متلازمة الأمن والإقتصاد.. الحلقة الأولى
    الجمعة 3 أبريل / نيسان 2020 - 05:05
    آية الله الشيخ إياد الركابي
    توطئة   :
    يواجه  المجتمع  الدولي تحدياً  غير مسبوق  يستهدف وجوده  ونظامه  ،  ولهذا كان الإهتمام  منصباً  لدى كثير من المؤوسسات ومراكز البحث المحترمة ،  حول  متلازمة  -  أمن  وإقتصاد  -  في زمن الكورونا  ، عن السبب  وعن المُعطى وعن النتيجة،  وقد  أشار إلى هذا  الباحث البارز في مجال السياسة والإقتصاد  - باري بوزان  -  ،  في معرض كلامه  عن سبب نشوء ظاهرة الكورونا   وتكاثرها  بهذا الشكل المريع   ،  كان   يتحدث في  السياق الفلسفي عن الأسباب والنتائج الممكنة والمتصورة   ، وقد شاركه  الرأي في هذا   -  روني ليبشتز  -  وهو يقدم موضوعته عن  الإقتصاد كمحرك أساسي  في السياسة  وحفظ  السلام  و التوازن الدوليين.
    ولم يكن البحث هنا  عن  المتلازمة إنتقائياً   ،  بل كان  في سياق  البحث  عن   -  الحجر الإجتماعي  -  الذي تعيشه الأمم والمجتمعات والدول  هذه الأيام  وأثر ذلك  وتأثيره على الأمن والإقتصاد    ،   والحجر في لغة العرب ثلاثية الأبعاد وتدل على  المنع   بصيغتيه (  الطوعية  والقهرية  )  ،  وفي الحالين  هو  : -  عبارة  عن منع  في التصرف والحركة  -  ،  والمحفز  أو الدافع  لهذا المنع   هو  -  الخوف  -  الذي يرتبط  في أيامنا   بالصحة العامة  ،   لذلك تولى المبادرة  عنه   السياسي  التنفيذي كجزء   من شؤوناته  واختصاصاته.  
    هذه النظرة الأولية لمعنى  الحجر  أعادتنا   للتفكير و التركيز  على  أهمية  السلطة  التنفيذية  ودورها  في إدارة شؤون  الدولة والمجتمع   ،  ومن هنا  يكون المنع منها  بمثابة القانون الواجب الإجراء و التنفيذ   ،  هذا   في سياق التعميم  والتشريع   وهو من أهم وسائل  مقاومة  إنتشار الوباء   ،  ولذلك  أعتبر الفقهاء   المنع   واجباً  كفائياً   مادام المُراد منه والمتعلق هو  حفظ الحياة  والناس  ،   وقد ورد  في الأثر عن النبي  قوله  : -  إذا  ما  وقع  الوباء بأرض قوم  فلاتخرجوا منها  فرارا ولا تهبطوا  عليها  -    ،  وهذا بمثابة  الحجر  حتى لا يتكاثر وينتشر الوباء   ،  والدولة  في هذه الحالة  ليست لها خيارات  متنوعة ،  والخيار الوحيد  هو في كيفية   السيطرة والنظم    ،    في أحتواء  الأزمات والمشكلات  والفوضى التي  تنشأ  بفعل عدم التوازن واللانظام.. 
     معنى  القدرة:
     قيل قديماً  :  في تعريف  معنى  القدرة  على أنها  الأداة التي تحفظ كيان ووجود  المجتمعات  والدول    ،  هذا التعريف التاريخي لكوتيليا  ورد في سياق مفهوم القوة المانعة  للدول والمجتمعات  من التفكك والإنهيار    ،   وقد  ذهب غير واحد  من المفكرين  إلى  إعتبار قوة الدولة تكمن  في    :
    1 -   قوة إقتصادها.
    2 -  ووحدة  شعبها.
        وهذا القول  سمته  الفلسفة  السياسية   -  الواقعية السياسية -  ،  والتي  هي مزيج  ما بين  المذهب الطبيعي  والمذهب  الفلسفي   ،  وهي على النقيض  من المثالية   ،  لأنها في العادة  تقيم  تصوراتها  على اشياء  وقضايا  قريبة  وملموسة  ،  عكس المثالية  التي تقيم تصوراتها في الغالب على ماهو غير طبيعي  أو غير ملموس  ،  والإتجاه  الموضوعي  في السلوك السياسي يميل  في العادة على تغليب  الواقعي على المثالي،  ويعني هذا  جعل المقولات  والتصورات أكثر عقلانية ووضوحاً،  مما يجعلها  أكثر تأثيراً  وإستطاعة  في مجالي  (دفع الضرر ورفع المانع)،  ويستلزم  هذا  الشعور بالنتائج  الإيجابية  في البقاء والنفوذ.
    وأختلف في شأن  القول  التالي:  -  هل   الناس طبيعةً  هم  أعداء أم حياديين ؟  -  ،  وذلك  يقودنا   للقول الآتي :  هل المفروض  التهيء  الدائم  لإكتساب  القوة  أم  الإنشغال  بالحياد  واللامبالاة؟؟   .
