الانسان وسلطة الزمن ٌأهل الكهف ٌ وقادة العراق بعد 2003. من يحكم العراق غدا؟
    السبت 28 نوفمبر / تشرين الثاني 2020 - 22:32
    أ. د. عبد علي سفيح
    مستشار وباحث لوزارة التربية والتعليم الفرنسية
    تحذير: هذه المقالة ليست تبرير لسلوك القادة الذين استلموا مقاليد السلطة في العراق، وكذلك ليست تعزيز فكرة عراقي الداخل والخارج لأنها فكرة خاطئة وضارة،. حيث أن الجاليات العراقية في الخارج هي كنز من الخبرات لو وظفت في خدمة البلد لأصلحته.

    قد يندهش القاريء عندما تطالع عيناه عنوان هذا المقال، ولكن اذا نظر اليه بعمق قد لا يندهش ولا يستغرب، بل سيشعر بفضول لمعرفة ما يخفيه هذا العنوان.

    الانسان وسلطة الزمن، عنوان فلسفي، ومنذ القدم ومفهوم الزمن يحتل صدارة المفاهيم الاشكالية الفلسفية عند قدماء الفلاسفة، ولا زال يشكل لغزا غامضا في هذه الحياة. وتعتبر مدرسة فرانكفورت من أهم المدارس التي أهتمت بهذا الموضوع ومنهم استاذ العلوم السياسية والاجتماعية هرتموت روزا وكتابه المشهور  ٌ النقد الاجتماعي للزمن  ٌ( 1).

    هذا المفهوم الفلسفي قد يساعدنا بايجاد جواب لسؤال يشمل المساحة السياسية الاجتماعية وهو، من يحكم العراق غدا؟. على خطى مرثية الأديب مارسيل بروست،   ٌ  البحث عن الزمن المفقود  ٌ (2)، لاستعادة ما فقده فتيان أهل الكهف وقادة العراق الجدد من أحلام والعلاقات الاجتماعية الجيدة.

    قصص القرآن الكريم تهتم بالعبر والدروس والتجارب الفردية والاسرية والانسانية. أخذت العنوان الانسان وسلطة الزمن، أهل الكهف من مسرحية لتوفيق الحكيم نشرت في عام (1933). وتعتبر هذه المسرحية الدينية من أشهر مسرحيات توفيق الحكيم على الاطلاق. اخترت قصة أهل الكهف لأني وجدتها قريبة جدا لعراق اليوم. تدور أحداثها حول محور اساسي وهو صراع الانسان مع الزمن.

    تدور أحداث هذه القصة عن فرار ثلاث فتية من المسيحيين الأوائل من بطش الامبراطور الروماني دقيانوس الذي حكم بين ( 249-251م) وآووا الى كهف لبثوا فيه سنين عدة، ثم بعثوا الى الحياة بعد نوم طويل في فترة الامبراطور الصالح تيدوسيوس ليجدوا أنفسهم في زمن غير الزمن الذي عاشوا فيه من قبل. لكنهم سرعان ما يدركون أن كثير من القيم والعلاقات قد أنقضت بمضي الزمن، الأمر الذي يحملهم على الاحساس بالوحدة والغربة في عالم جديد لم يعد عالمهم القديم. وبالتالي يفرون الواحد تلو الآخر الى كهفهم مؤثرين موتهم في داخله على حياتهم في ذلك الزمن المختلف.

    كذلك في العراق، فرار صفوة من النخب العراقية السياسية من بطش حاكم ظالم صدام حسين الذي حكم بين ( 1968-2003 ) وآووا الى بلاد المهجر ولبثوا في تلك البلاد سنين عدة، ثم بعثوا بعد غياب طويل من بلدان المهجر الى العراق في 2003 بعد احتلال العراق ليجدوا أنفسهم قادة لحكم الشعب العراقي، لكنهم سرعان ما أدركوا أن كثير من القيم والعلاقات الاجتماعية قد تغيرت مع الزمن، الأمر الذي حملهم الاحساس بالوحدة والغربة في عالم العراق الجديد ولم يعد عالمهم القديم الذي تركوه في سبعينات القرن الماضي. وبالتالي أخذ قادة العراق يفرون الواحد تلو الآخر مثل فتيان أهل الكهف، يفرون الى بلاد المهجر الذي كان مأواهم وسباتهم لسنين مؤثرين موتهم في داخله على حياتهم في العراق.

    اما السؤال من يحكم العراق غدا، سؤال قد يعد غريبا وجريئا في نفس الوقت لو قرأناه من زاوية سياسية، وهو أمر طبيعي لأن معظم مخرجات الرأي العام العراقي لها نهايات سياسية. هذا السؤال ليس تنبأ بالمستقبل، فخطورة التنبأ عادة ما تكون مأساوية وهذا ماتحمله أنبياء الله عندما تنبأوا بالمستقبل حين حذروا الناس من عواقب جهلهم، وعندما حدث لهم ما حذروا منه، حملوا حامل الرسالة عبء عملهم وتركوا مضمون الرسالة.

