تفاقم أزمة الاقتصاد العراقي والإنقياد نحو حافات الإنهيار في تقديرات صندوق النقد الدولي (2019-2024)
    السبت 17 أغسطس / آب 2019 - 02:20
    صبري زاير السعدي
    مستشار وباحث إقتصادي
    أولاً: أهمية تقديرات صندوق النقد الدولي 
    ليس هنالك من جديد يثير الإهتمام في تقييم المجلس التنفيذي وخبراء صندوق النقد الدولي (الصندوق) لأداء الاقتصاد العراقي في الماضي والتحذير من التحديات القادمة في السنوات الست (2019-2024) . فالتقييم، كما التحذير، يتم دائماً بمعايير تطبيق السياسات الاقتصادية "الليبرالية الجديدة" المعروفة والتي تحدد برامج وسياسات الإصلاح الاقتصادي التقليدية "للصندوق"، ولو بالتَكَيّف المناسب للظروف الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية السائدة. ولكن الجديد الذي يستحق المراجعة، هو إشهار "الصندوق" لأحدث التقديرات المتوقعة في تطور المؤشرات الاقتصادية والمالية والنقدية الرئيسية في السنوات الست القادمة، وهي "تحذيرات ناعمة" تستهدف التَقَيّد في تطبيق سياسات "الصندوق". فمظاهر أزمة الاقتصاد المزمنة معروفة للجميع، وتقديرات "الصندوق" ليست تحليلات اقتصادية، مهنية أو نظرية، وإنما هي معلومات تفصح عن تأثير السياسات الاقتصادية الحالية في السنوات القادمة. وبرأينا، تؤرخ هذه التقديرات لاحتمالات تسارع الأحداث الاقتصادية المستقبلية – وفي الخلفية التوقعات السلبية الخارجية المؤثرة في أسعار النفط - والتي تضع الحكومات والأحزاب السياسية والمواطنين، وبالتدريج، أمام أحد الخيارين المتناقضين: الأول، الإنقياد نحو الإنهيار بقبول السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية التي يتم تنفيذها منذ عام 2003، والتي أدت إلى تراجع الإنتاج والإنتاجية، وارتفاع البطالة، وانتشار الفقر، وتفشي ومأسسة الفساد، وزيادة التباين في الدخول والثروات بين المواطنين والمناطق، وزيادة الدين العام الحكومي والقروض الأجنبية، واستمرار الاعتماد على الصادرات النفطية. والخيار الثاني، تعاظم الفعل السياسي الوطني لإحداث التغيير الاقتصادي الجذري بإرادة العمل ببديل يُرشِدُ استغلال المُلكية العامة للثروة النفطية بدمج السياسة النفطية: الإنتاج والتصنيع والتصدير في إطار رؤيا استراتيجية اقتصادية وطنية مستقبلية يتم تحقيق أهدافها بسياسات وبرامج ومشاريع لإيجاد طاقات إنتاجية جديدة قادرة على المنافسة، وتطوير البنية الأساسية الاقتصادية (المادية) والاجتماعية والبيئية لزيادة النمو الاقتصادي وفرص العمل وتشجيع القطاع الخاص.
    والمفارقة، أن "الصندوق"، وليس الحكومة، يبادر بنشر هذه التقديرات الهامة التي تُعيد بوصلة الإهتمام نحو الأسباب الرئيسية في دوامة الأزمة الاقتصادية، وليس هنالك تعليق للحكومة يُفيد في دلالتها من حيث الدقة أو القبول أو الرفض، أو حتى بيان رأي من المسؤولين أو الخبراء الاقتصاديين الذين بالغوا في التَحَيّز للسياسات الاقتصادية الحكومية المستمرة منذ عام 2003.  

