كورونا .. ونهاية العولمة
    الجمعة 27 مارس / أذار 2020 - 21:45
    آية الله الشيخ إياد الركابي
    لم يلق  نظاما  من التأييد  والترحاب  ما لا قاه نظام  العولمة هذا  من شعوب ومنظمات وأحزاب   مختلفة   ،   وكل هذا  كان  بسبب ما يحمله أو هكذا  ظن الناس  به من خير  للإنسان  كدعوته  للحريات وللعدالة  وللحقوق  والمساواة ، وكانت أكثر الشعوب توقاً  و رغبة بنظام العولمة  هي تلك التي أنكوت بنار  الظلم  و الدكتاتورية والإستبداد      ،  وكنا  وكنتم  شهوداً  على سنوات  الحرب  الباردة  وماحملته  من تداعيات  والألام   ومن ظلم  وتعسف  وضيق أفق  ومصادرة  للحريات  وللحقوق   ،  فكانت  العولمة  بمثابة  النور الذي يشع أملاً ورجاءا  لحياة جديدة  و مختلفة   ،  وكان ذلك  هو  الدافع وراء ذلك  التأييد غير المسبوق    .
    لقد  كانت شعوب  أوربا الشرقية  أكثر فاعلية  وحضوراً  وسعياً  في ذلك الصراع  ولهذا  أمدته  بكل عناصر  القوة والتأثير   ،    وكان   -  لكورباتشوف  -  الزعيم السابق  للإتحاد  السوفيتي  الدور الفاعل  في حسم ذلك  الصراع  لمصلحة الشعوب   وبداية  عصر العولمة  الجديد   ،   ورأينا  كيف  نمت  وأزدهرت  مظاهر الإستقلال والتحرر  لدى شعوب  مختلفة  مؤمنة بحقها  في تقرير المصير عبر الآليات  الديمقراطية والإنتخاب الحر   ،  معلنةً  في الوقت نفسه  عن بداية عصر جديد   فكان   الربيع الأوربي  ذروته   مع سقوط الإتحاد السوفيتي وإنهيار جدار  برلين  .
    ويمكن القول : إن  سنوات  التسعين  من القرن الماضي هي البداية  لهذا  النظام الجديد  بفضاءاته  المفتوحة  وحركة السوق والعمل  والنهضة   ،   كان  ذلك  (  نهاية للتاريخ   هكذا  قال  فوكوياما  )    ،   نعم  أزدهرت   في ظل هذا النظام  الجديد حركة السوق  والتجارة  والنقل  وتنامت  ثقافة الديمقراطية  لدى  قطاعات واسعة   .
    وفي الطرف الأخر  كان   الشرق  يرزح  تحت ظل حكومات مستبدة جاهلة  ،  وكانت شعوبه أكثر شوقاً للتغيير   فكانت   - عاصفة الصحراء  أو ما سُمي بحرب الخليج   -  تؤدي  دورا  مزدوجاً  في  (  الإحتلال  والإستقلال  )   ،   وتنامى في اللاوعي الجمعي مفهوم  الشرق الأوسط الكبير  ،  ضمن مفهومي السياسة والإقتصاد     و قد عزز ذلك رغبة مضطردة  من  شعوب المنطقة  التي كانت  أكثر حرصاً   في تغليب  هذا  التوجه   ،  إيماناً  منها  بالتغيير وفق القيم والآليات  الصحيحة     ، ولم  يكن   نمى ذلك الشعور بعد  في فك الإرتباط  بين مفهومي  ( الإحتلال والإستقلال  )  لا على الصعيد  الفكري  ولا على الصعيد  الإعلامي  والشعبي    ،  نقول هذا  بعدما  كان الضخ  الإعلامي  و الدعاية والإعلام  وما يصدر من بعض  الأحزاب  والتنظيمات  يرسخ في الذهن والعقل ذلك الترابط بين تلك الثنائية    ،   ومن وحي المعانات  كان الجميع  عن قصد أو بدونه  راض  ومقتنع  بفكرة   -  القطب الواحد  -   التي كان يروج لها في الظل من قبل  عناصر ومؤوسسات  معروفة   ،  وهذا الواقع  هو الذي  فرض نوعاً  من القيم والثقافة  أستسهلت وأستساغت  فكرة الإحتلال  على فكرة الإستقلال  بل وذهب البعض بعيداً  في  الدفاع عنها  وبحجج  واهية غير مفهومة لدينا     ،  وأنكمش  دور القوى  والأحزاب  القومية بل وتلاشى دورها  في ظل سيادة  هذه النزعة  