الأكوان الموازية 3 les univers parallèles
    الجمعة 15 مارس / أذار 2019 - 23:04
    د. جواد بشارة
    [[article_title_text]]
    صار التنوع الكوني جزءاً من البديهيات تقريباً لدى نسبة كبيرة من العلماء الراغبين بالخروج من مأزق التناقضات والألغاز المحيرة والغامضة التي تشوب  النظريات الكونية والفيزيائية السائدة اليوم. ففكرة العوالم المتعددة قد تجذرت في أذهان الكثيرين وأصبحت شبه مألوفة بفضل روايات وأفلام الخيال العلمي ، وأحياناً على هيئة أمل أو شعور مسبق أو ما يشبه الحدس لظهور اعتقد أو إيمان جديد ، علمي هذه المرة أو على صيغة نظريات علمية، يحل بديلاً عن الاعتقاد الثيولوجي القروسطي والماورائي أو الغيبي الذي يحكم ذهن البشرية اليوم. بعض المتدينين والمتشبثين بالإلوهية، اعتبروا خطاب العوالم الأخرى بمثابة إجلال وتعظيم لقوة إلهية خارقة، لم تكتف بخلق كون واحد وتضعنا فيه فحسب، بل خلقت عدداً لا متناهياً من الأكوان والكائنات ، في حين اعتبرها البعض الآخر من رجال المؤسسات الدينية التقليدية المتكلسة بمثابة هرطقة وزندقة و بدعة وخروج عن الدين. فقبل بضعة عقود كان العلماء يغامرون بسمعتهم ومستقبلهم العلمي عندما يتحدثون عن فرضية الأكوان المتعددة أو تعدد الأكوان multivers في حين غدت هذه الفكرة أو النظرية  هي الموضة السائدة اليوم. وتتأتى هذه الفكرة من فروع  علم الفيزياء الأكثر غرابة وتنوعاً وصعوبة : من الفيزياء الكمومية أو الكوانتية، ومن فيزياء الكونيات أو الكوسمولوجيا، ومن فيزياء الجسيمات الأولية ، ومن نظرية الأوتار الفائقة. وبالتالي هناك كم هائل من المفاهيم والمصطلحات والمقاربات في مجال التعدد الكوني ، إلى درجة يضيع فيها حتى المتخصصون . برز من بين المتخصصين في هذا الحقل العالم الفذ ماكس تيغمارك Max Tegmark صاحب الكتاب الرائع والبالغ الصعوية والتعقيد ،" الكون الرياضي L’Univers Mathématique" والذي حدد مفهوم التعدد الكون  بأربع مستويات: الأول، يقتصر على المبتدئين حيث تكون قوانين الفيزياء هي ذاتها في كل مكان ، وهو نفس مفهوم تنوع وتعدد العوالم الذي تحدث عنه الفلاسفة القدماء من أمثال ديموقريطس و لوكريس على سبيل المثال. المستوى الثاني من نظرية التعدد الكوني تحصر القوانين الكونية الجوهرية في إطار زمكاني متجانس ومقبول أو قابل للفهم والتصور أو الإدراك ولو بصعوبة. بعض أكوان المستوى الثاني تحتوي على مجرات  ونجوم ، بينما البعض الآخر تكون فارغة ، إلا أن قوانين الطبيعة فيها تختلف من كون لآخر . المستوى الثالث من التعدد الكوني مستلهم من نظرية العالم العبقري الفذ  والغريب الأطوار هيوغ إيفرت Hugh Everett، حيث تغدو الأمور والطروحات في غاية التعقيد والتجريد فالعوالم لاتتواجد جبناً إلى جنب في فضاء وزمان أو حيز زمكان فيزيائي معلوم بل في فضاء أو حيز زمكاني ذو ترتيب وصياغة رياضياتية مجردة وتجريدية وتقول  نظرية هيوغ إفريت أنه كلما كان هناك اختيار ما ، لن يحدث اختيار على حساب اختيار ثاني ، كأن يختار شخص أن يكون رياضياً  لكنه لظروف خاصة يصبح طبيباً، يقول إيفريت أن نفس الشخص سيكون رياضياً وطبيباً وشيئاً آخر في عدد من النسخ عنه تتواجد في أكوان أخرى موازية. أما المستوى الرابع فهو الأكثر غرابة وغير قابل للإدراك البشري في الوقت الحاضر وهو موجه للنواة الصلبة وللنخبة المتعصبة من علماء  التعدد الكوني فلا يوجد أي قانون طبيعي مثبت و لاتوجد نظرية فيزياء شاملة وشمولية