    ثأنياً: المؤشرات الاقتصادية والمالية الرئيسية للسنوات الست القادمة
    لسنا هنا بصدد مناقشة دقة أو أسلوب إعداد التقديرات لعدم توفر الإحصائيات والفرضيات الاقتصادية المعتمدة، ومع ذلك، نجد ضرورة الإشارة إلى أن تقديرات قيمة الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة، والتي تتأثر وتَتَقيدُ بأسعار تصدير البرميل الواحد من النفط الخام، وهو أمر طبيعي في حالة الاقتصاد العراقي، تثير التساؤل بمقدار "مُخَفِضْ" الأسعار للناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية (الفقرة 5 من الجدول) والتي لم تنشر في هذه التقديرات. وأهمية هذا التحفظ تتعلق بأن تحديد، ثم تغيير، أسعار النفط يتم بما يناسب فرضيات "الصندوق" المسبقة عن تطور القطاعات الإنتاجية من غير قطاع النفط وبدون تقديم المبررات الاقتصادية، وكما نلحظ في استخدام أسعار النفط خلال عام 2019 المنخفضة بالمقارنة مع أسعار النفط المرتفعة في عام 2018، والذي يؤدي إلى انخفاض القيمة المضافة لقطاع النفط في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي من جهة، وزيادة نسبة إسهامات بقية القطاعات الاقتصادية في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي من جهة ثانية. وهذا يعني، احتمالات التدخل المقصود في "زيادة" نسبة النمو في القطاعات غير النفطية و"تقليل" نسبة إسهامات قطاع النفط. كما يؤثر هذا التغيير أيضاً، في نسب إسهامات قيم المتغيرات الاقتصادية الرئيسية: الاستهلاك والاستثمار في الناتج الحلي الإجمالي، ولكل من القطاع الحكومي والقطاع الخاص. كذلك، لا تسعفنا التقديرات في معرفة تفاصيل إسهامات بقية القطاعات الإنتاجية في الناتج المحلي الإجمالي، أو بيان طبيعة مشاريع الاستثمار، الحكومي والخاص، المستهدفة، لتقييم أهمية التغيرات المتوقعة في تحسين قدرة الاقتصاد التنافسية . 
    فيما يلي عرض بأهم المؤشرات الاقتصادية والمالية الرئيسية المعدة من "الصندوق": 
    [[article_title_text]]

    [1]  تناولنامناقشة هذه التقديرات باسهاب في دراساتنا السابقة. أنظر على سبيل المثل: صبري زايرالسعدي، "المشروع الاقتصادي الوطني في العراق: مقاربة في برنامج صندوق النقدالدولي"، مجلة "المستقبل العربي" العدد 469 مارس/مايو 2018،الدورية الشهرية الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، وأيضاً،"الثروة النفطية والمشروع الاقتصادي الوطني في العراق: بديل الاقتصاد السياسيللريع النفطي"، دراسة نشرت  في العدد480 (شباط/فبراير 2019)، مجلة "المستقبل العربي" الصادرة عن مركز دراساتالوحدة العربية، بيروت، لبنان.(www.caus.org.lb). 

    وعن تقديرات "الصندوق" لهذهالمؤشرات والمنشورة في السابق، أنظر:

    (https://www.imf.org/external/pubs/ft/weo/2017/02/weodata/weoseladv.aspx).

    ثالثاً: مؤشرات الإنحدار الاقتصادي نحو حافات الإنهيار

    فيما يلي أبرز المؤشرات الاقتصادية والمالية الرئيسية المعدة من قبل "الصندوق" وبالتعاون مع الحكومة، مبتدأين بالمورد الاقتصادي الرئيسي: إنتاج وصادرات وإيرادات النفط الخام (فقرة 1)، ثم عرض  المؤشرات (الفقرات 2- 9) الدالة على الإنحدارات المؤدية للإنهيار، مُرتبة بحسب الإهتمامات الشائعة في تناول تفاصيل الشؤون الاقتصادية والمالية العامة: 
    1.من المتوقع في التقديرات زيادة إنتاج النفط الخام من 4.41 مليون برميل يومياً في عام 2018 إلى 4.59 مليون برميل يومياً في عام 2019 وإلى 5.18 مليون برميل يومياً في عام 2024، وزيادة صادرات النفط الخام من 3.86 في عام 2018 إلى 4.03 وإلى 4.55 مليون برميل يومياً، وستزداد الإيرادات النفطية من 83.365 مليار دولار في عام 2019 إلى 91.915 مليار دولار في عام 2024. كما يقدر مجموع الإيرادات النفطية المتوقعة خلال الفترة (2019-2024) بنحو 529.035 مليار دولار. علماً بأن من المتوقع أن تنخفض أسعار بيع البرميل من النفط الخام من 65.2 في عام 2018 إلى 56.0 في عام 2019 وإلى 54.8 في عام 2024.  
