القبَليَّة والحروب !!
    الأربعاء 21 أغسطس / آب 2019 - 03:30
    د. صادق السامرائي
    التأريخ الذي نقرأه بسلبية عارمة ونتلقاه بعقول معطلة نائمة ومبرمجة , يؤكد لنا حكايات عن السلوك القبلي , وكيف كانت القبائل تهاجم بعضها وتستحوذ على ما عند غيرها , وذلك بالغزو أو الإغارة ومنها إشتقت كلمة " غارة" , حيث تطورت في عصرنا المتحضر لترتبط بالطائرات , التي ترمي بقنابلها وصواريخها على المجتمعات , لتدمر بنيتها التحتية وتقتل منها الآلاف في لحظات.

    ولا يزال دريد بن الصمة صادقا في قوله:

    "وما أنا إلاّ مِنْ غَزِيّةَ إنْ غوتْ ........غوَيْتُ , وإنْ ترشدْ غَزِيّةُ أرشدِ"!!

    والغزو - قديما- في حقيقة أمره هو نشاط إقتصادي في وقت لا يوجد فيه مصدر لتطوير الواقع الحياتي بسرعة , إلا بالإستحواذ على ما عند الآخرين لتوفير القوة والمال والسلاح والرجال  والسبايا , التي كانت تعبّر عن القوة المحسوبة بعدد الخيول والجمال والماشية وغيرها من الحيوانات الداجنة. 

    فلم يكن للزراعة دور ولا للأرض المتصحرة منفعة , لأنها لا تعطي ما يغني من جوع, أو لأن البشر لا يرى أن فيها قيمة تتفوق على الغزو. 
    ويبدو أن التطور الإقتصادي حاجة غريزية قائمة في أعماق البشر. 

    ومَن يتأمل الأحداث يدرك أن العامل الرئيسي , الذي يكمن وراء أسباب الغزوات والحروب هو الإقتصاد , الذي يعني القوة والنماء لدى القبيلة أو الأمة أو المجموعة , التي تمكنت من السيطرة على غيرها , وحققت حرية التصرف بممتلكاتها وما يرتبط بها من مفردات إقتصادية ومصادر قوة. 

    فالناس في الزمن الماضي كانت تغزو بعضها , ولم تفكر في إستثمار ما عندها وتنميته , لأن ذلك يحتاج إلى وقت , ولأن القلق قائم والإستقرار صعب , والغزو يوفر النماء الأسرع ويمنح المردودات النفسية والقيم الذاتية , التي تؤسس لأسطورة ومجد المجموعة البشرية أيا كان إسمها.

    وقد تواصلت البشرية في سلوك الإغارة على بعضها البعض وإمتلاك ما عند الآخر,  وبهذا تم كتابة العديد من صفحات التأريخ وطرح ما نقرأه فيها من موضوعات , ذات فكرة واحدة وخيط واحد يربطها ببعضها وعنوانه القوة والسيطرة والمال, وكلها يمكن إجمالها بالعامل الإقتصادي الذي كان يكمن وراء معظم الغزوات والحروب.

    ولكي يتحقق الغزو لا بد من وجود مجاميع بشرية تسمى القبيلة أو العشيرة أو الأمة , وغيرها من المسميات , التي تعطي صفات مميزة وفارقة لمجموعة بشرية ما, مما يؤهلها ويؤهل غيرها  توفير الأسباب اللازمة للدخول في حرب معها أو تحقيق الغزو.

    وكما هو معروف فقد مارست شعوب الأرض كافة وبلا إستثناء هذا السلوك , الذي تواصل  حتى القرون الأخيرة حيث أصبحت المفاهيم تتخذ منطوقا آخر , لكي تحقق ذات الغاية القبلية التي أمضت البشرية عمرها الطويل في تفاعلاتها الصاخبة. 

    وقد تطور مفهوم الحروب والغزوات لكنه بقي مرتبطا بالإقتصاد , وهو على هذا الحال الجامد إلى اليوم. 

