العباسة أخت الرشيد ...أسطورة الزمن البغيض..
    الثلاثاء 25 يونيو / حزيران 2019 - 06:08
    د. عبد الجبار العبيدي
    كفاية سياسة..فقد مَللنا من السياسيين..دعونا نكتب في اساطير الأولين..العباسة أخت الرشيد ...أسطورة الزمن البغيض..

    كراهية الفرس للعرب قديمة ،قدم الصراع الحضاري منذ عهد البابليين والآشوريين،لكن الصراع العربي الفارسي ظل مستعرا بأحتلال فارس للعراق وجَعلِها زيزفون "المدائن الحالية"عاصمة لها منذ عهد الساسانيين،ولا زالت تطالب بها الى اليوم..أنظر:"خطبة نائب الرئيس الأيراني" لكن الفتوحات الاسلامية التي انهت حضارة الفرس وأحلت محلها حضارة الدين كما يقولون ..هي التي أخمدت النارالمشتعلة بين الطرفين ،في وقت بقيت آثارها خامدة تحت الرماد تُنبأ ...بأيقاظ ...جديد .

    وبمجيء الدولة العباسية "132 للهجرة"عادت الامور مرة اخرى بعلاقات قوية استوزر فيها الرشيد البرامكة ومنحهم سلطة الدولة  ، فأصبحت لهم مكانة سياسية مرموقة في بلاط العباسيين ..ومن هنا بدأت هذه القصة المفبركة بين جعفربن خالد البرمكي والعباسة بنت الخليفة المهدي بن المنصورالعباسي( ت169 للهجرة)،واسمها الحقيقي عَلياء، شخصية سياسية يغلب عليها الطابع الاجتماعي الشعبي، من يقرأ تاريخها يجد انها تتناقض والتسيب الذي يلصقه بها المؤرخون..لكن المؤرخين ما دروا..أنه الحقد الفارسي القديم.
     
    بدأ الخليفة المهدي حياته السياسية بالانفتاح وسياسة الاسترضاء لظنه بأن الناس هم القاعدة التي يستند عليها في حكم الدولة وهو محق في ذلك، فعهد القوة والارهاب الذي ساد عصر  المنصور"الدولة أنا" قد انتهى بموته (ت 158 للهجرة).لذا حين انتقلت مقاليد السلطة له بدأ سياسة مغايرة لسياسة والده،فراح يدقق في صغائرالامور وكبائرها، وهو الذي لا يتكل الا على ثقة، كما ان الشك كان يساوره دوما في رجاله ، والشك أول اليقين ، وذلك لكثرة حرصه على أمور الدولة،لذا كان كثير العزل والتولية لولاته لمجرد
    الاشتباه(1).
      
    هذا التوجه السياسي الجديد قاده الى توجه اجتماعي منفتح ، حتى قيل في عهده تفشى المرح والرقص والغناء ، ففتحت الملاهي الليلية على خلاف ماكان في عهد سلفه المنصور..ظاهرة حضارية في عهده لاشك.. ان بعض المنصفين من المؤرخين(2)،يقولون ان الخليفة المهدي شجع اهل بغداد على الاقبال نحو الغناء واللهو،الا أنه رفض ان يتجاوز حدود ما امر الله به،لكن الامور أستغلت لغير صالحه،فشاع شعر الغزل ، مما مهد لظاهرة الاحتجاج حتى دعى بشار بن برد الى الكف عن قول مثل ذلك الشعر(3). ويبدو ان شيوع ظاهرة الترف والغناء يعود الى تطور روح العصرفي نواحيها الاجتماعية والاقتصادية نتيجة ارتفاع 
    مستوى الناس المعاشي الذي انعكس بدوره على حياتهم الاجتماعية،وانفتاح المجتمع العربي على المجتمع الفارسي ولربما البيزنطي ايضاً.
     
