الفكر الحر في زمن الهزيمة
    الأحد 9 أغسطس / آب 2020 - 18:11
    ذ. بوبكر أنغير
    تقديــم:

    تجمع دفة هذا الكتاب ثلة من المفكرين والمثقفين  الذين ناضلوا بالقلم و الكتابة وعبروا بحرية  عن ما يخالج ضمير ووجدان الشعوب ، التواقة للحرية و التقدم والرقي . المبدع  والمفكر ليس المطلوب منه  ان يعكس واقعه ويعبر عن آمال الشعوب وتطلعاتها فقط بل عليه ان  يعيد صياغة الواقع  بوعي جديد بجمالية  مقرونة  بقدراته ومواهبه الابداعية ، اختيار شخصيات الكتاب  لم يراع اي ترتيب تفاضلي او انتقائية معينة بل ان جميع القامات الفكرية التي حاول الكتاب تقديمها للقراء ساهمت اسهاما بارزا في الحقل النضالي الفكري  وكلها تستحق التقدير والثناء ويجمع بينها الحضور النوعي في المجال الفكري والاعلامي  و رغبتها الكبيرة والاكيدة في تقديم بدائل تقدمية للمجتمعات البشرية  .
    غايتنا من الكتاب  هواعادة الاعتبار للفكر الحر وتقديم بعض ابطاله للجيل القادم  ليستمد منهم روح الامل والصمود معا  في ظل انتشار ثقافة الانهزام والاستسلام  و اعتلاء الميوعة  والجمود وانسداد الافق  منصة  الواقع .  ان الكتاب المتواضع الذي نضعه بين ايديكم  يهدف الى البحث عن تقديم نماذج فكرية  لمثقفين  حاربوا الياس  والانكفاء على الذات  ومحاولة التحصن بالتراث غثه وسمينة ،مفكرين ادوا الامانة العلميةوالفكرية والاخلاقية اتجاه شعوبهم واستشهد بعضهم في سبيل الحرية والكلمة الحرة ، ومايزال بعضهم يقاوم ويناضل في ساحات ومواقع مختلفة .
      ان ايماننا بان وجود  الفكر الحر المنفلت من عقال الدوغمائيات و اليقينيات و الافكارالنمطية ،حاجة اجتماعيةوسياسية قبل ان تكون ترفا فكريا وان المساهمات الفكرية لهذه الكوكبة من المفكرين المعاصرين  نجحت في تقديم  طبق  فكري اقتحم افاق بعيدة في ميادين الثقافةوالفكر  والابداع .  
    وان ايماننا بان للمثقف والمفكر ادوارا جديدة يجب ان يلعبها في الحاضر  والمستقبل  خصوصا وان  الزمن الراهن المتسم بضمور المفكرين وخفوت اصواتهم امام ضجيج الشاشات و زحمة الانترنيت واستبداد وسائل التواصل الاجتماعي التي  تستهوي الانفس بسهولةالولوج اليها وبثقافاتها الاستهلاكية  و ببساطة الوعي التي تنشره  . هذا الزمن الراهن يلقي على عاتق المثقف والمفكر المعاصر مهام التاصيل النظري للواقع  والتجديد الفكري  واعادة صياغة تساؤلات المجتمع وتوجيهها نحو اجوبة  مقنعة و من شانها حماية المجتمعات من الانهيار.
    هذا الايمان براهنية النضال الفكري من اجل بدائل اجتماعية وثقافية وسياسية اكثر عدالة و اكثر انسانية جعلنا نركب مغامرة جمع مقالات في  كتاب  يجمع اسهامات وانطباعات  كتبت عن مفكرين ومثقفين واعلاميين  من بلدان مختلفة و من مشارب  ثقافية. لكن هاجسنا  دائما هو الالتزام بثقافة وفكر مناضل متحرر وذو مشروع ورؤية حداثية للمستقبل.
    نتمنى ان نكون موفقين في التعريف  ببعض الكتاب والمفكرين  الكبار الذين بصموا الساحة الفكرية والثقافية باسهاماتهم التنويرية  واملنا ان نقوم في المستقبل بالتعريف بكتاب ومفكرين واعلاميين اخرين  عطائهم في الفكر والثقافة كبير و مشهود  ،هدفنا في الاول والاخير هو اعلاء صوت الفكر الحر وتقديم نماذج تعطي الامل للنفوس و ترسم صورة ايجابية عن الحاضر والمستقبل.

    الحسين مروة
     شيخ الشهداء و مفكر التجديد الديني

    اخترقت رصاصات غادرة من مسدس كاتم الصوت  من قوى معادية للحرية  والديمقراطية، الجسد النحيف للمفكر اللبناني الأصيل الحسين مروة، ذات يوم من شهر فبراير من سنة 1987 بمنزله  بلبنان ، مستهدفة إسكات صوت تنويري تثويري للفكر والوعي إلى الأبد ، لكن أين لها أن تسكت فكرا تعمق في الجذور وأصبح منهج تفكير في أصقاع الأرض ؟ . 
    لم يراع قتلته حالته كشيخ كبير السنّ ولا رمزيته كمفكر موسوعيّ أعطى للمكتبة الإسلاميّة أعمالا بحثيّة عميقة وجريئة في التّراث الإسلاميّ وفي النّقد الأدبي والكتابة الإعلاميّة المتميّزة. لذلك حقّت تسميّته بمبدع التّجديد الدّيني في التّراث الإسلامي الذي نذر جزءً كبيرا من حياته من أجل التّنقيب عن النّزعات المادّيّة في مشروعه الكبير- النّزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة-.
     حسين مروة كان مفكّرا تنويريّا بامتياز، وعنوانَ النّضال من أجل تحرير العقول والنّفوس من الخرافة والوعي التّضليليّ .اغتالوه لأنه كان يقول: إن لبنان والعالم الثالث عموما لا يمكن أن يتحرر إلاّ بتحرير عقل الشّعوب من الأساطير المؤسسة للفكر السّياسيّ والتي تأخذ لَبُوسا دينيا أو طائفيا لتخفي مصالح أو نزعاتٍ ماديةً لقوى مسيطرة تسعى لتأبيد ما لا يمكن أن يتأبد، إذا ما استفاقت الشعوب من سباتها وناضلت من أجل تحرر عقولها وأوطانها ، هذه هي رسالة المفكر حسين مروة، التي استشهد من أجلها، وفقد الجسم الفكري والتنويري والثوري في العالم الثالث مفكرا  تثويريا للفكر والوجدان ، ولكن فكره لن يموت لأنه فكر أصيل و راهن مع وجود واستمرار  الظلم والغبن، وانتشار الطائفية السياسية بلبوس ديني و توهج حركات الإسلام السياسي التي تستمر في استثمار الدين لتحريف وعي النّاس وإلهاء الشعوب بصراع مع السماء، بعدما كان من المفروض والضروري والواجب أن يوجه نضال الشعوب وعقولها نحو الأرض والسماء معا.
    إن كتب ونضال حسين مروة و مجايليه من الكتاب والمثقّفين والمفكّرين  ، هم الأجدر أن يقولوا  للأجيال السابقة والحالية، ولأجيال كثيرة تأتي بعد ذلك : كيف كان  حسين مروة يمارس مسؤولياته كإنسان،  ومفكر وسياسي،  ومناضل على قدر سواء ، دون إجحاف  في حق جانب منه لحساب جانب آخر .. ولكي نقرب القارئ الكريم من شخصية وفكر هذا العملاق الفكري والأخلاقي، نورد بعض آراء وأفكار بعض المفكرين الكبار الذين عرفوا الرجل عن قرب وعاصروه و ناقشوه في أفكاره ومشاريعه الفكرية بعمق، و جدية وحب عميق للرجل ولفكره .
    1-نبذة موجزة عن المفكر الشهيد حسين مروة :
    قال عنه الدكتور الأردني شاكر النابلسي في كتابه الفكر العربي في القرن العشرين الجزء الثاني ص 695 : مروة حسين : مفكر وباحث وناقد وأكاديمي ماركسي لبناني معاصر ، قتلته الجماعات الإسلامية. من كتبه : النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، تراثنا كيف نعرفه، عناوين جديدة لوجوه قديمة، وغيرها.
    قال عنه ناشر كتابه النزعات المادية (دار الفارابي في طبعة جديدة وأنيقة من أربعة أجزاء) ما يلي:
    ولد حسين مروة عام 1910 (حسب الهوية ، ويرجح أنه ولد عام 1908)  في قرية "حداثا" قضاء "بنت جبيل" في جنوب لبنان ، أخذ دراسته الأولى في بنت جبيل والنبطية.
    عام 1924 سافر إلى العراق ليتلقى العلوم الدينية واللغة العربية وآدابها ، في جامعة النجف  الأشرف ، وأنهى دراسته عام 1938.
    عام 1948 ، شارك عمليا وإعلاميا وأدبيا ، في أحداث الوثيقة الشعبية الوطنية العراقية التي اسقطت معاهدة "بورتسموت" البريطانية الاستعمارية مع حكومة العهد الملكي آنذاك. وعندما حدثت الردة الرجعية وأعيد "رجل الإنجليز في العراق" نوري السعيد إلى الحكم  في ماي 1949 ، أصدر قرارا بإبعاد  حسين مروة من العراق ، فعاد إلى وطنه  لبنان في يونيو 1949.
    في لبنان بدأ يكتب زاويته اليومية المشهورة مع القافلة في  جريدة الحياة وأسهم  في تأسيس مجلة "الثقافة الوطنية" اليسارية وفي تحريرها منذ عام 1952 إلى احتجابها. كمجلة أدبية فكرية  عام 1959، وشارك في تحرير مجلة "الطريق" منذ الخمسينات ، وأخذ يشْرف على تحريرها منذ أواخر  الستينات  وحتى يوم استشهاده ، شارك أيضا في تحرير صحف "النداء" و"الأخبار".
    مؤلفاته على التوالي : "مع القافلة" (مقالات) 1952- "قضايا أدبية" (دراسات  في النقد الأدبي) 1956-"الثورة العراقية" (دراسة في التاريخ الحديث )1985 –"دراسات نقدية في ضوء المنهج  النقدي (نقد أدبي) –"النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" (عمل تأسيسي في مجال الدراسة الماركسية للتراث الفلسفي العربي، جزءان1978) –دراسات في  الإسلام  بالاشتراك مع  محمود أمين العالم / محمد دكروب وسمير سعد)1978 –في التراث والشريعة  1983-عناوين جديدة لوجوه قديمة 1984-تراثنا ..كيف نعرفه؟ 1986- دراسات في  الفكر والأدب صدر بعد اغتياله سنة 1993.
    استشهد حسين مروة اغتيالا في منزله يوم 17 فبراير 1987 وله من العمر 79 سنة.
    قال الشهيد حسين مروة عن حياته  في مجلة الطريق عدد مزدوج يونيو 1984 ص 172 "عدد خاص عن مئوية كارل ماركس) :
    "هذه كبرى المفارقات في حياتي ..
    رحلت إلى النجف صغيرا، لكن الحلم الذي رحل معي كان كبيرا كبيرا... والمفارقة هنا إن الحلم هذا لم يستطع أن يعيش  معي في النجف طويلا..لماذا؟
    -ألف سبب وسبب يمكن أن يقدم  لي نفسه بهذه  المناسبة، فأتعرفه، وأعرفه جيدا، لكن السبب الحقيقي ، المباشر أو غير المباشر ، هو الوحيد الذي أجهله منذ البدء ، ولا أزال.
    أن أصير "شيخا" مهيبا مرموقا ، كوالدي ..
    ذلك كان حلمي الأول .سبق كل أحلامي ،سبق حتى  أحلام طفولتي ، وحين بدأت تتدفق بها ذاتي أخذ يحتويها جميعا، أو هو أخذ يلتهمها جميعا بشراسة...
    كان الوصول إلى الكتب والصحف الدورية الصادرة من مختلف البلدان العربية وعن مصر ولبنان بخاصة، متيسرا بالنجف أي خارج "أسوار" المحيط الدراسي الديني ...كان يتوافر لنا هناك أن نقرأ كتابات المفكرين والعلماء والمبدعين من رجال القرن التاسع عشر والثلث الأول فما فوق من القرن العشرين..، مادة القراءة "المحرمة" علينا آنذاك كانت من الغزارة بحيث يضيق وقتنا عن استيعابها...كنت أقرأ الأدب الرومانسي مع الفكر العلمي مع الكتابات العلمية الخالصة، مع البحث الاجتماعي: نظريا وميدانيا ..وذاكرتي للعهد الأول من هذه المرحلة تحتفظ بأسماء أعلام وكتب ومجلات لايزال لها وهجها الخاص عندي ، رغم مسافة ما بيني وبينها الآن..، ذلك الوهج النفاذ الذي علمني  كثيرا ومهد لي الطريق إلى ماركس ، ثم  وصل بي إلى ماركس...أول لقاء لي مع اسم ماركس حصل سنة 1926 .. لكن  ماركس هذا الذي التقيته عند أنطوان فرح  - صاحب رواية الدين والعلم والمال- لم استقبله بارتياح  ولم أشعر أنه سيخرجني  من بلبلة المفاهيم المختلطة للاشتراكية...لكن رغم هذه الهواجس المقلقة، وقع في نفسي  أن ماركس هذا لابد أن له شأن عظيم في القضية التي يتحدثون عنها كثيرا باسم الاشتراكية.. ، لكن ، كيف سأصل إلى صاحب هذا الشأن العظيم  بصورته الحقيقية دون الصورة المضطربة هذه؟. بدءا من هذا السؤال، بدأت أدخل في العلاقة السليمة مع ماركس ومن هنا بدأ ماركس يدخل حياتي ومازال في النجف... لكن ماركس الماركسي تأخر عني وصوله بضع سنين بعد اللقاء الأول ... حاولت الوصول إلى ماركس الماركسي بوساطة رأس المال غير أن نتاج المحاولة كان ضئيلا... أما الانتماء الفكري فلم يحتاج عندي إلى إرادة مباشرة في زمن مباشر .. فهو جاءني بالإرادة البطيئة الخفية ، والتراكمات المعرفية الهادئة ، بالتحولات الكيانية السرية.. كان الانتماء الفكري يتكون في داخلي مع تكوين  أصوله الثوابت: "الاتجاهات المادية الهلامية في تفكيري قبل التقائي نص ماركس  أو إنجلز أو لينين.. أما مسالة الانتماء العضوي "الحزبي" فهي وحدها كانت العقدة.. لقد تأخر عني هذا  الانتماء ، أو تأخرت عنه ، رغم أن الناس كانوا يستعجلونني إليه ، كانوا يستبقون إلى تسميتي "شيوعيا" قبل أن أكون شيوعيا.))
    هكذا تحدث الشهيد حسين مروة عن حياته الأولى في النجف والظروف الفكرية التي أدت به إلى لقاء ماركس وتغيير منظومته الفكرية رأسا على عقب من طالب ينحدر من أسرة متدينة متشبعة بالفكر الإسلامي إلى طالب عاشق لكتابات الماركسيين والعلمانيين والمتنورين.
    2-آراء بعض المفكرين عن الشهيد حسين مروة :
    الدكتور حليم اليازجي : مجلة الآداب يناير   سنة 1988
    "إن قراءة الدكتور حسين مروة في أي من الموضوعات الفكرية التي تناولها تضع قارئه أمام صورة الثقافة العميقة التي تميزت به أعماله سواء كان الموضوع أدبا أم نقدا للأدب أو سيرة  أو ما يشبه الترجمة والسيرة ، ولا فرق في ذلك بين ما اتخذ شكل مقالة  أو مؤلف أو قضايا في التراث:  فلسفة واجتماعا وتاريخا أو شكل معالجات حية للأحداث المعاشة... هو الرجل العالم الزاهد في كل شيء ، ماعدا نشدان الحقيقة  التي يتحرر  لها الإنسان من الجهل، وما يستتبع الجهل من نزوة الوهم العابث لجمع الثروات على حساب فقر أخيه الإنسان ، وهو ما دعت إليه الأديان في جوهر تعاليمها، والدكتور مروة عندما حول مساره من طالب للعلوم الدينية إلى متعمق بقوانين المادية فإنه في الواقع  لم ينتقل من  جوهر خلقي إنساني  إلى جوهر مغاير بل  استبدل أداة بأداة،  يستقيم معها تحقيق جوهر ما نشدته  الإنسانية في جوهر طموحاتها عبر العصور. إن الدكتور مروة صاحب  المنهج التاريخي في دراسته التراث، كان فيلسوفا حقا بمقدار ما كان مؤرخا للفلسفة، وهو إذ انطلق في تثويره  لتراثنا القديم من مقدمات ثورية معاصرة قوامها فلسفة حركة التحرر الوطني حافظ على موضوعيته  التاريخية في ملاحقته للفكر العربي في مراحل ازدهاره ظل ملتزما بالثوابت، ثوابت النضال الطبقي،  وثوابت اتصال هذا النضال  تاريخيا  بسلاحي المادية: سلاح  الطبقات المعارضة أو الدنيا وسلاح المثالية اللاهوتية لفئة الحكام... الدكتور مروة كمناضل ومفكر أغنى تراثنا عندما ثوره على  ضوء منهجه التاريخي  منطلقا من الحاضر ، ولا مبالغة. في القول: إنه أغنى الحاضر بما قدمه من  استنارات حادة وعرضه المستفيض  والعميق لجوانب الماضي.  وكان بحق  الظاهرة والشخص الذي حمل بأمانة متطلبات حركة التحرر الوطني، وكان كتابه النزعات المادية "إسهاما جديدا  في توطيد  المفاهيم التراثية  التي تضيء الروح الكفاحية لشعبنا  في سبيل التحرر الوطني  الاجتماعي  في مختلف أقطاره، وكسلاح فكري بوجه العملية الرجعية التي تجري منذ زمن بعيد في حقل التراث الفكري العربي لطمس الوجه التاريخي الصحيح لهذا التراث، قصد  العمل لاستمرارية الارتباط بين حاضرنا والفكر المتخلف من ماضينا البعيد.))
    الدكتور فالح عبد الجبار : مجلة الآداب البروتية سنة 1988 ص 65 :
    "ابتداء ينبغي تثبيت عهد وفاء لذكرى المفكر التنويري العملاق ، الشهيد مروة ، أن لا تمر الجريمة بلا عقاب . لقد أعلنت السلفية ، في رعبها من حضور العقل ، أن الجهل هو المعرفة الوحيدة الممكنة والمسموحة ، وأن الالتفات إلى الماضي هو أحسن لرؤية الحاضر، باختصار رمت السلفية بقفاز التحدي ، وينبغي لكل مثقف متنور أن يقبل الرهان . ففي المعركة لا يخسر الفكر غير قيوده... تكتسي الفرضيات التي طرحها مروة في مبادرته الريادية (نقد ونقض التراث) أهمية راهنة. فالتاريخ  بتفسيره الراهن ، ليس محايدا، إنه جزء من الصراع الفكري الدائر..
    أولا : إن الدين الجديد  من حيث مضمونه  الاجتماعي والإيماني (كما يقول مروة) يحمل صفة تاريخية  تعبر عن أشكال الوعي  الإنساني  الممكن بلوغها في تلكم الفترة. إن التأكيد على الطابع التاريخي  (هذا الحكم يشمل أيضا العناصر العقلانية واللاعقلانية في كل تراثنا) مسألة بالغة الأهمية  لدحض السلفية التي ترى إلى الماضي كسكون، كلحظة ثابتة يمكن إعادة إنتاجها في "المستقبل"  كما أنها مسألة هامة  في نقد القبول  المطلق  بالعناصر العقلانية للتراث ، دون اعتبار لطابعها التاريخي ، وكون العقلانية  تتجلى بأشكال تاريخية، انتقالية، تطورية. فما من أحد اليوم ، مثلا، يقبل بإعادة إنتاج "المادية" بصيغتها اليونانية القديمة، أو بصورتها "الميكانيكية" (مادية القرن الثامن عشر) نعني أن الأفكار ليست تقدمية  بصورة مطلقة ، دائما وأبدا ، فهي تقدمية في طور تاريخي محدد.
    ثانيا: إن تشريعات الإسلام الأولى وبخاصة الإبقاء على العلاقات العبودية ، والحفاظ على الملكية الخاصة (بشكلها التاريخي  عهد ذاك) هي كما يقول مروة ، انعكاس للواقع الاجتماعي ، وإن مسعى تخفيف  الشقاء المادي في تلك الحقبة (تحريم الربا والاحتقار، فرض الضرائب على الأغنياء) اتجاه تاريخي لم يقتصر على مجتمع الجزيرة. فقد شهدت مجتمعات أخرى (لم يظهر فيها أنبياء أو مرسلون) تحريما للربا والاحتكار.
    ثالثا : إن العوامل التاريخية التي جعلت المسيحية (مثلا) دين الدولة ، (نشوء الدين المسيحي  في مجتمع أنجز انتقاله من المشاعية وبرزت فيه الدولة) فيما جعلت  الإسلام دولة دينية ، إن هذه الشروط التاريخية ، التي يتناول مروة جانبها الثاني  هي جزء هام من المعركة الدائرة اليوم مع التيار السلفي  الذي يرى  أن المخرج  من أزمة التطور الرأسمالي التابع (التي لا يدرك جوهرها المادي) يكون بالانتقال من الإسلام كدين للدولة إلى دولة دينية، أي باختصار  إقامة دولة  ثيوقراطية، تسبغ على حكم طبقة معينة طابعا مقدسا غير قابل للمس.
    الدكتور علي  سعد : مجلة الآداب  العدد الثاني سنة 1988 ص 54:
    "..وحسين مروة أثبت في كل كتاباته أنه المقاتل الأكثر توقدا وحماسة وثباتا  وشمول ثقافة وعمق رؤية ونفاذ بصيرة  وقدرة تعبيرية على الجبهة العريضة التي تتصدى لكل القوى التي تعيق  تقدم الإنسان. وهي القوى التي تنضوي  تحت أسماء وتوجهات متنوعة، المثالية والرجعية والسلفية واللاعقلانية والعبثية والفاشية ، وغيرها من نزعات وعقائد تتلاقى في محصلاتها الأخيرة على التقليل من دور العقل في معركة الوجود ومن قدرة العلم على خدمة تقدم العقل البشري ... لقد استطاع حسين مروة أن يقارع بشجاعة ودراية كل هذه النزعات الفاعلة والعقائد دون كلل أو ملل ، على امتداد حياته الفاعلة ، وأن يعري ، بذكاء مسلح بالمعرفة العميقة وبالأداء التعبيري الرائع ، زيف مرتكزاتها الفكرية وخطر مفاهيمها. وقد قام بهذه المهمة دون خوف أو وجل ، ومع وعيه الكامل لما يمكن أن تجره عليه محاولاته التصدي لكل هذه المفاهيم  المتجذرة في غياهب التخلف أو المرتهنة لقوى عدوانية متنوعة ، من أخطار جسيمة على حريته وحياته.
    وأنا الذي أتيح لي أن اقترب من حسين مروة ، بفعل روابط صداقة ترقى إلى بداية الخمسينات، لم تفتني ملاحظة الشمائل والصفات الخلقية المدهشة التي أشار إليها الكثيرون ممن كتبوا عنه، وخاصة صفات الوداعة وروح الود والكياسة في التعامل مع الآخرين، وحتى الذين كان يخالفهم الرأي... وأول ما يلفت النظر عندما تلتقي مع حسين مروة  هو شعورك بتواضعه الجم،  وابتعاده الدائم عن إظهار الشموخ ، إن في جلسته أو في طلّته ، وتحاشيه الحديث عن نفسه والتفاخر بشيء من مواقفه أو اكتشافاته الفكرية، وميله الغالب إلى الصمت وتحدثه بصوت منخفض يغلب عليه التردد .. فقد ظل رحمه الله ، حتى مشارف الثمانين، وكأنه يقف من الأشياء  والناس موقف طالب العلم المتلهف للمعرفة. وقد يكون هذا النهم للمعرفة والفرح الطفولي باكتشاف ثمرات عقول الآخرين ، دون شعور بعائق يعوقه  عن الوصول إليها، هذا النهم  والفرح اللذان لازماه إلى أخريات أيامه وتعمقا بصورة مطّردة في نفسه ، هما اللذان عناهما شهيدنا الكبير عندما صرح في حديثه الصحفي للشاعر عباس بيضون :(ولدت شيخا وأموت طفلا).
    الدكتور  أسعد دياب : مجلة الطريق  العدد الثاني  السنة 56  سنة 1997 ص 7:
    لقد أعلى  حسين مروة بفكره ونضاله مداميك عمره طبقة طبقة، فاستقام البناء وتماسك بحيث عرفناه شابا بعد أن تجاوز السبعين، وشهدناه، وها نحن نشهد من جديد لقامته الرفيعة المنصوبة بكامل علوها العلمي والخلقي. وتأخذك المقدمات التي وضعها لأهم مؤلفاته إلى تواضع يتاخم الخفر، فهو يصف دراساته النقدية بأنها "محاولات متواضعة أرجو أن تنال شرف كونها بحثا عن الحقيقة، وشرف كونها لبنة صغيرة في بناء نهضة نقدية منهجية في بلادي" ثم يكتب في مقدمته لمؤلفه الجليل "النزعات المادية في الفكر العربي الإسلامي" "ليس لدى مؤلف هذا الكتاب أدنى وهم بأنه سيقدم الدراسة المطلوبة بشروطها الكاملة، أو بالأهم من شروطها ، فإن ذلك عسير المنال على جهد فردي ، حتى في حالة اكتمال العدة لمثل هذا الجهد" مثل هذا التواضع العلمي يجلسنا في حضور إنسان ينكر على نفسه ليعلن في لحظة الإنجاز محدودية الجهد ، وهو لعمري جهد كبير  حقا قياسا  إلى عمر رجل  فرد ، وما كان  لهذا الجزء أن ينجز في كل  حال لو لم يكن الرجل من الصديقين الذين يمارسون  في يومياتهم حياة القناعة المادية  حتى التقشف ، والطلب العلمي حتى النهم.... وتبقى كلمات مؤلفاتك خضراء تورق وتزهر في ربيع دائم.."
    الدكتور جميل قاسم : مجلة دراسات عربية العدد ¾ السنة35 يناير فبراير 1999:
    "الكتابة عن حسين مروة ، في الذكرى العاشرة لاغتياله "كتب المقال سنة 1997" وهي قبل وبعد أي اعتبار ، إعتراف بإسهامه، كشاهد وشهيد، في الفكر العربي المعاصر والحديث ، من وجهة نظر تقدمية وتحررية وديموقراطية. غير أن الاحتفاء النقدي بالمفكرين الأفذاذ لا يجب أن يقتصر على التقريض والتمجيد السياسي و الإيديولوجي. من هنا تقتضي المراجعة العلمية تقديم النقد، و المقاربة النقدية، على الدعاية. ولاسيما إذا كان المفكر صاحب مشروع فكري وفلسفي كبير مثل "النزعات المادية في الفلسفة العربية-الاسلامية" لا يحتاج أصلا إلى دعاية بقدر حاجته الماسة إلى المراجعة لأية معايير وقوانين ومبادئ وقواعد وغايات حتمية وخطية وضرورية ومتعالية، وذلك كله انطلاقا من النص والأثر المدروس."