جامعة يمكن أن تصف أكوان المستوى الرابع فالمستويات في صرح أو مبنى ماكس تيغمارك الكوني المطلق، تبني نفسها وتتشكل الواحدة تلو الآخر في ذات الوقت، والواحد فوق الآخر، وفي حالة تداخل وتدافع ، وهي في آن واحد متجاورة ومتباعدة . فالأكوان المتعددة في المستويات الدنيا تشكل جزءاً من عوالم المستويات الأعلى، و لاشيء يشير إلى أن الأكوان المتعددة ، في كافة المستويات قريبة من بعضها البعض أو متجاورة ، أو متداخلة أو موازية لبعضها البعض، فيمكنها أن تتواجد في كل لحظة زمكانية ممكنة الوجود وربما يولد بعض من تلك الأكوان المتعددة بالقرب منها لكنها خفية لا نراها و لا يمكننا رصدها بأي حال من الأحوال. وقد تكون مختفية داخل أعماق ثقوب سوداء موجودة ظاهرياً في كوننا المرئي ، وهذه الفرضية الأخيرة تعود لعالم فيزياء الجسيمات الأمريكي جيمس بجروكن James Bjroken، والحال إن نظريات التعدد الكوني ، داخل الوسط العلمي التقليدية تعتبر هامشية أو مهمشة رغم أهميتها وما تثيره من فضول على غرار  العلماء شتينهارد Steinhardt  و لي سمولن Lee Smolin ، وهذا الأخيرة تمرد على وضعه وتراجع عن تطرفه ونشر كتاباً نقدياً  تحت عنوان مثير واستفزازي:" مشكلة الفيزياء العويصة" هاجم فيه بشراسة طروحات وحيثيات  نظرية الأوتار الفائقة التي كان هو أحد روادها ومعلميها. في حين أن نظريات أكثر كلاسيكية  كنظرية التضخم الكوني الفوري المفاجي la théorie de l’inflation والفيزياء الكمومية أو الكوانتوم، مازالت تدرس رغم أن هذه الأخيرة تنزلق أحياناً باتجاه " هلوسات هيوغ إفريت " حسب وصف البعض لها. لكنها تتفق مع الاتجاه العام الذي تغلغل في الوسط العلمي اليوم بخصوص تقبل ومناقشة مقتضيات وتفاصيل ومعادلات نظريات الأكوان المتعددة والتعدد الكوني مبدئياً داخل الجامعات ومراكز الأبحاث، لذا لم يعد مقبولاً نبذ وتهميش تلك الأطروحات وعدم اعتبارها علمية وأكاديمية . 
    الميتافيزياء العلمية:
    المخيلة البشرية ليست بحاجة إلى صيغ ومعادلات رياضياتية علمية رصينة ومعقدة، و لا إلى تلسكوبات ، أرضية وفضائية، متطورة جداً ، لكي تنتشر وتزدهر. لذا لا شيء يثير الدهشة من إنتشار فكرة تعدد العوالم وتعدد الأكوان والأكوان الموازية حتى قبل أن يأخذها الوسط العلمي بمحمل الجدية . فمنذ بضعة عقود لمسنا تطوراً مشهوداً في مجال الفيزياء لا سيما في فرع الكونيات الكوسمولوجيا. فالنظريات  عن الكون  لدى العلماء المتخصصين  الجادين  تبدو أحياناً أكثر غرابة وجنوحاً من السيناريوهات الهوليودية وروايات الخيال العلمي . فبعض العلماء تخيل على نحو جدي ورصين، أنه في امتدادات التعدد الكوني اللامتناهية، توجد عوالم تشبه عالمنا في كل ذرة من ذراته، وهناك نسخ مطابقة تماماً لما يحتويه كوننا المرئي ، أي نسخة من مجرة الطريق اللبني أو درب التبانة  ونسخة مكررة من نظامنا الشمسي  ومن أرضنا وكل كائن موجود فيها. في بعض الأكوان الموازية أو المجاورة أو المتداخلة مع كوننا هناك نسخ منا تقلد كل حركة نقوم بها في نفس الوقت الذي تحصل فيه في كوننا وبأدق التفاصيل، بينما تتخذ مسارات واختيارات أخرى مغايرة في أكوان أخرى ولكن لايوجد أي أثر يشير إلى وجود النسخ اللامتناهية العدد منا نستطيع أن نقتفيه، ولا يمكننا رصدها بتلسكوباتنا و لا نتلقى منها أية إشارات يمكن رصدها بالتلسكوبات الراديوية. ومع ذلك هناك أستاذة وباحثين وعلماء ذوي مكانة وسمعة رصينة مقتنعين بوجودها، يستند بعض