بمناسبة معرضها في مدينة دنهاخ في هولندا عفيفة لعيبي.. حلم"بوتيشيللي" لربيع عراقي
    الأثنين 13 مايو / أيار 2019 - 21:44
    موسى الخميسي
    عوالم من النور والظل، بالوان متدفقة صافية توهم الناظر بالمدى وتوحي اليه بالحركة وهي تتجاور على سطح واحد باعماق متفاوتة مصدرها صفاء الالوان، و تتشكل على الدوام بضربات دقيقة قوية ممتلئة لتحقق نسبا متعادلة وعلاقات تمنح الالوان عالمها المرجو لتنبض بالحياة. اعمال هذه الفنانة تتشكل من ظلال بصرية تدور حولنا كمتلقين وتحتوينا بمجرد النظر اليها، تترك بصر المتلقي وبصيرته واحاسيسه ووعيه تنساق وراء انامل هذه المرأة الرقيقة، وتتجلى وكأنها ايقاعات التماس في سعيها نحو براءات اولى تبدو وكأنها مكسوة بالاسطورة والرمز الملغز.
    تبث الفنانة القديرة عفيفة لعيبي تشكيلاتها كعوالم مقدسة متجذرة في الاسطوريات العراقية الساكنة في وعينا وروحنا الذائبة في التاريخ القديم، فتبدو وكأنها مفردات ابدية للاكتمال الانساني في اوردة دماء حياتنا، تبثها لتكون شرارة ميلاد وخلق وابداع.
    ثمة توظيف يحمل ذكاءا كبيرا للدلالة على شعبية الرمز كجسد ومعنى، فهي تحرص على خلق مثل هذا التداخل كتعبير وجودي، اجتماعي، سياسي، مقدس وحسّي. فالانسان يظل عندها رمزا للحياة، محمولا في الرأس وفي القلب تعبيرا عن التداخل بين البشري والاسطوري، وهذا الانسان ( المرأة بالذات) يبدو وكانه آتٍ من قلب الموروث الجمالي للمرأة العراقية، مع انه يميل بثيابه الى المرحلة الاغريقية احيانا والرومانية القديمة احيانا اخرى، بصنعة متجددة تبدو هي الاخرى آتية من رسومات فنان عصر النهضة اليساندرو بوتيشيللي. ان شخصياتها تذهب بالواقع الى الحلم باناقة مفتونة برخاء الجمال، تخلق للرائي شعورا باشتهاء تقليدها لما تنطوي عليه من جمال صاف يستتر في كل ثنية من ثنيات الملابس.
    هذا التداخل بين موروثات بصرية وجمالية ورمزية وثقافية، استطاعت عفيفة ان تحقق فيه كيانا انسانيا وجماليا متفردا بمزاوجات بين كل مفرداته الخارجة من الاسطورة والعائدة اليها بتنويعات معاصرة : بالعيون المنترعة بالغموض والاسى، التداخل الانساني الجسدي والوجداني، والامتزاج بين الذكر والانثى، فلا نكاد نعرف سمة احدهما كجنس، اي كيان واحد بملامح متميزة تنتسب الينا جميعا.
    المرأة، هذا الكيان الجميل بجسدها وحركاتها، تعكس وجودا مصنوعا من خيوط رقيقة تحمل عذوبة كبيرة من الحساسية التي تنطلق بها تلك الاردية المزركشة، او تلك البسط والاقمشة بطياتها الاكاديمية.
    إنها حسية الحواس وجماليات الغرائز، على رغم اساها احيانا، لكنها حسية تكشف عن فلسفة الوجود الانساني وتحاول الانعتاق من اسر القيود والعنف، نازعة بنفسها نحو خلق السلام الداخلي.
