أحبك يا وطني ...
    الثلاثاء 24 نوفمبر / تشرين الثاني 2020 - 11:45
    هادي الحسيني
    [[article_title_text]]
    الجدلي الذي يفلسف كل الأشياء من حوله بطريقة مبهرة ، هادىء في طبعه ، مثقف بارز لكنه لم يأخذ نصيبه الكاف من الشهرة في وطنه العراق إلا إن كتاباته وتنظيراته وأفكاره التي لا تشبه الآخر جعلته في طليعة الكتاب العرب الذي يحملون رؤى فكرية مختلفة ، رؤى أكثر إنفتاحاً وتنويراً في الزمن الصعب أنه الكاتب والمفكر (أمير داود الدراجي) المولود في مدينة الناصرية عام 1948والتي عاش فيها طفولته وشبابه حتى مغادرته العراق والعودة له بعد عام 2003 حاملاً الحنين والذكريات ولوعة المنفى الطويل . وما لبث حتى عاد الى المنفى من جديد بعد شهور قليلة . انصدم أمير الدراجي بالواقع الثقافي والفكري منذ نعومة أظافره وهو شاب صغير عندما قرأ بتأني نيتشه وديكارت ودسويفسكي ولوركا وبودلير والسياب والبياتي وحسب الشيخ جعفر وانسي الحاج وآخرون من العباقرة والمفكرين والشعراء ، ولمّا كانت أفكار أمير الدراجي قد نضجت فلم يتحمله أصدقاءه من المثقفين جراء ما يدلو به من أفكار تكاد تكون صعبة وغير مألوفة وتبتعد عن السائد ومعقدة بعض الشيء في طرحها ولهذا شد رحاله أوائل السبعينيات من القرن الماضي الى العاصمة اللبنانية بيروت ونذر نفسه في الدفاع عن القضية الفلسطينية لسنوات طويلة كفدائي ومناضل همه الوحيد نيل الحرية غير المزيفة ومن دون أحقاد الآخرين إلا أنه لم يفلح في ذلك . وقد عانى سنوات طويلة من إصابة بساقه اليسرى في واحدة من المعارك التي دارت أثناء الإجتياح الإسرائيلي على بيروت عام 1982 الأمر الذي حدد حركته بعض الشيء على الرغم من العمليات التي أجريت له ، ولهذا شد الرحال مرة أخرى الى بلاد الثلوج والجمال والنوارس ( النرويج ) ليؤسس مملكة خاصة به ويحركها كما يشاء رغم الثلج والبرد على طول ستة أشهر من السنة. 

    لم تكن الأحلام المنشودة قد تحققت للكاتب والمفكر العراقي أمير الدراجي في غربته الطويلة التي تجاوزت الثلاثين عاماً , فكلما إعتلى سلم الحرية التي يطمح إليها داهمته الكوارث وأي كوارث فهي من نوع خاص وفريد وسرعان ما ترجل من ذلك السلم الحريري المغلف فقط بالشعارات والأفكار التي تجعل من الإنسان بأن يضحي بكل شيء دون مقابل ، وهو كمن دخل الموت مرات عدة دون حذر .! كان بإستطاعته ان ينال من عدوه داخل المعركة حيث غزارة النيران إلا إن قلب الكاتب المرهف ظل يقظاً ، شديد الحزن على أبناء جنسه من الأعداء ، هو يقدس ويحترم الإنسان وانسانيته بكل ما تمليه هذه الكلمات على الضمير الحي  . 

    الكاتب أمير الدراجي من القلائل الذين لم يذقوا طعم النوم بهناء وسعادة منذ صباه ، ذاك العراقي الجنوبي المتمسك حد اللعنة بكل جميل وأخلاقي تعلمه من أوروك والناصرية والذي كرس عمره وجهده للبحث عن الحقيقة في معترك ذلك الكنز الهائل من الثقافة والإبداع في ملاحمنا العراقية منذ كلكامش ملك أوروك العظيم مروراً بعصور وحقب تاريخية تعاقبت على العراق وحتى حكم الأنظمة الدكتاتورية وصولاً الى يومنا هذا . 
    وعند وصول أمير الدراجي إلى النرويج في عام 1999 كان قد جاب المنافي الكثيرة وقبل أن ينتصر عليه المنفى بشتاته ووحشته إستخدم الدراجي أسلحة مضادة تكاد تكون شبه خيالية بتفتيت ذلك المصطلح الكلاسيكي والذي يسميه البعض الغربة أو المنفى وما تراكم عن سلوكيات البعض جراءه . لقد كيف نفسه للعيش بسعادة يحسده الجميع عليها ، إنه الإبن البار للعراق الحزين الذي تعاقب الطغاة عليه من أجل تدميره.

    يعتقد الكاتب والمفكر أمير الدراجي كما يعتقد نيتشه حين قال بأن الفضيلة تكافىء نفسها . كان الدراجي منذ السبعينات يكتب ويتحدث عن المواطن الكوني وإن هذا الشعور قاده الى محاولات لتأسيس الأفكار التي تقترب من العنصرية وحتى منتصف العقد الثمانيني أنتبه الدراجي وهدم كل شيء ذاتي .

    ويقول في حوار مطول كنت قد أجريته معه بداية عام 2002 داخل العاصمة أوسلو عندما كان يقوم بزيارتي في كل أسبوع قادماً من مدينته النرويجية ( كونك سفنكر ) التي تبعد عن أوسلو 90 كم والتي دفن فيها بعد رحيله عام 2009 على اثر مرض مفاجيء لم يمهله طويلا ! كنا معه نحن أصدقائه في المشفى قبل رحيله وتم تنفيذ وصيته بأن يدفن في مدينته النرويجية (كونك سفنكر) بسبب جمال المدينة ونظافتها . فيقول الدراجي متحدثاً عن وطنه العراق بطريقة ثاقبة للأشياء تدلل على درجة عالية من الوطنية وحب الوطن:

    ( الناصرية أو العراق هي وطنية ليست بمفهوم الموز , أو بربريات الإنسان الأبيض , أو طوطميات التومن الأفريقي , أي نازبات سوداء، العراق والناصرية على وجه الخصوص اكتشفت انسانيتها وكونيتها ، لذا لا انتمي للعراق باعتباره ثنائية حزبية ، معارضة ولاء ، ولا أنتمي بهذا الغباء والرعونة لمفهوم متوتر حروبي يستغفلنا من قبل مجموعة من الأميين ثقافياً والمفلسين أخلاقياً والجهلة انسانياً .. وطننا هو رسالة كونية ثقيلة العيار ، حتى الآن لم أشاهد تماثلاً له في أي رمز سياسي أو ثقافي إلا ما ندر .. هناك قطوعات مخيفة في الضمير والوجدان الحضاري لهذه البلاد التي ما تزال حتى الآن أمبراطورية الذاكرة البشرية ، لهذا لم يمثلها ولا يعرفها الكثيرون . ولم يتوصف وطنياً أي أحد بما يليق بوزنها .. ولهذا أجزم وأكرر دائماً ومن حق الآخر أن يسألني ويسمعني أنا مؤمن بشعاري ، أكرهك يا شعبي أحبك يا وطن) ..

    2019 اوسلو

    الصورة لامير الدراجي عام 1999 اول وصوله النرويج ، انشرها لاول مرة .
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media