     كذلك هذا السؤال لا يتكلم عن احتمالية، كما كتب المستشار والمفكر الفرنسي جاك أتالي كتابه الشهير، ٌمن يحكم العالم غداٌ (3). وليس مثل تقرير الس آي أي حول ٌ كيف يكون العالم في 2020 الذي كتبه الكاتب الفرنسي ألكسندر أدلير (4). وهو كذلك ليس سيناريوهات من ضمن سيناريوهات مختلفة عن مستقبل الحكم في ايران عام 1979 (5). 

    هذا السؤال يأتي جوابه من المساحة السيسيولوجية أي الاجتماعية، التي أساسها هو أن الظاهرة السياسية هي ظاهرة اجتماعية، وأن السياسة هي وليدة المجتمع. ومن جانب آخر بأن تفسير أية ظاهرة اجتماعية لا يحدها عامل واحد بل عوامل عدة، لكن يختلف ترتيب هذه العوامل حسب الأولوية. 

    نقصد هنا بمن يقود العراق، أي الرجل الأول الذي يتحمل المسؤولية ولا نعني النخب أو الوزراء أو المستشارين.

    عراق 2003 وهو عراق اليوم، ولادة حديثة حصل لها تشوهات جنينية تعود الى مجموعة من العوامل المعقدة بما فيها الاجتماعية والسياسية والنفسية.

    في الطب الولادات الجنينية المشوه كانت سابقا تكتشف بعد الولادة. لكن بتطور العلوم أصبح الكشف عنها قبل الولادة. وبمجرد أن يثبت الفحص الطبي  في الشهور الأوائل هذا التشوه، يتخذ الآباء القرار باما الاجهاض، أو من عدمه.

    كذلك في العلوم السياسية والاجتماعية تطورت وسائل الكشف عن الظواهر السياسية والاجتماعية المشوه قبل حدوثها وسميت احدى هذه الوسائل بالجينيالوجيا والتي تعرف بعلم المنشا.

    جهلنا بهذه العلوم الحديثة المتطورة هي أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت العراق يعاني من ولادات سياسية غير سليمة على طول 17 سنة. ولو كنا نحسن استعمال هذه العلوم لأتخذنا قرار سليم بعد ولادة حكومة السيد أياد علاوي.

    منذ 2003 لم يتوفق الرجل الأول في العراق في قيادة البلد الى بر الأمان. قد تكون هناك اسباب عدة لا خلاف عليها ولا جدال فيها، غير اننا في هذا المقال نستعرض عاملا آخر ذات أهمية في ادراك فلسفة ادارة الدولة قد يكون غائب عن المهتمين بالساحة السياسية.

     وهذا ليس عيب فيهم لأن هذا الشيء المخفي له مستقر في المساحة الأجتماعية ومن زاوية معينة  ضمن المجال المرأي. هذا الشيء الغائب أو العامل المهم في عدم توفيق القادة في قيادة العراق يكمن في البعد والانفكاك عن المجتمع العراقي( أي عدم معايشة الواقع).

     الانفكاك هنا لا يعني التمييز عن العراقيين. فقادة العراق وحسب اعتقادنا،  كان ينقصهم قراءة الواقع. اذ أن تركهم واقع مجتمع العراق لسنين عدة وعيشهم في واقع غير عراقي الطباع بسبب ظروف أجبرتهم على ذلك. حتى لما عادوا لقيادة البلد عادوا كأصحاب الكهف والرقيم، كل شيء غريب عليهم.

    ان الشيء الذي أدهشني عند دراستي للعلوم الانسانية وتحضيري لاطروحة الدكتوراة في فرنسا هو أنه لا يمكن نفصل اطلاقا بين نشأة المعرفة وبين ممارسة السلطة وهذا ماكتب عنه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو(6). جهل قادة العراق بواقع المجتمع العراقي بعد 1980 فقدتهم القدرة على ادارة السلطة.

    من هناا لسنا بصدد  تبرأة من قاد العراق من المسؤولية، انما نحن في مواجهة لدراسة بحثية علمية التي لا تتصدى للشخص بقدر ما تتناول معالجة ودراسة ظاهرة، كطبيب ينشد شفاء قلب أو عضو من الجسم عاطل دون الالتفاف الى صفات الشخص الذي يحمل هذا العضو العاطل عن العمل.

     بعد 1991، الدولة فقدت قوتها ومركزيتها وهيبتها، والمجتمع العراقي بدأ بالتمزق، وكل شخص هو مسؤول عن معيشته، مما دب الفساد والرشوة والتزوير والسوق السوداء واالقجقجية، حتى بيعت بعض مراكز الدولة.