    3-في سبيل الختم :
    إنما نريد من هذه المقالة المتواضعة أمام قامة معرفية وفكرية كبيرة من حجم الشهيد  حسين مروة، أن نقدم للأجيال المقبلة والحالية من الشباب ، مفكرا ثوريا  ناضل من أجل الكلمة الحرة، وعمل جاهدا على  فتح ورش مستغلق و كبير هو ورش تنقية التراث الإسلامي وتمحيصه  بمنظور مادي جدلي،  ولم يكن غاية المقال التطرق لمجمل أفكاره أو إبداعاته لأنها كثيرة وغنية ومتشعبة ، بل سعينا إلى الاكتفاء بتقديم المفكر حسين مروة والتعريف به، لقد كان  هما دائما  لدى الرجل ، على امتداد حياته السياسية ، أن يرى تراثنا الإسلامي كرافعة لتطورنا وتحررنا من آصار التخلف والأسطورة و الاستغلال ، وكان الشهيد حسين مروة نصيرا للمظلومين و رفيقا للمعذبين في الأرض بلغة فرانز فانون ، لكن أيادي الإرهاب الآثمة اغتالته ، لكنها لن تغتال فكره أبدا.
     
    الدكتور برهان غليون 
    المثقف العضوي السوري الذي حلم بثورة لم تكتمل

    لا يمكن لأي باحث في  التاريخ الفكري والثقافي و السياسي  السوري المعاصر  إلا أن يلتقي في طريق بحثه بالمساهمات الفكرية والنظرية  والسياسية للدكتور برهان غليون ، حيث أن الرجل جمع في شخصه بين المنظر والمفكر اللامع الذي قام بمساجلات علمية مشهودة بينه وبين الدكتور الراحل سمير أمين تناولت حوار الدولة والدين ، كما أثرى المكتبة العربية والفرنسية بكتابات نظرية وفكرية هامة ككتابه الهام  حول "اغتيال العقل  ومحنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية" وكتاب "بيان من أجل الديموقراطية" وهو من نتاجات الفكر الغليوني في منتصف السبعينات  وكتاب حول "المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات"  وغيرها من الكتابات النظرية التي تبين بجلاء عمق الانتماء الحداثي التنويري للدكتور برهان غليون الذي آمن دائما بحق الشعوب لا النخب وحدها في العيش الكريم، وفي قدرة  الشعوب المضطهدة  والمهمشة على فعل ما لا تستطيع بعض النخب المتنطعة المفصولة عن الجماهير القيام به ... انتقل برهان غليون من محاضر ومناضل فكري أكاديمي على  كرسي الجامعة في السوربون حيث يلقي محاضراته حول الاجتماع السياسي والفكر المعاصر ويفكك أمراض النظام الاستبدادي العربي، إلى مناضل  سياسي فعلي وميداني،  فامتطى صهوة جواد الفكر التنويري الديموقراطي وساهم في نقاشات ربيع دمشق  وكون الحلقات الفكرية الاصلاحية الأولى مع رعيل من اليساريين والتقدميين والمتنورين الإسلاميين منذ 2005، وكان من الحالمين أن يقوم بشار الأسد بإصلاح داخلي يجنب الشعب السوري الويلات والنكبات والمجازر ، لكن ظنه ببشار الأسد خاب ، و  قرر برهان غليون في  مرحلة من مراحل حياته أن  يصبح  مناضلا ميدانيا من أجل إنجاح ثورة سورية أرادها أن تكون سلمية ديموقراطية ضد الاستبداد واحتكار السلطة واستنزاف مقدرات الشعب السوري  لكن الثورة الشبابية سرعان ما  فشلت في أن تحقق حلم برهان ومعه الكثيرون من أنصار الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية،  لأسباب ذاتية وموضوعية تطرق لها الدكتور برهان غليون في كتابه الأخير "عطب الذات".  
    تطرق  كتاب  "عطب الذات" إلى  الأسباب  الذاتية و الموضوعية التي  تظافرت كلها لتعلن  فشل ثورة شعبية كان من الممكن والمرجوّ أن تخلّص سوريا من نظام استبدادي طائفي قتل الملايين من شعبه بالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة في ما يمكن تسميته بالهولوكست السوري.  فقد أرجع المفكر السوري فشل الثورة السورية إلى أربعه أسباب :
    1-طبيعة النظام السوري، حيث أن سوريا يحكمها نظام دمويّ طائفيّ استعمل جميع ما يمكن استعماله من الأسلحة الفتاكة الممنوعة دوليّا والأساليب الدعائية الإعلامية لإركاع  الشعب السوري  وتهجير الملايين من معارضيه إلى الخارج،  فشراسة وهمجية النظام السوري كبدت الشعب السوري الآلاف بل ملايين من الضحايا والمعطوبين والمعتقلين والمختطفين في أبشع جريمة عرفها القرن الواحد والعشرون . 
    4-2-التدخل الإيراني الذي اعتبر سوريا ساحة لممارسة الابتزاز  في العلاقات الدولية ، حيث أن النظام الإيراني ودرعه الأيمن حزب الله  اعتبرا سوريا رهينة بأيديهم لمقايضة الغرب واسرائيل على ملفات إقليمية تتعلق بالملف النووي الإيراني والعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران ، فاستحكم ملالي إيران قبضتهم الأمنية والعسكرية على سوريا للحيلولة دون سقوط النظام و قيام نظام ديموقراطي لن يتبع حتما تعليمات طهران. عمل الإيرانيون وبأسلحة روسية على كبح جماح الثورة السورية وعلى المساهمة المباشرة في قتل الشعب السوري ووأد ثورته مستعملين جميع الوسائل العسكرية والتقنية التي راكمها الجيشان الروسي والإيراني   .
    3- التواطؤ الدولي الأمريكي الخليجي العربي الإسرائيلي ضد الثورة السورية حيث أن لكل طرف من هؤلاء حساباته الخاصة، فالأمريكان لم يعد بمقدورهم شنّ حرب مباشرة لدعم الثورة السورية لأن شبح  حروب الخليج وافغانستان تلاحق مخيلتهم ولأنهم ببساطة لن يستفيدوا أي شيء من ثورة بدون قيادة سياسية تابعة لهم ويرفضون استبدال نظام بشار الأسد  بحكم  الإسلاميين، والحال أن الإسلام السياسي قوة حقيقية في سوريا زامن واقعا لا يمكن تجاهله. الأمريكان وضعوا شروطا تعجيزية للاعتراف بالمجلس الوطني السوري ولدعمه، وهذا يعني أنهم  لن يقدموا على  دعم ثورة يرون أنها قد تأتي بنظام إسلامي مضادّ لهم أو  تأتي بنظام ديموقراطيّ تخشاه إسرائيل. أما دول الخليج فمثلها مثل إسرائيل مرعوبة من قيام نظام سوري ديموقراطي قد يعيد خلط جميع الأوراق السياسية ويجعل الأنظمة الاستبدادية الحليفة لواشنطن في مأزق خطير. باختصار شديد نقول بأن الأنظمة العربية وإسرائيل والولايات المتحدة  خائفة من نجاح الثورة السورية  لأن نجاحها  يعني الشيء الكثير لشعوب الخليج ، وهي منطقة غنية يسعى جميع الساسة الأمريكان جعلها دائما بعيدة عن تأثيرات الديموقراطية وحقوق الإنسان والتداول السلمي على السلطة  ، فهذا ما يفسر دعم أنظمة الخليج للثورات المضادة في مصر وليبيا والسودان ... 
    4- لقد كان  برهان غليون جد موفق عندما  أورد العنصر الذاتي كعائق ومكْبل لنجاح الثّورة السّورية ، فهذه الأخيرة عانت من كثرة الفصائل والأجنحة وصراع القيادات  وضعف التكوين والخبرة السياسية. لقد نجح نظام الأسد الأب والابن في إفراغ الساحة السورية من أية أشكال وتعبيرات مدنية، وأفرغ نظام الأسد المجتمع المدني والسياسي ونشر الطائفية والمذهبية في صفوف السوريين ، مما جعل معظم السوريين يمارسون السياسة بطرق هاوية وغير مدروسة أفرزت قيادات مترهلة غير مستوعبة لا لتطورات الداخل ولا لمستلزمات التفاوض الدولي. كما أن اقتحام التنظيمات الإرهابية المدعومة والمصنوعة شرقا وغربا  للثورة السورية قد أضر بسمعة الحراك السوري وافقده وهجه الدولي أمام تخويف منظم للرأي العام الدولي من استحكام داعش والنصرة في الثورة السورية. 
    نعم لقد استطاع بشار الأسد لحد الآن أن يفلت من عدالة السماء والأرض بفعل نظام دولي غير عادل مبني على المصالح لا على قيم الحق والعدل، واستطاع النظام الإيراني احتلال أكثر من عاصمة شرق أوسطية بدون رقيب ولا حسيب مستغلا موت النظام العربي، و انهيار النظام الدولي وانكفاء النظام الغربي على نفسه ومصالحه الضيقة. لكن النظام السوري لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعود كما كان يدعي قبل الثورة السورية، أي نظام "ممانعة ومقاومة"  له دور في السلم والحرب و يستشار ويهاب في بعض الأحيان. الآن أصبح النظام السوري منبوذا في الداخل والخارج و غير قادر على الحياة بدون منشطات الإيرانيين و مهدئات الروس. عاجلا أم آجلا سيسقط نظام الأسد كما سقط هولاكو و بول بوت 
    و بينوشي وموبوتو وآخرون من عتاة الإجرام الدولي في التاريخ، وسينتصر الحق والعدل وإرادة الشعب السوري وهذه ليست نبوءة، إنما هي من وحي قراءة التاريخ.  
    لقد حاول الدكتور برهان غليون ورفاقه وشعبه السوري كشف الغمة عن سوريا محاولين بناء  سوريا جديدة  حرة وديموقراطية، لكن هذا الحلم الثوري الجميل لم يكتمل، بل تحول إلى كابوس جهنّمي بعد أن حوّل النّظام الأسدي سوريا إلى محرقة كبرى. ولكن  إرادة الشعوب والثورات قد تفشل و تخبو ولكنها أبدا لا تموت لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه.
      
    الدكتور فالح عبد الجبار :
    عالم الاجتماع السياسي العراقي 
    الذي ناضل ضد الديكتاتورية إلى آخر رمق

    في أواخر  شهر فبراير من سنة 2018 ، غادرنا إلى دار البقاء المفكر العراقي المرموق والمناضل اليساري الكبير  فالح عبد الجبار، تاركا فراغا كبيرا في الساحة السياسية والفكرية التواقة للفكر الحر والتنظير الرصين . تأبى الموت إلا أن تأخذ روح رجل مناضل ضد الاستبداد والديكتاتورية  منذ شبابه ، مناضل خفق قلبه للعراق ومستقبل العراق والديموقراطية في المنطقة وكان من الصدف الكبيرة أن يموت على كرسي شاشة تلفزيونية متحدثا عن العراق والانتخابات العراقية ومستقبل الديموقراطية وحقوق الإنسان بالعراق. ولد الدكتور العراقي  فالح سنة 1946  وانتمى للفكر اليساري الشيوعي منذ بداية حياته، مما أدى بالنظام العراقي إلى ملاحقته والتضييق عليه ، إلى أن غادر العراق سنة 1978، حيث استقر  متنقلا بين  كردستان وبراغ ولندن و دمشق وبيروت  حيث لفظ أنفاسه الأخيرة، أعطى فالح جبار عشرات الكتب والأبحاث العلمية الرصينة للمكتبة العربية والدولية، وكان مثالا للمفكر المجد الذي قرن قوله بالفعل، ولم يتهاون في مناصرة المظلومين والمستضعفين في الأرض في كل مكان، فساهم كمثقف عضويّ في نضالات الشعوب من أجل التحرّر من ربقة الاستبداد والديكتاتورية. فكانت مواقفه منسجمة مع روحه اليساريّة الماركسيّة ، لذلك لم يكن يوما من الأيام متهاونا في نقد الأطروحات القوميّة التي تسربت إلى الفكر الماركسي بطبعته العربية، فقد ناصر الدكتور فالح عبد الجبار نضالات الشعب الكوردي، بل شارك الأكراد مأساتهم  ضد بطش صدام حسين كما ناهض المواقف القومية الشوفينية التي تواطأت مع نظام صدام حسين  لتصفية الأكراد ، كما أن  فالح عبد الجبار كان من أشد معارضي نظام الأسد في سوريا.  لقد انفرد الدكتور بدراساته المعمقة عن الديناميات الاجتماعية العراقية و ساهم مساهمة علمية متميزة في تشريح المجتمع والدولة العراقيتين، و درس احتجاج حركات الإسلام السياسي الشيعية تحديدا كما قارب بمنهجية علمية محكمة مواضيع الدولة والسلطة والمواطنة والمجتمع المدني .. وهي مواضيع برع  المفكر العراقي الراحل في تفكيكها وفهمها ومحاولة صياغة أطروحات نظرية حولها. كان للدكتور العراقي فالح عبد الجبار مواقف متميزة  فيما يخص احتلال الكويت حيث عارضه بشدة واعتبره عدوانا على دولة ذات سيادة  وهذا موقف مشهود وموضوعي جلب عليه سخط الطبقة السياسية والإعلامية والثقافية العراقية التي كانت آنذاك تسبح بحمد النظام و تمجد بطولاته الوهمية ، كما كان له موقف متميز ومشهود من الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003 ، حيث بقدر فرحه و ابتهاجه بالقضاء على اعتى ديكتاتور في الشرق الأوسط  بقدر ما تحسر على القضاء على مقومات الدولية العراقية  وحلول منطق وواقع اللّادولة مكان الدولة العراقية المستبدة . حلم الدكتور فالح عبد الجبار بعراق ديموقراطيّ جديد بعد الاحتلال  الأمريكي وبعد إسقاط نظام صدام حسين، إلا أن حلمه خاب و أصبح العراق يعيش واقع أزمة متواصلة و فوضى عارمة  و بروز الطوائف والمذاهب والعشائر  واحتلالها  مسرح الأحداث، فتوارى منطق الدولة والمؤسسات سانحا الفرصة قسرا لحكم الطوائف وللتدخلات الأجنبية شمالا وجنوبا. أمام هذا الوضع المزري كتب الدكتور فالح عبد الجبار كتابه الديموقراطية المستحيلة حيث خلص إلى أن الشروط الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يعيشها المجتمع العراقي بعد 2003 ، لا تسمح بقيام ديموقراطية فعلية ورسم مستقبلا قاتما لعراق الطوائف والفتن الداخلية التي لن تنتهي قريبا. واستنتج  استنتاجا مهما وهو أن إرث الديكتاتورية لا يزول بزوال الديكتاتور، بل يتطلب التخلص من إرث الديكتاتورية والاستبداد ردحا من الزمن، وتضحيات مسترسلة. 
    إسهامات الدكتور فالح عبد الجبار النظرية والفكرية والمنهجية أهلته ليكون مؤسسا فعليا لعلم الاجتماع السياسي العراقي المعاصر إذ أن مقاربته المنهجية وتحليلاته الموضوعية للظواهر الاجتماعية التي يعيشها الشعب العراقي أهلته إلى أن يخرج  بخلاصات هامة  أهمها:
    -المجتمع العراقي استغل الاجتياح الأمريكي لبلده ليخرج من قمقمه المكبوت، الطائفية والعشائرية والتعبيرات الماقبل الدولتية، محملا الطبقة السياسية مسؤولية استدامة المحاصصة الطائفية و الابتعاد عن الروح الوطنية الجامعة لذلك استبعد الدكتور فالح عبد الجبار وجود مجتمع مدني عراقي حقيقي  بل يجب تسمية الموجود مجتمع أهلي .
    -المجتمع العراقي الذي أنجب خيرة الأطر العلمية والخبرات التقنية في العقود الماضية لم يعد ينتج تعليمه اليوم إلا الخراب والتطرف والشعوذة. وإن تعليم علماني علمي هو طريق إنقاذ أجيال العراق المستقبلية  من براثن التجهيل والأمية. 
    -العراق لا يمكن أن يخرج من واقع الانحباس السياسي و التجزئة السياسية والخلافات المذهبية إلا بالقطع مع  واقع ما أسماه الدكتور فالح عبد الجبار "الدولة كل شيء والمجتمع لا شيء". حيث أن تعامل القوى السياسية مع الشعب بمنطق الاحتقار والإهمال و التجهيل لا يمكن أن يبني عراقا ديموقراطيا حرًا.
    -إن الحروب الثلاثة المدمرة التي عاشها العراق  جعلت الإنسان العراقي يتكيف مع واقع القنابل والانفجارات والفوضى والقتل اليومي، وينبغي الخروج من هذه العقلية الدموية العنيفة  وبناء عراق جديد يقوم على البناء الديموقراطي المتدرج و الاعتراف بكل الثقافات و الأديان وبناء جسور التواصل معها.
    إذا كان عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركايم (ت سنة 1917) قد أسس علم الاجتماع الأوروبي الحديث وساهم في قيام ثورة منهجية علمية في التعامل مع الظواهر الاجتماعية ، مطورا بذلك إسهاماتِ 
    و أفكارَ أوغست كونت، فإن عالم الاجتماع العراقي فالح عبر الجبار استطاع أن يكرس حياته وفكره لإنتاج علم اجتماع سياسي بأدوات منهجية وعلمية جديدة واجتراح مقاربات منهجية مبتكرة  تساعد في  فهم واقع مجتمعاتنا و تحاول النبش في مكبوتاته و مستغلاقاته، سائرا بذلك على درب المفكر العراقي الكبير علي الوردي الذي ناضل و استبسل في ساحة الدفاع عن الحداثة والاستنارة والديموقراطية . 
     