    2.من المتوقع أن يبلغ مجموع الإيرادات الحكومية في الموازنة العامة للدولة نحو 582.644  مليار دولار خلال الفترة 2019-2024، منها الإيرادات النفطية بنحو 529.035 مليار دولار، والإيرادات غير النفطية 53.309 مليار دولار. أما مجموع النفقات الحكومية في الموازنة العامة للدولة خلال نفس الفترة فسيبلغ 650.911 مليار دولار، منها 529.938 مليار النفقات الاستهلاكية الجارية، والبقية وقدرها 120.494 مليار دولار النفقات الرأسمالية. وهذا يعني، أن نسبة الاستثمار الحكومي، بالمعنى العام غير الواضح الهوية بمشاريع إنتاجية، تقدر 18.5% فقط من مجموع النفقات الحكومية. كما تعني هذه المؤشرات استمرار وتزايد العجز في الموازنة العامة للدولة من -4.1 مليار دولار في عام 2019 إلى -5.9 مليار دولار في عام 2024.    
    3.من المتوقع أن تزداد النفقات الحكومية نسبياً (النسبة من الناتج المحلي الإجمالي) وبالقيمة المطلقة من 71.744 مليار دولار في عام 2018 إلى 99.949 في عام 2019 وإلى 120.083 ميار دولار في عام 2024. من هذه النفقات، ستزداد النفقات الجارية من 59.861 مليار دولار في عام 2018 إلى 75.970 في عام 2019 وإلى 100.514 مليار دولار في عام 2024. هذا في مقابل الزيادة النسبية المحدودة في النفقات الحكومية الرأسمالية وبالقيمة المطلقة من 11.883 في عام 2018 إلى 23.755 في عام 2019 ثم إنخفاضها إلى 19.569 مليار دولار في عام 2024.
    4.ومن المتوقع أن يزداد إجمالي الاستهلاك المحلي نسبياً وبالقيمة المطلقة من 177.342 مليار دولار  في عام 2018 إلى 189.365 في عام 2019 وإلى 265.664 مليار دولار في عام 2024. أما الاستهلاك الحكومي، فسيزداد نسبياً في عام 2019 ويستقر حتى عام 2024، وستزداد القيمة المطلقة من 47.53 مليار دولار في عام 2018 إلى 59.387 في عام 2019 ثم إلى 77.980 مليار دولار في عام 2024. وفي المقابل، سيرتفع إجمالي الاستهلاك الخاص باستمرار من 129.812 مليار دولار في عام 2018 إلى 129.978 في عام 2019 وإلى 187.684 مليار دولار في عام 2024.  
    5.ومن المتوقع أن يزداد قليلاً إجمالي الاستثمار المحلي نسبياً وبالقيمة المطلقة من 28.922 مليار دولار في عام 2018 إلى 23.755 في عام 2019 ثم ينخفض إلى 19.273 مليار دولار في عام 2024. وبمثل هذا النمط من التَغيّر، سيرتفع إجمالي الاستثمار الحكومي نسبياً وبالقيمة المطلقة من 11.883 في عام 2018 إلى 23.755 في عام 2019، ثم ينخفض إلى 19.273 مليار دولار في عام 2024. وفي المقابل، سيرتفع إجمالي الاستثمار الخاص من 17.039 مليار دولار في عام 2018 إلى 17.376 في عام 2019 وإلى 26.388 مليار دولار في عام 2024.  
    6.من المتوقع أن ينخفض مقدار الإدخار الوطني من 44.392 مليار دولار في عام 2018 إلى 30.478  ملياردولار في عام 2019 ثم إلى 27.871 مليار دولار في عام 2024. وسينخفض رصيد الإدخار-الاستثمار من 15.653 مليار دولار إلى عجز قدره (-) 11.653 مليار دولار في عام 2019 وعجز قدره (-) 17.790 مليار دولار في عام 2024.