في الثقافة والإعلام      ،  رافق هذا وذاك سلسلة من  الخيبات  والإنتكاسات  التي عاشها الإنسان  المشرقي  في ضميره ووجدانه  رصدنا ذلك  من خلال  الشعارات  الوهمية  والتعبئة  الزائفة   ،  حدث  هذا في بلادنا  وفي منطقتنا بالذات  ،  وكانت العقول والضمائر مشدودة إلى هناك  وإلى ما يمكن أن تقوم  به أمريكا في هذا الشأن  ،  حتى جاءت لحظة  سقوط بغداد كتتويج  لمسيرة و لمرحلة   ، معلنة  عن  بداية  نوع من الحكم جديد في العراق وفي المنطقة   عبر الفوضى الخلاقه التي سماها الإعلام المُخاتل بالربيع العربي   .
    نعم لم  يكن للعقل العربي  خيارات عدة  في مواجهة تحديات  المرحلة الجديدة  ،  ولم تكن مواجهته  في الحكم ناضجة  وكل ما لديه  عبارة  عن حكايات من التاريخ والتراث  عن حكم الخلفاء والسلاطين  الملوك     ،  و لهذا فشل في الرهان  وفي تأسيس الحكم الديمقراطي الصحيح   ،  ولا ننسى  كيف دخل الدين السياسي  ساحة الديمقراطية  ليؤوسس له مواطئ  قدم  هنا وهناك  ،  فسقط مشروع   التغيير  أو مشروع الحلم  وسادت النزعة الطائفية  ونمى الإرهاب وأشتد عوده  ،  وبرز في ظل ذلك جيل من المنافقين  النفعيين  والإنتهازيين  وكثر النهب والسلب والفساد  وسقطت هيبة الدولة والنظام   ،  وغدى  مفهوم  الديمقراطية عبارة  عن  وهم  وخيال  وهرطقة   ،  وأنساقت  الشعوب من جديد  بما في ذلك  شعبنا العزيز  ،  وتنادت  تطالب بحريتها وكرامتها  وما تبقى من سيادتها وشرفها   ، حين خرجت من جديد  تعلن عن رغبتها وعزمها على التغيير .
    لكن   ومع إشتداد الأزمة وسقوط الضحايا  خرج  إلينا  -  كرونا -  ذلك  الفيروس اللعين  فارضاً  نفسه بحسب الإعلام  والدعاية  غير المسبوقة  على الواقع  ، وصارت الإرشادات تأتي  تباعاً  من كل طرف في وجوب الإلتزام  وبكيفية  التعامل معه ،  حتى ماعادت للساحات  ولا التظاهرات  ولا المطالبات البريئة  مكاناً  في ظل هيمنته الإفتراضية  ، وصار  العزل  الإجتماعي  هو الصحي   في مواجهة هذا الفيروس اللعين ،  وبما إن الإستجابة  هنا ليست طوعية بل هي في أحيان كثيرة قهرية وإجبارية  ولا يستثنى منها  أحد   ،   عندها  أحسسنا  بأن هذا الفيروس  لم يكن صناعة بريئة  و لاهو هبة مقدرة   ،  إنما  جاء  ليكون الفاصل  بين مرحلتين من التاريخ  وهو بالنسبة لنا نحن المشرقيين  جرس إنذار خطير  لما هو قادم  ،  وبحدود علمنا قد سبق  ذلك التحضير و  التفكير لبناء عالم جديد ،  تتحكم به  وبدرجة  كبيرة  الإقتصاديات الكبرى والشركات  العملاقة   ،  ولأن  حدوث ذلك  غير ممكن وفق آليات  الواقع  كان  لا بد من عمل ما  ولو تطلب إجراءات وأفعال من نوع  صادم   ،  وتسهيلاً  للمهمة دُعيت الجيوش لمسك الأمور   وقطعت الصلات بين الشعوب والدول  ومنع الطيران وأشيع  بين الناس  وجوب  عدم الإختلاط   ،   ساهم في هذا  ضخ إعلامي مبرمج  ودعاية حكومية  ورصد  أموال طائلة  وإن كانت  مجرد  دعاية   ،  وما يزيد  النفس ريبة  ذلك  الإدعاء اليومي  من الحكام والمسؤولين  بأن  الطريق  لا يزال طويلا في إيجاد  صيغة علاج  لهذا الفيروس  اللعين   ،   طبعاً  مع تذكيرنا  بأن لهذه  الدول من القدرات  والأمكانيات  الفائقة والتقنيات العالية ومراكز البحث الرصينة  ،  ومع ذلك  يقولون لازلنا في بداية الطريق  !! .