العلماء في تسويق اعتقاداتهم إلى حجج ومبررات علمية مستقاة من نظريات علمية كنظرية الإحتمالات théorie des probabilités، وفيزياء الكموم أو الكوانتوم physique quantique. فتعدد الأكوان، حسب نظرية الاحتمالات، من السعة بمكان، بحيث يتجاوز المنطق البشري ، فكل احتمالية تزيد على الصفر لا بد أن تغدو ممكنة الحدوث حتماً في مكان ما، بما في ذلك الأشخاص المكررين لذواتنا أو نسخنا التوائم لنا . عالم الفيزياء الكونية الشهير الكوسمولوجي جون بارو John Barrow يلخص هذا الموقف بالقول : نعتقد إن احتمالية نشوء وتطور حياة تفوق الصفر لأنها سبق أن تشكلت على الأرض بطريقة طبيعية تماماً ، وليست بعملية خلق رباني خارق كما تقول النصوص الدينية، وبالتالي من الممكن أن يوجد في كون مطلق لامتناهي ، عدد لامتناهي من الحضارات الكونية ، ومن المفترض اأن يوجد في بعضها نسخ عنا وفي كل الأعمار وربما نسخة عن كوننا المرئي بما فيه من أصغر مكون إلى أكبر مكون فيه . وعندما يموت أحدهم ، يوجد نسخ لامتناهية العدد منه تستمر في العيش في أكوان أخرى ولديها نفس ذكريات وذاكرة الشخص المتوفي التي تستمر في مراكمة الأحداث والذكريات فهي نفس الذكريات ونفس التجارب لكن الفرق أن نسخة تموت ونسخة أخرى تستمر في العيش ، ما يعني أن هناك استمرارية في الحياة ولكن في مواقع مختلفة وأكوان مختلفة حيث يعيش المرء على نحو أبدي في حالة من الخلود وإن بعث الأموات إلى الحياة مرة أخرى يوم القيامة للحساب حسب المنطق الثيولوجي أمر غير وارد. أما سبب عدم الاتصال بين النسخ فذلك لأن كل نسخة تعيش في زمكان مختلف  رغم تطابقه من زمكاننا لكنه عصي على التماس والتواصل وخارج نطاق الرصد.
    نحن سجناء مفاهيمنا البشرية المحدودة والاختزالية التي لم تتعد مجال التمني  للوصول إلى نظرية كل شيء ، كما لو إنها الكأس المقدسة، للفيزياء. وينتظر منها أن تجيب على كافة الأسئلة والتساؤلات الوجودية من قبيل: لماذا يوجد الكون على هذه الحال  وكما هو ظاهر  لنا اليوم وليس على نحو مختلف؟ ولكن لم نتوصل لحد الآن إلى هذه النظرية الجامعة والشاملة والموحد لكافة النظريات ، أي نظرية كل شيء La théorie du Tout. فالدعامتين الرئيسيتين للفيزياء المعاصر وهما النسبية العامة والميكانيك الكمومي أو الكوانتي، يتواجدان جنباً إلى جنب لكن يتعذر الجمع بينهما وهما بمثابة القلب والروح للفيزياء، فكليهما ضروري لبقاء لفيزياء على قيد الحياة في الوقت الحاضر . لكنهما لا يتوافقان معاً لتوضيح وتفسير الانفجار العظيم والتضخم الفوري المفاجيء والنظرية المعيارية للجسيمات الأولية ، واللانهايات، مما برغم العلماء على اللجوء إلى إدخال عشرات الثوابت في المعادلات الرياضياتية . ففي سنوات الثمانينات بزغ أمل حظي بوفرة من الحماس تمثل بنظرية قامت بمقاربة ثورية تجديدية للجسيمات الأولية المكونة للكون المرئي ، ليس باعتبارها نقاط مجسمة في الزمكان بل على هيئة أوتار أو حبال مهتزة لكنها من الصغر بمكان بحيث يتعذر رصدها مختبرياً في الوقت الحاضر نظراً لتأخر وبدائية التكنولوجيا التي نمتلكها في هذا المضمار حالياً وأهمها هو مصادم ومسرع الجسيمات العملاق  التابع لمركز الدراسات والأبحاث الأوروبي LHC – CERN، الموجود تحت الحدود الفرنسية السويسرية، وهناك نوايا لبناء معجل أو مسرع ومصادم للجسيمات الأولية أضخم منه بكثير وذو كلفة عالية جداً. بيد أن هذا المقترح أو هذه المقاربة تمتلك ميزة أو خاصية تفادي