العلاج والعلوج والعِلِك (1)
    الجمعة 9 أغسطس / آب 2019 - 19:04
    د. هادي حسن حمودي
    باحث وأستاذ جامعي عراقي - لندن
    شيء من اللغة

    في سنة 2003 أثناء المعارك في العراق، صادفني مشتغل بالسياسة يكتب في جريدة كانت تصدر في لندن. ففاجأني بالقول: هل سمعت فلانا (كان يقصد مسؤولا في النظام السابق) يهاجم الأمريكان ويصفهم بأنهم (عْلُوْچَـه /بسكون العين/ ويعِلْـچُـون) (بالجيم الفارسية المفخمة بثلاث نقاط). ثم زاد فقال: وهل (العِلـچ) /العِلك/ عيب لو جريمة؟

    استغربت القول. فعدت إلى الأخبار: قرأت أن المسؤول الموما إليه وصفهم بأنهم (عُلُوج) بالجيم الفصيحة. فاختلط الأمر على هذا المشتغل بالسياسة بين العلج و(العلـچ) التي تعني في اللهجة العراقية العِلِك، وهو ما يُمضغ ويُعلك في الفم. وأذكر من أشهر أنواعه، في أيامنا العراقية، اللبان، وعلك الماء، وعلك (أبو السهم) كما كنا نسميه.

    (2)
    الذي أخذنا إلى هذا الموضوع صديق في البريد التواجهي الخاص، كتب: (ما وجدت في المصادر القديمة كلمة علاج بمعنى استخدام المريض لمادة معينة للشفاء. أما (مدسن وثيروبي) فقد بحثت وسـألت فوجدت (مدسن) للجراحة والأقراص مثلا، وثيروبي للعلاج الطبيعي والمعالجة كذلك النفسية. يعني وجدت عالج ويعالج معالجة. لكني لم أجد كلمة (علاج) التي تساوي دواء، وكأنها مرادفة لها كما تستخدم اليوم).
    (3)
    نترك لفظة (Medicine) و(Therapy) للقواميس المزدوجة اللغة. ونبدأ كالعادة بالجذر (ع ل ج) الدالّ على التمرس بشيء ما ومزاولته في جفاء وغلظة. عالجت فلانا علاجا ومعالجة: غلبته وجعلته يُعاني. وأطلق على كل جافٍ غليظ. ومنه: العِلْج: حمار الوحش. وكل من خشن طبعه، وغلظ وجهه فهو علج، حسب الخليل بن احمد، سواء كان عربيا أم غير عربي، ثم اختُصَّ به غير العربي. ويقال للأمواج إذا التطمت: اعتلجت، إذا ركب بعضها بعضا. وأرض مُعْتَلِجة تراكب نباتها وطال ودخل بعضه في بعض.
    هذا أبرز ما ورد في المعجمات اللغوية، وقد خلت من الإشارة إلى موضوع معالجة الأمراض أي لم تذكر شيئا عن استخدام كلمة العلاج في الطب. وذلك لأنها اقتصرت على بعض ما وصل إلى المعجميين من المرويات اللغوية.
    (4)
    ولكنّ الكتب الطبية أضفتْ على بعض مشتقات الجذر دلالات طبية، مثل العلاج والمعالجة. بل إننا لنجد هذه الكلمة مروية عن العصر الجاهلي بالدلالة الطبية ذاتها.
    وأنقل هنا نصا من كتاب الماء، وهو أقدم معجم طبي لغوي في التاريخ، فقد جاء فيه:
    (العِلج: كل صُلْب شديد. والعلاج: المِراس والدفاع. وعالج الطبيبُ المريضَ معالجة وعلاجا: زاوله وداواه. والمُعالج: المداوي. والعلاج يتم بثلاثة أشياء: بالتدبير المراد به التصرف في الأسباب الستة الضرورية. وباستعمال الأدوية. وبإعمال اليد كالجَبر ونحوه. وعن الحارث بن كِلْدَة في العلاج أنه قال: لا يتعالَج أحدكم ما احتمل بدنُه الداءَ).
    وعقب عليه الصحاري: (ولا أحقّه، بل الأولى أن يعرض الإنسان بدنَه على الطبيب عند أول بدوّ المرض فيه. بل ذلك مطلوب من الأصحاء أيضا. فإن الطبيب سيعالج الداء إن وجده بما يستحقّه، فإنْ لم يجد داءً فلن يصف دواء ولا علاجا). (كتاب الماء 3/70-71، طبعة 2، مسقط 2015م).
    ونلاحظ في النص أن المؤلف قد فرّق بين الدواء والعلاج. وهذه إشارة لغوية حاذقة، ولا عجب في ذلك، فالمؤلف من مدرسة الخليل بن أحمد في اللغة، ومدرسة ابن سينا في الطب. وعنده أن الدواء: ما يصفه الطبيب للمريض، وأما المعالجة فأشمل من الدواء باستعمال اليد في الجراحة وتجبير الكسور وتقويم العظام وغيرها.
    (5)
    أما كلمة (العلك) فقد عرفتها اللغة العربية قديما، سواء بمضغ اللبان وما أشبهه في الفم، أم في الاستعمالات الأخرى. وأصل العَلْك: المضغ. وسُمّيَ العِلْكُ عِلْكا لأنه يُمضغ، ومنه قول النابغة:
    خيلٌ صيامٌ وأُخرى غيرُ صائمةٍ
    تحت العَجاج وخيلٌ تعلِكُ اللُّجُما
    وطعامٌ عَلِكٌ: غليظ القوام. وتقول: في لسان فلان عَلْكَة، إذا كان يمضغ الكلمات. فإن تداخلت الكلمات بعضها في بعض بحيث لا تُفْهَم فهي العَولكة.
    وقانا الله وإياكم شرّ العولكة وشرّ مَنْ لا يفرّق بين العِلْج و(العِلِــچ).









    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media