    و هذا يقودنا للقول  التالي  :   مادام الأمر كذلك  فالحتمية التاريخية  تقول  إنه لا بد من أن  شيئاً ما سيحدث  ولأهمية ذلك  يتطلب نوعاً  من الإلهاء  النفسي  والمجتمعي  إلى حين ترتيب الأولويات  ،   والتي من ضمنها  القبول  الشعبي بما سيحدث  ،  والإلغاء المبرمج  للمشاركة  العبثية  من الشركات الصغيرة الحجم  الضيئلة الرأسمال  في حركة السوق  والإنتاج   ،   وإعطاء الأولوية للشركات العملاقة التي تعتمد  التقنيات عالية الدقة والذكاء الإصطناعي الخارق  .
    وإلى هذا سينقسم العالم  بحسب الحاجة والمصلحة  إلى أثنيين أو ثلاث من المحاور الكبيرة  ،  وبنفس  السياق يجري  تنظيم سياسي جديد :
    يبدأ أولاً  بتفكيك الإتحاد الأوربي  إلى دويلات صغيرة  ،  ومن ثم  إلحاقها  لهذه المحاور الكبيرة  تبعاً للمصلحة والحاجة   ،  وثانياً  لم يعد  مسموحاً  تلك الفوضى التي رافقت  العولمة   في عالمي المال والإقتصاد  ،   والخطوة التي أتخذتها بريطانيا في خروجها  من الإتحاد  الأوربي  خطوة  عبرت عن آلية نحسة  ،  في القبول  وفي التبعات المالية فكان لا بد من هزة عميقة ، تفوق تلك التصورات البدائية والمعمول بها في السابق  ،  وهنا وجد  المشرع الغربي  نفسه  أزاء  إستراتيجيات من نوع جديد   ، وإن كلف ذلك خسارات  تطال حياة الناس وإقتصادياتهم  ، لكن ما يفكرون به أعمق من مرحلة زمنية ستعيش الذكرى للأرشيف البشري  .
    وسنذكركم بما قلناه  في مقالنا الأول عن -  نهاية سلطة القانون  -  ،  وكنا قاصدين  المعنى واللفظ   حيث نشير  من غير مواربة إلى نهاية عصر السوق المفتوحة  والحريات والحقوق  الطبيعية  للشعوب الضعيفة  ،  ونعيد التأكيد هنا بأن  -  نهاية العولمة  - ستكون في السياق نفسه  مع الإنجرار القهري لعالم جديد تتحكم به القوى الإحتكارية الكبرى  ، والتي  معها سوف  يسود  الإستبداد  ولكن  بنمط جديد ونوع جديد  ،  هو سيادة عالم التكنولوجيا الذكية  والتقنيات فائقة الدقة   ،  ومعها  حتماً  لا مجال لمن يعيشون عصر ما قبل نهاية التاريخ ..

    آية الله الشيخ إياد الركابي
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media