    أما سماع المهدي للغناء وحضور حلقاته،تعد أمراً طبيعيا ،اذ يتمتع انسان حاكم متمكن مثل الخليفة المهدي بمشاهدة السرور ليبعد عن نفسه عناء العمل المضني والمسئولية الكبرى وليشارك به الناس،لذا يقول الجاحظ فيه: قال المهدي"أنما اللذة في مشاهدة السرور وفي الدنو ممن سرني(4)". كما كان المهدي محباً للمنادمة والمناقشة والمجادلة ،بعد ان تعلم وتأدب وجالس العلماء والزهاد واصحاب الفكر والرأي ،مما ولدت فيه القيادة الحكيمة ،متمسكا بنصيحة والده المنصور الذي اوصاه حين قال له :(يا بني لا تجلس مجلساً الا ومعك من أهل العلم من يُحدثك).هذه الرغبة المنفتحة فيه شملت اسرته ايضاً.فعلياء ابنته المسماة بالعباسة ( ت215 للهجرة) قد عرف عنها الاهتمام الزائد بأناقتها،وأختيارها أزياءها ووسائل زينتها وجمالها ،وقد نافست زبيدة زوجة الرشيد بهذا الحقل...هذه الزوجة التي صرف لها المهدي يوم زواجها بالرشيد اكثر من 75 مليون درهم كما ترويه المصادرلنا (5).

    لقد اشتهرت العباسة اخت الرشيد بالفضل والادب والحسن والجمال ومجالسة الشعراء والادباء اوقل حتى بمجالسة الرجال، حتى خاف الرشيد عليها ،فالرجال في الجنس لا يؤتمنون .. لذا قتل جعفرا بريئاً  لظنه بمعاشرتها سراً(6). مثل هذه المرأة التي تربت في بيوت الخلفاء وتوفر لدينا كل ما تريد ، رزقت بألفكر والادب و الجمال معاً، حتى قيل انها كانت تلبس الماس المرصع بالجواهرالأخرى  لتستر به جبينتها العريضة المُغرية للرجال وهي اول من لبسته،ولها ديوان شعر كبير نقتطف منه الابيات التالية:(7).
      
         الا  قل  لامي  الله         وأبن السادة الساسة  
        أذا  ما  خالف  سرك       أن تفقدوه   رأسه
        فلا  تقتله  بالسيف          بل زوجه   بعباسة

    نعم لقد قتلَ الرشيد جعفرالبرمكي  لظنه بمعاشرتها سراً،علماً ان العباسة كانت زوجته شرعاً،لان الرشيد قد زوجها به زواجاً صورياً ليبيح لها الالتقاء به في مجالسها الادبية والشعرية دون حرج من آثم. لكن الجهشياري المؤرخ الثبت ينفي ذلك نفياً قاطعاً ويقول على لسان احد الرواة" لا  والله  ما  لهذا  شيىءُ من  أصل"(8).ويؤكد الدكتور عبالله الفياض استاذ التاريخ الاسلامي حول هذه القصة فيقول:"لو جاز لنا قبول تزويج العباسة بجعفر من قبل الرشيد،فلا بد من سند او وثيقة وشهود،لان من الشروط الشرعية لعقد الزواج التدوين والشهود من القضاة والعباسيين  وكبار القوم وغيرهم حتى يكتسب العقد شروط الاعلام والتحصين(9) ..هنا ثار جدل كبيرفي وقتها حول الآية الكريمة التي تقول : "وما ملكت أيمانهم" ... والزواج بهن دون عقد أحصان ".مسكين جعفر البرمكي ..فكم من ساكني الخضراء اليوم من المتزوجين بعباسة وما ملكت ايمانهم والناس تحسبهم مخلصين..لشرعية الدين..

    لكن مهما قيل ويقال فأن قتل جعفر ونكبة البرامكة الكبرى كانت صِداماً سياسياً نتيجة الاطماع في آمور الدولة بعد ان تدخل البرامكة فيها وحتى في خصوصيات الرشيد نفسه.اما قصتها مع جعفر فهي حكاية شعبية واسطورة حاكها ونسجها الفرس لتشويه سمعة الخلفاء العباسيين بعد النكبة ،ولان الفرس يكرهون العرب  منذ القدم كراهية التحريم ظناً بهم انهم هم الذين اسقطوا دولتهم الفارسية ودمروا حضارتهم القديمة لصالحهم، بعد ان نشروا الاسلام بين ظهرانيهم بالسيف لا بالقناعة ، حتى كتب احد المؤرخين الايرانيين المُحدثيين قائلا:"لولا سقوط دولتنا القديمة على ايدي العرب المسلمين لكنا اليوم من افضل الدول علما وتقدما" ومن وجهة نظري صحيح... فمنهم جاء العلماء والكُتاب والمُبدعين..وحتى اليوم اذا بقيت ايران على نهجها الديني المذهبي المتزمت لن تكون نهايتها الا الدمار والخراب..