    الطيب التيزيني: 
    حكيم الفلاسفة المعاصرين ومناصر حقوق الإنسان
    على سبيل التقديم :
    الحديث عن قامة معرفية وفلسفية هامة موسوعية في حجم ومستوى  الدكتور الطيب التيزيني ، حديث مخل ومتعسف وقسري في جميع الحالات والأحوال  في حق رجل مناضل؛ مفكر حكيم 
    (لذلك اختاره السوريون ضمن مجلس الحكماء أثناء الأزمة السورية سنة 2011) وحقوقيّ (مؤسس لعدد من الهيئات الحقوقية ومنها منظمة سواسيّة الحقوقيّة ) نذر حياته من أجل نصرة المظلومين والكادحين والمعذبين في الأرض بلغة فرانز فانون، ومفكر أعطى للمكتبة الفلسفية العالمية إسهامات وكتابات وأبحاثا مرجعية ومؤسِّسة للفكر العقلاني المعاصر باللغة الألمانية والعربية  ، لذلك فليعذرني القارئ الكريم على عدم إيفائي الدكتور التيزيني الحمصي ما يليق بمقامه بمقالتي هاته، ولكنني أومن بأن ما لا يدرك كله لا يترك جله ، لذلك أقدمت على  مغامرة الحديث عن مفكر موسوعيّ متبحّر في الفلسفة والتراث والفكر، وأنا متيقن منذ البداية أن الحديث عن التيزيني مسؤولية كبيرة ومهمة شاقة، لكني قررت التحدّي.
    ثمة مفكرون وكتاب وباحثون يحْدثون انقلابات كبرى وثورات كوبرنيكية  في عقول وأفئدة المتلقين من القراء والباحثين عموما بمجرد الاطلاع على كتاباتهم، تلك هي  تأثيرات وصدى كتب و أبحاث الدكتور الطيب التيزيني،  بسبب الاعتناء المنهجي بالموضوع المدروس وسلاسة الأسلوب وحكمة الرجل وتواضعه وإيمانه الشديد بما يقول أو لدقة النقول، يقول ما يفكر به و يفكر بما يقوله ويمارس ما يفكر به  في تلاحم تاريخي بين الفكر والممارسة، إذ أن التواضع وقوة الحجة إذا التقيا لدى مفكر متنور يسهل عليه "ترويج" و"تمرير" أفكاره و مخرجاتها إلى عموم المتلقين .
     كتابات الطيب التيزيني الذي لا يتوانى في نقده المستمر لكتاباته السابقة واستنتاجاته حسب تطور الأحداث وتراكم الخبرات المنهجيّة والنظريّة والتّاريخية، تتّصف بالدّقة ونفاذ البصيرة والجرأة العلمية في نقد ما يستوجب النقد، لذلك نراه صريحا في تقديم مراجعات كثيرة عن أفكاره السابقة، فلم يعد يؤمن بالتراث والثورة كما عنون إحدى كتاباته، بل بالتراث والنهضة، ففي جواب له عن سؤال طرحه عليه الباحث والمفكر هاني نسيرة (منشور في موقع الحوار المتمدن  العدد 1449- 2006) قال الطيب التيزيني :"الحديث عن كتابي "من التراث إلى الثورة" في هذه المرحلة  يدعوني للتساؤل فيما إذا كان هذا العنوان مازال محتفظا براهينيته المعرفية والسياسية والثقافية، وله ضرورة تاريخية الآن ، خاصة وأنه ككل عمل فكري يعكس لحظته، وإن كان يتضمن  كذلك ما يغطي  لحظات أخرى لاحقة، ورئي   فيه بعد عقد ونصف من التفكير أن ينسحب ليفسح الطريق الآن إلى عنوان آخر هو "التراث إلى النهضة" فمرحلته في بداية السبعينات كانت تحتمل  مشروع الثورة، بيد أنه الآن  في سياق  التحولات التالية  و خصوصا مع نشأة النظام  العالمي الجديد. وتفكك المنظومة الاشتراكية ..." ثمة إذن مراجعات فكرية وسياسية قام بها الدكتور الطيب التيزيني وهي التي يجب العمل على تطويرها واستيعابها لبدء معرفة جديدة انطلاقا من خلاصات تجربة فكرية ومعرفية وسياسية خصبة تصلح أن تكون توجيها للأجيال المقبلة. الدكتور التيزيني يصف ما يجري الآن دوليا وثالثيا  بالحطام المعرفي والعملي المفتوح ، داعيا في مناسبات عديدة إلى الإسراع بمراجعة التراث والأفكار و الطروحات بعقل نقديّ تحرُّري لفتح الدوائر المغلقة واستنهاض الفعل الجماهيري ولو تطلب الأمر البدء من الصفر من جديد. كان للمفكر الطيب التيزيني مواقف مشرفة أثناء الثورة السورية  أبانت عن معدن الرجل وإخلاصه للفكر والممارسة التحرّرين، داعيا  إلى إسقاط الدولة الأمنية التي التهمت الشعب السوري، مناضلا من أجل القضاء على ما أسماه بالاستبداد الرباعي  
    ( استبداد السلطة واستبداد الإعلام واستبداد الحزب الواحد واستبداد الثروة)، وكلفه نضاله و جهره بالحق مضايقات و اعتداءات ومشاكل لا عدد لها كما أنه قام بتحليل ممتاز وراهن للظاهرة الداعشية التي أرجع أسبابها إلى الاستبداد الظلاميّ الرباعيّ أي الفقر وهدر الكرامة والاستبداد و الإقصاء الاجتماعي والفكري،  محملا للغرب مسؤولية مباشرة في استفحال الظاهرة الداعشيّة وسكوته عن الاستبداد وتواطؤه مع القوى الرجعيّة نظاما وأحزابا. منتقدا الطروحات المتعسّفة التي ترمي كل المسؤولية على الخارج فيما وصل إليه حالنا في الداخل، بل يرى بأن التدخل الخارجي يستدعيه مباشرة ومنطقيا الاستعداد الداخلي وترهل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. 
    نبذة موجزة عن الدكتور  الطيب التيزيني :
    أورد المرحوم شاكر النابلسي في كتابه  الفكر العربي  في القرن العشرين الجزء الثاني ص 680  نبدة  عن الطيب التيزيني جاء فيها :" مفكر وأكاديمي  علماني ماركسي  معاصر، له مساهمات  مختلفة في الفلسفة والفكر العربيين. من كتبه : "من  التراث إلى الثورة" (عدة مجلدات)،"مشروع رؤية جديدة للفكر العربي  في العصر الوسيط"، الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى"، "على طريق الوضوح المنهجي"، "حول مشكلات الثورة  والثقافة في العالم الثالث".
    خصصت مجلة الجديد اللندنية عدد7 غشت 2015 عددا خاصا للدكتور الطيب التيزيني، شمل حوارا معه وعددا من المقالات التحليلية السّجالية مع هذا الحوار فيما يشبه حوار على حوار، وقدمت له الحوار بالنبذة التالية:
    "الطيب التيزيني اسم بارز لمفكر عرفت الثقافة العربية إسهاماته الفلسفية والفكرية لاسيما خلال الربع الأخير من القرن العشرين حيث تحول إلى اسم لافت من خلال كتبه ومحاضراته وطروحاته الفكرية انطلاقا من دمشق ، ولكن ليس انتهاء بالقاهرة ولا بالدار البيضاء.
    من مواليد مدينة حمص عام 1934 حاصل على الدكتوراه في الفلسفة عام 1967،  والدكتوراه في العلوم الفلسفية1973 من ألمانيا. تم اختياره عام 1998 من قبل مؤسسة concordia الألمانية – الفرنسية  واحدا من مئة فيلسوف عالمي في القرن العشرين. توالت مؤلفات  التيزيني منذ السبعينات حتى الآن ، متناولا فيها النهضة العربية  والتاريخ العربي وقضايا  التراث والقضايا الإسلامية وعلاقتها بالتاريخ. 
    عام 2011 شارك  التيزيني في المظاهرات السلمية  في دمشق أمام  وزارة الداخلية للمطالبة  بالإفراج عن معتقلي الرأي."
    كتب ودراسات الطيب التيزيني :(حسب ويكيبيديا)
    مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، دار دمشق - دمشق 1971، خمس طبعات.
    حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث، الوطن العربي نموذجاً، دار دمشق، دمشق 1971، ثلاث طبعات.
    من التراث إلى الثورة - حول نظرية مقترحة في التراث العربي، دار ابن خلدون، بيروت، 1976، ثلاث طبعات.
    روجيه غارودي بعد الصمت، دار ابن خلدون، بيروت، 1973.
    فيما بين الفلسفة والتراث، المؤلف نفسه، 1980.
    تاريخ الفلسفة القديمة والوسيطة، بالاشتراك مع غسان فينانس، جامعة دمشق، 1981.
    التفكير الاجتماعي و السياسي : أبحاث في الفكر العربي الحديث و المعاصر، جامعة دمشق، 1981.
    مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة من 12 جزءًا ، دار دمشق، 1982.
    الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى، مشروع رؤية جديدة للفكر ، الجزء الثاني – دار دمشق، دمشق 1982.
    من يهوه إلى الله ( في مجلدين)، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي، الجزء الثالث، دار دمشق، دمشق 1985.
    دراسات في الفكر الفلسفي في الشرق القديم، جامعة دمشق، 1988.
    ابن رشد وفلسفته مع نصوص المناظرة بين محمد عبده و فرح انطون/ تأليف فرح أنطون؛ تقديم الطيب التيزيني، دار الفارابي، بيروت، 1988.
    في السجال الفكري الراهن : حول بعض قضايا التراث العربي، منهجا و تطبيقا ، دار الفكر الجديد، بيروت، 1989.
    على طريق الوضوح المنهجي – كتابات في الفلسفة والفكر العربي، دار الفارابي، بيروت، 1989.
    فصول في الفكر السياسي العربي ، دار الفارابي، بيروت، 1989، طبعتين.
    مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر نشأةً وتأسيساً، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي، الجزء الرابع، دار دمشق، دمشق 1994.
    من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي – بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها التاريخية، دار الذاكرة، حمص 1996.
    النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي، الجزء الخامس – دار الينابيع، دمشق 1997.
    من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني، دار جفرا، دمشق، 2001.
    من اللاهوت إلى الفلسـفة العربية الوسيطة، منشورات وزارة الثقافة، سوريا، 2005.
    من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني، دار جفرا، 2002.
    بيان في النهضة والتنوير العربي، دار الفارابي، 2005.
    Die Matemie auffassung in der islamischen Philosophie des Mittelalters , 1972 Berlin.   بالألمانية
    وكتب بالاشتراك مع آخرين:
    الإسلام ومشكلات العصر الكبرى، مع بحث لباحث آخر، دمشق، 1998.
    الإسلام والعصر: تحديات وآفاق، بالاشتراك مع محمد سعيد رمضان البوطي، سلسلة حوارات لقرن جديد، إعداد وتحرير عبد الواحد علواني، دار الفكر، دمشق 1998.
    الواقع العربي وتحديات الألفية الثالثة، مع آخرون، مراجعة وتقديم ناصيف نصار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2001.
    آفاق فلسفة عربية معاصرة، بالاشتراك مع د. أبو يعرب المرزوقي، دار الفكر، بيروت، 2001.
    بعض أفكار التيزيني الرئيسية:
    مر فكر الطيب التيزيني أسوة بالمفكرين الآخرين من مجايليه بمراحل أساسية وطفرات فكرية مختلفة ومتباينة  ، تنسجم مع التحولات السياسية والمجتمعية التي يعرفها الواقع الدولي والإقليمي ، فمن تبني ماركسية قحة وصرفة تركز على التغيير والصراع الطبقيين بواسطة الأداة البوليتارية للطبقة العاملة قائدة التغيير الثوري ، إلى تغيير تشارك فيه كل الطبقات والفئات المجتمعية  التي لها مصلحة في التغيير أي حاملة هم ومسؤولية التغيير الثوري وفي هذا الصدد يقول الدكتور الطيب التيزيني في استجواب  مع المفكر هاني نسيره  المنشور في موقعه الشخصي على موقع الحوار المتمدن سنة 2006  : " إن هذا التحول عندي من  مشروع الثورة- حيث كان حسن حنفي يصفني  بأنني فيلسوفها بينما هو فقيهها- إلى مشروع  النهضة  لفوارق أساسية  بين المشروعين  تبرز في مقدمتها ما يتصل بالحوامل الاجتماعية  والثقافية والسياسية لكل منهما، فمشروع النهضة مشروع الجميع الشعب والأمة ككل ، أما مشروع الثورة فهو مشروع طبقة ، فهو مشروع باتجاه تموضع  اجتماعي وطبقي ذي بعد غير شامل، وإن كان يحمل إمكانية تحوله للشمول"، ومن مراهنة كبيرة على الطبقة الوسطى البورجوازية الميسورة لقيادة  دفة الاصلاحات الدستورية والسياسية والمجتمعية في البلدان الثالثة إلى الاعتراف أخيرا من قبل المفكر  الطيب التيزيني بأن الرهان على هذه الطبقة أصبح وهما ثالثيا وعالميا كذلك بفعل انهيار الطبقة المتوسطة واندحارها وتغير توجهاتها عالميا ومحليا. كما أن التيزيني انتقل من انتقاد بل واستبعاد أي دور للإسلام السياسي وللحركات الدينية في تغيير المجتمع  نحو الديموقراطية ودولة القانون ، إلى الإقرار بأن التطور الديموقراطي لبلداننا لابد أن يشمل الجميع، جميع القوى المجتمعية التي من مصلحتها تغيير منظومة الاستبداد الرباعي المسيطر على أوطننا لأن الواقع لا يرتفع والإسلاميون أصبحوا صوتا مسموعا وواقعا لا يمكن مجافاته ولا استبعاده. يقول الدكتور التيزيني في استجوابه بجريدة الجديد عدد 7  غشت 2015  ص 48 موضحا قانون الاستبداد الرباعي ما يلي : "كان التراكم  في مظاهر الاحتجاج على غياب الكرامة والعمل يقابله تعاظم في  تراكم  المزبلة، الذي ما اكتشفناه  تحت مصطلح  قانون الاستبداد الرباعي في المجتمعات العربية، أي الاستئثار بالسلطة والثروة وبالإعلام وبالمرجعية المجتمعية المتمثلة  في أن الحزب الوحيد الحاكم  يقود مع قائده  الدولة والمجتمع ، من هذا جاءت عملية التمرد على الواقع المعيشي أقل من أن تحدث  قطيعة مع الماضي المدجج  بالمذلة  والمهانة والافقار  والاغتراب، وأضعف من أن تواجه الحاضر بترسانته ذات الجذر المتمكن في قانون الاستبداد الرباعي ذاك" .
    للدكتور الطيب التيزيني مواقف متميزة في عدد من القضايا المحورية التي تشغل بال الباحثين عن المعنى والحقيقة في عالم مبعثر مضطرب قلق ، لذلك أعطى  قراءة مهمة لعدد من القضايا نستعرضها انطلاقا من كتبه وحواراته ، ونبدأ بموقفه ونظرته للعولمة ولليسار وللقومية وللتيارات والتعابير الدينية ونظرته المستقبلية للعالم الثالث والعالم عموما .
    في العولمة ، يقول الدكتور ما يلي (استجوابه بجريدة الجديد عدد 7  غشت 2015  ص 48 ) :"إنها النظام  الاجتماعي  والمالي والعسكري  الذي يبتلع  الطبيعة والبشر  ويخرجهما سلعا ومالا ، وهذا ما يدعو إلى  وضع اليد على جوهر ذلك كله .فاذا كان ماركس  قد وضع يده على ما يجعل  من العولمة نظاما من إنتاج  الأشياء عبر تحويل  الإنسان إلى حالة مشيأة، فإن الوصول إلى المقولة التالية عبر ماركس يغدو أمرا منطقيا، كلما ارتفعت قيمة الأشياء، هبطت قيمة الإنسان .. ما نراه أنه في ظل العولمة يصبح  كل العالم مهيأ لأن يتحول إلى أشياء وسلع ومال، وخصوصا منها ما تراه العولمة عائقا في وجه هيمنتها الكونية، مثل مفاهيم  المواطنة والقانون والهوية الإنسانية والوطنية .. إلخ، ويبدو أن المسألة تستقيم، أو يمكن أن تستقيم إذا ما طرح  السؤال التالي وأجيب عنه بصيغة مفتوحة: هل  ما يفتقده الحال العربي من خطاب  مواطنة وسيادة للقانون وغيرها  قابل لإعادة التشكيل في ظل النظام العولمي، وكذلك  في ظل الموروث الفكري الديني والقمعي للمنطقة؟
     أسئلة هامة ومركزة تحمل جدة في الطرح و تتناول قضية العولمة في عصر أصبح الجميع يقبل بالعولمة حسب التصنيفات الاستهلاكية والكيشيهات المكررة وأن العولمة قدر محتوم، التصدي لتأثيراتها مستحيل، لكن التيزيني يرى أن العولمة سيرورة عالمية يسري عليها ما يسري على الظواهر الاجتماعية والاقتصادية، والتعامل النقديّ مع تأثيراتها مهمة أساسية وضرورية.
    في اليسار ، يقول  الطيب التيزيني في حوار أجراه معه  الصحفي السوري  سامر إسماعيل والمنشور  بمجلة الفيصل  عدد مارس 2017 ما يلي :" اليسار عندي ليس فكرا جاء من هنا أو هناك، إنما هو تعبير عن حدث  أطاح بالنظر إلى العالم بوصفه  نقطة واحدة، ولقد وضعت يدي على نقاط مغيبة  أو غائبة، أبرزها أن هناك الوجه الآخر لما كتب عن الرؤيا اليسارية.."، هذه النظرة الثاقبة الاجتهادية  لليسار تجعل اليساريَّ منتم لفضاء أوسع من الجبة الحزبية أو الأقانيم المعرفية والنظرية الضيقة والتصنيفات الجاهزة  ، اليساري فهم رحب خارج أسوار السياسة الحزبية الضيقة التي أنتجتها الدولة الأمنية القمعية التي عملت على تجفيف منابع الفكر الحر المنفتح وفرضت على المجتمع تنميطا سياسيا وحزبيا مفروضا من فوق ولا علاقة له بالتعبيرات الاجتماعية الطبيعية عن التناقضات التي تعتمل داخل المجتمعات.
    في التيارات الدينية ، يقول الطيب التيزيني  بأن الإسلام تمت خوصصته من طرف  قوى محافظة استطاعت أن تملأ الفراغ الذي أعقب فشل المشاريع الأخرى المنافسة في الساحة الفكرية والسياسية، حيث فشل المشروع النهضوي الليبرالي واليساري العلماني أمام  استبداد و قمع الأنظمة الرجعية "الوطنية" وتواطؤ الخارج الاستعماري المنزع و تراجع النخب المثقفة وخفوت صوتها.  لذلك يقول التيزيني: " تحول الإسلام  من دين للشعب أو للمسلمين إلى دين للإسلاميين، الأمر الذي جعله صيغة من  الإيديولوجيا  التي أقصت التدين الشعبي وصادرته."
    مازلنا ننتظر بفارغ الصبر صدور المذكرات السياسية والفكرية التي يعكف عليها الدكتور التيزيني بمساعدة  نجلته  الدكتورة منار التيزيني، ونأمل أن تكون نبراسا نهتدي به وننير به أروقة الفكر والسياسة في بلداننا، التي تعرف قحطا فكريا وبؤسا ثقافيا متناميا ، فالرجل  له تجربة سياسية وفكرية كبيرة ومن واجبه التاريخي نقلها إلى الأجيال المقبلة .
     ما يشغل بال الدكتور الطيب التيزيني منذ سنة 2011 هو الثورة السورية  وتموجاتها ومآسيها، لذلك لا يخلو أي حديث معه أو اية محاضرة له  في السنوات الأخيرة عن ذكر التراجيديا السورية
    و التدفق المستمر للدم السوري الذي أوغلت الجماعات الإرهابية والنظام السوري في هدره يوميا أمام مرآي ومسمع مجتمع دولي فاقد للفعالية وللدقة، نقول فاقدا للمصداقية وللروح الإنسانية.  كما أن الطيب التيزيني يواظب على  كتابة عدد من المقالات وإجراء عدد من الحوارات التلفزية والتي تواكب المستجدات السياسية السورية والدولية، ويتفاعل مع الأحداث بأسى شديد وحسرة، كثيرا ما تغالبه دموعه المؤثرة والمعبرة عن احباطات مفكر، حلم بمجتمع أكثر إنسانية لكن ليس كل ما يريده المرء يدركه. 
    على سبيل الختم:
    يعتبر التفكير النقدي لدى الطيب التيزيني العماد الرئيسي المنهجي لأفكاره و خلاصاته النظرية والسياسية، لذلك يعتبر أن معضلة  فكرنا في العالم "المتخلف" هو سيطرة الأفكار الجامدة اللانقدية. ويبدو أن معالجة هذه الوضعية كما يقول الطيب التيزيني في كتابه  فصول في الفكر  السياسي العربي ص 106 : " تشترط أدوات  منهجية ومعرفية أكثر تماسكا وعمقا ودقة وتشخيصا مما هو الأمر  حتى الآن.
     وهذا  بدوره ينطوي على الإشارة إلى أن عنصر الشك المنهجي الجدلي يمارس دورا مبدئيا في إعادة صوغ الموقف الفكري العربي في وجهه الناهض. وهنا  نكون قد  ولجنا ساحة التفكير النقدي الذي يتيح لنا، هو وحده، تحقيق هذه العملية، وبالطبع  فإننا إذ نشرع في ذلك، فإننا نجد  أنفسنا مدعوون إلى إنجاز  العملية المنوه بها، في ضوء إعادة تقويم السابق على نحو يسمح  لللّاحق أن يكون الوريث  الشرعي لعناصره الإيجابية التقدمية".
    الطيب التيزيني مدرسة فلسفية وفكرية نضالية كاملة الأركان، يمدنا بالطاقة التفاؤلية  للمستقبل بأسئلته الأثيلة الحارقة و يلهمنا بتواضعه الجمّ وزهده المثالي وتجلده الأيوبي في البحث عن الحقيقة والمعنى  إنقاذا للإنسانية. تحية لهذا الحكيم المتفلسف في حياته وفكره ولكم معشر القراء الكرام كل التقدير والاحترام.