    أي أن البشرية ما إرتقت بمفاهيمها وما سمَت بنفسها إلى مستوى التطور الحضاري المادي الذي أسسته في الوقت الحاضر , وإنما بقيت سجينة الرؤى والأفكار البالية القديمة , وأسيرة النظرة القبلية والعشائرية وعلى مستوى البشرية جمعاء, إلا ما ندر في ميادين التفاعلات القائمة في الأرض , والتي تديرها منظمات ذات أهداف إنسانية تريد أن توقظ البشرية من هذا الإستنقاع المؤلم , الذي يكلفها الكثير من الخسائر الحضارية. 

    فالبشرية لا زالت تستثمر في الحروب والأزمات والصراعات وتحسبها نشاطا إقتصاديا مربحا , وقوة مضافة إلى ما عندها من القدرات , ولهذا فهي تسعى إليها وتمارسها على أنها نشاط ضروري لا بد منه , لكي تتواصل الحركة الإنمائية وتتمكن من توظيف إبداعات العقول البشرية في مشروعات إستثمارية جديدة. 

    والحروب في عُرف الدول الغازية تنمي الإقتصاد , وتزيد من المصادر اللازمة للحركة التطورية فيها, وهي تشنها وفقا لذرائع مشوهة ومُضلِلة , لكي تخفي وراءها الدافع الحقيقي والقوي , وهو الإستحواذ على المصادر الإقتصادية للآخر المُستهدف أو الذي يتم غزوه. 

    والملاحظ أن الكثير من التغييرات الكبيرة التي حصلت في الأرض , إنما كان للحروب دور مهم فيها.

    وما يجري في عالمنا المعاصر من حروب يكمن وراءها , وبصورة أساسية العامل الإقتصادي وتوفير المواد الأولية ومصادر الطاقة , اللازمة للقوة الإقتصادية للمجموعة التي قررت أن تغزو أو تحارب.

    ومَن ينظر في حروب القرن العشرين سيرى أن العامل الإقتصادي يشترك في الكثير من أسبابها, برغم أنها قد إتخذت  منطوقا فكريا ودينيا وأخلاقيا وغيرها من الأسباب والشعارات, لكن هذه الموضوعات يحركها العامل الإقتصادي  أيضا. 

    فيكون خلاصة أسباب الصراعات كامنة في الإقتصاد والقدرة على كسب المال والغنائم , وبتوفر مصادر القوة والطاقة , تتحقق باقي أركان القوة والسيادة والإستبداد على مستوى الأفراد والجماعات والأمم.

    وبعد أن إستهلكت البشرية الكثير من طاقاتها في حروب القرن العشرين المريرة ومشاكله العسيرة , تراها في القرن الحادي والعشرين تتعامل بذات العقلية والرؤى والتصورات الجامدة , ولا زالت تحسب الحرب نشاطا إقتصاديا , والغزو يوفر ثروة مادية تساهم في دعم القوة والإقتدار.

    ولهذا أصبحت الدول الغنية بالمصادر الإقتصادية والطاقة هدفا تتسابق عليه القوى القادرة لتحقق الوصول الأسرع إليه , مما أدخل البشرية في صراعات جديدة ذات نتائج قاسية , ستلقي بظلالها على جزء كبير من القرن الحادي والعشرين, وستعطل حركة البشرية في الإتجاهات الحضارية الصحيحة , لأنها ربما ستستخدم تقنيات الدمار الهائلة من أجل الوصول إلى الهدف , وبذلك تحصل الكارثة الكبرى والفاجعة المروعة , التي لم تعهدها الأرض من قبل.