    قد يرى المتلقي أن هذه الفكرة غير كافية لاثبات هذه الفرضية أو فكرة الانفكاك عن واقع العراق، لذا يحتاج لنا أدلة أكثر شمولية تشمل قادة دول أخرى لتكون الفكرة واضحة وملموسة من الناحية العقلية. على سبيل المثال:

    1. الرئيس الفرنسي شارل ديغول: ينظر الفرنسيون الى ديغول الى انه الأب الروحي للجمهورية الفرنسية الخامسة. ضابط عسكري قاوم الاحتلال النازي لفرنسا ثم هرب الى لندن في عام 1940 وكان عمره 50 سنة، وقاد من هناك المقاومة وترأس حكومة فرنسا في المهجر عام 1943 ودخل باريس فاتحا ومحررا عام 1945، وترأس الحكومة المؤقتة لمدة 18 شهر الا انه استقال بعد أن دب الخلاف بينه وبين مجلس الدستور. بقى 11 سنة خارج الحكم ورجع للحكم في 1958.

    2.الرئيس أحمد ابن بلة رئيس الجزائر: كان رجلا ثوريا ومناضلا سياسيا وأحد مؤسسي المنظمة السرية للثورة الجزائرية، وأعتقل في عام 1950 وحكم عليه بالسجن 7 سنوات، ثم هرب من السجن في عام 1952 وقاد عملية التحرير للجزائر من الخارج، وعاد الى الجزائر في عام 1962 بعد 10 سنوات من الغياب وأصبح رئيسا للجمهورية، وفي عام 1965 حصل انقلاب عسكري عليه.

    3.الرئيس الايراني أبو الحسن بني صدر: كان والده من رجال الدين النافذين والذي كانت تربطه صداقة مع الامام الخميني. درس الحقوق وكان رئيس للتجمع الطلابي واعتقل مرتين في عام 1960، وفي عام 1963 هرب الى فرنسا وانظم الى مجموعة المقاومة الايرانية بقيادة الامام الخميني، ودخل ايران في عام 1979، واصبح رئيسا لها في عام 1980، واجبر على ترك ايران والهرب مجددا الى فرنسا في عام 1981.

    ماذا نستخلص من هذه الأمثلة الثلاث؟. بالرغم من اختلاف الأزمنة، والجغرافية( اوربا، وأفريقيا، وآسيا)، الا ان هناك قاسم مشرك بينهم هو ، الانفكاك عن الوطن الأم لسنين عديدة.

    شارل ديغول غاب عن فرنسا 5 سنوات. أحمد ابن بلة غاب عن الجزائر 10 سنين. اما بني صدر، غاب عن ايران 26 سنة. في فرنسا قاد البلد الذين لم يتركوا فرنسا. وفي الجزائر قاد البلد هواري أبو مدين الذي لن يترك الجزائر يوما. اما في ايران، قاد البلد الشيخ هاشمي رفسنجاني والسيد علي خامنئي الذين لن يتركوا ايران يوما واحدا.

     الذي أقصده هنا هم المسؤولون عن ادارة وتنظيم الدولة وتوفير الخدمات للمجتمع، ولم أقصد فيه القادة للثورة والأب الروحي لها. مثلا نجد في الهند، قاد الثورة السلمية غاندي الذي كان في جنوب أفريقيا، الا أن حكم وادارة الهند كانت من قبل جواهر آل نهرو. كذلك الامام الخميني الأب الروحي للثورة الاسلامية في ايران كان منفيا، الا أن قيادة الدولة وادارتها تركها الى هاشمي رفسنجاني وبني صدر. وفي جنوب افريقيا، المناضل نيلسن مانديلا الأب الروحي للثورة، الا انه ترك الحكم والادارة للآخرين.

    من هنا يمكن أن ننتهي بالقول الى أن الذي ينجح في قيادة دفة الحكم للعراق وله كلمته المسموعة من المجتمع العراقي هم الذين لن يغادروه يوما واحدا ولن ينفكوا عنه.

     فحسب هذه المقدمات والدلائل، أن الذي يحكم العراق غدا هو الشخص الذي لن ينفك عنه يوما واحدا، عاش مع الواقع وأدرك حركة نسيجه وتأقلم معه ورافقهم بحلوه ومره، وعلى حد قول عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو  ٌ  كان لزاما على الانسان معرفة قانون الجاذبية لصناعة طائرات تستطيع أن تقاومه بنجاح (7 ).


     المصادر

    1.     Roza Hetmut : Acceleration, une critique sociale du temps. Paris, 2010.

    2.     Marcel Prust : A la recherche du temps perdu. Gallimard, paris, 1946.

    3.     Jaques Attali : Demain, qui gouvernera le monde ?. Paris, 2011.

    4.     Alexandre Adler : Le rapport de la CIA. Paris, 2005.

    5.     Hubert Devrine : Ministre des affaire etrangere français.

    6.     Michel Focault : Article universitaires correspondant aux termes, connaissance et pouvoire. Paris, 1984.

    7.     Pierre Bordieu : La distinction critique sociale du jugement. Paris, 2016.
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media