    المهدي عامل
     رائد الفكر المناضل وشهيد الكلمة الحرة الملتزمة

    حين نستذكر أمثال المفكر العالمي الدكتور الشهيد حسن حمدان المعروف نضاليا وفكريا باسم مهدي عامل، فنحن لا نمارس نوعا من النوستالجية الرديئة أو البكاء على أطلال فكر ماركسي ثوري يعتبره العديدون  من هواة النهايات، بأنه فكر انتهى وأصبح في أنقاض العمارة الاشتراكية المتهدمة تدريجيا من زمن البريسترويكا وسقوط جدار برلين ووحدة الألمانيتين 
    و سيطرة العولمة النيوليبرالية المتوحشة على مفاصل الاقتصاد و السياسة الدوليين  إلى الآن ، لكن هدفنا من المقال هو أولا تعريف الجيل الجديد بمناضل ثوريّ استثنائيّ  جمع بين الكلمة الملتزمة و الممارسة السياسية الهادفة و الملتصقة بهموم و آمال  الشعوب المضطهدة المقهورة ،  إطلاع جيل الأنترنيت وثورة وسائط التواصل الاجتماعي  على مناضل ثوريّ  ضحّى بحياته من أجل مجتمع لبناني بدون طوائف أو بالأحرى بدون استغلال للطائفية المقيتة التي باتت تنهك المجتمع اللبناني و تعرقل  طموحاته نحو الديموقراطية ودولة الحق والقانون . ثم ثانيا البحث في راهنيّة فكر ثوريّ اِحتفظ ببريقه و قوة عدته المفاهيمية رغم مرور مياه كثيرة تحت الجسور ورغم انتشار غلاة الحداثة وما بعد الحداثة الذين أسرعوا في تشييع ودفن فكر جعل منتهى  أهدافه خدمة قضايا التحرر الوطني و الانعتاق من أسر الإيديولوجيات والأنظمة المسيطرة. المطَّلعُ على فكر مهدي عامل  لن يبذل جهدا كبيرا في اكتشاف قضايا نظرية وسياسية تطرّق لها باستخدام عدَّةٍ مفاهيميّة نظرية رصينة ، فالدكتور استطاع أن يعرب فكر لوي ألتوسير  ويستثمره في اجتراح أمراض الدولة المتوارثة عن الاستعمار، وأبدع مفهوما ثوريّا في الأدبيات النظرية للاستدلال على  الفرق الكبير بين البنية في  النظام الاستعماري الإمبريالي   وبين البنية الاجتماعية والسّياسيّة في النّظام الرأسمالي التبعي  الذي أسماه المهدي عامل بنمط الإنتاج الكولونيالي. ويسعى مقالي هذا إلى تبيان  بعض أفكار الراحل الثوري مهدي عامل  انطلاقا من كتابات مجايليه من المفكرين والمثقفين الكبار، الذين أعطوا شهادات صادقةً وعميقةً عنه ، وكانت كتاباتهم بحق تعميقا ونقدا بناءً لفكر نقدي كان هو المعشوق الأبدي للشهيد المهدي عامل.  وأملي كبير أن أكون وفقت في إضاءة ركن بسيط من حياة وفكر مثقف وسياسي استثنائي، اغتالته أيادي الإجرام باكرا كما قالت الدكتورة فهمية شرف الدين في مقال نوعي نشرته في مجلة الآداب البيروتية سنة 1988: " باكرا رحل ، وتوقفت عند نقطة معينة ، أفكار كانت بحق إسهاما كبيرا في تجديد زاوية الرؤية داخل  مسار الفكر الاشتراكي العربي " ، كما  أجدني متفقا تمام الاتفاق مع الدكتور خضر زكرياء في- نفس المجلة ونفس العدد-  الذي قال في حق مهدي عامل ما يلي :
     " إن يتحدث المرء عن الأطروحات النّظرية لمهدي عامل في دقائق أو ساعات أمر  مستحيل، 
    أو هو على الأقل أمر فيه استسهال وتعسف كبيران. فما تركه لنا الباحث المفكر الكبير من تراث فكريّ هو على مستوى من الأصالة والعمق والاتساع والتجريد النّظري، بحيث يتطلب عرضه وتحليله  ومناقشته جهود فريق عمل متخصص  لأشهر وربما لسنوات."
    من يكون المهدي عامل؟ :
      سنحاول التذكير بنبذة من حياته وسنستعين بما كتبه الدكتور الأردني  الراحل  شاكر النابلسي في عمله المتميز من ثلاثة أجزاء -الفكر العربي في القرن العشرين- حيث قدم المهدي عامل في دليل الإعلام الجزء الثالث ص377  بما يلي :
    (حسن حمدان 1936-1987) مفكر وشاعر وناشط سياسي وأكاديميّ  ماركسيّ لبنانيّ معاصر. مات مقتولا على أيدي الجماعات الإسلامية. له عدة أبحاث في الفلسفة والفكر السياسي منها :"نقد الفكر اليومي"، "مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني"، "أزمة الحضارة العربية أم أزمة البورجوازيات العربية؟"، "النظرية في الممارسة السياسية" – "بحث في اسباب الحرب الأهلية اللبنانية"، "مدخل إلى نقض الفكر الطائفي" ، "هل  القلب للشرق والعقل للغرب ؟"، "في علمية الفكر الخلدوني" ، "في الدولة الطائفية" .. وغيرها. ومن شعره ديوان : "تقاسيم على الزمان ، وفضاء النون". 
    أما موسوعة ويكيبديا فتعرف مهدي عامل بما يلي :
    الدكتور حسن عبد الله حمدان المعروف باسم مهدي عامل ( ولد في بيروت عام 1936) ابن بلدة حاروف الجنوبية قضاء النبطية. متزوج من إيفلين بران، وله ثلاثة أولاد: كريم وياسمين ورضا.
    تلقى علومه في مدرسة المقاصد في بيروت وأنهى فيها المرحلة الثانوية.
    نال شهادة الليسانس والدكتوراه في الفلسفة من جامعة ليون، فرنسا. درّس مادة الفلسفة بدار المعلمين بقسنطينة (الجزائر)، ثم في ثانوية صيدا الرسمية للبنات (لبنان). انتقل بعدها إلى الجامعة اللبنانية معهد العلوم الاجتماعية كأستاذ متفرغ في مواد الفلسفة والسياسة والمنهجيات.
    كان عضوا "بارزا" في اتحاد الكتّاب اللبنانيين والمجلس الثقافي للبنان الجنوبي، ورابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية. انتسب إلى الحزب الشيوعي اللبناني عام 1960، وانتخب عضوا في اللجنة المركزية للحزب في المؤتمر الخامس عام 1987.
    في الثامن عشر من أيار عام 1987 اغتيل في أحد شوارع بيروت، وهو في طريقه إلى جامعته الجامعة اللبنانية معهد العلوم الاجتماعية الفرع الأول، حيث كان يدرس فيها مواد الفلسفة والسياسة والمنهجيات. من أقواله "لست مهزوما ما دمت تقاوم". وعلى إثر اغتيال مهدي عامل أعلن يوم التاسع عشر من أيار من كل عام "يوم الانتصار لحرية الكلمة والبحث العلمي"
    ماذا يقول  بعض المفكرين عن فكره و شخصه ؟ :
    غسان الرفاعي (مجلة الطريق السنة62 مارس ابريل 2003 ص27)
    "منذ زمن بعيد لم أجرؤ على مثل هذه المغامرة، (مغامرة الحديث عن أعمال وفكر مهدي  في محاضرة  في بروكسيل من تنظيم المركز الثقافي العربي حول  أعمال وفكر المهدي)  كنا صديقين.. عملنا معا لسنوات في مجلة الطريق .. نتحاور يوميا، نناقش كل شيء. مهدي شلال لا ينقطع في طرح الاشكالات.. في إثارة الاحتمالات.. دائم القلق أمام التساؤلات.. كنا نختلف كلّ يوم في حواراتنا. مع ذلك كانت صداقتنا تتعمق. خسرنا باستشهاده ثروة فكر و منهجية جدال ليس من السهل تعويضهما... لاشك أن الهم والهاجس الأساسي في أبحاث مهدي كلها كان هو فتح أفق نظري لخلاص بلداننا وإنقاذها من حال التخلف والتبعية. فكانت نظريته عن نمط الإنتاج الكولونيالي ... يقول مهدي : إذا أردنا أن نحرر فكرنا نجعله خلاقا،  أي قادرا  على أن ينتج معرفة علمية ، وجب علينا القيام بما يمكن تسميته  ثورة منهجية. لقد اعتدنا أن ننظر إلى الواقع ، واقعنا، من خلال فكر متكون ... لكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار بأن أبحاث المهدي جرت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. ومنذ ذاك الحين  وقعت أحداث كبرى ذات تأثير عميق على مجرى التطور السياسي  والاقتصادي والاجتماعي  والعلمي  على الصعيد العالمي. ومن الطبيعي أن يكون لهذه التطورات انعكاساتها على بلداننا وأثرها المباشر على استنتاجات  مهدي نفسها،  بما فيها  تلك الاستنتاجات التي كانت منسجمة ومتوافقة مع طبيعة الظاهرات السياسية والاقتصادية  والاجتماعية آنذاك وتعبر عنها  بصورة علمية."
    كميل داغر (مجلة الطريق السنة62 مارس أبريل 2003 ص27)
    "لقد كان هما دائما لدى الرجل، على امتداد حياته السياسية، أن يرى الطبقة العاملة وخطها البروليتاري الثوري في موقع القيادة  لتحالف واسع من المنتجين والمهمشين والمحرومين، كل معذبي الأرض هؤلاء الذين تحدث عنهم فرانز فانون، وقد دفع مهدي ثمنا غاليا جدا لهذا الهم، هو استشهاده ، الذي كان بالتأكيد لحظة مأساوية ، حزينة ومفجعة ، من الصراع الدموي الذي شهده لبنان ، على امتداد الحرب الأهلية الأخيرة. ونكون نكرم ذكرى الرجل حقا ، بقدر ما ندخل في حوار معميق وهادف ، حول وسائل الخروج  من أزمة ، هي الآن في مستوى متقدم جدا من حراجاتها."
    جورج قرم (مجلة الطريق  العدد الرابع  السنة 62  يوليوز-غشت 2003 ص 5-6)
    "فكر مهدي عامل، رغم القوالب الماركسية التي تصوغه ، والتي سأضع بعض التساؤلات حولها ، ليس بالفكر الجامد، بل هو يعبر عن جوهر ممارسة الفكر النقدي .... أعتقد  أن كتاب مهدي عامل (أزمة الحضارة العربية أم أزمة البورجوازيات العربية ؟–صدر سنة 1974 ) هو قدوة ، وهو نموذج جذري رائع في ممارسة الفكر النقدي، رغم أن القالب الشكلي الذي يستعمله له صفة جامدة، مستوحاة من الماركسية في مرحلة تاريخية معينة. ولا شك لدي أن مهدي عامل  لو كان لايزال حيا لعمل نقدا لنفسه  وللمرحلة التي  كان يكتب  فيها  بلغة معينة ... إن نقده لإشكالية التخلف العربي هو نقد جذري، يمكن تطبيقه في شكل علم على ما نحن فيه اليوم وعلى استحالة تحديد ماهية تخلفنا وفهمها. نحن مازلنا  في الوضع نفسه ، ولم يتغير شيء ... أنا أعجبت فعلا  بالأسلوب اللاذع  لمهدي عامل. فهو لم يترك موقفا لكل أعلام  النهضة العربية دون التعرض له، وأعاد النظر في مناهج تفكيرهم وإشكالياتهم بمن فيهم أدونيس و قسطنطين زريق و أنور عبد الملك و فؤاد زكريا و صادق العظم." 
    هشام غصيب (مجلة الطريق  العدد الرابع السنة 61 يوليوز غشت 2002 ص 43)
    "من الصعب أن نجد في الفكر العربي الحديث مفكرا  تنطبق عليه لفظة "فيلسوف" أو "منظر" كما تنطبق  على الشهيد  مهدي عامل، فدرجة الأحكام  والتماسك التي نجدها في  كتابات مهدي عامل لا نجد لها مثيلا  في الفكر العربي الحديث برمته. بل إن البناء النظري المحكم  الذي نجده في  كتابات مهدي، وبخاصة في كتابه "مقدمات نظرية" ليذكرنا بما نجده في  أعمال عمالقة  الرياضيات والفيزياء ، أمثال اقليدس ونيوتن واينشتاين. فهو سخر جملة من  المفهومات المبتكرة، مثل : علاقة التحديد ، علاقة السيطرة ، حول الصراع الطبقي ، الحركة الانتباذية ، الحركة الانجذابية ، الترابط التراكبي والترابط الانصهاري، الممارسات الاقتصادية  والإيديولوجية والنظرية والسياسية للصراع الطبقي، الزمن التكويني والزمن البنيوي  وزمن القطع،  أجهزة الدولة الإيدولوجية... إنه ينطلق من أرقى ما  توصل  إليه العقل النظري الماركسي  في عصره ، أعني أنطولوجيا التوسير، لا من أجل  تأكيده أو إعادة إنتاجه، إنما من أجل نقده  وتمييزه وتطويعه."
    عبد الإله بلقزيز (مجلة الطريق العدد  الخامس  السنة 57 شتنبر –اكتوبر 1998 ص58)
    "لا نعثر في مدونة الماركسيين العرب سوى على ثلاثة أسماء : إلياس مرقص  ومهدي عامل وسمير أمين، يمكن احتسابهم –ثلاثتهم- في عداد أبرز  مفكري القرن العشريين الماركسيين عالميا من حيث القيمة النظرية لإنتاجاتهم  ومن حيث حرصهم  على بناء أنساق نظرية"
    ماهر الشريف (مجلة الطريق العدد  الخامس  السنة 57 شتنبر –اكتوبر 1998 ص58)
    "وفي الواقع ، فقد كان مهدي عامل من أوائل الماركسيين العرب الذين تنبهوا ونظروا لضرورة البحث عن التمايز  في إطار الفكر الماركسي، معتبرا أنه بحكم التفاوت في مستوى التطور التاريخي ، كما يقول مهدي عامل في كتابه ( أحاديث ومناقشات ص 239): تطرح علينا في مجتمعاتنا مشكلات محددة تختلف عن تلك المطروحة في مجتمعات أخرى، وبالتالي على الفكر الماركسي أن يجابه طبيعة الاختلاف في هذه المشكلات ، أن يقبض عليها كي يوضح للممارسة الثورية، وفي الممارسة الثورية، الطريق  الفعلي لمعالجة هذه المشكلات ."
    جورج لابيكا :(مجلة الطريق العدد الرالبع السنة 56  يوليوز  غشت 1997 ص112 ):
    "لقد اغتيل مهدي عامل في أحد شوارع بيروت  في 18 مايو 1987 على يد أصوليين شيعة  ينتمون إلى طائفته الأصلية ، وكان  قد تجاوز بالكاد الخمسين من العمر، وهذا يعني أنه كان أمامه متسع للكلام  والكتابة والعمل. وكان شيوعيا، وأصعب ما كان يواجهه  في بلده هو هذا الكم من التعصب الديني، الذي قام بنقده بوضوح ودفع حياته ثمنا لذلك. نقرأ على ضريحه هذا النقش البسيط '' شهيد الفكر والحرية". مختصرا المصير الذي اختاره بملء إرادته. كان قد تابع دراسته  في جامعة ليون حيث حصل على دكتوراه  في الفلسفة عام 1965 وبعد أن درّس  في الجزائر في مدينة قسطنطينة  في السنوات الأولى للاستقلال ، عاد إلى لبنان عام 1967 وعمل بادئ الأمر  مدرسا في صيدا، ثم  أستاذا محاضرا عام 1976 في معهد العلوم الاجتماعية  في بيروت ... جرى الاعتراف  باكرا جدا  بمهدي عامل  في العالم العربي، كمفكر يتمتع بقوة استثنائية، الوحيد الذي حاول توسيع نظرية علمية شاملة للثورة  العربية وحتى  للثورة في البلدان  المتخلفة عموما."
    جاك كولان (مجلة الطريق العدد الرالبع السنة 56  يوليوز  غشت 1997 ص117 ):
    "كفيلسوف ومناضل لم يفصل  أبدا بين فكره النظري والتاريخ ، ليس بمعنى أنه يتوق ليصبح مؤرخا وإنما بمعنى أنه كان في صلب التاريخ. وتجلى هذا الهم منذ الخلاصات التي توصل إليها  في أطروحته والتي أسست لاحقا  لمشروع المقدمات : القيام "بثورة منهجية "داخل "الماركسية القائمة" عن طريق تطوير الأدوات المعرفية الخاصة التي تتيح "تحليل أشكال محددة تتميز في حركة القوانين التاريخية الكونية  في الحركة التاريخية  للمجتمعات العربية المعاصرة."
    الطيب التيزيني(مجلة الطريق العدد الرابع السنة 56  يوليوز  غشت 1997 ص121 ):
    "لقد انقضت عشرة أعوام (كتب الدكتور الطيب التيزيني هذا الموضوع سنة1997) على رحيل المهدي عامل، مقدما في ذلك أمثولة دامية على أنه كان المفكر مناضلا والمناضل مفكرا، أو العارف عاملا والعامل عارفا، بتعبير تقريبي قدمه الزمخشري. والحق، أن هناك ما يدعو إلى أن نرى في مهدي ليس تجسيدا لهذه الجدلية فحسب وإنما كذلك باحثا فيها من طراز مرموق. ولعله  من الأهمية والضرورة بمكان أن يشار إلى أن مهدي كان المفكر مناضلا والمناضل مفكرا في سياق التقدم التاريخي، تقدم شعبه وأمته  في شعاب الحرية والديموقراطية والوحدة. وبهذا، نكون قد ميزنا بين نمطين من المثقف والمفكر، واحدا يجسد المقولة المذكورة على نحو ما فعل مهدي، وآخرا يجسدها  من موقع السبحة ضد التيار التاريخي التقدمي، وفي ضوء مبادئ من نوع الاستبداد، والهيمنة النخبوية أو الطبقية، واللامساواة بين  الرجال والرجال  و الرجال والنساء في الحقوق المجتمعية المختلفة."
    الدكتور مسعود ظاهر :(مجلة الآداب عدد 1و2 يناير فبراير 1988 ص 94)
    "وأنا بصدد إبراز الجديد المفهومي والمنهجي  لدى مهدي عامل في مجال الطائفية والدولة الطائفية في لبنان. أعترف أنه قبل هذا الباحث المجدد لم تكن لدى الماركسيين اللبنانيين القدرة على إنتاج ثقافة نظرية معمقة حول البنية  الطائفية، والهيمنة الطائفية، والدولة الطائفية وغيرها..، لذلك استحق هذا المفكر الشهيد موقع الريادة في التنظير المعمق لإنتاج  الجديد المفهومي في هذا المجال... فلم يتورع مفكرنا الشهيد وبجرأة الثوري الأصيل، عن نقد رفاق له، ومن موقع الخندق النضالي الواحد، بالانزلاق عن وعي أو بدون وعي إلى  مواقع الفكر البرجوازي بالذات. فساهم بذلك في تصليب فكرهم المادي وفي تقويم ما اعوج منه..؛ لكن القوى الظلامية كانت له بالمرصاد فاغتالته في أوج عطائه النظري  ونقده البناء  الذي طال  عددا كبيرا من المثقفين ، تناولوا  المسألة الطائفية والدولة الطائفية."
    في سبيل الختم :
    خلال المسيرة النضالية الخصبة  لمهدي عامل والتي شهد عليها وعاصرها  ثلة من المفكرين الكبار من مختلف الجنسيات والبلدان، ولكن يجمعهم حب الكلمة الصادقة و النضال من أجل مجتمع إنساني متحرر،  أصدر حسن حمدان  كتبا ودوواينا وأبحاثا مختلفة  يجمعها هاجس الفعل النضالي التنويري الذي يسكن المفكر العضوي بلغة غرامشي في تناغم مثالي بين الممارسة الفعلية الرصينة و النظرية التي يؤمن بها ، لم يكن مناضل صالونات و محاضرات فقط، بل كان  مناضلا ميدانيا ومفكرا في نفس آن ، بالفعل كان المهدي عامل نبراس ينير طريق المقهورين والمنبوذين والمستضعفين، بمنهجيته الثورية و أفكاره النقدية الحاسمة التي ترفض التضليل والخلط بين وعي ثوري تحرري، ووعي زائف بلغة أمين العالم، ولكن لقوى الظلام و الرجعية رأي آخر ، هو رأي إسكات الأصوات النيرة في مختلف الأزمنة والأمكنة، ورأي راغب في  تأبيد وعي خرافي و استيلاب فكري يسمح  بإدامة السيطرة الفكرية والسياسية والاقتصادية لطبقات مهيمنة مسيطرة  على مقدّرات الشّعوب المقهورة ، فقد اغتالت  القوى النكوصية الرجعية  عددا من المفكرين المتنورين كحسين مروة الشيخ  اللبناني الجليل الذي ولد شيخا ومات طفلا كما قال ذات يوم، واغتالت سهيل طويلة وخليل نعوس وجورج حاوي وسمير قصير وجبران التويني  وكلهم من لبنان، واغتالت الأيادي الآثمة في كل مكان في العالم المفكرين المتنورين الذين سعوا جاهدين من أجل انتشال أوطانهم من الرجعية والظلامية والنكوصية ، فتحية إجلال لروح كل شهداء الكلمة والحرية في كل أصقاع العالم  وكان من الممكن أن أسرد  شهادات عدد كبير من المفكرين الذين تناولوا فكر مهدي عامل بالدراسة والتحليل والنقد كالكاتب والروائي المرموق  فيصل دراج الذي أعد  دراساتٍ قيمةً عن المهدي عامل أو أتطرق لدراسات وشهادات  كريم مروة، ونزار مروة، و محمد كروب، وآخرون كثر، ولكن حيز المقال والمقام لا يسمح بذكر الجميع رغم أهمية مساهمتهم النظرية في نقد و تطوير أطروحات الشهيد مهدي عامل. وأختم بقولة للدكتورة يمنى العيد عن الشهيد مهدي عامل ( مجلة الآداب البيروتية، عدد مزدوج فبراير 1988) :" كان مبدعا، واسع الثقافة، هو مهدي عامل، ودفاعا عن الفكر المبدع، عن حرية التعبير، عن ثقافة ثورية  كانت شهادته، لكن ، يبقى الخيط يضئ عتمة الواقع، وسيبقى النور يجلو صدأ الفكر".

