الكون الواعي
    الثلاثاء 30 يوليو / تموز 2019 - 16:21
    د. جواد بشارة
    بعض العلماء بات يعتقد أن  الكون يمتلك وعياً، وبهذا قد يتكرس علمياً مفهوم الكون الواعي، الحي، المطلق، الكامل ، أو المتمتع بالكمال  والكلية ، والمتحرك والمتطور دوماً ، بلا بداية ولا نهاية ، لم يخلقه أحد ولم يخلق  أحداً، إذ هو الوجود برمته، وكل شيء موجود، مادي أو غير مادي، هو جزء من مكوناته، من أصغر جسيم في اللامتناهي في الصغر في كوننا المرئي إلى أكبر شيء، في اللامتناهي في الكبر ، بما فيه نحن البشر والكائنات الأخرى في المجرات في كوننا المرئي، الذي هو جسيم صغير لا متناهي في الصغر من بين عدد لامتناهي من الأكوان المكونة للكون المطلق ، إن هذا الأخير، أي الكون المطلق، هو الذي يمتلك الوعي . لقد بتنا نعتقد الآن أن الكون لابد أن  يكون واعيا، فلا مناص من ذلك، و لا ينبغي أن نبحث بعيدًا عن نظريات غريبة عن طبيعة الكون والوعي الإنساني، في هذه الأيام ، حيث تجد المفاهيم، التي تم تداولها في مجال الخيال العلمي ، طريقها إلى المجلات الأكاديمية الرصينة منها والباطنية أو الماورائية، ومن هناك إلى الخطاب السائد تجاه العامة. ومن الأمثلة على ذلك منظومة المحاكاة ، التي دافع عنها مؤخراً الملياردير  الواسع الخيال إيلون ماسك ؛ وهناك مثال آخر يتعلق بــ "بلورات الزمن" ، وهي مرحلة غير خطية محيرة من المادة. وأخيرا وليس آخراً، أحدث سمفونية عن الروح، و التي يتم بثها عبر الإنترنت وتطرح أفكارًا جديدة حول النظرية المربكة المتمثلة في   النزعة الروحية والنفسية الشاملة والجامعة، أو الروحية الشاملة المعروفة علمياً بــ "panpsychism" حيث الاعتقاد بأن العقل والوعي هو خاصية أساسية للكون المادي ومشبع من جميع حالات المادة ، المعروفة منها  والمجهولة من قبلنا.

    أعادت ورقة بحثية علمية جديدة ، نشرها الفيزيائي غريغوري ماتلوف Gregory Matloff ، الفكرة مرة أخرى إلى المناقشات العلمية ، واعدة بإجراء الاختبارات التجريبية التي يمكن بفضلها "التحقق من صحة أو خطأ أو تزوير" مفهوم "الوعي الكوني في كل مكان." champ de proto-conscience أو حقل إنموذج الوعي المتواجد دوماً في كل مكان.  حسب تعبير  غريغوري ماتلوف الذي دافع عن فكرة مثيرة للجدل نوه عنها في ورقته العلمية والتي تتحدث عن" النجوم التطوعية أو النجوم ذاتية التوجه "، مما يدل على أن هناك بالفعل دليل على أن النجوم تتحكم في مساراتها المجرية.

    وبقدر ما تبدو النظرية سخيفة، لدى البعض ، فإن لديها العديد من الأتباع البارزين ، من بينهم العالم الفيزيائي النظري البريطاني الشهير السير روجر بنروز Sir Roger Penrose ، الذي قدم التعقيد لمفهوم النزعة الروحية والنفسية الشاملة والجامعة أو الروحية الشاملة  "panpsychisme"  قبل ثلاثة عقود. يعتقد بنروز أن الوعي ينشأ من خصائص التشابك الكمومي découlait des propriétés de l'enchevêtrement quantique. كما قام هو وعالم التخدير ستيوارت هامروف Stuart Hameroff بتأليف فرضية الحد من الأهداف المدبرة أو المنظمة(Orch-OR) l’hypothèse de la réduction de l’objectif orchestré ، والتي تؤكد ، من بين أمور أخرى ، أن الوعي ينتج عن الاختلاجات والتقلبات أو الاهتزازات الكمومية  vibrations quantiques  داخل الأنابيب الدقيقة des microtubules.
    في عام 2006 ، دفع العالم  الفيزيائي الألماني برنارد هايش Bernard Haisch  بهذه الفكرة إلى أبعد من ذلك واقترح أن ينشأ الوعي داخل "الفراغ الكمومي vide quantique " في أي وقت وفي كل مرة  يوجد فيها نظام متقدم ومتطور بشكل كبير يتم تدفق الطاقة  من خلاله.

