ملحوظة وملاحظة.. وألف ليلة وليلة
    الجمعة 16 أغسطس / آب 2019 - 17:41
    د. هادي حسن حمودي
    باحث وأستاذ جامعي عراقي - لندن
    شيء من اللغة

    أرسل لي صديق تواجهي سلسلة أسئلة يطلب جوابها، وكل سؤال يحتاج إلى حلقة خاصة به. فلنبدأ الآن بقوله: انتشرت كلمة (ملاحظة) ولكن الفعل هو (لحظ) لا (لاحظ) واسم المفعول من الفعل (لحظ) على وزن مفعول، يعني نقول (ملحوظة) فتكون (ملاحظة) خطأ. 
    ***
    أمّا أنّ (ملحوظة) اسم مفعول فصحيح، وأمّا أنّ (ملاحظة) خطأ فغير صحيح، بل هي أكثر عمقا من الملحوظة، كالفرق بين: مَكتوبة ومُكاتَبة. واتبعني إن أحببت.
    نبدأ من الجذر اللغوي (ل ح ظ) وما يشتق منه، فهو الدليل الذي ينير لنا سبيل الصواب.
    اللحظ جزء من العين، وهو طرف العين البعيد عن الأنف القريب من الصّدغ (الصدغ: ما بين خط العين والأذن) وجمع اللَّحظ، لُحُظ، بضمّ اللام والحاء. وطرف العين القريب من الأنف يسمى مؤْق، بضم الميم وسكون الهمزة، وجمعه آماق. ولا بد أنك قرأت في (ألف ليلة وليلة) لمحمد بن سكرة الهاشمي البغدادي (تـ 385 هـ) هذا القول: لو كتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر.
    ومن قبائل العرب قبيلة بني سعد ومن ميزاتهم أن لكل منهم خطا ممدودا من مؤخر العين إلى الأذن، وربما اجتمع لدى بعضهم خطان عن يمين الوجه وشماله. فإن كنت خبير تجميل، أي مجمِّلا لما هو جميل أصلا، أو غير جميل، ورسمت ذينك الخطين لمن جاءتك تطلب التلحيظ، فلك أن تقول: لقد لحَّظتُها، بتشديد الحاء. وربما تغير هذا التلحيظ من اللون الأبيض الذي يشبه باطن الورقة إلى اللون الأسود الذي هو لون الكحل أو غيره من الألوان. وكذلك أن رسمت خطين تحت العينين.
    وتقول: لحظتُ صاحبي، أي: نظرت إليه بمؤْخر عينك، أي من الجانب المحاذي للأذن، عن يمين أم عن شمال. وفي الحديث النبوي: كان النبيّ جُلّ نظره الملاحَظة. ومعناه أنه ينظر بلَحاظ عينه إلى ما حوله. وهو شق العين الذي يلي الصدغ الذي بيّنّا قبل قليل معناه.
    وذكروا أن الملاحظة المذكورة في الحديث النبوي تعنِي المراعاة، وهي مُفاعلة من اللَّحظ. ولكننا نرى أنها ذات دلالة أخرى هي أن النبي لم يكن كثير الالتفات يمينا ويسارا، بل كان نظره مستقيما إلى ما أمامه، فإذا أراد النظر إلى جانبه الأيمن أو الأيسر فإنه يلقي نظرة سريعة بلحظ عينه فحسب، إلا إذا تحدث مع الآخرين فإنه يوجه وجهه ونظره إليهم. وتلك النظرة الجانبية السريعة كافية لإدراك ما يُرى. والإدراك بمعناه الدقيق يعني التفاعل مع الشيء المُدرَك، وحق للقدماء أن يصفوه بالمفاعلة والمراعاة، تماما كما تقول: لاحظ الطبيبُ المريضَ ملاحظة دقيقة. وحين يكتب الطبيب تقريره عن حالة مريضه، فتلك هي الملاحظات واحدتها ملاحظة، لأنها تمّت بدقة عناية واهتمام وتفاعل.
    أما الملحوظة فتدل على شيء رأيته ثم مضيت عنه، من غير أن يكون بينك وبينه أي مفاعلة أو مراعاة أو اهتمام. فالملاحظة: أعمق من المحلوظة. ولذلك يقال في الوظيف العمومي: مُلاحِظ، ومُلاحظة، لا: مُلحِظ ومُلحظة.
    ولقد أولع شعراء الغزل بهذا اللفظ لموسيقاه ودلالته، كقول ابن نباتة المصري (686-768 هـ):
    عذيريَ من ساجي اللواحظ أغيدِ
    يصول بأسياف الجفونِ ولا يدِ (أي لا يدفع دِيَةً)
    غزال يناجيني بلفظٍ مُعرّبٍ
    ولكنه يسطو بلحظٍ مهنَّدِ
    وقدٍّ رَوَتْ عن لِينِهِ واعتدالِهِ
    صِحاحُ العوالي مُسْنَدًا عن مًسْنَدِ
    وقول أبي اليمن الكندي (520 - 613 هـ):
    حَلَفْتُ بسجّان اللواحظِ فاتِنٍ
    كأنّ بعينيهِ بقايا خمارهِ
    يكسِّرُ إعراضي بتكسير طرفهِ
    إذا ظلّ طرفي حائرا في احورارهِ
    أقام على قلبي قيامة حبّهِ
    وقام بعُذري فيه حسنُ عِذارِهِ
    ولصفي الدين الحلي (677 - 752 هـ):
    وحاملُ الكأسِ ساجي الطّرفِ ذو هَيَفٍ
    صاحي اللواحظ يثني عطفَ مَخمورِ
    كأنما صاغه الرحمن تذكرةً
    لمن يشكّك في الولدان والحُورِ
    تظلّمَتْ وجنتاهُ وهي ظالمةٌ
    وطرفُهُ ساحرٌ في زيّ مسحورِ
    وقد يُستعار اللحظ للعين كلها ولكن مع دليل من السياق.

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media