عَلَّم عليه
    الخميس 23 مايو / أيار 2019 - 06:04
    أبو تراب كرار العاملي
    مشكلات، عدم انسجام، سوء تفاهم، أخذٌ وردّ بطريقة غير ودّيّة، حوارات مشحونة بالمناكفات، سجالات لا تخلو من حِدّيّة، تعابير متبادلة مُرفَقة بمسار "عُنْفَوي" وغيرها من هيئات تصادمية بين أصناف بني البشر، كلها ـ وغيرها ـ حالات قد تصادفها علاقات الآدميِّين ـ والحوّائيٌات ـ بين بعضهم البعض، في سهرة هنا أو جلسة هناك، ضمن نقاش علمي أو كلام ترفيهي وغيرها من أشكال التخاطب المتعارفة في مختلف المجتمعات الإنسية على اتساع بقاع هذه المعمورة.

    وطبعا، ميادين العالم الافتراضي ومساحات الشبكة العنكبوتية المتشعبة هي من ضمن الساحات التي قد تحتضن أشكال المواجهات المشار إليها آنفاً.

    الاختلاف في الرأي مسألة طبيعية، والتوجهات المختلفة هي بدورها مسارات مُتَوَقَّعة. هذا يُفَضِّل "الطريقة أ" وذاك يرى في "الطريقة ب" الخيار الأفضل، وآخر يعارضهما ويرى في التوجه نحو "الطريقة ج" النجاح المضمون والنتيجة الأسلم.

    لا ضير في هذه الباحات المتنوعة، ولا بأس في اختلاف التشكيلات، بل هو شيء طبيعي ومُتَوَقَّع.
    إلا أن الكلام يأتي في المرحلة اللاحقة لهذا التباين، وبما سيجري بعد هذا التفاوت في الخيارات، وفي أشكال صنوف التَّبِعات التي قد تظهر في البَيْن وتُوَلِّدها محطات المناكفات المتلونة.

    في المبدأ، النقاشات التي قد تجري هنا وهناك، حضورياً ـ وجهاً لوجه ـ أو في مساحة كتابية أو في إطار صوتي أو غيرها، يجب أن تكون بكل أدب واحترام دون جرح الآخرين وأذيتهم.

    إلا أن الكائن الإنساني موجود حماسي، قد ينفعل ويتفاعل بطريقة غير مدروسة وبأسلوب غير محسوب، فيأخذه المقام إلى وضعية غضبية كذائية قد تخرج عن حدود اللياقات الأدبية وتجعله في موقف مصادمة لسانية مع الطرف الآخر.

    بعد الفراغ من النقاش الحماسي، وبعد الانتهاء من حالة سوء التفاهم التي قد تحدث، يجد الإنسان ـ المتحمس والذي خاض غمار التصادم مع الطرف الآخر ـ نفسه في إحدى وضعيات ثلاث:

    الحق بالكامل ليس معه وبالتالي هو ظالم.

    الحق بالكامل معه وبالتالي هو مظلوم.

    وضعية تبعيضية: أي الحق معه ـ أي هو مظلوم ـ في جزء... والحق ليس معه ـ أي هو ظالم ـ في جزء آخر.

    ولكل حالة وضعها التأملي، وينبثق منها مسار تعاملي ينبغي الالتفات إليه وعدم الانجرار إلى الحسابات الدنيوية الخاطئة التي قد تودي بنا إلى الخسارة المُحَسِّرة، أي التي قد تدفع الإنسان إلى التحسّر لسوء تعامله مع الوضع وعدم استغلاله لفرص الاستثمار المهمة والمُربحة في هكذا مجالات.

    أما الوضعية التبعيضية، فكل قسم من قِسمَيْها يشترك مع إحدى الوضعيتَيْن الأُخْرَيَيْن.