    لذا دبروا هذه الحكاية المصطنعة ليسودوا تاريخ العرب والعباسيين الى الابد،لأن كلمة الشرف التي لم ترد في القرآن الكريم  مرتبطة بشرف المرأة تاريخيا عندهم.. وانا شخصياً أميل الى تصديق الرأيين معاً...لان العرب ما كان من حقهم ان يفتحوا فارس بقوة السيف..ولا من حق الايرانيين ان يعتدوا على وطن العرب - الجيرة المخلصة أفضل من العداوة الدائمة- حتى قال لي احد الاصدقاء الذي عاش هناك سنين: "ان الايراني اذا اراد ان يشتم اخيه بحرقة : يقول له انت عربي..حقدا وكراهية للعرب..وحتى المعارضة العراقية التي عاشت عندهم قبل التغيير في 2003 كانت تعيش حياة الكراهية والمذلة عندهم..ولنا في ذلك شهود. .وكذلك موقفهم من منطقة الاحواز العربية وأضطهادهم لها ..فالمغرورون بهم اليوم عليهم ان يخففوا من غلوائهم بالغرور..وان يعترفوا بحقيقة الأمور..فالأوطان هي التي تحفظ الكرامة والحقوق ..ياليتهم يعلمون..؟

    لقد ايد المؤرخ الطبري(ت310للهجرة) في كتابه الرسل والملوك وابن خلدون(ت808 للهجرة) صاحب كتاب العِبَروديوان المبتدأ والخبر، أيدوا الجهشياري( ت331 للهجرة) في رأيه وأعتبروا اتهام العباسة بجعفر هي حبكة فنية مقصودة لغرض تشويه سمعة الخليفة الرشيد معللين ذلك بالادلة النقلية والعقلية (11). تلك التهمة الباطلة التي أضرت بها وبسمعتها وجرت عليها الويلات التي اودت بحياتها  بعد ان كانت متزوجة  من ابن 
    عمها موسى بن عيسى العباسي الذي تزوجها وسكن معها البصرة في جنوب العراق ولها منه اولاد.

    أنها رواية مأساوية تمثلت بالتخلص من جعفر والعباسة والاساءة للبيت العباسي من قبل مؤرخين باعوا امانتهم التاريخية لغرض تحقيق مأرب سياسية كما نرى بعض مؤرخينا اليوم،حين باعوا وطنهم لغرض تحقيق المآرب الشخصية ، وتلك وصمة عار في جبينهم ستبقى تاريخاً لهم.. ولا زالت القصة  الى اليوم تسمعها الاذان وتتداولها الالسن وكانها حقيقة ، وما هي بحقيقة،وكأنك تقرأ نادرة من نوادر القصص الخيالية،التي تعتبر من أساطير الأولين..

    ان الشعوب لا تركن الى غيرها في أثبات حقائقها التاريخية ،بل تركن الى علمائها وآثارها التي تحاكي صفحاتها التاريخية المشرقة ،لذا يعمد الغرباء الى تدمير أثارها ومتاحفها وبيع مخطوطاتها للأجنبي كما فعل بعض من اصبحت الامور في يدهم خطئاً حتى لا يبقون لها من آثر.وهكذا فعل بنا الأعداء بعد 2003..حين بيعت مخطوطاتنا الآثرية علنا في سفاراتنا في خارج الوطن.. انها خيانة وطن ..؟

    هناك ملاحظة مهمة لابد من ذكرها ،هو ان الخليفة المهدي  بأنفتاحه على العصر ، سبب له الكثير من المتاعب له ولعائلته جميعها ابتداءً بالخيزران الجرشية زوجته الجميلة وجاريته السابقة -girl friend - التي كانت تجالس الرجال وتستمع اليهم وتحاورهم لشخصيتها الطاغية وعلمها الغزيربالشعر والآدب التي اغرت الرشيد بها فتزوجها،وابنته الثانية البانوقة  التي كانت تحب ارتداء ملابس الغلمان وتتقلد بالسيف وتهوي ركوب الخيل وسباقاتها ،كانت فتاة سمراء فاتنة الجمال كجمال امها الخيزران الذي لا يقارن ولا يقاوم..بهجة وجاذبية بالاخريات على حد قول المصادر(12)،حتى قيل عنها: "كانت تمشي مع ابيها في الاستعراضات الشعبية حين قال عنها الطبري في الرسل والملوك نقلا عن رواته " وأني لأرى البانوقة تمشي وفي صدرها شيئاً من ثدييها"..يقصد انها كانت فتاةً متبرجة.
      