    وفي الجواب عن السؤال الأول  يكون :   باعتبار  الناس أعداء طبيعةً أو عدوانيين طبعاً،  وهذا يؤدي  للقول   بنفي   فكرة -   النوايا  الحسنة-   ونفي  مقولة  (.. وأما نظير لك في الخلق)  الواردة في سياق معنى الأخوة البشرية أو الإنسانية   ،   وهذا النفي السلبي  ورد في كلام كثير من الفقهاء  ومنهم  الإمام الشافعي  الفقيه المعروف،  والذي أعتمد في نظرته للناس بحسب المعتقد والدين  ،  فالناس عنده إما مؤمنين أو كفار ولهذا  أباح   قتل  الكفار إن لم يدخلوا في دين الإٍسلام    ،   وعلل موقفه  هذا  اعتماداً  على خبر وهمي  جاء فيه:-  أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاَّ الله!! -  ،  وناسخاً عن قصد  المعنى التشريعي   لقوله تعالى  : -  إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم  لقدير  -  ،  وكذلك  تغليبه  لمعنى القتال  الإكراهي  ،  ويعني هذا تحميله  لقول الله  تعالى  في : -   (أعدوا لهم  ما استطعتم  من قوة)   ما لا يحتمل من القول     ،   وفي العصر الحديث  مال إلى هذا المعنى   (جورج دبليو بوش)  في  اعتبار  الناس  أعداء  ولهذا قال وتبنى مفهوم -  الحرب الإستباقية  -    بعد 11 سبتمبر  .
    وقد جرى ذلك  في لسان -  بسمارك   -  الزعيم الألماني  حين عرف  السلوك السياسي  بأنه الشيء الصحيح الذي  يقوم على  القوة  و القدرة   .
    والقوة  عنصر  مركب من جزئين:
    الأول :   قوة الاقتصاد .
    والثاني : وحدة الشعب  .
      فالاقتصاد  القوي  هو الذي يجعل  من  الأمن  قوياً   ،  ومنه  تبدو متلازمة   -  أمن اقتصاد  -   متلازمة حيوية  تكون أكثر وضوحاً  في العمل و  في السلوك السياسي للدول   ،   يدلنا هذا إلى  اعتبار  الأمن  لازماً  من لوازم  حياة الشعوب والأمم   ، والأمر نفسه يُقال عن   الاقتصاد  باعتباره  الشيء أو الحاجة  التي تعزز هيبة الدولة  وتمكنها  على مواجهة  اعدائها المحتملين  ،   وفي المقابل كلما ضعف الاقتصاد أو قلة قدرته  ووسائل فعله  ،  ضعف أداء الأمن وقلة قدرته   في مواجهة التحديات  المحتملة     .
      يتحدث  مورغان  الاقتصادي البارع  عن معنى   الأمن القوي  فيقول: -  قوة الأمن  تتجلى  في الأداء وفي التأثير السياسي  وفي المناورة  وشعور  الأخرين  بذلك   -   ،   ولا ينفصل مفهوم قوة   الأمن  عن  القدرة  المتصورة  في إنجاز المهام والأهداف النهائية للدولة   ،  يقول برنار رينيه  لا يجب اخضاع  مفهوم الأمن والاقتصاد   للأخلاقيات  العامة   ،  وكأنه  يلتزم حرفياً  بما قرره ميكافيلي  عن معنى   -  الغاية تبرر الوسيلة –   الذي هو في الأصل تحديد  وتعريف  لما يجب  أن  يكون     .
    ولنطرح  المفهوم بصيغته الإشكالية  : -  ما هو المهم  بالنسبة  للدول  تحقيق   الأهداف العاجلة أم   حماية  الدولة والنظام  - ؟    ،   ولكن ما هو التعريف الأمثل للأهداف العاجلة   هل هو الحسم  من دون نظر للجوانب الأخلاقية  ؟  أم  هو اعتماد  القوة  في الحسم  ؟    ،  يقول  توماس هوبس   -  :  -   إن  الجدل  في الطريقة  المتبعة  لا يجب ان يصرف الأنظار  عن دور الدولة وقوتها ورسوخها  ،   لأن الدولة الحية  هي الدولة   ذات التأثير الواسع  والتي  تسعى دائماً  للحصول على المزيد من  القوة  وعناصرها  ،   وقد آمن بذلك -  فردريك  هيغل   -   أقرأ كتابنا   (الأسس السياسية والمذهب الواقعي  طبعة إيران  ولبنان) .
    يقودنا هذا لتوضيح  الجدلية السائدة بين  مفهوم  تحقيق المنفعة الذاتية للدول  ومفهوم  تحقيق السلام والعدل الدولي  ،  فالوظيفة الإجرائية لا تقتصر أبداً على ما يهم   الجانب الذاتي بل يتعدآه ...
     