    7.من المتوقع أن ينخفص الرصيد التجاري باستمرار من 30.043 مليار دولار في عام 2018 إلى 7.844 مليار دولار في عام 2019 وإلى 1.483 مليار دولار في عام 2024. وأيضاً، سينخفض رصيد الحساب الجاري من 15.470 مليار دولار في عام 2018 إلى عجز قدره (-) 11.653 مليار دولار في عام 2019  ثم عجز قدره (-) 17.790 مليار دولار في عام 2024. 
    8.من المتوقع أن تنخفض الاحتياطيات لدى البنك المركزي العراقي من 64.7 مليار دولار في عام 2018 إلى 57.2 مليار دولار في عام 2019، ثم تتسارع في الانخفاض لتصبح 28.2 مليار دولار فقط في عام 2024. وهذا الانخفاض، يعني أن القدرة على تمويل الإستيرادات من احتياطيات البنك المركزي، بمقياس المدة اللازمة لتغطية قيمة المنتجات والسلع والخدمات المستوردة والمتوقعة، ستنخفض من 8 أشهر كانت في عام 2018، إلى 6.8 شهر في عام 2019 الحالي، وستنخفض كثيراً إلى 1.4 شهر فقط في عام 2024.
    9.من المتوقع أن يرتفع مجموع الدين الحكومي من 110.4 مليار دولار في عام 2018، ومنه الدين العام المحلي وقدره 41.7 مليار دولار، إلى 115.3 مليار دولار في عام 2019، ومنه الدين العام المحلي وقدره 43.1 مليار دولار، وسيزداد إلى 167.3 مليار دولار في عام 2024، ومنه الزيادة الكبيرة في الدين العام المحلي وقدره 93.5 مليار دولار. أما القروض الأجنبية فمن المتوقع زيادتها من نحو 68.7 مليار دولار في عام 2018 إلى نحو 72.2 مليار دولار في عام 2019 وإلى 73.8 مليار دولار في عام 2024. 

    وفي تقييم أهمية هذه المؤشرات، لا يُفيدُ، كثيراً أو قليلاً، معرفة آثار كل منها في الواقع الاقتصادي. فالمنطق الاقتصادي يقتضي تقييمها في إطار تحليل الاقتصاد الكلي وبمَعرفة دينامية العلاقات بينها، لبيان مقدار واتجاه تأثير كل من هذه المؤشرات السلبية في زيادة النمو الاقتصادي وأنماط النمو في القطاعات الإنتاجية، وبما يساعد في معالجة التحديات المتوقعة. وبتبسيط شديد، نَعْلَمُ أهمية الإيرادات النفطية في تمويل الإنفاق الحكومي، الجاري والاستثماري، الذي يُهَيمن على الطلب الكلي (الفعال): الاستهلاك +الاستثمار +الصادرات -الاستيرادات، الذي يحدد مستويات وأنماط النمو في القطاعات الإنتاجية التي تحدد الهيكل الاقتصادي. ولأن توزيع الإيرادات النفطية في الموازنة العامة للدولة كان لصالح زيادة الاستهلاك والاستيرادات منذ عام 2003، في مقابل الإنخفاض الكبير جداً في الاستثمار الحكومي، فقد أسهمت السياسة المالية والنقدية الكلية في الماضي، والمتوقع استمرارها كما تشير التقديرات، في تفاقم الأزمة الاقتصادية الهيكلية . كذلك، أدت هذه الدينامية إلى العجز في الموازنة المالية للدولة. وهنا نلحظ، أن تقديرات "الصندوق" لمقدار العجز المتوقع في الموازنة خلال السنوات القادمة كان محدوداً، بينما هو في الواقع أكثر بكثير، وذلك بتغطية الزيادة الكبيرة في الدين العام الحكومي المحلي. وأيضاً، وخلافاً لسياسات "الصندوق" والحكومة التي تؤكد على استقلالية السياسة النقدية عن السياسة المالية، تعكس دينامية الاقتصاد، أن السياسة المالية تُهَيمن على السياسة النقدية، وكما هو واضح في تقديرات "الصندوق" عن انخفاض الإحتياطيات من العملة الصعبة إلى مستوى متدني جداً في السنوات القادمة.    