    وبرغم أن بداية هذا القرن أوضحت أن الحروب ليست نشاطا إقتصاديا , وإنما مشروع دمار وخراب وويلات ومصائب لا تليق بالإنسانية , وهي تدّعي الحضارة والتقدم وتنادي بالمبادئ ,  التي تحقق رقي الإنسان وتحفظ كرامته وحريته وحقه في التعبير عن رأيه , لكن التمادي بتطويرها وطرح نظرياتها الجديدة والعمل بآلياتها المعقدة المبرمجة , يشتد في مجتمعاتنا التي تحولت إلى سوح لإختبارها.

    فالحروب باتت عاهة كبيرة تواجه البشرية , وعليها أن تجد لها مخرجا منها وتفكر خارج الصندوق الأسود , الذي أمضت القرون في زواياه الظلماء , التي لا تعطي إلا الشقاء والكراهية والأحقاد.

    البشرية اليوم تقيّد حركة الحياة وتعطل قدراتها الخيرة بالإستثمار في الحروب ,  لأنها إمتلكت من وسائل الخراب ما لم تمتلكه في تأريخها, ونتيجة لذلك تحولت الحروب إلى قوة تدمير شاملة ,  لكل الأطراف الفاعلة في معادلة الدمار والخراب الأرضي في أية بقعة فيها مهما بعدت, لأن ما يحصل في أي مكان من الأرض يؤثر في أجزائها الأخرى, وأصبحت نظرية الأواني المستطرقة تنطبق على ظاهرة الحياة الأرضية في عصرنا التكنولوجي الفائق التطور. 

    وصار من اللازم علينا أن نخرج من أفكارنا القديمة ونرى بوضوح ودقة وعلمية ما سيؤول إليه الحال , لو واصلت البشرية مسيرتها بهذه العقلية التي أمضت عليها القرن العشرين, لأن النتائج المتمخضة عن أي نشاط مهما كان ستكون مضاعفة التأثير , بما لا يُحصى من المرات بالقياس بنتائجها في القرن العشرين. 

    وأصبح من الضروري أن يفكر القادة بعقلية البشرية جمعاء , قبل أن يفكروا بعقلية القبيلة والعشيرة والأمة , وغيرها من أنماط التفكير التي تقرر وجود حالة الصيرورة المعزولة عن حركة الحياة المعاصرة , وهي في دور التحول إلى محيط إنساني واحد.

    فعالمنا الجديد وما يحصل في أية بقعة منه ترى آثاره وتسمع صداه في بقاعه الأخرى, حيث تمكنت الأرض من التعبير الأوضح عن كرويتها , وكل الصفات المرتبطة بكونها كرة تتحرك في فضاء مجهول , وتطالب مَن عليها أن يحدّقوا بالأمور ببصيرة شاملة. 

    فعندما تقترب الأرض من وعيها الكروي لا بد للقادة أن يفكروا , ويتعاملوا مع الأشياء بكروية واعية , وينظروا إلى المواقف والأشياء بزاوية الدائرة الكاملة.  

    فما عاد ممكنا النظر بزوايا حادة للأمور في هذا العالم, بل أن على الجميع أن يرى بزوايا منفرجة إلى أقصاها, ويحاول الإقتراب ما يستطيع إلى النظرة الدائرية أو الكروية للأحداث والموضوعات المختلفة.

    عالمنا الجديد الذي أخرجنا من الأنفاق والكهوف , ورمى بنا إلى الفضاء الواسع الرحيب , علينا أن نرتقي إلى قوانينه ونظرياته الجديدة.
     
    فهذا القرن يختلف تماما عن سابقه , وإيقاع الحركة القائمة فيه ذات سرعة فائقة , وما سيحصل فيه أما أن يتطور خارج المعقول أو سيحقق الخراب والدمار , الذي سيتفوق على خيال وتصور العقول.

    فهل سنكون بمستوى القرن الجديد, أم سننحدر إلى عالم البدايات ونقضي على وجودنا الحضاري بالحروب والغزوات؟

    سؤال سيجيب عليه القرن الحادي والعشرون المُظفر!!


    د-صادق السامرائي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media