اللانهايات الرياضياتية في المعادلات  المقترنة بالنظريات ، بل وحتى قوة الثقالة الجاذبة  في النظرية النسبية العامة تجد مكانها في هذا البناء الذهني المجرد والتجريدي المسمى نظرية الأوتار الفائقة ، و نظرية الثقالة الكمومية أو الكوانتية théorie de la gravitation quantique . ويتوقع العلماء التوصل في المستقبل المنظور إلى دمج الثقالة الجاذبة والفيزياء الكمومية أو الكوانتية . ولكن مر عقدان من الزمن ولم تتوصل نظرية الأوتار الفائقة إلى هذه النتيجة المرتجاة . فهي ماتزال معقدة وذات صيغ متعددة حتى إن بعض العلماء صار يتردد في إضفاء صفة النظرية العلمية عليها. والمشكلة تكمن في ضرورة إضافة عدد إضافي من الأبعاد المكانية، التي يصل عدده إلى عشرة أبعاد وأكثر إلى جانب البعد الزماني.  وبما أننا لانعرف ولا ندرك و لا نستوعب أكثر من ثلاثة أبعاد مكانية وبعد زماني لواقعنا الذي نعيش فيه، فإن ذلك أفقد بعض المصداقية لهذه النظرية. فالكل يتساءل أين تتواجد تلك الأبعاد المكانية الإضافية؟ اقترح بعض العلماء المختصين بنظرية الأوتار الفائقة أن هناك إمكانية أن تنطوي تلك الأبعاد على نفسها في لفائف في غاية الصغر ، في نطاق اللامتناهي في الصغر، أي أصغر من الذرات ، بل والكواركات بكثير. كان الأمر بمثابة فنطازيا علمية لو لم يأتي اكتشاف الميكانيك الكمومي أو الكوانتي وتطورات هامة أجريت على النسبية العامة لآينشتين فلم يعد هناك شيء يمكن أن يرهب الفيزيائيين ويكبح جماحهم ، ومن هنا فإن نظرية التعدد الكوني أو الأكوان المتعددة والأكوان الموازية  التي أفرزتها نظرية الأوتار الفائقة، اندرجت بسهولة في رؤية علماء فيزياء وكونيات عباقرة للعالم  والوجود من أمثال ماكس تيغمارك  وأندريه ليند Andrée Linde و فيلنكن Vilenkin وغيرهم كثيرون وتبنوا فكرة التضخم الكوني الفوري المفاجيء والهائل  والدائم والعشوائي. وهي النظرية التي تقول بحصول عدد لامتناهي من الانفجارات العظيمة وفي كل لحظة وفي كل مكان.  فكل فقاعة  ــ كونية  ، تبدأ بانفجارها العظيم الخاص بها وتشكل كونها الخاص بها وتتضخم ، على غرار كوننا المرئي الذي قد يكون مصدره فقاعة كونية تتواجد إلى جنب عدد لانهائي من الفقاعات الكونية. وهناك سيرورة كمومية أو كوانتية تحدد على نحو فوضوي وعشوائي القوانين والثوابت الكونية لكل كون ناشيء ، قد يموت على الفور وقد يستمر في الحياة ويتطور كما حصل لكوننا، بما في ذلك سعة المضاد للجاذبية أو الجاذبية المضادة أو الثقالة المضادة، l’amplitude de l’antigravitation، فأكوان التعدد الكوني ليست متشابهة بالضرورة ، فبعضها لديه ثقالة أو جاذبية ، وبعضها لديه ثقالة أو جاذبية مضادة بحيث تؤدي إلى تفجره فوراً وبعضها ينتفخ أو يتضخم ببطء. وبين الأكوان ، مثلما هو الحال بين المجرات في كوننا المرئي، يستمر التضخم ويتسارع لذلك لايمكننا أن نمر من كون لآخر بالنسبة لنا نحن البشر، بسبب أن الفضاء أو المكان بين الأكوان  يتمدد بأسرع من الفقاعات الكونية نفسها ، في حين أن هناك حضارات فضائية أخرى متطورة علمياً ومتقدمة جداً وأقدم منا بكثير،، نجحت في استغلال الأكوان الأخرى لتحقيق  السفر بين الأكوان وبين المجرات . ويعتقد العلماء أن الأكوان المتعددة التي تشكل الكون المطلق باعتباره كل وجودي، ليس له بداية ولا نهاية فهو خالد أزلي وابدي وسرمدي مثل الله السماوي الثيولوجي.

    يتبع 

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media