    أما إذا كان ظالماً كليّاً (الحق بكامله ليس معه): فعليه التدارك وتصحيح المسار وإعادة تصويب الأمور والاعتذار عن الخطأ، فإنه إقدام يُعَبِّر عن شجاعة لدى الفرد وعمل يُظهِر أخلاقه النبيلة والرُقِيّ في التموضع في حالات الزلات والخطأ التي قد يصطدم بها أيُّ غير معصوم. ولا بأس، من باب شدّ الهمم في هذا الاتجاه الإصلاحي الكريم، أن يستحضر الإنسان المُخطِئ عرصات ذلك اليوم الموعود ومشهديات المحكمة الإلهية التي سيمتثل في حضرتها المذنبون والظالمون والسالبو الحقوق على مختلف أنواعها {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [سورة الصافات ـ الآية ٢٤].

    فَلْنخفّف الحِمِل بالتدارك المبكر في هذه الدار.

    الروح لم تمضِ إلى بارئها... الفرصة لا زالت متاحة... فَأَرْسِل إلى بارئها التعويض الصالح قبل ذهاب الروح وحضور الحسرة.

    بينما إذا كان مظلوماً كليّاً (الحق بكامله معه): فهنا المكسب المذهل والعطاء الرائع والكنز الثمين وما شئتَ فَعَبِّر، إنها فرصة التخلق بأخلاق الله (جلَّ وعلا)، وإنها مناسبة الترقي والصعود لمرتبة "الكائن الإلهي"، وإنه زادٌ بقمة الروعة للتقرب إلى الباري (تعالى). فالصفح عمَّن أساء والتجاوز عن زلات الآخرين هما من التوفيقات النَّوعيَّة الراقية التي ينبغي ـ بشدة شديدة ـ عدم تفويتها وعدم السماح لها بالضياع ومنعها من المرور دون الاستفادة منها.

    هدية جاءتك... إياك والتفريط بها... اغتنمها وارتفع في الدرجات.

    ولا بأس هنا أيضاً بشد الهمم والإضاءة على ما يلي:
    عندما يُقدِم الظالم بالمبادرة وفتح قناة التواصل مع المظلوم ويرد الأخير بالتجاهل متسلحاً بوضعيته بأنه مظلوم وقد سُلِب حقّه، فهنا على المظلوم أن يستحضر علاقته بخالقه (عز وجل) من زاوية أنه هو بدوره مُقَصّر تجاه ربّه (تبارك اسمه) وقد يكون عاصياً في بعض الأحيان ويطلب السماح من الله ويرجو رحمته. وهنا تكمن المعادلة: أيها المظلوم، كما أنك تريد لطف الله وترجو غفرانه وتناشد فيض جوده، عليك بدورك أن تقبل انفتاح ظالمك عليك وقبول تداركه والصفح عما بدر منه تجاهك... وكله في عين الله (تعالى).

    وإن أصريت ـ أيها المظلوم ـ على موقفك المتشدد، فقد يكون لسان حال الظالم في محضر صاحب الزمان (عج): "انظر يا مولاي، يا أبا صالح، أمد يد الانفتاح إلى مَنْ ظلمتُه لأرمم ما بدر مني، إلا أنه لا يعيرني أي اهتمام ويصر على تجاهلي".

    {اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَدِّدْنِي لاَنْ أُعارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرنِي بِالبِرِّ وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالبَذْلِ وَأُكافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ وَأُخالِفَ مَنْ اغْتابَنِي إِلى حُسْنِ الذِّكْرِ، وَأَنْ أَشْكُرَ الحَسَنَةَ وَأُغْضِي عَنِ السَّيِّئَةِ} [دعاء "مكارم الأخلاق" للإمام علي زين العابدين (ع)].

    في عالم التعارك والتعانف الجسدي، عندما يقوم أحدهم بترك "أثر ما" على أحد أعضاء الطرف الآخر نتيجة "العَرْكة" التي خاضاها، يُقال "عَلَّم عليه".

    وأنت أيها المظلوم، إذا أصريت على استعلائك وعدم الصفح والتسامح، ووقعتَ ـ بالتالي ـ في وضعية لسان الحال المُشار إليها آنفاً... فيكون قد "علَّم عليك".

    [وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ].


    أبو تراب كرار العاملي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media