما الذي حدث لامي بالضبط؟ كيف يمكن ان يتغير وجهها هكذا؟ وهل ستبقى دائما بهذا الشكل الباعث على الحزن. فكرت بجزع فاخافني الجواب المعتمل في روحي. فمنذ مجيئها من الطبيب وانا ارقبها . أرقب هذا الوجه الذي احبه ، لكني الان اكاد لا اعرفه. فامي المسكينة لم تفتح فمها ابدا ، ترى هل هو مؤلم هكذا الى هذا الحد؟ لماذا ظلت الشفتان مطبقتان بهذه القوة طول هذا الوقت؟ ولماذا لم تأخذني امي الى صدرها كما كانت تفعل دائما؟ غمرني قلق لا افهمه ، ونطقت بكل براءة :
    -"ماما...هل هو مؤلم هذا الشيئ الذي في فمك؟"
    وقبل ان اتلقى الجواب، نظرت في الوجوه حولي فوجدت سؤالي على ما يبدوا مقبولا، اذ لم ينهرني احد هذه المرة. 
    هزت امي رأسها بالايجاب ، واسبلت عينيها بألم. 
    -"اخرجيه من فمك اذا ، يا امي" صاحت اختي بألم. 
    " يجب ان تبقيه في فمها...يجب ان تعتاد عليه ، يا ابنتي" رد ابي .
    شجعني الحديث القليل الذي ساد لدقيقة ، وشعرت ان علي ان أستغل الان حب امي لي والذي اعرفه جيدا، قلت لها:  
    "هل تستطيعين ان تعضي اصبعي؟" قلت لها ذلك وانا اقدم لها اصبعي بكل اريحية. ولاول مرة وجدت طيف ابتسامة يرتسم فوق الوجه المعذب. أفرحني ذلك كثيرا. وحاولت ان استمر في مداعبتي مع امي ، لكن ابي اؤمئ لي بالسكوت .
    وفجأة اومأ أبي لاخوتي بترك الغرفة، ففر الجميع بسرعة قياسية. وبقيت بجوار امي بينما تمنيت لو ان أبي كان قد غادر هو الاخر. نظرت اليه فوجدت مسحة من ابتسامة طاغية راحت تكبر بسرعة حتى انفجر ابي ضاحكا، بينما عقبت من جانبي بقهقهة نزقة انتزعت ابتسامة حتى من وجه امي البائس، لكني لم ارى ذلك الشيئ الذي في فمها. ظلت الشفاه مطبقة ، وظل فضولي هو الاعظم . وهو في خضم مقاومة عنيفة في التصدي لاستمرار ضحكه ، قال لي بشيئ من رقة:
    -"انت لا تخلوا من دعابة أيها الصغير؟" 
    كانت نبرته المفعمة بنوع من حنو قد شجعتني على التمادي بنزقي الى حالة اخرى اكثر مرحا ، فسألت امي بكل ما يمتلكه قلبي من ضياع في تلك اللحظات:  
    -"ماما...لماذا لم تعودي حلوة كما انت دائما...اخرجي هذا الشيئ من فمك ...اني لا احبه ...اريد ان اراك حلوة دائما ...دائما"
    وفجأة رأيت دموعا في عيني امي. عندها ضاع مني مرحي وجذلي . غمرني حزنا غريبا ، ورحت ابكي أنا الاخر. لقد كانت خسارتي تلك الاولى حينذاك , تلك الخسارة التي لم يعوضها الزمن لي أبدا. وحينما سألت نفسي ....هل ستعود امي حلوة كما كانت، جائتني صدى قهقهات اخوتي من بعيد..  
    ضمتني امي الى صدرها . وعلى صدرها غفوت طويلا. وفي تلك الغفوة ، حلمت بوجه امي القديم.... 

    11,11,2017      
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media