    جورج طرابيشي
     المفكر الحداثي  المتنور، فولتير الفكر الإسلامي
     
    سيظل اسم المفكر السوري  جورج طرابيشي الحلبي المزداد سنة 1939 من أسرة مسيحية محافظة- كما يروي ذلك بنفسه في عدد من الاستجوابات والكتابات -  والمتوفى في منفاه الباريسي في مارس 2016 ،  علامة  مضيئة في تاريخ النضال الفكري والثقافي في مجالات النقد الأدبي والترجمة  وفحص مكنونات التراث الإسلامي نقدا ونقضا. وستظل مساهماته  النظرية في هذا المجال  نموذجا  للفكر العلمي المكافح المهموم من أجل اللحاق بركب الحداثة ومتطلباتها العلمية والفكرية. وقد تميز انتاجه الفكري بغزارة كبيرة ومتنوعة  فترجم الكتب الماركسية  المهمة وقدم لنا كتابات  الوجودية  لسارتر و اليسار الجديد لألتوسير وكتاب  الإنسان ذو البعد الواحد لماركيوز وغيرهم من عمالقة الفكر الماركسي  واهتم ردحا من الزمن بالفرويْدية وترجم عددا كبيرا من كتابات سيغموند فرويد، بل تأثر بالتحليل النفسي وطبق منهجه في دراسة نقدية لعدد من الروايات العربية  وأصدر كتبا  مهمة استثمر فيها التحليل النفسيّ  بجدارة واقتدار مثل كتابه الذي نشره سنة 1977  "شرق وغرب" ، "رجولة وأنوثة : دراسة في أزمة  الجنس والحضارة في الرواية العربية". وكتاب "عقدة أوديب  في الرواية العربية"  نشره سنة 1982 وكتاب "الله في رحلة نجيب محفوظ" وغيرها من الكتب الأدبية الهامة التي ألهمت جيل ثقافي واسع  في السبعينات والثمانينات والتسعينات  من القرن الماضي، اشتغل الطرابيشي في مجلات عربية كبيرة ورائدة  لها بصمات واضحة على الفكر العربي المعاصر مثل مجلة دراسات عربية ومجلة الوحدة .. ، و استطاع  المفكر جورج طرابيشي أن ينعتق من أسر التصنيفات الإيديولوجية  رويدا رويدا، متجاوزا الأقانيم الفكرية التقليدية  من قومية واشتراكية إلى رحاب التحليل العلمي المنضبط فقط للمناهج التفكيكية والبنوية العلمية  متأثرا بما أسماه التبعية للعلم المفهوم  الذي أبدعه  غاستون باشلار. هذا التحول من الإيديولوجي إلى الإبستيمولوجي ، ليس بالأمر السهل أو الهيّن بل تطلب منه تدرجا وانفتاحا واكبا التحولات الكبرى والهزات العنيفة التي عرفها العالم شمالا وجنوبا، على كافة الأصعدة  الفكرية والسياسية ، لكن عددا كبيرا من المثقفين التقدميين  بقوا مقيدين بالخطابات السابقة التي تجاوزها الواقع ، لذلك  يؤاخذ المفكر السوري جورج طرابيشي  على  بعض  المفكرين المشتغلين  بالثقافة  العربية المعاصرة بقاءهم   أسرى  العقل الإيديولوجي  المنمّط ، حيث يقول متحدثا عن هذا النوع من المثقفين  (1) : "فرغم التقدم  المذهل  الذي أصابه العلم  العالمي  في المئة  سنة الأخيرة ، فإننا نلاحظ  غيابا تاما لوجود  مفكرين علميين في الحقل التداولي بالثقافة  العربية  المعاصرة ، على  عكس ما كان عليه واقع  الحال في عصر النهضة يوم كانت تلمع  أسماء دعاة  كبار لاستتباع العقل  للعلم ..، وشخصيا لست أستثني  نفسي من هذا النقص  في التكوين  العلمي الذي  تعاني  منه جملة الأنتلجنسيا العربية ، وإن يكن انفتاحي – ترجمة وتأليفا - على التحليل النفسي في السنوات الأخيرة  قد ساعدني  على الانعتاق –منهجيا على الأقل- من عقلي الإيديولوجي السابق." 
    اشتغل جورج طرابيشي في عقوده  الأخيرة بمشروع فكري ضخم حاول فيه استخدام  ما أسماه بالحفر الأركيولوجي للتراث(2) وساهم في ذلك التوجه.  نقده المنهجي والمعرفي لكتب الراحل محمد عابد الجابري  حيث استمرت رحلته النقدية لمشروع الجابري حوالي 25 سنة  وخصوصا كتابيه "نحن والتراث وتكوين العقل العربي"، حيث تناول الطرابيشي المشروع الفكري للجابري  بالمقاربة النقدية والتمحيصية بدأ من المراجع المصرح بها من طرف الجابري والتي سكت عنها ، انتهاءً إلى الخلاصات والاستنتاجات والإشكاليات المغلقة التي صاغها وشبهها الطرابيشي  بحبائس  ، بطريقة الخف بالخف 
    أو النعل بالنعل كما ذكر ذلك  مقدمة كتابه الأول  نقد نقد العقل العربي (نظرية العقل) . ويمكن بخلاصة شديدة تلخيص مؤاخذات  جورج طرابيشي على الجابري  في ثلاث قضايا رئيسية :
    1-تعصب الجابري للعقل المغربي البرهاني على حساب العقل المشرقي البياني والعرفاني  وشطره لوحدة العقل الإسلامي  ، إلى شطرين متقابلين لا عقلين منفعلين متفاعلين كما تقتضي المنهجية العلمية التواصلية التراكمية التي يبنى عليها الفكر ، يقول الطرابيشي  في مقدمة كتابه ( على غلاف الكتاب)  نقد نقد العقل العربي وحدة العقل الاسلامي مايلي :" يقوم كل مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، على إصطناع (قطيعة معرفية بين فكر المشرق وفكر المغرب)  وعلى التمييز بين (مدرسة  مشرقية إشراقية  ومدرسة مغربية برهانية)"  .
    2-عدم دقة  بعض المراجع التي اعتمدها الجابري في بعض إحالاته  كما هو شأن  إحالته إلى  لالاند  مباشرة  دون وساطة برهييه  في قسمته العقل إلى مكوَّن (فتح الواو )ومكوِّن (كسر الواو) حيث أن طرابيشي يصر على أن الجابري استعان بمصدر مستتر هو  معجم  اللغة الفلسفية  لبول فوكييه  ولم يقرأ لالاند نهائيا. إذ يقول الطرابيشي في كتابه نقد نقد العقل العربي (نظرية العقل ) ص 13 :" إلى أي مدى كان الجابري  لالانديا فعلا ، لا في توظيفه لتمييز لالاند  فحسب ، بل حتى في فهمه له وفي رجوعه الفعلي ، في شواهده بالذات ، إلى مؤلف " العقل والمعايير "؟   .. كما أن طرابيشي شك كذلك  في اطلاع الجابري على رسائل إخوان الصفا،  بل اعتبر شواهده في الموضوع مغشوشة  حيث وسم  الجابري الرسائل  بالغنوصية والظلامية ومحاربة العقل والمنطق، فيما مقدمة الرسائل فيها مدح للعقل والمنطق والحث على أعماله في كل الأمور الحياتية...
    3-اِعتبار الجابري بأن الآليات الخارجية هي التي ساهمت في انكفاء العقل  واستقالته في الحضارة الإسلامية فيما يرى الطرابيشي بأن الانكفاء والغروب له أسباب داخلية ميزتها الأساسية  انكماش ذاتي لهذا العقل على  نفسه، يقول طرابيشي  في مقدمة كتابه ( الغلاف) نقد نقد العقل العربي  ما يلي :" هل يصلح (حصان طروادة) لتفسير ظاهرة استقالة العقل في الإسلام ؟ بعبارة أخرى ، هل يمكن ردّ أفول العقلانية العربية الإسلامية إلى غزو خارجي من قبل جحافل  اللامعقول من هرمسية وغنوصية وعرفان "مشرقي"  وتصوف وتأويل باطني وفلسفة إشراقية وسائر تيارات " الموروث القديم" ....؟.
     كما أن المفكر الجابري أخطأ في تقدير الطرابيشي عندما حصر أعمال العلم وإنتاجه في الحضارات  الثلاث اليونانية والعربية والأوروبية  الحديثة  ومارس إمبريالية فكرية حين  ظلم الحضارات الأخرى التي ميزها بأنها حضارة السحر والشعوذة وقمع العقل رغم إسهاماتها الكبيرة في المنطق والرياضيات والفلك  كالحضارة الهندية والصينية وحضارة بابل  والحضارة المصرية.
    ينتمي جورج طرابيشي إلى تيار عقلاني وعلماني  يدعو إلى استعمال العقل في كل الأمور الدينية والدنيوية، فاختلف مع الجابري في مفهوم وضرورة العلمانية  التي اعتقد الجابري أنها بنت غريبة عن دار الحضارة الإسلامية ودعا إلى الاكتفاء بالنضال من أجل العقلانية ولم يكن طرابيشي وحده الذي انتقد الجابري بسبب موقفه من العلمانية بل انتقده كثير من المفكرين والمؤرخين الذين اعتقدوا أن الديموقراطية والعلمانية والمواطنة بنات من نفس الأسرة الإنسانية المعاصرة لا تتحقق إحداها إلا بوجود الأخرى ويمكن في هذا الإطار أن  نرجع إلى موقف المؤرخ اللبناني الكبير وجيه كوثراني  في كتابه " تأريخ التاريخ" حيث انتقد نقد الجابري للعلمانية واعتبر ذلك رضوخا للسياسي الإيديولوجي  وتجاهلا للمعطى  الإبستيمولوجي العلمي  ومهادنة سياسية للحركات الإسلامية أكثر منه موقفا علميا رصينا. التيار العقلاني الذي ينتمي إليه المرحوم الطرابيشي  يسعى إلى إعطاء أولوية  لإعمال سلاح النقد  ورفض المعتاد والسائد أي معاداة الدوغمائية ، وادعاء امتلاك ناصية الحقيقة. لذلك يرى  بأن أي فكر نقديّ يجب  أن يخوض معاركه الفكرية  على جبهات متعددة ، ومن هذه الجبهات النقدية يدعونا الطرابيشي إلى الاعتراف بأن عالمنا المعاصر استفاق مفزعا ، على  نتائج صدمات ثلاث كبرى وأخرى خاصة بنا نحن الشعوب المتخلفة وهي تلخص ما سماه  جورج طرابيشي انتصار العقل الصانع على العقل الساحر وانتصار الدنيوي على الديني  أو بتعبير مارسيل غوشيه الخروج من الدين بدل الخروج على الدين :
    الصدمة الأولى: هي الصدمة  الكوسمولوجية ، أي أن الإنسان الغربيّ اكتشف مع غاليلي عدم مركزية الإنسان  والأرض  في الكون بل إن الأرض والإنسان جزء جدَ بسيط ومهم من مكونات الكون وهذا نقض للفكر الديني الذي تباهى بمركزية الإنسان.
    الصدمة الثانية:  بيولوجية ، أي أن الإنسان  الذي تتحدث الأديان المختلفة على أنه  صورة مصغرة لله أو الإله في الأرض  لم يعد ممكنا  بعد نظرية  داروين( 1882-1809)  إلا أن نقول بأنه من أصل حيواني  وينحدر  من  القردة وهذه خيبة كبرى بالنسبة لمقدسي الجنس البشري.(3)
    الصدمة الثالثة:  سيكولوجية  أي عندما كتشف فرويد أن وعي الإنسان ليس هو المتحكم الأصلي في انفعالات  وقرارات الإنسان ومصيره؛ بل اللاوعي أي الشعور المضمر الخفي؛ أي العقل الباطن  هو الذي يفسر قراراتنا وأحلامنا ، فبدأت قسمة العقل إلى عقل ظاهر يسكنه الوعي والإدراك وعقل باطن لاشعوري يسيّر الإنسان بالإكراه.
    الصدمة الرابعة: وهي صدمة الحداثة أي عندما اكتشف إنسان عالمنا الثالث الفجوة المعرفية والعلمية والفكرية التي تقع بيننا وبين الغربيين، خاصة عندما زار عدد من المفكرين النهضوين أوروبا واطلعوا على حضارتها وقارنوها بما لدينا من انحطاط وتخلف ونكوص حضاري.
    ليس من السهل الإحاطة  بكتابات جورج طرابيشي  في مختلف المجالات  التي انخرط فيها  مفكرا وناقدا ومترجما ، والتي تتجاوز 200 كتابا  و 300 مقالا  ساعيا لرسم خط فكريّ واضح ومتماسك. لذلك أعتبر شخصيا أن كتاباته الأخيرة  "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث" و كتاب "العقل المستقيل في الإسلام"، وكتاب "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام"، من الكتابات الثورية في الفكر الإسلامي من حيث وضوحها في الانتصار للمقاربة المنهجية العلمية  في التعامل مع التراث وكذا لأن هذه الكتابات تحمل رسائل وخلاصات أساسية في نقض استغلال الدين سياسيا من قبل السلطات السياسية الإسلامية باختلاف مذاهبها، كما أن هذه الكتابات  تحريض بالمعنى الإيجابي للكلمة على الثورة على القوالب الدينية الجامدة المنتظرة للمعجزات لتطوير وتثوير الواقع. المعجزة  هي عنوان سبات العقل وتكلّسه وتحجره. فلا معجزة سوى العلم والتقنية والحداثة الفكرية والسياسية، ففي خاتمة كتابه "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام"، يقول المفكر الطرابيشي (4): "لعلنا لا نغالي  إذا قلنا إن اتخاذ موقف عقلانيّ  ونقديّ جذريّ من أدبيات المعجزة ومنطق المعجزة  يكاد يعادل  انقلابا كوبرنيكيا. وبالفعل ، ساهمت هذه الأدبيات، بالمنطق المباطن لها ، في إذاعة  الوهم في الثقافة  العربية الإسلامية  الموروثة  بإمكانية سيطرة  سحرية على الطبيعة والكون والتحكم  بقواهما  من دون الحاجة إلى معرفة قوانينهما ، بله بتحدي  هذه القوانين والقفز فوقها."
    المفكر الطرابيشي، شأنه شأن  أي إنسان  آخر ابن زمانه،  لكن الذي يجعل كتاباته مميزة وراهنية هي مقاربته التفكيكية للقوالب الجاهزة وسؤاله الصّادم الموقظ من سبات الركون إلى الإجابات الجاهزة والقوالب المتجمدة . للمفكر طرابيشي حدس فلسفيّ بلغة هنري برغسون من حيث عشقه للسؤال ورفضه للأجوبة المألوفة المكررة. 
      يا ليت  لنا  بعضا من  أمثال الطرابيشي  يملؤون الأرض فكرا وعقلا بعد أن ملئت جورا وجهلا.

     المراجع :
    1-جورج طرابيشي : مقال منشور تحت عنوان  قصة الإنسان  في مجلة الأبواب البيروتية التي تصدر عن دار الساقي عدد 27  ص 104.
    2-ربما يعتبر المفكر الفرنسي  ميشيل فوكو من أكبر رواد حفريات المعرفة  وتأثر به الجابري 
    طرابيشي وآخرون خصوصا كتابه الهامّ حفريات المعرفة الذي ترجمه إلى العربية المفكر 
    المغربي  سالم يفوت.
    3-أورد الكاتب  ANDRE LANGANEY  في كتابه la plus belle hidtoire de l’homme  ,editions  du seuil , paris 2000  ونقل عنه الطرابيشي   في المقال المذكور أعلاه  ما يلي ص 106 : - ولئن كان قد بات معروفا  منذ أيام  داروين (1882-1809) أن الإنسان  ينحدر من القرد ، فإن أحد الكشوفات الكبرى للبيولوجيا النووية في العقود الثلاثة الأخيرة  من القرن العشرين  قد أثبتت أن القرد الذي ينحدر منه الإنسان  هو حصرا الشانبنزي  الذي يشارك الإنسان  في أكثر من 80 في المئة  من جيناته الوراثية..."
    4-جورج طرابيشي : المعجزة أو سبات العقل  في الإسلام دار الساقي  الطبعة الثانية  ص 181.