    رابعاً: طبيعة توقعات "الصندوق": تكريس الاعتماد على الإيرادات النفطية 
    ليست التقديرات والتوقعات التي يعدها "الصندوق" كالتوقعات التي يتم إعدادها باستخدام نماذج الاقتصاد القياسي المعروفة في التنبؤ بتطور قيمة المتغيرات الاقتصادية الرئيسية: الإنتاج والاستهلاك والاستثمار والصادرات والاستيرادات، في اقتصاد معين وفرضيات تناسب خصائصه. فتقديرات "الصندوق" تتم في إطار تطبيق برنامج وسياسات "وخلفية فرضيات" اقتصادية ومالية محددة مسبقاً ومعلنة من قبل "الصندوق" وبالاتفاق مع الحكومة. فالمعروف لدى الجميع، أن السياسة المالية "للصندوق" معنية بالدرجة الرئيسية في تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي والمالي من خلال الموازنة المالية للدولة، كما ينعكس في التوازن "المستهدف" بين الإيرادات العامة والنفقات العامة . والسياسة النقدية الكلية، تستهدف التحكم في التضخم وضمان الاستقرار في معاملات التبادل الخارجية. كذلك، من المعروف أن أولويات اهتمام "الصندوق" بزيادة الاحتياطيات تتركز في تسديد القروض الخارجية وتأمين تدفق الإستيرادات المتزايدة، وليس في تمويل الاستثمار الحكومي في القطاعات الإنتاجية وتطوير البنية الأساسية، أو تقليص عجز الموازنة المالية للدولة. تلك كانت، وما تزال، سياسة "الصندوق" في تدوير "فوائض" الإيرادات النفطية "الحالية" أو "المستقبلية المخزونة في مكامن الثروة النفطية"، بين تمويل الاستيرادات المتزايدة أو إيداعها في "الصناديق السيادية" لاستثمارها في الأسواق المالية الدولية. أما معالجة أزمة الاقتصاد الهيكلية، وهي المشكلة الأهم، فإن "الصندوق"، والحكومة، يتمسكان بإيديولوجية ريادة الفرد وآليات اقتصاد السوق التنافسية التي ستؤدي، برأيهم، إلى تنويع القاعدة الاقتصادية وتراكم الثروة الوطنية، بينما أدت في الواقع إلى تَكريس الاعتماد على صادرات النفط الخام مع تشجيع القطاع الخاص في أنشطة محدودة التأثير في زيادة الإنتاج والإنتاجية والدخول وتوفير فرص العمل والإسهام في تمويل الاستيرادات المتزايدة، كالاستثمار بالعقارات وقطاعات التشييد وتجارة الاستيراد والخدمات الاجتماعية. وبرأينا أن مفهوم التنويع الاقتصادي "للصندوق" لا يتسق مع متطلبات استدامة النمو وتحسين قدرة الاقتصاد الوطني التنافسية . 
    الواقع الموضوعي في العراق لا يتلائم مع هذه السياسات، حيث نلحظ كيف أن سياسة "الصندوق" المالية التي تُنبذ أهمية التخطيط الاقتصادي المركزي وتتجاهل تحديد نسبة توزيع الإيرادات النفطية بين الموازنة العامة للدولة وبين برنامج مستقل لتمويل مشاريع الاستثمار الحكومي السنوية (كان التوزيع بنسبة 70%-50% لصالح الاستثمار الحكومي في الفترة 1951-1980)، قد أدى إلى الزيادة المُفرَطة في الإنفاق الحكومي، الذي يتم بدون معايير واضحة وبتشتت الصلاحيات، ولأن المال السائب يُعَلِم السرقة، كما في المثل الشعبي، كان هذا الإنفاق سبباً رئيسياً في انتشار الفساد، وإلى تراجع الاستثمارات العامة. ونلحظ أيضاً، كيف أن سياسات "الصندوق" النقدية في التحكم بالتضخم وثبات سعر صرف الدينار مقابل الدولار، قد أدت إلى تآكل العائدات والاحتياطيات من الدولار نتيجة "مزادات" البنك المركزي لبيع الدولار مع الاستمرار في تدفق الاستيرادات. كما نلحظ تغافل "الصندوق" عن تأثير المزادات السلبية في تخلف النظام المصرفي نتيجة الإتكال على المضاربة بالدولار في تأمين الأرباح، وفي تهريب الدولار للخارج، والذي أسهم أيضاً في انتشار الفساد. 
