من التنوع إلى التعددية.. تعثرت الديمقراطية في العراق
    الجمعة 3 يوليو / تموز 2020 - 05:40
    د. عقيل عباس
    لا ديمقراطية ناجحة من دون تعددية حقيقية، كان الفشل العراقي بالسماح ببروز مثل هذه التعددية سبباً رئيسياً في إخفاق التجربة الديمقراطية.

    إذ ارتبط هذا الفشل بسوء فهم لمعنى التعددية، بأنها تعني التنوع، لذلك يجد المرء الكثير من الاحتفاء اللفظي في الخطابات السياسية والإعلامية، وحتى الاجتماعية، بحقيقة وجود مجاميع سكانية ذات عقائد دينية ومذهبية وانتماءات عرقية مختلفة، ليُقدم تعايشها في البلد، على أنه دليل حيوية ديمقراطية وتعددية إنسانية جديرة بالاحترام.

    تختلف التعددية، التي تمثل إرادة سياسية في الدولة، عن التنوع، الذي يمثل حقيقة طبيعية في الحياة، فالتعددية قرار سياسي وقبول اجتماعي، لأن يتمثل التنوع في حياة المجتمع، من دون تفضيل ولا انحياز الدولة لقيم مجموعة ضد أخرى. بمعنى آخر، تعني التعددية، في هذا السياق،  تجنب الدولة، كمنظومة مؤسساتية وآليات قانونية، لتبني قيم مجموعة من مواطنيها، زاد عددهم أو قل، لأن مثل هذا التبني يناقض المساواة بين المواطنين وحماية الدولة لهذا المبدأ.

    يعني ذلك أن التعددية تكون في إطار المجتمع وليس الدولة (إلا في إطار ما يُعرف بالتعددية الديمقراطية وهذا موضوع مختلف)، فيما تتلخص مهمة الدولة في الدفاع عن حق مواطنيها، بتمثل قيمهم وعيشها في المجتمع، ما دام هذا التمثل لا يقود إلى التجاوز على حقوق المواطنين الآخرين بالتمثل ذاته لقيمهم.

    إن وجود سنة وشيعة ومسيحيين وازيديين وصابئة وأكراد وعرب وتركمان وغيرهم في البلد، دليل على التنوع فقط وليس التعددية، فالتنوع أمر طبيعي في الحياة لا تصنعه السلطة، إذ أنه حقيقة ديموغرافية تتشكل في المجتمع عبر أزمنة طويلة.

    هذه الحقيقة موروثة، ولا تقوم على اختيار السلطة السياسية ولا قرارها، بل هي نتاج وقائع تاريخية لا يمكن إلغاؤها، إلا في ظل أنظمة سياسية مستبدة وقوية، وقيم اجتماعية عنصرية  تؤمن بـ"النقاء" العرقي والديني والفكري، ولديها قدرة مادية واستعداد أخلاقي على استئصال أو تصفية المجاميع المختلفة لصالح هذا النقاء المفترض.

    يندر كثيراً في التاريخ المعاصر، وجود أنظمة استئصالية كهذه، وتُواجه عادة بمقاومة دولية ومحلية شديدة (كما في حالات ألمانيا النازية وتنظيمي القاعدة وداعش).

    بعيداً عن هذه الاستثناءات النادرة،  ليس بمقدور أي سلطة، أن تلغي فعلياً وجود التنوع في المجتمع الذي تحكمه، وإن كان بمقدورها ممارسة أشكال متفاوتة من التمييز ضد المجاميع المختلفة، التي تتحدى النقاء الذي تؤمن به السلطة.

    وفي ظل التنوع، من دون تعددية، هناك مجموعة قوية سياسياً تكون قيمها الاجتماعية مهيمنة، ودورها بارز في إدارة السلطة، وحضورها دائم وملموس في المجتمع، مقابل مجاميع أخرى أقل قوة، تتباين صعوداً ونزولاً في مقدار ضعفها السياسي، وتهميش قيمها، والطابع "التجميلي" لمشاركتها في السلطة وحضورها الاحتفالي في المجتمع، اعتماداً على حجمها الديموغرافي ونفوذها السياسي.

    أحد الأمثلة على التنوع من دون تعددية، الدور الذي يلعبه الجمهور المسيحي في الحياة العامة بالعراق، إذ كثيراً ما يحدث أن "يتطوع" مسيحيو البلد بإلغاء مناسبات دينية مسيحية مُفرحة، بسبب تصادفها مع مناسبات شيعية حزينة، ليظهر رجال دين مسيحيون وهم يشاركون الشيعة حزنهم.

    عادةً ما يُقدم مثل هذا الأمر على أنه دليل وطنية المسيحيين العراقيين وطيبتهم واحترامهم للاختلاف، لكن العكس لا يحدث أبداً، بأن يتطوع شيعة لإلغاء أو تعليق مناسبة شيعية، بسبب مصادفتها لمناسبة دينية مسيحية.

    الافتراض الضمني هنا، هو أن المجموعة الأضعف، المسيحيون بهذا الصدد، هي التي دوماً تضحي بحقها في عيش قيمها في الحيز العام، فيما تتمتع المجموعة الأقوى دوماً بامتياز إبراز قيمها كاملةً وعلى مدى السنة.

