علاقة الورقة البيضاء بصندوق النقد الدولي
    الأربعاء 2 ديسمبر / كانون الأول 2020 - 06:44
    صباح نعوش
    باحث إقتصادي
    وضعت الحكومة العراقية برنامجاً لمدة تتراوح بين ثلاث إلى خمس سنوات هدفه إصلاح مالية الدولة المتردية نتيجة سوء إدارة الشأن العام والفساد المالي المستشري وهبوط إيرادات النفط. يحتوي على إجراءات تستجيب لرغبات صندوق النقد الدولي. لكنها تخلق مشاكل كثيرة وجاءت في الوقت غير المناسب.
    في نطاق مشاورات المادة الرابعة أصدر خبراء الصندوق البيان رقم 142/19 بتاريخ 6 أيار 2019. ثم انبثق عن المجلس التنفيذي للصندوق البيان رقم 301/19 بتاريخ 26 تموز 2019. يرى الصندوق في هذين البيانين بأن انتعاش الإيرادات النفطية وعودة الاستقرار بعد القضاء على داعش يشكلان فرصة لإعادة اعمار البلد وزيادة المصروفات الاستثمارية للقطاع الحكومي. ويؤكد الصندوق على ضرورة التصدي للفساد. كما يتوقع زيادة العجز المالي الأمر الذي يقود إلى تآكل احتياطي البنك المركزي فيتقلص الإنفاق الاستثماري مما يؤدي إلى تباطؤ النمو.
    انطلاقاً من هذه المعطيات تدعو المؤسسة الدولية إلى ضرورة القيام بإصلاحات جوهرية. وترى من اللازم اتخاذ ثلاثة إجراءات رئيسة. احتواء المرتبات في القطاع العام ورفع أسعار استهلاك الكهرباء ومعالجة الفساد بإيجاد التشريعات اللازمة والفاعلة.
    وعند العودة إلى الورقة البيضاء نلاحظ تركيزها على الإجراءين الأول والثاني. أما الفساد المالي فلا تقترح الورقة معالجة له إلا في بعض المجالات كتحصيل الضرائب المباشرة والرسوم الجمركية. علماً بأنها تصطدم بعد عقبات عملية بهذا الشأن نظراً لهيمنة المليشيات والأحزاب خاصة على المنافذ الحدودية.
    الورقة تستجيب بصورة عامة لتوصيات صندوق النقد الدولي. بل أنها لم توضع للإصلاح الفعلي بقدر ما وضعت لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسة:
    الهدف الأول موافقة البرلمان على القروض. إذ ربط البرلمانيون موافقتهم على هذه القروض ببرنامج إصلاحي. وبالفعل تم إقرار القانون الثاني لتمويل العجز المالي بالقروض بعد شهر واحد من صدور الورقة البيضاء.
    الهدف الثاني تقديم هذه الورقة للشركات الأجنبية لتشجيعها على الاستثمار في العراق. وهذا ما حدث بعد أيام معدودات من نشر الورقة. تم الاعتماد على هذه الورقة في الاجتماعات الأخيرة بين الحكومة العراقية والشركات الفرنسية والألمانية والبريطانية.
    الهدف الثالث إرسال رسالة واضحة إلى صندوق النقد الدولي بأن الورقة البيضاء اقتبست توصياته. عندئذ يمكن للحكومة الحصول على قروضه وعلى قروض الدول والمؤسسات المالية الأجنبية.