    وتناول كريستوف كوش Christof Koch ، عالم الأعصاب neuroscientifique ، ، هذه الخاصية الغريبة، ولكن من زاوية مختلفة، وهو مؤيد آخر لنظرية الهيئة النفسية أو التجلي النفسي والروحية الشمولية panpsychisme التي تقول أن لكل مادة طبيعة نفسية ، مستخدمًا نظرية المعلومات المتكاملة la théorie de l'information intégrée  ليجادل بأن الوعي ليس فريدًا أو مقتصراً على الكائنات البيولوجية.

    يؤكد كوخ: أن "النظرية السائدة الوحيدة التي لدينا عن الوعي تقول إنها مرتبطة بالتعقيد la complexité - وبقدرة النظام على التصرف بناءً على حالته الخاصة وتحديد مصيره". كما تنص النظرية على أنه يمكن للتعقيد أن يتحول إلى أنظمة بسيطة للغاية. من حيث المبدأ ، وقد تكون بعض النظم الفيزيائية البحتة غير البيولوجية أوغير العضوية مدركة وواعية أيضًا. 

    ينقل ماتلوف وغيره من العلماء الحجة والفرضية إلى مرحلة جديدة: ألا وهي مرحلة التجريب. يعتزم ماتلوف التركيز على دراسة سلوك النجوم ، و على وجه التحديد والدقة ، تحليل لحالة شاذة في الحركة النجمية تُعرف باسم لا استمرارية أو توقف البارانيغو  Paranego. يريد ماتلوف أن يعرف السبب في أن بعض النجوم الباردة تنبعث منها نفاثات من الطاقة المدببة والموجهة في اتجاه واحد مقصود، وهي خاصية تبدو في كل مكان غريبة وغير معروفة في المجرة. وفي عام 2018 ، خطط ماتلوف لاستخدام نتائج من تلسكوب الفضاء غايا Gaia لرسم خرائط النجوم لإظهار أن هذا الشذوذ قد يكون عملاً نجميًا متعمدًا وواعياً ومقصوداً.

    في هذه الأثناء ، بينما يدرس ماتلوف النشاط الكوني على أوسع نطاق ، يقترب كوخ من المرحلة التجريبية للنظرية باستخدام مرضى ضعاف الدماغ. إنه يريد أن يعرف ما إذا كانت استجابات المعلومات تتطابق مع الأسس الكيميائية للوعي. وهو يخطط لاختبار ذلك عن طريق توصيل أدمغة الفئران معًا لمعرفة ما إذا كانت عقولهم تندمج في نظام معلومات أكبر.

    من المؤكد أن للنفسيين  من أنصار الــ Le panpsychisme نقاد أيضًا. ففي مقال نشر في مجلة أتلانتيك The Atlantic بعنوان "لماذا التعصب غير صحيح ،" كتب كيث فرانكش Keith Frankish: "العمق الروحي والنفسي للــ Le panpsychisme يعطي الوعي حالة غريبة. إنه يضعها في صميم كل كيان مادي يهدد حتى الآن بجعله خاملاً بشكل توضيحي. لسلوك الجسيمات دون الذرية والأنظمة التي تشكلها ، وبالتالي يجب أن يتم شرحها بالكامل من قبل الفيزياء والعلوم الفيزيائية الأخرى. لا تقدم نظرية الــ  Panpsychism أي تنبؤات أو تفسيرات مميزة سوى إنها تخصص مكانًا للوعي في العالم المادي ، لكن هذا المكان هو نوع من الأطراف ليس إلا ".

     
    يعبر الاقتباس أعلاه عن إحساس عام بأن المبالغة في التبسيط تبسط مشكلة الوعي الصعبة في الكون ، وهو رأي يشاركه فيه ىكثير من العلماء. ومع ذلك ، يواصل ماتلوف ، وبينروز ، وغيرهم من المؤيدين، القيام بمهمة المغامرة خارج هوامش العلوم المقبولة في محاولة للتوفيق بين التناقضات الشاذة والعصبية التي تكشفها نظرية الكموم أو الكوانتوم، وهي بداية عسيرة بالطبع لكنها واعدة.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media