    هذا الاتجاه الجديد المنفتح في مسار خلافة المهدي العباسي هو الذي جر عليه التقولات والاتهامات الباطلة التي رددها العامة وما ادراك ما العامة.ومن يواكب ما اورده المؤرخون عن  يوم البيعة منه للرشيد والهادي في بغداد  مدينة السلام  والاستعراضات الشعبية  والرقص والموسيقى والطبول وفرق الغناء الخاصة والعامة ومباهج الفرح والسروروتوزيع الهدايا والاموال للعامة  يدرك وكأنه يعيش في عصر الأندلسيين .. والتاريخ خير شاهد على ذلك.
    وتبقى نقطة مهمة  في هذه العُجالة هو ان الخلفاء والامراء والقادة وحكام الدول المتخلفة على مرِ العصوروالازمان، حين تتوفر لهم سلطة الدولة والمال يعتقدون خطئاً انهم اصبحوا الاقوياء الذين لا يُردون ،والسُراق الذين لا يُفضَحون، والقادة الذين لا يَنكسِرون،لذا تراهم يعبثون ويخترقون القانون والدستور. ,، وكأنهم في مأمن الزمن لا يُخترَقون،فهل يتعظ قادة المنطقة الخضراء مما هم فيه اليوم والغون من تقصير بحق الوطن والناس والقانون ؟ لكن لا عتب لأن منهم ليسوا بعراقيين..بعد ان باعوا الناس والقيم والدين والقانون..؟ فماذا بقي لهم غيرالمال ومذمة التاريخ..

    أما الذين أستقاموا لربهم - ,- وهم قلة في التاريخ ، فهم في مأمن الزمن من الناجين..يقول الحق :وألو أستقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً،الجن 16". اما الاخرون والذين مادروا ان كل شاردة وواردة منهم تسجل عليهم ويوَثقون ،فأذا ما حانت الفرصة سيُفضحون ويُصبحون اضحوكة التاريخ من كل الاخرين، وشواهد التاريخ كثيرة ابتداءً بالاسكندر المقدوني أمبراطور الرومان ومرورا ًبهتلر زعيم آلمانيا النازية وموسليني زعيم آيطاليا الفاشية وانتهاءاًً بألأخرين في دول الدكتاتوريين.

     .حكام الجوروالباطل وأختراق القانون والتعالي على الاخرين والناكثين العهد وحانثي اليمين ..لا يتعضون كما في حكام الخضراء البائسين اليوم ..لأنهم لم يشربوا من ماء الاستقامة الغدق..ولم يقرأوا التاريخ الصحيح وما حل بالغابرين الظالمين ..حين ماتوا مقهورين ..وبعض الحاليين منهم ، الذين ماتوا ودفنوا بتوابيت بلا جثامين ..وستموت البقية التي خانت وحنثت اليمين ..كما مات كل الطغاة عبر الزمن يتحسرون...وعليهم ان يعلموا ..ان الندم لا ينفع على فراش الموت النادمين.فهل سيموت أصحاب الدولة العميقة  متحسرين على ما فعلوا...ويفعلون اليوم؟..
    انا ....لهم.... لمنتظرون..
    المصادر المعتمدة:-
    -------------------
    1-أبن طباطبا –الفخري في الاداب السلطانية.
    2-عاصم عبد الرؤف-الحواضر الاسلامية الكبرى ص227 وما بعدها.
    3-المسعودي –التنبيه والاشراف ص 333.
    4-الجاحظ  -  كتاب التاج ص 34-35.
    5-كحالة – اعلام النساء ج2 ص 17وما بعدها.
    6-عبدالله الفياض – تاريخ البرامكة ص18.
    7- كتاب نساء في حياة هارون الرشيد
    8-الجهشياري- الوزراء والكتاب ص204.
    9-عبدالله الفياض –المصدر السابق.
    10- الطبري- الرسل والملوك ج8 ص 186 ،ابن خلدون كتاب العبر.
    11- مجموعة المؤلفين –قراءات خاصة ص 126 وما بعده.
    12-الطبري  ج8 ص185.

    jabbarmansi@gmail.com

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media