    التوقيت غير المناسب
    ولكن هنالك نقطة أخرى أكثر خطورة وأهمية ترتبط بالتوقيت. توصيات الصندوق مبنية على المؤشرات الاقتصادية التي كانت سائدة في الربع الأول من عام 2019. في حين أن الورقة جاءت في الربع الرابع من عام 2020. والفرق هائل في معطيات هاتين الفترتين.
    في الربع الأول من عام 2019 كان سعر النفط يتجه نحو الارتفاع. ففي أيار من ذلك العام بلغ سعر البرميل العراقي 66.1 دولارا. كما كان حجم الصادرات 3.4 مليون ب/ي. وهكذا وصلت الإيرادات النفطية الشهرية إلى 7329 مليون دولار. 
    لا شك أن صندوق النقد الدولي كان يتوقع هبوطاً طفيفاً لأسعار الخام. لكنه كان يشير إلى زيادة حجم الصادرات العراقية. بالنتيجة ترتفع الإيرادات حسب توقعاته في عام 2020 مقارنة بعام 2019 (راجع الجدول المرفق ببيان المجلس التنفيذي).
    بمعنى أن الإجراءات التي اقترحها الصندوق على العراق مبنية على أساس ارتفاع الإيرادات النفطية. لكن العراق لم يقم بأية خطوة إصلاحية في تلك الفترة.
    ثم جاءت الورقة البيضاء في ظروف مختلفة كليا. مؤشرات نهاية عام 2020 ليست كمؤشرات بداية عام 2019. يتمثل الاختلاف في أربعة جوانب على الأقل:
    الجانب الأول وباء كورونا. أدى إلى شل الحركة الاقتصادية في جميع البلدان. وتزداد خطورته في العراق بسبب هشاشة الاقتصاد العراقي. لعب هذا الوباء دوراً كبيراً في تراجع مستوى معيشة الملايين من أصحاب المهن الصغيرة والأجور اليومية.
    الجانب الثاني تراجع إيرادات النفط. على عكس توقعات صندوق النقد الدولي هبطت هذه الإيرادات في العام الجاري مقارنة بالعام السابق بسبب تراجع الأسعار وتخفيض الإنتاج. في تشرين الأول المنصرم بلغت إيرادات الخام 3430 مليون دولار أي اقل من نصف حصيلة أيار من العام المنصرم.
    الجانب الثالث ارتفاع العجز المالي على نحو غير مسبوق. سجل عام 2020 رقماً قياسياً في العجز المالي البالغ 81 ترليون دينار أي حوالي ثلاثة أضعاف العجز في ميزانية عام 2019. يترتب على ذلك اللجوء مجدداً إلى القروض الداخلية والخارجية فترتفع المديونية العامة. وتراجع احتياطي البنك المركزي من النقد الأجنبي فتنخفض القدرة المالية للدولة. كما يقود هذا الوضع إلى تدهور سعر صرف الدينار مقابل العملات الأخرى فيرتفع معدل التضخم.
    والجانب الرابع الوضع الاقتصادي المتدهور في إيران. تمخض عنه تحمل العراق عبئاً مالياً ثقيلا. إيران تحصل على تحويلات مالية من العراق عن طريق التجارة الخارجية واستثماراتها المباشرة واتفاقية الدفع المالي. أدى هذا العبء إلى اختناق مالية العراق خاصة في الظروف الاقتصادية الحالية.
    أفضت هذه العوامل إلى تردي مالية الدولة وتدهور مستوى معيشة المواطنين. ازدادت البطالة وارتفع الفقر وتصاعدت الأسعار. ولهذا التقهقر تبعات اجتماعية باتت خطيرة.
    جاءت الورقة البيضاء إذن في ظروف اقتصادية غير مناسبة ومختلفة اختلافاً كلياً عن الظروف التي صاحبت توصيات صندوق النقد الدولي. بل اختارت أيضاً الوقت غير الملائم من الناحيتين الاجتماعية والسياسية. فهي تدعو إلى تخفيض رواتب الموظفين إلى النصف وإلى تقليص قيمة البطاقة التموينية وإلى ارتفاع أسعار الكهرباء والأدوية. في حين ينادي الحراك الشعبي بعكس هذه الإجراءات. لم يهتم واضعو الورقة بمطالب هذا الحراك الذي يعبر تعبيراً صادقاً عن تطلعات المواطنين.
    علماً بأن هنالك نقطة خلاف جوهرية بين الحكومة والصندوق ترتبط بكيفية استخدام الأموال المقترضة. ترى المؤسسة الدولية ضرورة توظيف القروض في إعادة البناء والاستثمار وليس في دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين. في حين لا تهتم الحكومة بالاقتراض للقيام بالتنمية إلا في نطاق ضيق. ففي قانون تمويل العجز المالي الصادر في تشرين الثاني 2020 تم تحديد حجم القروض لغاية نهاية السنة بمبلغ 12 ترليون دينار. 80% منها للمرتبات و20% منها للاستثمار. ناهيك عن أن القسط الأكبر من الأموال المخصصة للاستثمار ينفذ في مشاريع غير منتجة ويشوبه الفساد.

    الحكومات التي تخدم شعوبها قامت في الآونة الأخيرة بمنح المواطنين والمشاريع إعانات وتسهيلات مالية لمواجهة الأزمة الحالية. لم تنخفض نفقاتها بل بالعكس. العراق يختار الطريق المغاير.

    sabah.6001@outlook.fr
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media