    سمير أمين :
     المفكر الاقتصادي الماركسي الذي ناهض التبعية وناضل ضد العولمة الرأسمالية

    برحيل المفكر الماركسي الكبير  سمير أمين تفقد شعوب الجنوب الثالثية مناصرا كبيرا لقضاياها في العالم ، مفكرا حلم بعالم متعدد الأقطاب  يقضي على الهيمنة الرأسمالية المتوحشة التي تتغيى استعباد الشعوب 
    و الإمعان في إذلالها ونهب ثرواتها . وفاة سمير أمين خسارة لكل القوى اليسارية التقدمية الدولية التي تكدّ و تناضل من أجل عالم المساواة والحقوق الكونية بدون تمييز، و الطامحة في الانفكاك من أسر الديون والتبعية الاقتصادية والسياسية التي أفقرت الشعوب وجعلتها لقمة سائغة في فم المؤسسات الدولية التي فرضت وصاية اقتصادية وسياسية، وسياسات تقشفية ظالمة على البلدان الثالثية تحت مبررات الإصلاح الاقتصادي و السياسي، فيما سمي بالتقويمات الهيكلية  وهي في الحقيقة سياسات تقشفية أضرت أيما إضرار بالشعوب الفقيرة المضطهدة بلغة فرانز فانون ، يكفي أن نحصي عدد البلدان التي كانت ضحية المؤسسات المالية الدولية لنرى حجم الضرر الكبير الذي ألحقه الرأسمال الدولي بحقوق الشعوب، وكرست المؤسسات الدولية والحكومات الرأسمالية الراعية لها  تطورا لا متكافئا بين الشمال والجنوب، وتنمية بسرعتين و عالما غنيا يستحوذ على خيرات العالم ويوزع الدمار والحروب  في كل أرجاء العالم  وشعوب فقيرة محتاجة معوزة في الجنوب تعيش في واقع الدمار والحروب الأهلية والفتن المصطنعة أغلبها خارجية، لجعلها تابعة وأسيرة للرعاة  الغربيين في المراكز العالمية الكبرى.
     سمير أمين نموذج للمفكرين الماركسيين الذين تشبثوا بأمل قيام مجتمع إنساني أفضل بدون أن يتأثر بدعوات نهاية التاريخ والإنسان الأخير التي راجت منذ بداية عصر الانهيارات الإيديولوجية الكبرى، فصمد أمام بريق الرأسمالية ووعودها البراقة الخادعة؛ بل وقاوم بتحليلاته ودراساته وممارسته النضالية الإنجازات التنموية المفترضة والموهومة  للرأسمالية المتوحشة .
    نبذه عن حياة الدكتور سمير أمين وبعض كتاباته :
    ولد الدكتور سمير أمين  في 3 شتنبر 1931 من أب مصري وأم فرنسية امتهنا كلاهما الطب، قضى فترة طفولته في بور سعيد المصرية حيث كان تلميذا بالمدرسة الفرنسية  وحصل على البكالوريا سنة 1947، والتحق بباريس في نفس السنة إلى غاية سنة 1957 حيث حصل على دبلوم  في العلوم السياسية سنة 1952، و دبلومه  في الإحصاء سنة 1956 ، ودكتوراه في الاقتصاد السياسي  سنة 1957، من السوربون، وكان موضوعها حول التراكم الرأسمالي والتطور اللامتكافئ على الصعيد الدولي . كان الدكتور سمير أمين من مؤسسي الحزب الشيوعي المصري "راية الشعب"  في بداية الخمسينات كما التحق بالحزب الشيوعي الفرنسي وكان يناضل ضمن الحلقات الماوية حيث انحاز لأفكار ماو تسي تونغ وابتعد عن الأفكار الستالينية التي كانت مسيطرة آنذاك على الأحزاب الشيوعية في العالم . بعد تخرجه من فرنسا سنة 1957 التحق الدكتور سمير أمين ببلده مصر للعمل مساعدا لمدير للمؤسسة الوطنية من سنة 1957 إلى سنة 1960، إلى جانب المفكر المصري والاقتصادي الماركسي الكبير إسماعيل صبري عبد الله  الذي عين أول مدير للمؤسسة الوطنية المصرية لإدارة القطاع العام المصري وكانت هذه المرحلة دقيقة قي التاريخ السياسي المصري، مع نجاح ثورة الضباط الأحرار على يد محمد نجيب ومن بعده جمال عبد الناصر، وبدء عملية التأميمات للمؤسسات المصرية الإنتاجية ومحاولة تأميم قناة السويس سنة 1956، بعد مؤتمر باندونغ لشهر أبريل من سنة 1955، والذي عرف بمؤتمر دول عدم الانحياز  والعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956. كل هذه الأحداث السياسية المتلاحقة والهامة في التاريخ السياسي المصري والعالمي أثرت تأثيرا كبيرا في شخصية ونضال الدكتور سمير أمين الذي ساند بآرائه وتحليلاته الساحة الفكرية والنضالية  من أجل تنمية متمركزة على الذات لاقتصاديات الدول النامية الثالثية، ساهم الدكتور سمير أمين في مسيرته النضالية الفكرية والميدانية في تأسيس عدد من المراكز العالمية المهتمة بمناهضة العولمة وبالتنمية الاقتصادية لدول العالم كمنتدى دكار، الذي يضم شبكة من الهيئات الدولية والمفكرين التقدميين المعادين للعولمة الرأسمالية ومن أنصار الإصلاح الاجتماعي  والمجلس الإفريقي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية لدول العالم الثالث، وكان سمير أمين من أوائل المنظرين الماركسيين الذين تنبؤوا بانهيار الاتحاد السوفياتي بل انتقده انتقادا شديدا في وقت كان فيه انتقاد الاتحاد السوفياتي واشتراكية الدولة فيه طابوها لدى المفكرين الماركسيين .
    بعض مواقف الدكتور سمير أمين من القضايا الاقتصادية والسياسية في العالم ( اكتفي بذكر موقفه من الإسلام السياسي و العولمة الرأسمالية والدين).
    عن الإسلام السياسي يقول سمير أمين ما يلي : " ليست تلك الحركات الاجتماعية المتباينة من جوانب عديدة- ولكن تشترك في زعمها أن 'الإسلام هو الحل – هي حركات دينية بالمعنى الصحيح للكلمة. وبالتالي فإن نعتها الشائع ب "الأصولية" على سبيل المثال هو تسمية خادعة، ولو أنها تبدو صحيحة من أول وهلة من حيث الوصف"  ، ويضيف الدكتور سمير أمين موضحا رأيه في الحركات الإسلامية : " ففي واقع الأمر لا تهتم الحركات بالعقيدة الدينية بالدرجة التي ينتظر من علماء  الدين أن يهتموا بها. فلا تقدم جديدا في هذا المجال، بل تكتفي بالمفاهيم والممارسات والطقوس السائدة  بشكل خاص في المجتمعات الإسلامية كما هي ؛ علما بأنها تطلب من الشعوب المعنية أن تحترم هذه الممارسات  والطقوس احتراما حرفيا. فليس لتلك الحركات إذن طابعا مشابها لما هو عليه  في لاهوت التحرير عند بعض المسيحيين في أمريكا اللاتينية خاصة.. ، فالحركات الإسلامية هي حركات سياسية ولا غير، وبالتالي فإن تسميتها الصحيحة هي "حركات الإسلام السياسي".. من يمتنع عن تحليل استراتيجيات الاستعمار المهيمن بصفته نقطة الانطلاق  الضرورية لتقويم دور مختلف التيارات السياسية العاملة في الساحة ، من يرى أن هذا النقاش خارج عن الموضوع  لا يمكن أن يقدم تحليلا صحيحا وتقويما مفيدا لمختلف الحلول المطروحة." 
    يقول الدكتور سمير أمين عن الرأسمالية والعولمة الاقتصادية ما يلي : "القوى المسيطرة هي  قوى مسيطرة لأنها تنجح في فرض لغتها على ضحاياها. وهكذا استطاع "خبراء" الاقتصاد التقليدي  أن يشيعوا الاعتقاد بأن تحليلاتهم وخلاصاتهم  تفرض نفسها لأنها "علمية" ،وبالتالي موضوعية ، ومحايدة ولا غنى عنها. هذا ليس صحيحا فالاقتصاد "الصرف" الذي يزعمونه ويبنون عليه تحليلاتهم لا يتعامل مع الواقع ، بل مع نظام متخيل يقع على الطرف النقيض من الواقع. هذا الاقتصاد الوهمي  يخلط المفاهيم ويمزج  التقدم  بالتوسع الرأسمالي، والسوق الرأسمالية. ولكي تطور الحركات الاجتماعية استراتيجيات  فعالة ، عليها أن تتحرر  من هذا التشويش". مشروع الجواب الإنساني على تحدي التوسع الرأسمالي المعولم  ليس "طوباويا" على الإطلاق، هو وحده المشروع الواقعي الممكن، بمعنى أن انطلاق تحول في هذه الوجهة سيلف حوله  سريعا، قوى اجتماعية واسعة ، وقادرة على فرض منطقه. وإذا كان  هناك "طوبى" بالمعنى السلبي والمبتذل، فهي مشروع إدارة النظام كله من خلال اختزال الإدارة  إلى تضبيط  بواسطة السوق... ليست الرأسمالية نهاية التاريخ ، ولا الأفق الذي لا يمكن تجاوزه في الرؤيا إلى المستقبل. إنها بالأحرى ، فاصلة تاريخية بدأت سنة 1500 تقريبا  وبات من المُلحّ اليوم وضع نهاية لها ... في برنامج الرأسمالية تمثل عملية التسليع المتنامية للكائن الإنساني وقدراته الإبداعية والفنية والصحة  والتربية وموارد الطبيعة والثقافة والسياسة كل شيء، وهذا يُنتج  تدميرا مثلثا ، للفرد  والطبيعة  والشعوب. والميادين التي تكشف اتساع هذا التهديد بالدمار مترابطة، يلحمها منطق التراكم ذاتُه... تسليع الصحة وتخصيصها: دعوة واضحة لتنظيم "سوق للأعضاء البشرية" بات يقتل أطفالا برازيليين  من أجل تزويدها  بالقطع اللازمة.. ، تسليع التربية وتخصيصها : طريق ملكي  لتعميق اللامساواة الاجتماعية، وتحضير مجتمع عنصري للمستقبل..، تسليع  صناديق التقاعد وتخصيصها : وسيلة لتغذية صراع الأجيال بصورة عبثية بالتأكيد..، تسليع البحث العلمي : وهو بالمناسبة تخصيص زائف إذا ما أخذنا بعين الاعتبار دعم الإنفاق العسكري في الولايات المتحدة مثلا ، حيث تستحوذ على أرباح  الشركات الكبرى  المستفيدة من هذه "الأسواق العامة"... إن كتاب الرأسمالية القائمة فعليا كتاب أسود  فعلا 
    يقول الدكتور سمير أمين عن الدين والعلمانية تحديدا ما يلي :"ومن المؤسف  أن الكثيرين لا يدركون تماما ماهية  العلمانية هذه ومدى  أهميتها من أجل بناء مجتمع ديموقراطيّ على مستوى تحديات العصر. ولعل السّبب في  رفضهم العلمانية هو أنهم يخشون أن تكون العلمانية مرادفا لمعاداة الدين. أزعم أن هذا الخلط لا أساس له. وبالتالي فإن العلمانية من شأنها أن تحرر الدين من استغلال السلطة له. وبالتالي فالعلمانية من شأنها أن  تقوي بعد  القناعة الفردية الحرة  من العقيدة، وذلك من خلال فك الربط بين الدين والسلطة، وهو ربط يكبل العقيدة بأوضاع الدين كظاهرة اجتماعية ذات طابع  تاريخي، وفي هذا الإطار يبدو لي أن  العلمانية ليست سمة خاصة بالمجتمعات  المسيحية  كما يرى السلفيون ، فالمجتمع المسيحي الأوروبي للقرون الوسطى لم يعرف مفهوم العلمانية، بل كان يقوم على مبدإ وحدة الدين والدنيا على غرار ما هو عليه في المجتمعات الإسلامية الآن. إن هذه الوحدة  تعطي  للدين طابعا اجتماعيا غالبا على حساب الاقتناع الحر بالعقيدة، وهو سمة مشتركة لجميع المجتمعات السابقة على الرأسمالية." 
    في سبيل الختم:
    ليس من الصدفة أن يكون من آخر كتابات الراحل سمير أمين كتابه إلهام الشامل حول الرأسمالية الذي عنونه "بالفيروس الليبرالي" ، حيث اعتبر الليبرالية مرضا مزمنا ينتقل بسرعة ويقضي على آمال الشعوب ويقوّض نضالاتها من أجل التحرر والانعتاق من أسر التنمية الموهومة والمزمعة التي تتنبأ بها الرأسمالية المعولمة، أفنى الدكتور سمير أمين حياته مناضلا من أجل  تطور متكافئ على صعيد عالمي بين  جميع الشعوب  ومناضلا  ضد ديون أنهكت اقتصاديات الدول النامية،  وناضل أكثر من أجل تنمية متمركزة على الذات تقضي على التبعية الاقتصادية والسياسية التي فرضتها الأنظمة الرأسمالية في المراكز، مستعينة بأنظمة طرفية مستبدة تستمد قوتها وشرعيتها من  الدعم والحماية من صنيعتها في دول المركز. لم يكن الدكتور سمير أمين أرثودكسيا؛ بل نادى  دائما في حياته من أجل تقويم الاشتراكية  من جميع جوانبها الفكرية والتطبيقية، ودعا في أكثر من مقال وكتاب وندوة إلى تنمية ديموقراطية شعبية إنسانية، تحاول فك الارتباط تدريجيا مع الرأسمالية المعولمية، و تنتج طريقا ثالثا  يقطع مع أوهام من قبيل أن مجتمع السوق والاستهلاك أفضل الممكن، وأنه يفرض الديموقراطية وحقوق الإنسان، فيما الواقع يقول يوما بعد يوم بأن الديموقراطيات الغربية قد نقول تجاوزا بأنها حققت ديموقراطية سياسية لكنها في الجانب الاقتصادي والاجتماعي في أزمة حقيقية،  لذلك نختم بقولة سمير أمين في كتابه "بعض قضايا المستقبل :"  خلاصة القول أن الرأسمالية لا توفر الشروط الضرورية من أجل تقدم ديموقراطي صحيح  ذي مضمون اجتماعي متحرر  حتى في المراكز المتقدمة،  فكيف في الأطراف، حيث لا  توفر الرأسمالية حتى أدنى الشروط اللازمة من أجل تحقيق ممارسات ديموقراطية على غرار ما هو عليه الأمر في المراكز."
     

    الدكتور صادق جلال العظم:
     الفيلسوف والمفكر السوري 
    الذي آمن بالعلمانية وتحرير العقل
     
    في 11 دجنبر 2016 غيّب الموت  ببرلين - وكم كان ظالما هذا الموت- مفكرا اسثنائيا نذر حياته  للدفاع عن الحداثة والعلمانية والعقلانية، مفكرا وناقدا لا يستكين للأفكار الجاهزة أو التحليلات السطحية التي تمجد بدون دليل، أو تذم بدون سبب كذلك، مفكرا حاور وناقش كبار المفكرين واختلف معهم مثل أدونيس و إدوارد سعيد حول مواضيع ثقافية وفكرية وسياسية، إنه المفكر السوري صادق جلال العظم الذي أفنى حياته في خدمة البحث الفلسفي التاريخي  دفاعا عن الحداثة والتاريخ ، وساهم في إغناء المكتبة التنويرية التقدمية بإسهامات فكرية هامة ماتزال تقرأ في شرق العالم وغربه،  ومن أهم كتاباته نجد كتابه  في نقد الفكر الديني الذي حاول من خلاله مناقشة بعض الأطروحات الدينية التي تعرقل حرية العقل وتكبله عن التفكير الحر وتوغل في تمجيد الأساطير المؤسسة للفكر الديني، وكان تناوله الفلسفي المنطقي لمأساة إبليس نموذجا فكريا لمجابهة جريئة وشجاعة لمجال محفظ من طرف عدد من التيارات الدينية والسياسية التي لها شعبية كبيرة، لأنها تيارات مخدرة للروح والعقل و لا تتطلب التعمق الفكري ولا التحدي المنطقي، نقد الفكر الديني، كتاب سجالي أثار فيه الدكتور صادق جلال العظم مجموعة من الإشكالات الفلسفية والتاريخية التي أثارت  حفيظة حراس المعبد وكهنة التقديس النصي  للنصوص الديني،  فحاكموه ومنعوا نشر الكتاب وتداوله لمدة معينة قبل أن ينقلب السحر على السحرة، حيث أدى منع الكتاب - وإن يكن في نظري ليس  أهم كتبه- إلى شهرته التي بلغت كلّ الآفاق والأصقاع.
    يعتبر كتاب  ذهنية التحريم من أكثر الكتب التي تميز فيها المفكر جلال العظم  من حيث المنهجية المتبعة في الحليل ومن حيث أنه كتاب حواري نقدي أعمل فيه المفكر  العظم عُدة فكريّة وتحليليّة أسعفته لمجابهة فكرية لإنتاج فكري لمفكرين كبار، أمثال إدوارد سعيد، واستطاع باستعمال تحليل ماركسي مبطن تفكيك بعض مقولات ومفاهيم واستنتاجات إدوارد سعيد المبثوثة في ثنايا كتابه الهامّ "الاستشراق" ، حيث أن المفكر جلال العظم استطاع أن ينقد نقدا علميا بعض طروحاته وتبيان بعض التناقضات التي يحتويها كتابه المرجعي "الاستشراق"، ومن بينها السقوط في استشراق معكوس يستنسخ خطأ جعل التراث والثقافة العربية الإسلامية جوهرا ثابتا متعاليا عن التراث الإنساني العالمي أي أنه يسقط في تحنيط الثقافة العربية الإسلامية كما يفعل الاستشراق بالنسبة للثقافات الأخرى. يقول الدكتور صادق جلال العظم  في نقده لإدوار سعيد :"  يبدو لي أن النتيجة المنطقية البعيدة لهذا الاتجاه في تفسير ظاهرة الاستشراق هي العودة بنا، من الباب الخلفي، إلى أسطورة الطبائع الثابتة (التي يريد إدوارد تدميرها) بخصائصها الجوهرية التي لا تحول ولا تزول، إلى ميتافيزيقيا الاستشراق (التي كتب إدوارد كتابه ليفضحها  ويُجهِز عليها) بمقولتيها المطلقتين : الشرق شرق والغرب غرب، ولكل منهما  طبيعته  الجوهرية المختلفة  وخصائصه المميزة. هنا لا تعود ظاهرة الاستشراق وليدة شروط تاريخية معينة أو استجابة  لمصالح  وحاجات حيوية  ناشئة وصاعدة ، بل تأخذ  شكل الإفراز الطبيعي  العتيق والمستمر الذي يولده "العقل الغربي" المفطر بطبيعته، كما يبدو، على إنتاج وإعادة إنتاج تصورات مشوهة عن واقع  الشعوب الأخرى ومحقرة لمجتمعاتها وثقافاتها ودياناتها  في سبيل ذاته  والإعلاء من شأن تفوقه وقوته وسطوته؛ أي وفقا لهذه الأطروحة يبدو العقل الأوروبي  الغربي من الشاعر  هوميروس إلى المستشرق هاملتون جيب مرورا بكارل ماركس وكأنه يتصف  بنزعة متأصلة،  لا يحيد عنها لتشويه الشرق وتزييف واقعه وتحقير وجوده ، كل ذلك في سبيل تمجيد ذاته والإعلاء من  شأنها وتأكيد تفوقها. يبدو لي أن هذا المنحى في تفسير أصول ظاهرة الاستشراق وتطورها، مع النتائج المترتبة عليه، يعمل على إحباط الأهداف  الأساسية التي  من أجلها وضع إدوار سعيد دراسته النقدية التي نحن بصددها ، وذلك لسببين  رئيسيين:
    أولا : لأنه يرجعنا بصورة ضمنية إلى نمط من التفكير والتعليل يقوم على التسليم الصامت بأسطورة الطبائع الثابتة والخصائص الدائمة وهي الأسطورة التي يفترض بأن إدوارد  قد أعلن الحرب الكلية عليها.
    ثانيا : لأنه يعطي ميتافيزيقيا  الاستشراق ، التي تحول التسميات الجغرافية النسبية إلى مقولات  ضرورية مطلقة  نوعا من المصداقية والجدارة يرتبط عادة بالاستمرارية الطويلة والتواصل التاريخي والجذور السحيقة.." 
    تبقى إسهامات  صادق جلال العظم ملهمة لكل باحث عن الفكر التنويري و لكل منافح عن النزعات العقلانية في تراثنا ، ولعل وقوف المفكر صادق جلال العظم إلى جانب صف الثورة السورية ودفاعه المستميت عن تحرر الشعب السوري من ربقة الاستبداد ونظام الظلم والطغيان  دليل على أن الرجل متشبع بالفكر التحرري الذي يقرن الفكر بالممارسة ، لذلك لم يتهاون  الدكتور العظم ولو لحظة في دعم الثورة السورية رغم كل ما شابها من تغلغل الإسلاميين في صفوفها وقال قولته الشهيرة أنا مع الثورة سواء تعلمنت أو تأسلمت ، كما أنه انتقد بشدة مواقف بعض المثقفين والمفكرين المتشككين والرافضين  للثورة السورية  كالمفكر أدونيس و غيرهم الذي اتهمه الراحل العظم بأن علويته  غلبت على تقدميته  كما غلبت شيعيته على مواقفه من ثورة الخميني.  
    كانت للراحل صادق جلال العظم مواقف مشرفة في إطار دفاعه عن حرية الرأي والتعبير إذ كان من الأوائل الذين دافعوا عن حق سلمان رشدي في التعبير عن رأيه ضد التهديدات، وسلسلة من المواقف التكفيرية الظلامية  التي تعرض لها عند كتابة كتابه "آيات شيطانية" ، وشارك في حملة للدفاع عن الكاتب البريطاني الجنسية الهندي الأصل وكان من الموقعين على بيان  ضد حكم الإعدام الذي أصدرته طهران ضد سلمان رشدي ومن فقرات البيان نذكر : "  تواصل قوى الظلام جهادها ضد  العقل والمدافعين عنه، فتحرق الكتب، وتعدم كل من كتب كتابا  لا يعجبها ، تبيح دم كل مثقف عرف المسؤولية تاركة الجهل يأخذ مداه الكامل، فلقد مرت أظافر القوى الظلامية على "الفتوحات المكية "لابن عربي ، و "ألف ليلة وليلة" وحكمت عليها بالإعدام ودفنت في طريقها حسين مروة ومهدي عامل  وحرقت المسارح في قرى مصر ، واعتبرت "أولاد حارتنا " لنجيب محفوظ زندقة، ونشرت كتابا عن الحداثة يبيح دم كل من يكتب بلغة حية، وأخيرا بلغ تيار الظلام ذروته حيث كرس جائزة لمن يقطع رقبة سلمان رشدي  الكاتب الهندي الأصل  والمقيم في لندن."
    كتابة هذا المقال المختصر البسيط عن الدكتور صادق جلال العظم  هو دعوة لإعادة قراءة تراث الرجل و الاحتفاء بمواقفه وطروحاته والتفاعل العلمي النقدي الإبستيمي معها، إذ أن أمثال الدكتور العظم قل أن يجود الزمان بأمثاله، ويجب حفظ ذكراه بإشاعة فكره ومنهجه النقدي الذي نحن في أحوج الحاجة إليه أمام تلعلع أصوات الرصاص المتدفق من أيادي الإرهاب السياسي والفكري من قبل جماعات متطرفة وأنظمة رجعية كذلك، وأمام انحسار الفكر الحر أمام زواج الرأسمالية العالمية مع الجهل المقدس في زواج كاثوليكي يحفظ فيه التدين المتطرف مصالح الرأسماليين.

