ايطاليا تحتفل بالذكرى الـ70 لرحيل الشاعر بافيزي.. كشف الرعب الحقيقي الذي يصيب الانسان الذي يقع تحت وطأة القهر
    الأثنين 3 أغسطس / آب 2020 - 19:20
    موسى الخميسي
    من خلال ادراك وزارة الكنوز الثقافية الايطالية خطورة المرحلة التي تمر بها الثقافة في البلاد، فقد اطلقت منذ بداية وباء كورونا، صرخة تحذيرية، أرادت من خلالها التلويح بخطورة اضمحلال الأثر الأدبي في فهم واقع ومآل البشر ومعاناتهم، باحتمالات انطفاء جذوة النصوص التأسيسية، ذات الطابع التثقيفي المعرفي، لكتاب وشعراء وفنانين ، ومخافة ان  تختبئ في ذاكرة ووعي الفرد، فسارعت باقامة مهرجانات واحتفالات  من خلال منصات افتراضية، تتمثل بتخصيص ايام احتفالية تساهم بنقلها القنوات التلفزينية الرسمية والاهليه جنبا الى جنب المنصات والمواقع الثقافية للمؤسسات الثقافية والفنية في عموم البلاد.

    بمناسبة مرورذكرى الـ 70 عاما على انتحار القاص والشاعر والمترجم الايطالي الشهير تشيزره بافيزي (1908ــ1950)، في بلدة سان ستيفانو، قريباً من مدينة تورينو التي شكلت لحمة قصائده ورواياته، حيث بدأ منذ مطلع شبابه يتردد على الأندية الفكرية التي كانت آنذاك مركزا ثقافيا وسياسيا مرموقا، حيث كان العديد من المثقفين قد أسسوا مجلة" الثقافة" التي ألقت بالأديب في أتون الحياة، جاعلة إياه في حركة دائمة من التحول باتجاه سيطرة الانسان الايطالي على مصيره، امام واقع التفتّ  الذي أحدثته الهزائم المتتالية على الواقع الايطالي. وقد أصبحت مقاطعة "بيمونتى" وعاصمتها الاقليمية تورينو بالنسبة للشاعر بمثابة التحقق من ظاهر العالم، كما أصبحت السور الذي ما ان يحّط الشاعر بقدمه خارجه حتى يشعر بالغربة. وبيومنتى هذه أصبحت لدى بافيزي في ما بعد هاجس التواصل المتضامن، لكل ما حققه من إيقاع شعري ، فكانت عن حق وفي الوقت ذاته عالما يتراجع وآخر يتقدم له ، حيث كتب أطروحة التخرج من كلية الاداب في جامعة  المعرفة (لاسابينسا) في روما عن الشاعر الاميركي والت ويتمان، وعمل على ترجمة بعض الأعمال الشعرية الإنكليزية إلى اللغة الإيطالية. استدعي إلى الخدمة العسكرية، في الثلاثينيات من القرن العشرين، إبان صعود الفاشية في البلاد، إلا أن نوبات الربو التي ألمت به ألزمته الإقامة ستة أشهر في المستشفى العسكري، هناك. وبينما حانت عودة بافيزي إلى تورينو، عشية إعلان نشوب الحرب العالمية الثانية، ودخول الجنود الألمان إلى روما، تفرق رفاقه في البراري من أجل أن يخوضوا حرب عصابات ضارية وغير متكافئة ضد المحتل النازي والقوات الفاشية الايطالية. وعلى الرغم من أيام التخفي عن عيون السلطة الفاشية، والتي يوردها في مذكراته، فإنه لم يشأ الانتماء إلى الحزب الشيوعي الإيطالي إلا بعد إنتهاء الحرب، وبداية شهرته الأدبية. عام 1936 تم اعتقاله بسبب نشاطه المعادي للفاشية، فتم نفيه الى أحد السجون التي تقع في اقليم "كالابريا" في الجنوب الايطالي مع مجموعة من زملائه في مجلة ( الثقافة)، فكان ذلك بمثابة الحدث الذي جعله يتفتح الى اقصى قواه الخاصة ووسائله التعبيرية، وكان يؤكد باستمرار على ان العمل الثقافي هو أحد الحلول التي يبتكرها الانسان لمشكلاته، فقد كتب روايته الطويلة " السجن" ونشرت بعد سنوات عديدة في المجلد الذي حمل عنوان " قبل ان يصيح الديك" الذي ضم ايضا روايته الشهيرة " البيت على الهضبة".

    رواية " السجن" تعبّر عن عذاب التجربة الى الحد الذي أصبحت فيه رمزا لمصير البشر، واصبح بافيزي نفسه من خلالها مسؤولا عن كشف الرعب الحقيقي الذي يصيب الانسان الذي يقع تحت وطأة القهر، كما انها تمثل دعوة أولى يوجهها الاديب الى نفسه والى الاخرين كي يخرجوا من عزلتهم، ويقفوا خارج النظرة العدمية المشروطة. و" السجن" عند بافيزي ليس هو الجدران التي تحصر الانسان بداخلها، بل هو مزيج من صور الهجرة الداخلية التي تتسم بالعدمية، وهو التسكع الداخلي الذي تجابهه الصرخة البشرية بين الحين والآخر من أجل فضح أبعاد الفاجعة الانسانية. إنها، ومن جانب آخر، المطالبة بتعّرية جوهر الفاجعة الانسانية لحمل المثقف على تجاوز الهزائم والاحتجاج على كافة مخططات التصفية والمساومة على الأرض التي يقف عليها.

