القلّة والاستقلال
    السبت 13 يوليو / تموز 2019 - 16:34
    د. هادي حسن حمودي
    باحث وأستاذ جامعي عراقي - لندن
    شيء من اللغة

    في ندوة ثقافية قال أديب: (حيث استقلينا أنا و(ذكر أسماء مَنْ معه) سيارة واحدة. حيث استغلينا فرصة اللقاء للحوار وأنا أصريت على....).
    في القول كلمات شائعة وهي (استقلينا، استغلينا، أصريت) قد نقبلها في حوار يومي في مقهى أو محل تجاريّ. أما أن يصدّرها إلى أسماعنا أديب في ندوة ثقافية، فمسألة تستحق التوقف عندها. وسنخصص لكل لفظة منها حلقة، تيسيرا للطلب.
    نبدأ باللفظ الأول (استقلينا) هو من الجذر اللغويّ قلّ، أي (ق. ل. ل) ولا أحد يجهل معنى القليل، بحيث يغدو تفسيره بكلمة أخرى تعقيدا لا مسوّغ له. وقد وهم اللغويون حين جعلوا معه (قلقل) الدال على عدم الاستقرار أو الانزعاج.
    وينتمي الجذر إلى مجموعة من الجذور لها مواصفاته نفسها، وكأنها جذور زئبقية. تقول لصاحبك: أقلِلْ عتابك، فتفك تضعيف اللام إلى لام مكسورة وأخرى ساكنة. فإذا صغت الأمر بشكل آخر وقلت: فليقلّ عتابُك، أعدت اللام لتضعيفه وفتحت ثانيه. ومنه قول جرير:
    أقلّي اللومَ عاذلَ والعتابا
    وقولي إن أصبتُ لقد أصابا
    ولا ندري لم لا تقلل العتابا وتقول له إن أصاب لقد أصابا؟!
    وقلّ الماء قِلَّةً فهو قليل. وأقلّ فلان في شِعره، فهو مُقِلٌّ. وقلّلتُ لك أعداءك كي لا تخشاهم، ومنه في التنزيل العزيز: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) (سورة الأنفال 44) فجمعت الآية كلمة (قليلا) وكلمة (يقلّلكم) وكلتاهما من الجذر (ق. ل. ل). حيث انفكّ التضعيف في الأولى وجاء حرف ياء بين اللامين. وبقي مشدّدا في يقلّلكم مع لام مضافة. والكلمتان دالّتان على القلّة.
    ونلاحظ أن الياء مضمومة والقاف مفتوحة في (يُقَلِّلُ)، فإذا غيرنا الحركتين ظهر اشتقاق آخر هو (يُقِلّكم) كما في قولك: يُقِلّكم القطار إلى مدينتكم بأمان.
    ومن الجذر لفظ الاستقلال كقولك: استقلّ البلد، أي: خرج من السيطرة الأجنبية والاحتلال.  واستقلّ الولد بشؤونه عن أبويه. وأنا مستقلّ برأيي، أي لست خاضعا لغيرك، تختار مواقفك بناء على قناعتك.
    وقد تتساءل: هل ثمة علاقة بين هذه الاستعمالات ما دامت من جذر دالّ على القلّة؟ فالجواب: لا شك في وجود علاقة بينها، ولكن لها مستوى آخر من البحث بناء على التطوّر التاريخي لهذه المشتقات.
    أما قول المعجميين إن قلقل الدالة على الانزعاج وعدم الاستقرار هي من هذا الجذر، فلا نراه سليما. فهي من القلق، أي من الجذر (قلق) وأضيفت إليه اللام لتكوين معنى جديد يعبر عن شديد القلق المؤدي إلى الانزعاج. وبناؤه الصرفي (فعلل) لمن يحب معرفة الميزان الصرفي.
    وحين تقلقلك أحداث زمانك، أي تزعجك من أرضك ووطنك، وتريد إشراك الآخرين في تلك القلقلة فردّد قول الشاعر:
    وقلقلتُ بالهمّ الذي قلقل الحشى
    قلاقل عيسٍ كلّهنّ قلاقلُ
    أما (استقلينا) بمعنى ركبنا فهو مسخ وانحراف في استعمال استقللنا، المنحرف بحد ذاته، ومن حقك أن تسأل: وكيف كان ذلك؟ فأجيبك:
    الفعل: استقلّ فلانٌ الشيءَ: رآه قليلا. وهو واحد من معاني صيغة استفعل الدالة، غالبا، على طلب الشيء، كما في: استفهم: طلب الفهم. واستعلم: طلب العلم. واستنجد: طلب النجدة. واستنصر: طلب النُّصْرة.
    وقد درج الناس على قول: استقللنا القطار في سفرنا. والحقيقة أنهم لم يستقلوا القطار، بل القطار هو الذي أقلّهم. ومن هذا قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً)(الأعراف 57) لذا كان يجدر بهم القول: أقلّنا القطار في سفرنا. أو أقلتنا سيارة.
    ثم ظهر جيل من المثقفين والأدباء استثقلوا (استقللنا سيارة واحدة) على الرغم من انحرافها اللغوي، فمالوا بها إلى انحراف أوسع في قولهم: (استقلّينا) حيث أبقوا اللام المشدّدة وتبرعوا بياء بعدها، وكأنها من (استقلّى) الذي لا وجود له.
    ومن الجذر جاء (قلّما). وروى الخليل في (الكتاب) قول الشاعر:
    صَدَدْتِ فأطولتِ الصدودَ وقلّما
    وِصالٌ على طولِ الصّدودِ يدومُ
    فلماذا صَدَدْتِ عنه يابنة الأكرمين؟
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media