    الصورة الفنية عند عفيفة لعيبي تعيد انتاج الحياة، فهي لاتعكس العام وحسب، وانما الخاص ايضا، فهي تعيد انتاج الواقع المباشر واللامباشر بكل جوانبه وخصائصه وميزاته وصفاته. انها تعكس انطباعات متعددة باعتبارها شريحة من الحياة، فهي متعددة الجوانب كما الحياة، وهو الامر الذي يجعل الصورة عرضة لتفسيرات فنية مختلفة. فاعمالها تمتلك جاذبية ذاتية بعناصرها التشكيلية بقدر اعتمادها على المضمون الانفعالي وإن كان هادئا بمظهره، اي انها تحافظ على الوحدة البصرية مقابل الوحدة الشعرية في بناء العمل. فالنسق الشكلي وكماله المعمم في معظم اعمالها، يجعل عين المتلقي تنظر الى الشكل باسره باعتباره كتلة واحدة، وهذه هي شعرية الاحساس بالترابط بين الاجزاء. وكلما امعنت العين في طيات الملابس والانسجة او في اصغر التقاسيم الجزئية الاخرى، فانها تلاحظ انسجاما مع الاجزاء الاخرى حتى وان كانت خارجية، مما يعطي انطباعا بالترابط والانسجام، وهما جوهر وحدة العمل التي تشيّد به هذه الفنانة اعمالها التي تحمل فتنة كبيرة بوحدتها المتناسقة.
    الفنانة عفيفة تحتل مكانة تضارع مكانة العديد من رسامين تجريدين عراقيين خرجوا من " معطف" بول كلي. فهي نأتْ بفنها عن التبعية للمدرسة الحداثية المغرقة برجوعها الى نهج في التعبير اكثر تواؤما مع الالتزام بالفهوم التعبيري لخلق موضوعات دنيوية ذات قيمة عالية.
    بصيرتها الشاعرية تتكشف في اعتمادها التنوع في التأليف والمعالجة باسلوب متجانس، فهي لا تعمد الى تفكيك عناصر الضوء او تمديد القيم اللونية المتممة للظِلال، بل تحاول التسجيل المطابق لمظاهر الوقائع البصرية مع الاحتفاظ بالاستقلالية من خلال الاكتفاء بتلاعب الضوء على اللوحة، والايحاء الى الموضوع وتسجيل الاثر الذي يتركه.
    في تلك الالوان الروائية التي تجسد ديناميات الحياة بواقعية انتقائية تعبّر فنيا عن الحياة، تبرهن الفنانة عفيفة على قدرتها في ان تكشف عن امكانيات الضوء في حِرفيات الرسم وعملية الخلق ، كما انها قادرة ايضا على الاجابة عن كل المتطلبات الموروثة في العقل الانساني الهادفة الى اختراق حقيقة وفكرة الظواهر الحياتية. فتجسيد الواقع الذي تحلم به هذه المرأة هو اساس هذه الواقعية، ولهذا السبب فانها تعمل على تقريب الفن من الحياة جاعلة منه صورة حية وصادقة عن الواقع المتطور. فموضوعها الرئيسي هو الانسان والمرأة بشكل خاص، وتجسيد عوالم هذه المرأة يعتبر اسمى واروع واجبات الفن واكثرها انسانية.
    تدرك عفيفة ان بقاء الفن الواقعي واستمراريته لايمكن النظر اليه الا من خلال اعادة التفكير الكامل بطبيعة وتوجهات ومتغيرات فنون اليوم التي تبني اساليبها على اولوية السطوح الملونة الزخرفية، او الرموز والتشويهات الذاتية التي تكون في بعض الاحيان غير متعادلة مع جمال الحياة الانسانية الطبيعية وغناها الحسي. فهي تصور التنوع بين الناس الذين يحيطونها، فتصور بالذات احلامها كانسانة، اذ يمكن للمرء ان يقرأ في كل الوجوه المرسومة الفرح والمشقة والامل، كما يمكن قراءة الكرامة والقوة والجمال. وهذه شجاعة تضاف الى تنوعها بالموضوعات التي تختارها والقوة في جعل كل لمسة من فرشاتها قادرة على اقناع اشد الاحساسات توترا.

    روما:موسى الخميسي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media