    نشر ديوانه الشعري الأول عام 1935 ، لكنه لم يعرف الشهرة إلا عام 1936 مع نشره كتاب روائي اشبه باليوميات" مهنة العيش" التي جلب له شهرة كبيرة باعتباره كاتبا كبيرا. فقد دخل من خلالها الى عوالم النفس البشرية ومفارقاتها الحياتية والفنية، ضمن أجواء المواجهة اليومية للشرائح الأجتماعية الفقيرة التي تتعامل مع العالم الخاجي الذي يحيط بها على أساس التكافؤ وليس على أساس الرغبة في الألتصاق بهذا العالم. قام بترجم رائعة ملفيل" موبي ديك" الى الايطالية ،كذلك ترجم اعمال دوس باسوس وشتاينبيك وجيمس جويس وديفو ووليم فوكنر.     

    في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، ساهم بالكتابة مع مجلة " الثقافة"( مقالات حول الأدب الاميركي) .ترك الكاتب  بافيزي، الذي توفي انتحاراً عن واحد وأربعين عاماً ما يقارب العشرة أعمال، بين الروايات ومنها: "بلداتكم" 1941، و"الشاطئ"1941، و"عطلة آب" 1946، و"الرفيق" 1947، و"الشيطان في التلال" 1948. ومجموعتان من القصص وهما: منزل على التل، 1949، والصيف الجميل، 1949،" قبل صياح الديك" و" ثلاثية الآلات", " من عندنا" و" مرحبا ماسينو". ومجموعة شعرية يتيمة بعنوان: "ليأت الموت ويأخذ عينيك"، وقد صدرت بعد عام من وفاته . كما اصدر كتاب نثري " حوارات مع ليوكو.. أساطير في أسرار الموت والحياة" عام 1947، واعتبره أهم كتاب يرحل في عمق الاسطورة وفك ّ رموزها الساحرة.

    عاش بافيزي السنوات المضطربة التي شهدت أوج نهاية أحد ابرز الأنظمة الدكتاتورية في القرن العشرين، الذي تحكم في مصير إيطاليا،طيلة عشرين عاما، كما شهدت إيطاليا في تلك الفترة هزيمتها القاسية في الحرب العالمية الثانية، فحملت تلك الاحداث زمن الشاعر بالغضب والخوف حتى أصبح الموت مصير كل شيء، ومبدأ كل شيء.

    معظم كتابات بافيزي تنطلق من المحور الاساسي، وهو، شعور الحزن والوحدة والكآبة، بصفتها الاكراهية أو المختارة التي تتجابه مع طبيعة شخصيته الهادئة التي تحمل صفات قسوة داخلية تجاه النفس، وحيز للانتظار، ومشاعرالخيبة والفقر العاطفي الذي عاناه طيلة حياته، لامرأة أحبها، لكنها احبت غيره ولم تعود اليه، ويعتبرها العديد من النقاد " وحدة هوسية" دافعها معرفة الذات .وبافيزي في كل كتاباته النثرية والشعرية، فانه جعل المدينة والريف يتواجهان  وحاضر الانسان آنذاك لم يكن ينبىء بمستقبل.وقد تجسد ذلك في صلب أشيائه وكلماته، وأصبح صوفيا في اخلاصه ونقائه، ماديا في حرارته وواقعيته، يمجد الحياة بالعشق، ويخاف منها بالموت.

    قصيدة ( محتضنا عينيك يأتي الموت)

    الأرض والموت تكونين

    فصولك الظلام والصمت

    لايحيا بعدك شيء

    اندثر منذ فجر بعيد متى تبدين يقظة

    الألم وحده انت

    وهناك في أعماق عينيك في خريط الدماء ينزوي

    دون انتباهك

    مثلما حجر تقطعه الدهور تحييه

    كما الأرض القاسية

    ترتديك الاحلام

    وتجهلين الهزات الفريدة

     يرعبك الألم

    ويطوقك مثل ماء البحيرات

    دوائر على المياه

    تتركينها تمحى

    الأرض والموت

    تكونين

     

    قصيدة (ترويض)

     

    في الفجر تبدأ الأعمال، لكن قبل ذلك تجدنا نلتقي بإنفسنا

    حيث الناس هجروا الطرقات، كل بوحدته وتعاسته يتذكر

    ليكتشف ندرة المارة، كل يحلم مع نفسه، مدركا، كيف تضئ العيون

    في الفجر

    حينما يقترب الصباح، فجأة تجد الدهشة، حيث تتوقف الحركة

    لكننا لسنا بعد وحيدين، ولا أحد يرهقه النعاس

    بهدوء نتأمل اشكال النهار حتى تولد الابتسامات

    في عودة الشمس كلنا مقتنعون، ومرات أفكار اقل وضوحا

    "سخرية" تفاجئنا، ونعاود تحدينا اليها

    لدى الشغيلة والمتهكمين تجد المدن الصافية، لاشيء يحير الصباح

    كل شئ يمكنه الحدوث، ويكفى الانتباه أليه أثناء العمل

    الصبايا الهاربات لا ينجزن شيئا، يقطعن الطرقات

    وأخريات يركضن، أوراق الساحات العامرة بالأشجار

    تملا الشوارع ظلالا، والأعشاب بين البيوت ثابتة

    على ضفاف الأنهار ينساب الفيء تحت الشمس

    المدينة تجعلنا نرفع الرؤوس

    ونفكر، رغم إدراكها بخضوعنا إليها.


    روما: موسى الخميسي
     
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media