    والمفارقة التي يتجنبها السياسيون وبعض الاقتصاديين بغطاء إدانة الأنظمة السياسية السابقة، وخاصة قمع واستبداد النظام الدكتاتوري، كيف ازداد النمو الاقتصادي والتشغيل، وتسارعت التنمية بمعايير الخدمات العامة: التعليمية والصحية والرعاية الاجتماعية، وكيف كان سعر الصرف مستقراً، وكيف تزايدت الاحتياطيات، وكيف كان الحرص الشديد على موارد الدولة، لاسيما الحفاظ على المُلكية العامة للثروة النفطية، وحماية الأموال العامة في الحد من الفساد. كانت تلك التطورات حصيلة سياسة الحكومات في تمويل برامج الاستثمارات العامة وتنفيذ خطط التنمية خلال الفترة (1951-1979) بالرغم من حدوث عدد من السلبيات والأخطاء في إدارة الاقتصاد الوطني. 
    لم تعد مُقنعَةً بعد الآن، تبريرات الحكومة عن تفاقم الأزمة الاقتصادية والتدحرج نحو الإنهيار بوجود عوامل الإرهاب والمشاكل الأمنية والإضطرابات الطائفية، وبتردي القيم الأخلاقية كما يقال أيضاً. كذلك، لم تَعد ذات قيمة لدى الرأي العام الوعود الحكومية الفارغة، والشعارات المثيرة للشفقة، والتذاكي بالثرثرة السمجة في إدعاء المعرفة باقتصاد وآليات السوق والحوكمة واقتصاد المعرفة والاقتصاد الرقمي وغيرها من المفاهيم المقتبسة بدون إدراك معانيها وظروف تطبيقها، كالذي دُبِج في البرنامج الحكومي (2018-2022) وخطة التنمية (2018-2022) . كذلك، لم يَعُدْ نافعاً، الإهتمام بمثل تقديرات "الصندوق" التي تُعَدْ بنهج وسياسات الماضي في الاعتماد على الإيرادات النفطية وتبديدها بأنماط توزيعها السيئة بغطاء سياسة تحرير الاقتصاد والسوق .
    وفي الخلاصة، إن برنامج وسياسات "الصندوق" وتوقعاته التي تشير إليها تقديرات المؤشرات الاقتصادية والمالية والنقدية المستقبلية، خالية من أي مشروع اقتصادي وطني يواجه التحديات القادمة. فالأولوية الآن، ليست تحرير الاقتصاد وآلية السوق من تدخل الدولة والإسراع بخصخصة مشاريع القطاع العام. الأولوية الآن، وبعد تصحيح الوضع السياسي المضطرب ببديل سلطة سياسية قوية، مستقلة ومستقرة، وتمتلك رؤيا وطنية استراتيجية اقتصادية مستقبلية، هي تعبئة وتوزيع الموارد الوطنية، وخاصة الثروة النفطية، في توسيع الطاقات الإنتاجية، وزيادة تشغيل القوى العاملة، وانتشال المواطن من فخ الفقر، والقضاء على الفساد، وذلك بتكثيف الاستثمار الحكومي في إقامة المشاريع العامة، الباهضة التكلفة، لتطوير البنية الأساسية الاقتصادية (المادية)، وتأسيس الصناعات المتقدمة تكنولوجياً، وتحسين الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية العامة، والإسراع بالتنمية البيئية. 
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media