    عبد الرحمن بدوي :
     عميد الفلاسفة المعاصرين 
     وموسوعي متبحر في العلم والترجمة

    في شهر فبراير من سنة 2002 فقدت الساحة الفلسفية العالمية، هرما من أهرامات الفلسفة المعاصرة ، فيلسوف استثنائي ليس فقط  من حيث عدد إنتاجاته العلمية وترجماته المتعددة التي تجاوزت  120 كتابا، ولكن كذلك لتجربته الفلسلفية الغنية التي دامت عقودا  من الزمن. لقد ولد عبد الرحمن بدوي سنة 1917، جاب من خلالها تدريسا وبحثا عددا كبيرا من جامعات العالم من مصر ولبنان وليبيا إلى طهران مرورا بسويسرا وألمانيا وباريس والولايات المتحدة الأمريكية والهند والكويت ..، والتقى برجالات الفكر العالمي بمختلف الأوطان، مستشرقين ومستغربين ، فاستحق بذلك أن نسميه عميد الفلاسفة المعاصرين. في سنة 2000 أصدرت المؤسسة العربية للدراسات والنشر كتابا من جزأين يحمل عنوان "سيرة حياتي" للدكتور عبد الرحمن بدوي، ويقع الكتاب في حوالي 800 صفحة متوسطة الحجم بدأه الكاتب  بالجملة التالية :"بالصدفة أتيت إلى هذا العالم، وبالصدفة سأغادر هذا العالم !". ولد الفيلسوف عبد الرحمان بدوي في قرية صغيرة في مصر تدعى  شرباص  مركز فارسكور مديرية الدقهلية (ثم محافظة دمياط ابتداء من سنة 1957) ، وتقع على النيل عند الكيلو 196 فهو إذن ينتمي لأسرة زراعية، وله ارتباط بالأرض وشؤون الزراعة منذ سنوات طفولته، لنرى ما يقوله الفيلسوف بدوي عن مولده :"( وكان مولدي في حوالي الساعة الثانية من صباح الرابع من فبراير سنة 1917. وكنت الثامن  من إخوتي وأخواتي لأمي، والخامس عشر بين أبناء والدي، وسيصبح  المجموع  واحدا وعشرين ولدا .أحد عشر من  البنين وعشرا من البنات. وكان ذلك تعويضا هائلا عما جرى لجدي ، فإنه لم ينجب غير ولد واحد  هو والدي.)" ص 15 اهتم عبد الرحمن بدوي منذ المرحلة الابتدائية بالتحصيل الدراسي والاهتمام المضني بالدراسة والتحصيل العلمي، يقول عبد الرحمن بدوي عن تعليمه الابتدائي ما يلي : " لقد كنا نحسن النحو  والصرف ونقرأ النصوص الأدبية – من شعر ونثر- في كتاب عنوانه : "مجموعة من النظم والنثر  للحفظ والتسميع" في السنتين الثانية والثالثة، ونقرأ ونحفظ نصوصا من كتاب: "أدبيات اللغة العربية " لحنفي ناصف وآخرين، وبذلك استطعنا حفظ وفهم روائعا من القصائد والخطب والرسائل التي تعد من غرر  الأدب العربي. لقد استظهرنا قصائد  للمتنبي وصفي الدين الحلي وأبي العتاهية وصالح بن عبد القدوس  وغيرهم، كما استظهرنا خطبا  رفيعة المستوى لعلي بن أبي طالب وزياد بن أبيه  والحجاج وواصل بن عطاء ، فضلا عن رسائل  لعبد الحميد  الكاتب ، والجاحظ. وإن أنس لا أنسى مجيء مدرس جديد في منتصف  العام حديث التخرج من دار العلوم، وإن أول درس شرحه لنا وألزمنا بحفظه هو وصف ابن المقفع لمن سماه "أخا" وبدأه بقوله : "كان لي أخ "... فأين هذه النصوص الرائعة الجزلة من النصوص الغثة التافهة التي يقرأها تلاميذ المدارس اليوم في مصر، ليس فقط في المدارس الابتدائية ، بل  في الإعدادية  ، بل في الثانوية ، بل وفي الجامعية؟ !.") ص . وحصل الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي  على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية من مدرسة فارسكور الابتدائية في مايو 1929 ( وكان ترتيبه 354  من مجموع الحاصلين على الشهادة الابتدائية في القطر المصري وكان عددهم حوالي  مائة الف. انتقل بعد ذلك إلى المدرسة السعيدية الثانوية  في الجيزة على الشاطئ  الأيسر من النيل أمام القاهرة، وكانت تلك الثانوية تعد في ذلك الوقت أرقى المدارس الثانوية في القاهرة، لذلك  يؤمها أبناء الطبقة الراقية والطبقة الحاكمة ويلجها بعض الفقراء ذي الميزات الممتازة وكان من بينهم المفكر بدوي الذي التحق بالقسم الداخلي للثانوية و بالصدفة التقى بمدرس جغرافيا كان قادما من إنجلترا يقيم هو كذلك بالقسم الداخلي وساعده ذلك على الاستفادة من مكتبته القيمة. يقول عبد الرحمن بدوي عن هذه المرحلة العمرية الهامة : " أقام في الداخلية مدرس جغرافيا كان قادما لتوه من بعثة بإنجلترا ، واسمه حسن جوهره. كان مدرسا جادا ، واسع الاطلاع، وقد صقلت ذهنه إقامته في إنجلترا، وكان يؤثر العلم والتحصيل، ولهذا  كان يؤثر الطلاب المجتهدين ويرعاهم رعاية خاصة. ولإيثاره للعلم والتحصيل أنشأ في قاعة صغيرة بالطابق الثاني من البلوك الذي يسكن فيه الطلاب  الداخليون مكتبة صغيرة، ولكنها ثمينة لأنها كانت تحتوي على عدد من أمهات  كتب الأدب العربي، وأخص بالذكر منها: كتاب نفح الطيب للمقري، وشرح سقط الزند لأبي العلاء المعري، والحماسة  لأبي تمام والمنتخبات الشعرية التي اختارها سامي البارودي. وقد أقبلت على  قراءة هذه الكتب – رغم صعوبة ألفاظها وعباراتها بالنسبة لي  في تلك السن المبكرة وأنا  في الثالثة عشرة من عمري ... وفي الوقت نفسه- وأنا في سن الربعة عشرة – بدأت أقرأ الشعر الإنجليزي في نصه الإنجليزي .وتصادف أن اشتريت من  مكتبة عتيقة صغيرة في شارع محمد علي  وكنت قد بدأت  في التردد على دار الكتب المصرية –ثلاثة كتب انجليزية .. ومن ملتون Milton  انتقلت إلى الرومنتيك الإنجليز  فبدأت بشلي Shelley  واستظهرت قصيدة : الريح الغربية ... لكن ليس معنى هذا أنني لم أطلع على  الأدب الفرنسي ، بل  بالعكس كنت قد قرأت  كتاب محمد حسين هيكل : جان جاك روسو : حياته من كتبه ، كما قرأت  ما ترجمه  حافظ إبراهيم  من قصة البؤساء  لفكتور هوجو ... أما الأدب الألماني  فكان أول اتصال عميق به في السنة التالية ، سنة 1932 وأنا في الخامسة عشرة من عمري .") ص 34-36 بعد إتمام الدراسة الثانوية  حصل بدوي على البكالوريا – شهادة الثانوية العامة الآن- قسم أدبي في يونيو 1934 وكان ترتيبه  الثاني على جميع طلاب القسم الأدبي بمصر . في مرحلة الدراسات الجامعية ذات التخصص الفلسفي  – وكان أبوه يفضل  أن يتخصص ابنه عبد الرحمن في الحقوق لأنه تخصص يخرج الوزراء والديبلوماسيين وعلية القوم لكن للقدر والصدفة دورها في الاختيار  -  تتلمذ عبد الرحمان بدوي على يد مفكرين مشهورين ومرموقين أمثال  لالاند ( لقد كان تتلمذي على لالاند نعمة لا أستطيع  أبدا نسيانها ، ولا وفاءها حقها من الشكر وعرفان الجميل) ص 64  و ألكساندر  كويريه Koyré وقال عن هذا الأخير :(كذلك كان  لكويريه عليّ فضل عظيم ، لأنه كان  يجمع بين النزعة الميتافيزيقية  والنزعة العلمية ، وكان يهتم بالتيارات الصوفية .. وثم ميزة  أخرى لكويريه  أفدتُ منها كثيرا وهي معرفته  الجيدة  باللغة  الألمانية وبالفلسفة الألمانية ) ص 64-65،  و مصطفى عبد الرازق الذي أثنى على خصاله الكثيرة حيث قال في حقه :"لقد كان النبل كله ، والمروءة كلها. كان  دائما هادئ  الطبع ، باسم الوجه ، لا يكاد يغضب، وإن غضب لم يعبر عن غضبه لا بحمرة وجهه وصمت كظيم: كان آية في الحلم والوقار.." ص 61  وطه حسين الملقب بعميد الأدب العربي و صاحب الكتابات الروائية والأدبية المميزة والمثيرة للنقاش والفضول العلمي، ككتابه المثير للجدل والذي أدى إلى طرده من الجامعة بعنوان  في الشعر الجاهلي، تم   تنقيحه وإخراجه بعنوان جديد، في الأدب الجاهلي  ورائعته "الأيام"  وغيرها من الإبداعات التي ماتزال تلهم الأدباء والمفكرين في عصرنا الراهن يقول عبد الرحمن بدوي عن طه حسين ما يلي: " (وإذا كنت قد حضرت  كل ما تيسر  لي حضوره من محاضرات  الدكتور طه حسين ، فإنما كان ذلك  لإعجابي المفرط  به وبصوته وهو يحاضر. وكنت قد سمعته  يحاضر محاضرة عامة لأول مرة في حياتي في  شتاء 1933-1934 لما ألقى محاضرة عامة  في جمعية الشبّان المسيحيين عن الشاعر الفرنسي العظيم  بول فاليري Paul Valery فأخذ بلبي وسحرني بجمال صوته وعذوبة نبراته وروعة أدائه اللفظي...) لكن الدكتور عبد الرحمن بدوي صب جام غضبه على الشيخ محمد عبده واصفا إياه بنعوت كثيرة واتهامات خطيرة تتراوح بين عمالته للإنجليز وللقنصل البريطاني تحديدا كرومر من جهة، و تواضع معرفته وعلمه من جهة أخرى رغم شهرة محمد عبده التي وصلت إلى أصقاع الأرض ، لنرى ماذا يقول فيلسوفنا عن محمد عبده  ص 51:" لكن هذا هو ما فعله  الشيخ محمد عبده ، مفتي الديار المصرية ، و "المصلح الديني" المزعوم!  فقد انعقدت بينه وبين لورد كرومر علاقة حميمة- إن صح أن توصف بالحميمة علاقة التابع بالمتبوع ، والذليل بالجبار، والمطيع الخاضع بالآمر المستكبر. بل كان محمد عبده هو نفسه  يتفاخر ويتباهى  بهذه العلاقة  الوثيقة بينهما، وبينه وبين سلطة الاحتلال... وقد استغل كرومر علاقته  هذه بمحمد عبده  فجعله يكتب مقالات ضد محمد علي، رأس الأسرة العلوية، بمناسبة مرور  مائة عام على توليه حكم مصر ، وذلك في سنة 1905 ..، أي إصلاح ديني قام به ؟ لم يستطيعوا أن يذكروا إلا تفاهات شكلية ، مثل  تحليل لبس القبعة – وكأن هذا  أمر خطير  جدا به يكون المرء "مصلحا دينيا" كبيرا !"  حصل عبد الرحمن بدوي في ماي 1938 على  الليسانس  الممتازة في الآداب من قسم الفلسفة بكلية الآداب بالجامعة المصرية (جامعة القاهرة الآن)، وكان ترتيبه الأول ليس فقط على قسم الفلسفة ، بل على كل أوائل الأقسام الأخرى في الكلية وعين معيدا بالجامعة بتشجيع من الشيخ مصطفى عبد الرازق والعميد طه حسين. سياسيا انتمى المفكر بدوي في بداياته السياسية  إلى  حركة مصر الفتاة ثم إلى الحزب الوطني ردحا من الزمن واشتغل معهم فكريا في إعداد مقالات وأرضيات فكرية في مواجهة خصومهم في الداخل والخارج، وكتب مقالا هجائيا ضد عباس محمود العقاد  بعنوان : "العقاد جهول يريد أن يعلم الناس ما لا يعلم" بل مارس بدوي ورفاقه العنف المادي على العقاد لثنيه عن مواجهة  حركة مصر الفتاة، لكن بطش السلطات السياسية ضد الحركة والملاحقات البوليسية دفعت عبد الرحمن بدوي إلى الابتعاد عن السياسة نهائيا والتفرغ للبحث العلمي وكان أول إنتاج فكري  للدكتور بدوي هو  كتاب "نيتشه" الذي ظهر سنة 1939  وكان هدفه من الإصدار  هو تقديم خلاصة الفكر الأوروبي  إلى القارئ العربي  وأحداث ثورة روحية في الفكر العربي على حد قوله في سيرته ، وقد طبع الكتاب الأول خمس مرات، ولقي نجاحا كبيرا في مصر وخارجها، ثم تلا الكتاب  الأول ، كتاب ثاني  عنونه الكاتب ب "التراث  اليوناني في  الحضارة الإسلامية" ويحتوي على  جملة من الدراسات المتعلقة بهذا الموضوع  والتي كتبها عن  كبار المستشرقين ، وناقش بدوي رسالة الماجستير سنة 1941 وكان من أعضاء المناقشة كل من  الشيخ مصطفى  عبد الرازق وطه حسين وإبرهيم مدكور كما ناقش أطروحته للدكتوراه سنة 1944  بحضور نفس اللجنة وزيادة باول كراوس وكان عنوان موضوع الدكتوراه هو  الزمان الوجودي  والتي نشرت فيما بعد في كتاب تحت عنوان خلاصة مذهبنا الوجودي.  ثم بدأ بدوي مشوار التدريس بجامعة القاهرة  في العام 1939-1940 ثم انتقل بعد ذلك إلى  لبنان ما بين 1947 -1948 ، ثم انتقل إلى جامعة  عين شمس  ثم انتقل مستشارا ثقافيا ورئيسا للبعثة العلمية المصرية بسويسرا سنة 1956  وخلال هذه المراحل عايش  بدوي الأحداث السياسية التي تموج بها مصر والمنطقة من الانقلاب العسكري الذي قاده الضباط الأحرار  سنة 1952،  حيث مشاركة عبد الرحمن بدوي في أشغال لجنة إعداد دستور جديد سنة 1953 ضمن 50 عضوا تم اختيارهم من الخبراء والسياسيين. وكذا أحداث العدوان الثلاثي على  مصر وعدم اكتراث السفراء المصريين بالأحداث السياسية وانغماسهم في اللهو والملذات .. كما عرفت هذه المرحلة الوحدة التعسفية بين مصر وسوريا وسرعة انفكاكها لأنها بنيت على الأوهام لا على الحقائق والمشاريع الملموسة. 
    السيرة الذاتية لعبد الرحمان بدوي طويلة ومتشعبة وغنية بأحداثها ومواقفها ولكي لا نظلم الرجل حقه ، أقول بكل مسؤولية  أن هذه القراءة لسيرته الذاتية لا تدعي الإحاطة بجميع مراحل حياته ومواقفه وسفرياته ومحاضراته المتعددة، ولكن سأحاول فقط أن أبين بعض المواقف والأفكار وأهم الشخصيات التي عاشرها الرجل وذكرها سلبا وإيجابا ويبقى الحكم بطبيعة الحال للقارئ النبيه.
    موقف عبد الرحمن بدوي من النازية ومن المحرقة اليهودية :
    (أما حملات النازية على  اليهود  فكانت جزءا من حملات النازية على من كانوا خصوم النازية في الفترة  السابقة  على توليها الحكم في 30 يناير 1933 .فكانت إذن عملا سياسيا محضا لا تفرق فيه بين يهودي وغير يهودي ... إن النازية إنما كانت تجسيدا  لشكوى الشعب الألماني  من تغلغل نفوذ اليهود  في ألمانيا  بعد الحرب  العالمية الأولى : في السياسة والاقتصاد والفنون، وغيرها من مرافق الحياة، واستغلال اليهود للمصاعب الهائلة التي حلت بألمانيا غداة هزيمتها، وسيطرتهم على مقاليد الحكم ومفاتيح الاقتصاد ووسائل الدعاية والإعلام..، فبأي حق ، وفي أي شرع يجوز  أن يتحكم نصف مليون يهودي  في أكثر من ستين  مليونا من الألمان ؟ !) ص 88
    1-موقف عبد الرحمان بدوي من انقلاب عبد الناصر سنة 1952:
    (وقد جاء عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة في دستورهم الاستبدادي الزائف الذي أصدروه في يناير 1956 فصادروا كل هذه الحقوق والحريات مصادرة تامة، وأحلوا مكانها القيود التي نسفت حقوق المصريين وحرياتهم.. باسم مصلحة الشعب جر البلاد إلى حربين مدمرتين  (حملة السويس سنة 1956 وحرب الأيام الستة في يونيو 1967 ) بسبب حماقته  وخرقة تصرفاته واندفاعه الأهوج دون تبصر فقتل الآلاف من الجنود ومن المدنيين ودمرت مرافق عديدة وبددت على  الأسلحة أموال لا تحصى، – فهل  قتل آلاف المصريين في هاتين الحربين  كان ل"مصلحة الشعب" وهل ضياع  كل هذه المرافق والعتاد  والأموال  قدم  "مصلحة الشعب" ) ص 338-351.

    2-موقف عبد الرحمان بدوي من بعض الشخصيات الفكرية المصرية:
     كمحمود امين العالم وغالي شكري وتوفيق الحكيم و زكي نجيب محمود وصدقي الدجاني  وميشيل فوكو وسارتر وآخرين   صادمة وقاسية جدا بالنظر إلى إسهاماتهم الفكرية والأدبية المؤسسة للوعي الفكري لأجيال بأكملها ولكن يبقى ذلك موقفه الخاص به والذي يستدعي المزيد من التدقيق والتمحيص للخروج بالحقائق الضرورية لتنوير الوعي الجماهيري .
    تتطرق  سيرة عبد الرحمان بدوي إلى أحداث سياسية جسام حملت تغيرات في المشهد السياسي والفكري في عالمنا المعاصر  كحركة الطلاب بباريس 1968 والثورة الخمينية   بإيران سنة 1979،
     و بزوغ تيارات فكرية يسارية ويمينية متطرفة ، كما تتناول سيرة بدوي تحقيبا ثقافيا مهما وغنيا حيث إنه يخصص لكل بلد زاره حيزا تاريخيا مهما، يتطرق إلى تاريخه و ومفكريه وفعالياته الثقافية ومآثره العمرانية والتراثية، لذلك تبقى سيرة حياة الفيلسوف عبد الرحمن بدوي منهاجا ضروريا لكل من أراد الاطلاع على تاريخ  الأفكار الفلسفية بأوروبا والعالم. 
    قدم عبد الرحمان بدوي إسهاما حقيقيا للمكتبة الفلسفية والأدبية العربية لذلك استحق أن نسميه بعميد الفلاسفة المعاصرين، وموسوعة حقيقية في التحقيب التاريخي والعمراني للأفكار الثقافية والاتجاهات السياسية السائدة في أوروبا والعالم اجمع. 