    رغم جذوره الفكرية القديمة نسبياً، برز مفهوم التعددية  ضمن الديمقراطيات الغربية، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، في سياق فهم أخذ يترسخ تدريجياً حينها، مفاده أن تعدد الثقافات والسماح بتفاعلها في المجتمع، مصدر قوة اجتماعية وسياسية، يمنع صعود ثقافات متطرفة يشعر معتنقوها بأن المجتمع يهمشهم، وتهيمن عليهم أفكار عدوانية أو تضحوية (أي أنهم ضحايا).

    وسواء ترجمت هذه الأفكار إلى كراهية أو عنف ضد الآخرين، أو إلى انعزال عن المجتمع، تبقى النتيجة السلبية واحدة، وهي وجود اضطراب كامن أو معلن يهدد السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي.

    على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، اتسع مفهوم التعددية ليشمل، فضلاً عن الجماعات الديموغرافية العرقية والدينية والجندرية، الذين يتبنون أساليب عيش وأنماط تفكير مختلفة تتحدى الثقافة السائدة، كمجاميع الدفاع عن حقوق المرأة والبيئة والهيبز والأناركية (اللاسلطوية) وغيرها.

    تعزز هذا الأمر مع بروز صوت المهاجرين من العالم الثالث في الغرب، ورغبتهم في أن تتمثل قيمهم في المجتمع والسياسة.

    في عراق ما بعد 2003 حيث أصبح الاحتفاء بالتنوع سمة لافتة في السياسة والإعلام، بقي هذا الاحتفاء لفظياً وتجميلياً في الغالب، ولم يُترجم إلى تعددية سياسية أو ثقافية، فقد عكست الوثائق الأساسية للعراق الجديد، فهماً إشكالياً لمعنى الديمقراطية من جانب النخبة السياسية الحاكمة، إذ اعتبرت هذه الأخيرة، على نحو مغلوط، أن الديمقراطية، تعني تمثيل قيم الأغلبية في المجتمع والدولة والدفاع عن هذه القيم.

    فمثلاً احتوى الدستور العراقي على موادَ متناقضة، بعضها تراثي يدعم ثقافة الأغلبية، والآخر حداثوي يدعم التعددية، كما في إشارته الصريحة إلى مادتين أساسيتين، لا تقبلان التعديل ولا الإلغاء.

    أولى هاتين المادتين، منع تشريع قوانين تتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام المتفق عليها، والأخرى منع مشابه لتشريع قوانين تتعارض مع مبادئ الديمقراطية. أحد ثوابت أحكام الإسلام، المتفق عليها سنياً وشيعياً مثلاً، منع انتقال الشخص من دين الإسلام إلى دين غيره، وإيقاع العقوبة به التي يمكن أن تصل إلى القتل، لكن مبادئ الديمقراطية تعتبر إيمان المرء بدين ما، وانتقاله منه إلى دين آخر، أو حتى عدم إيمانه بأي دين، شأناً شخصياً لا يحق للمجتمع ولا الدولة التدخل فيه، لأنه يقع ضمن حرية المعتقد.

    تكمن الميزة الأهم للتعددية، بوصفها تفاعلاً حراً ومتساوياً بين قيم مختلفة، بل حتى متناقضة أحياناً، في قدرتها على صناعة مشتركات أخلاقية واجتماعية ووطنية في المجتمع.

    فعبر عملية التفاعل هذه، تخضع القيم الأشد تطرفاً والأكثر تعالياً على الآخر المختلف، إلى شكل من أشكال المراجعة الاجتماعية والثقافية، ليتراجع تأثيرها في المجتمع عموماً، وتضعف صلاحيتها الأخلاقية لدى المجموعة التي تؤمن بها.

    حدث بعض ذلك، بعد سقوط الموصل في 2014 وما تلاه من تعرض الازيديين العراقيين إلى حملة إبادة وسبي وحشية، استندت إلى مواقف فقهية وعقائدية إسلامية تقليدية، تكفر الازيديين وتعتبرهم هدفاً مشروعاً للسبي والقتل.

    خضعت هذه المواقف، المتوارية عموماً في كتب الفقة القديمة إلى أن أحياها تنظيم داعش، إلى نقد وتفكيك شعبي ونخبوي عراقي، خصوصاً لأنها تقع ضمن ما يُعرف بثوابت الإسلام، سنياً وشيعياً.

    نهاية المطاف قاد هذا النقد الجريء والنادر، إلى صعود المعاني الوطنية للمساواة التي اعتبرت الازيديين عراقيين، ظلمتهم قيم المجموعة الأكبر (المسلمون) المناقضة لمعنى الوطنية العراقية والمساواة الإنسانية.

    تُرجم كل هذا،على امتداد تجربة داعش القاسية، بمستويات أعلى، وغير مألوفة، من الوعي الشعبي بالتنوع والاختلاف العراقي والقبول به، لكن لم يتأصل هذا الوعي  قانونياً ولا مؤسساتياً، إذ لا يزال اجتماعياً في جوهره.

    يحتاج مثل هذا الوعي إلى أن يتسع، ليشمل أنواعاً أخرى من الاختلاف، وأن يترسخ مؤسساتياً، ليصبح شاهداً على تعددية اجتماعية ملموسة. من دون هذا، ليس ثمة أمل في بناء ديمقراطية عراقية رصينة.

    "سكاي نيوز عربية"
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media