    المنطق التاريخي لمفهوم الأمن:
     
    سوف لا نتحدث عن التسلسل التاريخي   لمفهوم  الأمن  ،  ولكننا  سندقق  فيما تحدثت   عنه  ديباجة  معاهدة وستفاليا  التاريخية   ،   في مجموعة الافتراضات والبراهين   التي  اعتمدها  المشرع  وهو يقرر  صيغ الأمن  الممكنة  للدولة  القطرية  أو القومية   ،  تقول الديباجة : -  بما الأمن لازم للدول  لذا توجب  ان يكون الأمن قوياً   -   ،  وهذه الملازمة بين الدولة القوية  والأمن القوي  ملازمة اشتراطية  وجودية    ، وإلى ذلك إشارة  النظرية السياسية  الواقعية  حين عرفت  معنى  -  الدولة القوية -  ،   ولا يخلو هذا المعنى من فهم منطقي  لطبيعة  الأولويات   في مواجهة  التهديدات الخارجية والداخلية   ،   والمتصور أو الممكن فيها  هو العامل العسكري  ،  والذي قيل عنه  ( هو الوسيلة وهو  الأداة )  الأكثر تعبيراً  في  تحقيق  معنى الدولة القادرة   نظرياً وعملياً    ،  ومن أجل هذا  يتطلب  :
    أولاً  :    حشد   كافة  الطاقات  والإمكانات  من أجل  تكريس  قدرة  الدولة    .
    وثانياً : الاستفادة من التجربة التاريخية للحروب  في اظهار قدرة الدولة   .
    وهذه المقاربات  التاريخية  الواقعية أوضحت بما لا يدع مجالاً  للشك  هشاشة  الافتراضات المثالية  ،  على الصعيد  العملي  أو  على صعيد  معاییر السلوك الدولية  ،  فالواقعية  في مجال العمل   هي  التي تلتزم بالمعايير ومقولات  السلوك  الطبيعي   ،   وهي  ذاتها  التي تمتلك  من التجربة  والرصيد  التاريخي  ما يعزز قدرتها    ،   والتاريخ  الإنساني  سمح لنا  في الاطلاع   على كثير  من التجارب والتحليل  العلمي  ومعطياتهما  ،  وهذا ما  يجعل  فهمنا  للتفسيرات  التاريخية  للسلوك  السياسي  والحكم عليه  فيما لو كان واقعياً أم لا .
     
    في المعادلة  الرياضية  لفيثاغورس   تشكل  المقاربة  التاريخية و المنطقية  لمعنى  -  أمن اقتصاد -   أن تتعادل   قدرة الدولة     مع   قدرتها  في الحفاظ على بقائها واستقلالها السياسي ووحدة أراضيها     ،  وليس هذا من قبيل التحفيز  نحو جعل    -  الأمن الذاتي   أكثر حيوية وفاعلية بل  وكذلك   اعتباره  الكفيل في السلامة  الوطنية  والضمان  الاجتماعي   -  ،  من هنا يكون ما بدأناه عن متلازمة -  أمن واقتصاد  -  حاضرة باعتبارها   تقوم على  التوازن  والتنسيق  بين المصالح والحاجات  ،  وفي هذا  المجال لا يجب البتة   (تغليب مصالح الغير  على المصالح الذاتية والمحلية)  مهما  علا هذا الغير أو قرب ،  ولا يجب التذكير  بطبيعة  التناقض والصراع  الغالب  في سلوكيات الدول و المجتمعات بل والافراد كذلك.
    وفي الختام نقول:-  إن  قواعد  وركائز  الدولة القوية  هي ذاتها  التي تجعل  أو  تؤوسس  للمكانة  والشأنية  بين الدول   -  ،   والتي تعتمد  على ما تمتلكه الدولة  من عناصر القوة  في مجالي الأمن والاقتصاد  ،  ولا يغرب  عن البال  : إن عامة  الدول  ميالة بطبعها  للهيمنة والسيطرة  والتمدد   ،  وهذا  الدافع  التضمني  يجعل أو يستلزم  التحفز والحيطة والحذر  والاعتماد  على قوة الدولة في مجالي  الأمن والاقتصاد  ،   وفي هذا  السياق ورد القول التالي : -   (وأعدوا لهم  ما استطعتم من قوة)  ،  في صيغة اطلاق اللفظ وعموم  المعنى  أي  في الحماية من  التهديد وتحييد القوى المضادة  هذا  من جهة  ومن جهة  ثانية حفظ التوازن والأمن    ،  ولا يكون ذلك  كذلك  من غير قوة اقتصادية  تؤمن للمجتمع الطمأنينة  والثقة بالمستقبل ..

    وللحديث بقية 

    آية الله الشيخ إياد الركابي
     
     

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media