ارتخاءة الشعر – 13 الناس في بلادي
    الجمعة 26 يونيو / حزيران 2020 - 04:39
    خالد جواد شبيل
    أول الكلام:
    كنت أهدف الى الكتابة عن الناس في العراق، وظروف العراق المحلية وتأثير الظروف العالمية عليه، لكن القلم استطرد بي وجرى خببا كما الفرس، فأطلقت له العنان حين قفز الى ذهني صلاح عبد الصبور ( 1931-1981) الشاعر الذي رحل مبكرأً والذي منح الشعر أجملَه في مصر في الخمسين عاماً التي عاشها وعمت شهرته الوطن العربي من أدناه الى أقصاه، فأعطى عطاءً زاخراً أكثر مما أخذ ..

    ***
    الإنسان ابن بيئته تطبعه بطابعها وتحمّله ملامحها، وثقافته وعاداته وقيمه بما فيها الدين وهكذا ينمو وينمو معه حبه لبلده..وهذه المنظومة الثقافية تتجدد ويضاف لها الجديد وهي أيضا  تورث كابراً عن كابر..وهكذا يتشكل التاريخ والعادات والثقافات..
    ولد صلاح عبد الصبور في الزقازيق في شرق الدلتا ذات المحيط الزراعي، وتشبع بقيم الريف والمدينة ذات الطابع الفلاحي، وانعكست كل تلك القيم في شعره وفي مجموعته الشعرية  الأولى أكثر من غيرها وأعني بها "الناس في بلادي" التي صدرت عام 1957 وبصدورها آذنت بولادة شاعر لا يُشبه أسلافه، وهزت الجو الثقافي الأدبي في مصر التي تعد التجربة الرائدة بلا منازع في ماعرف وشاع بالشعر الحر، الذي كان منشؤه العراق في نهاية الأربعينات برواده الكبار بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ومن ثم عبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري...
    ولئن كان تأثر عبد الصبور بالشكل الحر الذي تحرر من القافية ومن انتظام الشطرين برواده العراقيين فإن مجمل اتجاهه الشعري بقي متفرداً يحمل بصمات جديدة ونسغاً فنياً ومعنوياً لم يسبقه فيه أحد..فقد بدا خلطة منسجمة من لغة منسابة بلا تكلف وفريدة في مفرداتها وتراكيب جملها وغنية بصورها اليومية في الريف والمدينة معاً وبنسق موسيقي تأنس له الأذن، وفيها تأثرات الشعر العالمي بشكله الأولي والذي سيتعمق أكثر في منجزه اللاحق من مجاميع شعرية ومن شعر مسرحي..
    كنت ومازلت أرى أن الشعر الشعبي يمكن أن يحول لغة الشارع والحقل الى شعر ووجدت أن أبرع من جسد هذا الاتجاه كامل الشناوي في مصر وزامل سعيد فتاح في العراق..حيث يتحول الشعر الى اغنية بلا تكلف حتى ليحسب السامع أن الشاعر والملحن والمغني هم شخص واحد! ولا أبخس بقية الشعراء الكبار إنما أن هناك شعر تجده كتب كأغنية وأخذت لحنها واختارت مؤديها وليس الأمر متوقف على الجانب االشاعري فحسب إنما يتعداه الى الغنائي! 
    هكذا تبدو قصائد "الناس في بلادي"  لغة متدفقة رقراقة من ينبوع صاف.. لغة قريبة من كلام الناس وهمومهم اليومية وتراكيب بلاغية تتعانق مع صور تمر سريعة وداخل هذه السهولة عمق فلسفي سيتضح هو الآخر أكثر في مجاميعه اللاحقة ودليلي البارز قصيدة "سأم"..
    التناص الداخلي بين قصائد المجموعات الشعرية ذاتها حاضر والتناص مع الشعراء العالميين وأكثرهم حضوراً في إليوت تلمس ذلك في "جريمة قتل في الكاتدرائية" التي تلمسها في "الحلاج".. تأثر عبدالصبور واضح في التراث الشعري العربي من الصعاليك الى المتصوفة وقد تجسد التأثر في مسرحيتين هما: "الحلاج" و"بشر الحافي".. وكلتاهما تتجاوز الأطر التقليدية لمسرحيات شوقي التي ماتت بموته،  لينفخ عبد الصبورالروح بالمسرح الشعري ويكسبه اتجاهاً عقلانياً وفلسفياً..وتأثر بالرمزيين الفرنسي والألماني (بودلير وريلكه)..وبالشعر الانكليزي ببيتس وكيتس وإليوت وتأثر كثيرا بالاسباني لوركا..إذن يمتلك الشاعر صلاح عبد الصبور قاعدة ثقافية جدُّ واسعة مع اطلاع عميق على الثقافتين العربية والغربية مما ميزه بين الشعراء الحداثيين..
    الناس في بلادي جارحون كالصقور
    غناؤهم كرجفة الشتاء في ذؤابة المطر
    وضحكهم يئز كاللهب في الحطب
    خطاهم تريد أن تسوخ(*) في التراب
    ويقتلون. يسرقون. يشربون يجشأون
    لكنهم بشر
    وطيبون حين يملكون قبضتي نقود
    ويؤمنون بالقدر
    يجلس عمي "مصطفى"
    وهويحب المصطفى
    وهويقضي ساعة بين الأصيل والمساء
    وحوله الرجال واجمون
    يحكي لهم حكاية.. تجربة الحياة
    حكاية تثير في النفوس لوعة العدم
    وتجعل الرجال ينشجون ويُطرقون
    يحدقون في السكون.........الخ
    (*) تسوخ في التراب: تغوص
    والمتأمل يلمس جمالية السرد والدقة التعبيرية في الوصف  ثم الانتقال الى السرد الحكائي الساحر ليفجر أسئلة في ذهن القارىء، لماذا ينشجون ويطرقون؟ وماذا يرى الناس حين يحدقون في السكون؟ ومن هم هؤلاء الناس؟!... أليس هم الناس الفقراء المغلوب على أمرهم (الغلابا).. الذين يزرعون ويذهب حصادهم لمالك الأرض! هم يطرقون واجمين يفكرون في بؤسهم وربما مرضهم..
    ولمن يريد أن يسمع القصيدة ويقرأها آنياً بشكل سليم دونه الرابط:

    19/5/2020 

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media