    العالم  والمؤرخ الجزائري محمد أركون :
     مؤسس علم الإسلاميات التطبيقية
     ومقتحم قارة اللامفكر فيه
      

    محاولة الكتابة عن عالم كبير من طينة ووزن الدكتور محمد أركون، تجربة مهمة وضرورية  لكنها شاقة، لأن فكره يتميز بالغزارة والموسوعية والدقة الكبيرة مما يصعب  على غير المتخصصين مثلي  الادعاء بالإحاطة الشاملة بفكره و مخرجاته النظرية والفكرية. لكن قررت المغامرة وركبت موج التحدي لأكتب أسطرا قليلة لا توفي الرجل ما يستحقه من دراسات ومناقشات، ولكن على الأقل للمجتهد المخطئ  أجر الاجتهاد.  لمحمد أركون إسهامات هامة  تأسيسية فيما يتعلق بفهم المنظومة الإسلامية بجميع مكوناتها، بل إنه من الداعيين الرئيسيين لإعمال منتجات الفكر العلمي النقدي لتفكيك وإعادة بناء تصوراتنا وتمثلاتنا عن الفكر واللاهوت الإسلاميين خصوصا وأن المنهجية الكلاسيكية التي تتكئ على الفكر الدوغمائي انتشرت واستولت على أفهام الناس وحصرت تفكيرهم في مسلمات يقينية إيمانية  يصعب التشكيك فيها بالنسبة للمؤمنين بها ، لذلك تصدى محمد أركون بشجاعة وبفكر تنويري تحرّري في كتاباته العديدة المنتقدة  للعقل الدوغمائي  المسيج لأية أفكار تحررية، لذلك قال محمد أركون في بداية كتابه  قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ما يلي  :"إن الصعوبة الكبرى التي تواجهنا  هنا تكمن في كيفية تحرير العقل النقدي من القيود الإبستمية و الإبستمولوجية التي فرضها العقل  الدوغمائي على جميع  الممارسات الفكرية والثقافية التي قام بها  الفكر البشري منذ انتقاله  من المرحلة "البدائية" أو "الوحشية" (بحسب مصطلح كلود ليفي  ستروس) إلى مرحلة الزراعة المدنية... الواقع أن العقل الدوغمائي أغلق  ما كان مفتوحا ومنفتحا. وحول ما كان يمكن التفكير فيه  بل ويجب التفكير فيه  إلى ما  لا يمكن التفكير فيه. ونتج عن ذلك تغلب ما لم يفكر فيه أثناء قرون طويلة على ما يجب التفكير والإبداع فيه ".
     استطاع محمد أركون بمنهجه النقدي أن يعيد صياغة تساؤلات ممنهجة عن مسلمات طالما اعتبرها العقل المستكين إلى المسلمات يقينا، لذلك استعان محمد أركون بعُدة علمية تضم علم الفيلولوجيا وعلم الأنثربولوجيا  والسوسولوجيا وبالعلوم الإنسانية الأخرى في تحليل الخطاب والنص الدينيين، وفي تحليل الظاهرة الدينية وتبنى في مقاربته التحليلية ما أسماه بالتمرد العقلي ضد الممارسات الاعتباطية للعقل والإعراض عن  قوانين البحث  العلمي.  "لقد سبقنا  أبو حيان التوحيدي إلى مثل هذه الإشارات والتنبيهات، وأظهر دور التمرد العقلي ضد الممارسات الاعتباطية للعقل، والإعراض عن قوانين البحث العلمي المعتمد على المناظرة المتقيدة بشروط علمية وأخلاقية واجتماعية مضبوطة. رحم الله أبا حيان الذي علمني  القيمة الفكرية للتمرد  العقلي إذا  ما ضاق  المجال أمام الممارسة  الهادئة و[المنهاجية] للعقل."
     بذل الدكتور محمد أركون جهودا مضنية من أجل إنجاز نقلة نوعية في الفهم العلمي للدين الإسلامي حيث ناضل ضد الأطروحات الجاهزة والتصنيفات الكلاسيكية المكررة والمفاهيم السطحية الشائعة  
    و طالب بقراءة علمية للنص الديني وفي صلبه القرآن الكريم،  لذلك دعا في عدد من كتاباته إلى عدم ادعاء احتكار فهم النص القرآني وادعاء استنفاد كل معانيه وفهمه فهما مطلقا متعاليا عابرا لكل الأزمان والحقب ، يقول محمد أركون  :" لقد  آن الأوان لكي "يقرأ" المسلمون القرآن، لكي يفهموه على حقيقته، لكيلا يقوِّلوه ما لا يريد قوله، آن الأوان لأن يكفوا عن إسقاط هلوساتهم  السياسية عليه، لأن يعترفوا به ككتاب  ديني أولا وقبل كل شيء. آن الأوان لأن يروه  في نسيجه اللغوي الحقيقي  القائم على الرموز الرائعة والمجازات المتفجرة التي تسحر الألباب."... وبالتالي فالخطاب المجازي أو الرمزي لا يمكن  اختزاله إلى معنى أحادي الجانب، لا يمكن سجنه في قوالب جامدة كما فعل الفقهاء والمتكلمون والمفسرون الكلاسيكيون فيما بعد وذلك لتلبية حاجات المجتمع المفهومة في وقتها."  ولكنهم إذا أخذوا المعنى المجازي  على أساس  أنه حرفي اعتقدوا أنهم استنفدوا المعنى وهم لم يستنفدوه وإنما قيدوه."
    هنا يطرح سؤال محوري وجيه ، هل اكتفى الدكتور محمد أركون  بنقد الموروث الديني أم أنه  اقترح بدائل عملية للخروج من حالة الانحباس النظري والتفسخ السياسي الذي بني عليه هذا الانحباس ؟.
     الحقيقة أن المرحوم  محمد أركون قام بمجهود نظري و إسهام واضح في تقديم  أجوبة عن كيفية الخروج من المأزق الذي أوقعنا فيه العقل السكولاستيكي التقليدي ، حين اعتبر أركون أن  المهمة العاجلة أمامنا هي:"  إعادة قراءة كل التراث الإسلامي على ضوء أحدث المناهج اللغوية، والتاريخية، والسوسيولوجية، والأنثربولوجية (أي المقارنة  مع بقية التراثات الدينية، وبخاصة ما حصل في الغرب المسيحي). ثم القيام بعدئذ بتقييم فلسفي  شامل  لهذا التراث لطرح ما أصبح ميتا فيه ومعرقلا لحركة التطور، والإبقاء  على العناصر الصالحة من أجل استخدامها  في البنيان الجديد."
    لا يمكن فهم واستيعاب الفكر التنويري والحداثي للمفكر محمد أركون دون التعرف على الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية التي أثرت في بناء شخصيته منذ ولادته وطفولته في قرية تسمى عين العربا بمنطقة القبايل الأمازيغية بالجزائر أثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر، حيث تأثر المرحوم محمد أركون بمفكرين أمازيغيين كبيرين  نقشا اسمهما في سجلات الأدب الأمازيغي المقاوم باللغة الفرنسية ويتعلق الأمر ب مولود معمري صاحب رائعة "la colline oubliée" الذي أعاد الاعتبار للذاكرة الجماعية القبايلية وعبر عن روح ثقافة لا يمكن إماتتها أو محوها، وكذلك الكاتب مولود فرعون  صاحب الإبداع الأدبي المتميز"le fils  du pauvre". كما أن الدكتور محمد أركون تأثر  بعدد من كبار المفكرين  منذ تعيينه أستاذا مساعدا  في  السوربون سنة 1962  كمبرز في اللغة والآداب العربية ، من هؤلاء المفكرين  المؤرخ بروديل وخاصة اهتماماته بتاريخ المتوسط وهي اهتمامات تتقاطع مع انشغالات الدكتور محمد أركون  كما أنه تأثر بنقاشات وكتابات بول ريكور وخاصة  المنشورة في  المجلة الفرنسية الذائعة الصيت esprit  كما أنه استفاد من المنهج التفكيكي لجاك دريدا خصوصا في إسهاماته النظرية في نقد التقاليد الميتافيزيقية وكان لكتابات ونظريات ميشيل فوكو وفتوحاته الإبستيمولوجية وقطائعه المعرفية التأثير الكبير على فكر ومنهجية  الدكتور محمد أركون. يقول هذا الأخير في استجواب أجراه مع الباحث  رشيد بن الزين ما يلي :
     "oui, l’un des changement les plus important dans ma propre évolution fut certainement dû a Michel Foucault ,a la rupture  dans son approche épistémologique. ».
    سيظل المفكر محمد أركون  حاضرا بيننا  بفكره  التنويري ومقارباته التحليلية العلمية و سيبقى نبراسا تهتدي إليه كل الإرادات الباحثة عن إرساء ثقافة ديموقراطية متحررة من آسار الخرافة والتضليل والتبجيل، حيث أن فكر أركون يمكن الباحثين والمهتمين وصناع القرار الثقافي والفكري من الاطلاع على المخفي والمغيّب واللامفكر فيه في الثقافة والتراث الإسلامي ويعطي للأجيال اللاحقة أرضية فكرية ونظرية صلبة لبناء عقل متحرر يستطيع مساءلة اليقينيات و تفكيك الأفكار والمسلمات الجاهزة وبناء ثقافة علمية قادرة على انتشالنا من التخلف والنكوص والتبعية بكل أشكاها.
    محمد عابد الجابري :
     طبيب التراث الإسلامي و ابن رشد الزمن المعاصر

    لا عسف أبدا في القول بأن المفكر والفيلسوف محمد عابد الجابري لم يحتفى به  مغربيا ومغاربيا وعالميا كما ينبغي  وكما يستحق ذلك، فالأحرى أن تسمى شوارع ومعاهد وجامعات باسمه و تدرس  كتبه في الجامعات المغربية لما تحويه من إبداع منهجي و بحث تأصيلي عن التراث والحداثة والديموقراطية وحقوق الإنسان..، محمد عابد الجابري أيقونة الفكر الإسلامي وفيلسوف الأزمنة المعاصرة بامتياز أعطى للمكتبة الفلسفية العربية والإسلامية كتابات عظيمة وفتح مستغلقات تراثية كانت مستعصية على الفتح بفعل تراكم غبار المحافظة والتحفظ عليها. من الصعوبة بمكان أن أتحدث في مقال متواضع عن شخصية فكرية وسياسية كبيرة أغنت عقولنا و أفكارنا بمنهجيات جديدة في تناول التراث الإسلامي وغير التراث الإسلامي،  إذ لا ننسى أن الرجل أبدع في مجالات أخرى  وكتب تنظيرات عن الديموقراطية والدين وحقوق الإنسان وعن الخطاب العربي المعاصر .. ، لذلك صح القول في أنه فيلسوف ومفكر موسوعيّ له فضل كبير في إبراز عمق الشخصية الفلسفية المغربية والمغاربية كاستمرار تاريخيّ للنهضة الرشدية والحزمية والخلدونية ..؛ التي عرف بها الفكر المغربي. وهدفنا من هذا المقال المتواضع أمام شخصية فكرية وعلمية فذة، ليس تقديم طروحاته و أفكاره وكتاباته الغزيرة والعميقة وإن كان هذا طموحنا الرئيسي في قادم الأيام والسنين، إن شاء الله، ولكن أساسا هو تقديم محمد عابد الجابري بشكل سريع وخاطف  والتعريف به لدى الأجيال الجديدة، كعرفان لما أعطاه الرجل من إسهامات وأفكار متميزة تستحق منا كأجيال جديدة، أن نستلهم منها الروح و الإرادة لمواصلة درب النضال الفكري والسياسي والعملي من أجل الحفاظ على التميز المغربي والمغاربي فلسفيا وفكريا.
    من يكون محمد عابد الجابري؟ :
    في فبراير من  سنة 1997، أصدر المفكر الراحل محمد عابد الجابري كتابا بعنوان "حفريات الذاكرة" والعنوان مستوحى ربما من  كتاب ميشيل فوكو حفريات المعرفة، نظرا لتأثر الرجل بكتابات المفكر والفيلسوف الفرنسي فوكو، يحيلنا الكتاب المذكور منذ  الوهلة الأولى على سيرة ذاتية للرجل ومن بعيد كما يريد يركز الكاتب دائما حين يذكره و لكن في مراحل سنه المبكرة وللأسف الشديد لم نستطع الاطلاع على باقي الفترات العمرية المروية بقلم محمد عابد الجابري وإن كانت الكتابات التي نشرت في كتاب الجيب –مواقف- قد حاولت سد الفجوة و تضمنت مذكرات سياسية وحياتية للراحل الجابري بعد استقلال المغرب إلى غاية نهاية التسعينات  وبداية الألفية الجديدة وتناولت  أحداثا سياسية وثقافية وفكرية واجتماعية عاشها الرجل بالمغرب  مباشرة  كفاعل سياسيّ في القوات الشعبية أو بطريقة غير مباشرة. يقول مفكرنا  في كتابه "حفريات الذاكرة"  الطبعة الأولى 1997ما يلي : " تقع مدينة فجيج ،مسقط رأس صاحبنا، في الجنوب الشرقي من المغرب، على خط الحدود الذي أقامه الفرنسيون بين المغرب والجزائر في أوائل هذا القرن..، وعلى أسفل هضبة فجيج يقع قصر زناكة (بالأمازيغية: أزناين) على السهول الممتدة إلى الجزائر، وهو أكبر القصور جميعا وربما يعدلها مساحة وسكانا، وأهله يعتبرون أنفسهم "المركز" والباقي "أطراف"..، في هذا القصر زناكة  ، ولد صاحبنا وفيه نشأ  نشأته الأولى..، وكان قد ولد صباح يوم عيد الفطر من سنة 1354 هجرية، حسب ما  وجده مقيدا في دفتر من دفاتر جده لأمه، وذلك يوافق يوم 27  ديسمبر 1935، وقد سجله والده فيما بعد بدفتر الحالة المدنية ضمن مواليد 1936)... وعند انتهاء السنة الدراسية التي قضاها صاحبنا في السنة  الأولى الإعدادية بمدرسة التهذيب  بوجدة (1950-1951)، كانت مدرسة النهضة المحمدية بفجيج قد أثمرت فوجها الثاني من حملة الشهادة الابتدائية. وبما أنه كان من المتعذر جدا فتح سلك إعدادي فيها لعدم وجود أساتذة  فقد بات المتخرجون منها الحاملون  للشهادة الابتدائية مهددين بالضياع  والعودة إلى الأمية، الشيء الذي يهدد  مستقبل الدراسة نفسها... إن كاتب السطور(الجابري) لا يعرف بالضبط كيف تبلورت فكرة إرسال التلاميذ المتخرجين من مدرسة  النهضة المحمدية  بفجيج الحاملين للشهادة الابتدائية، إلى الدار البيضاء  لمتابعة دراستهم  الثانوية فيها ..، ومهما يكن فقد التحق صاحبنا بالدار البيضاء ليجد مجموعة من رفاقه القدامى  في مدرسة النهضة المحمدية من جيله، والجيل الذي جاء بعده، يدرسون في ثانوية عبد الكريم  الحلو ... لنعد إذن إلى البكالوريا التي اجتاز صاحبنا امتحانها بنجاح في يونيو 1957. وكانت تلك هي المرة  الأولى التي تعقد فيها دورة للبكالوريا المغربية المعربة بصورة رسمية، وقد ترأس لجنتها الشهيد  المهدي  بن بركة الذي قرأ أسماء الناجحين بنفسه في بهو بناية  المعهد العلمي (كلية العلوم حاليا) . قضى صاحبنا صيف ذلك العام-عام 1957 – وهي السنة الثانية لاستقلال المغرب ، قضاه في جريدة "العلم" حيث اشتغل أولا في قسم الترجمة لينتقل بعد ذلك إلى قسم المراسلات الداخلية..، وبدون صعوبة وفي أسرع  وقت حصل صاحبنا على جواز  سفر وعلى منحة، وكانت المنح  معممة  على حاملي  شهادة البكالوريا، كما حصل  أيضا على  ورقة مراسل  لجريدة العلم ... هنا  نقف بعملية "الحفر في الذاكرة" ، ذاكرة  الطفولة والمراهقة وأوائل الشباب ... نصوص تنقل للقارئ حديثه مع نفسه عن "القضايا الكبرى" التي كان عليه أن يقرر فيها، خلال السنوات الثلاث التالية (1959-1961) التي انتهت  بحصوله على الإجازة في الفلسفة وبزواجه بأم اولاده ورفيقة دربه."
    أعطى موقع الجزيرة نت نبذة عن الراحل الدكتور محمد عابد الجابري يوما بعد وفاته ذات يوم من ماي سنة 2010 وهي كالآتي :
     ولد محمد عابد الجابري نهاية عام 1935 في مدينة فكيك شرقي المغرب، وارتقى في مسالك التعليم في بلده، حيث قضى فيه 45 سنة مدرسا ثم ناظر ثانوية ثم مراقبا وموجها تربويا لأساتذة الفلسفة في التعليم الثانوي، ثم أستاذا لمادة الفلسفة في الجامعة.
    حصل عام 1967 على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة، ثم دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1970 من كلية الآداب التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط، وعمل أستاذا للفلسفة والفكر العربي والإسلامي بالكلية نفسها.
    انخرط الجابري في خلايا المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي للمغرب بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وبعد استقلال البلاد اعتقل عام 1963 مع عدد من قيادات حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كما اعتقل مرة ثانية عام 1965 مع مجموعة من رجال التعليم إثر اضطرابات عرفها المغرب في تلك السنة.
    كما كان قياديا بارزا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية فترة طويلة، قبل أن يقدم استقالته من المسؤوليات الحزبية في أبريل/نيسان 1981، ويعتزل العمل السياسي ليتفرغ للإنتاج الفكري.
    وكان له أيضا نشاط في المجال الإعلامي، حيث اشتغل في جريدة "العلم" ثم جريدة "المحرر"، وساهم في إصدار مجلة "أقلام"، وكذا أسبوعية "فلسطين" التي صدرت عام 1968.
    جوائز حصل عليها:
    - جائزة بغداد للثقافة العربية، اليونسكو، يونيو/حزيران 1988.
    - الجائزة المغاربية للثقافة، مايو/أيار 1999.
    - جائزة الدراسات الفكرية في العالم العربي، نوفمبر/تشرين الثاني 2005.
    - جائزة الرواد، مؤسسة الفكر العربي، ديسمبر/كانون الأول 2005.
    - ميدالية ابن سينا من اليونسكو بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، نوفمبر/تشرين الثاني 2006.
    - جائزة ابن رشد للفكر الحر، أكتوبر/تشرين الأول 2008.

    من مؤلفاته:
    - العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، وهو نص أطروحته لنيل الدكتوراه.
    - أضواء على مشكل التعليم بالمغرب.
    - مدخل إلى فلسفة العلوم (جزآن).
    - من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية .
    - نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي.
    - الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية. 
    - تكوين العقل العربي 
    - بنية العقل العربي
    - السياسات التعليمية في المغرب العربي.
    - إشكاليات الفكر العربي المعاصر.
    - المغرب المعاصر: الخصوصية والهوية.. الحداثة والتنمية.
    - العقل السياسي العربي.
    - حوار المغرب والمشرق: حوار مع د. حسن حنفي.
    - التراث والحداثة: دراسات ومـناقشات.
    - مقدمة لنقد العقل العربي.
    - المسألة الثقافية.
    - المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد.
    - مسألة الهوية: العروبة والإسلام... والغرب.
    - الدين والدولة وتطبيق الشريعة.
    - المشروع النهضوي العربي.
    - الديمقراطية وحقوق الإنسان.
    - قضايا في الفكر المعاصر (العولمة، صراع الحضارات، العودة إلى الأخلاق، التسامح، الديمقراطية ونظام القيم، الفلسفة والمدنية).
    - التنمية البشرية والخصوصية السوسيوثقافية: العالم العربي نموذجا.
    - وجهة نظر: نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر.
    - حفريات في الذاكرة، من بعيد (سيرة ذاتية من الصبا إلى سن العشرين).
    - الإشراف على نشر جديد لأعمال ابن رشد الأصيلة مع مداخل ومقدمات تحليلية وشروح.
    - ابن رشد: سيرة وفكر 1998.
    - العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية.
    - سلسلة مواقف (سلسلة كتب في حجم كتاب الجيب).
    - في نقد الحاجة إلى الإصلاح.
    - مدخل إلى القرآن.
    - فهم القرآن: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول.
    المصدر : الجزيرة + وكالات

    فكر الرجل ومواقفه انطلاقا من بعض  كتاباته:
     من الصعوبة بمكان أن يتم الإحاطة بجميع الأفكار والأطاريح المبثوثة في مقالات وكتب الراحل محمد عابد الجابري، وكذا الكتابات النقدية والأطروحات العلمية التي تناولت  مشروع الجابري نقدا وتمحيصا وإن كانت محاولة المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي الأبرز من بين المساهمات النقدية التي تناولت نقدا ونقضا مشروع الجابري، كما أن الدكتور الطيب التيزيني كان له كذلك كتاب نقدي للدكتور الجابري  انتقد فيه  ما سماه التيزيني بالاستغراب المغربي ، كما أن هناك من الباحثين والمفكرين من انتقد انتقال الدكتور الجابري من الفكر القومي العروبي إلى الفكر الليبرالي  انتهاء بمغازلة و التماهي  مع الفكر الإسلامي في كتاباته الأخيرة وهذا موضوع يطول فيه الحديث،  فالفيلسوف الجابري صاحب مشروع كبير ابتدأ مع كتاب "نحن والتراث" و لم ينته حتما بكتاب "العقل الأخلاقي العربي" ، ففي طيلة هذه المسيرة العلمية والفكرية التنقيبية الحفرية عن الحقيقة والمعنى بلغة -علي حرب-  حاول الراحل الجابري تأصيل مفاهيم غربية في تراثنا وتبيئتها ( كالعقل المكون والمكون باللغة اللالاندية...)  
    بعد مناقشة وتحليل أصولها وأبدع مفاهيم نظرية لتناول التراث الإسلامي كالعرفان و البرهان و البيان وقدم أفكارا متميزة ومختلفة عن العلمانية والديموقراطية وحقوق الإنسان( وإن كان الجابري يرفض العلمنة في العالم الإسلامي ويعتبر العقلانية بدل العلمانية تفي بالغرض)، لكن الإسهام الحقيقي في نظري المتواضع للدكتور الجابري هو إعادة إحياء الرشدية الفكرية والسياسية في بلادنا وفي المنطقة الإسلامية  بعدما تم هجر فكر ابن رشد لفائدة الغزالي وابن سينا  لمدد طويلة  مغربا ومشرقا لأسباب يطول ذكرها، فالجابري استطاع أن يضع الفكر الرشدي ولو بطريقة تقابلية أو كما سماه المفكر السوري الألمعي  الطيب التيزيني بالاستغراب المغربي، على جدول إعمال الفكر السياسي والفلسفي المغربي والمغاربي في بنوده الأولى وهذا لعمري إنجاز كبير. يقول الدكتور محمد عابد الجابري في مقدمة كتابه بنية العقل العربي – الطبعة الثالثة1993- "لنختم إذن بالتذكير بأننا قد انتهينا من دراستنا  لمكونات العقل العربي، داخل الثقافة العربية، إلى التمييز بين ثلاثة  نظم معرفية يؤسس كل منها آلية خاصة في إنتاج  المعرفة وما يرتبط بها من مفاهيم وينتج عنها من رؤى خاصة كذلك. والخطوات التالية التي تنتظرنا هي تحليل هذه النظم المعرفية الثلاثة (البيان والعرفان والبرهان) وفحص آلياتها ومفاهيمها ورؤاها وعلاقة بعضها ببعض مما يشكل البنية الداخلية للعقل العربي كما تكون في عصر التدوين وكما استمر إلى اليوم."  في هذا التذكير يوضح لنا الجابري أسس فكره و منهجيته ومفاهيمه الثلاثة المذكورة سلفا وإن كان التساؤل المطروح دائما هل هي مفاهيم جابرية خالصة أم استعارة من مفكرين آخرين لم يذكر أسمائهم كما يؤاخذ عليه ذلك بعض المفكرين الآخرين ؟ أليس التقسيم الثلاثي بين البيان والعرفان والبرهان مفاهيم سبق أن استعملها وأبدعها  المفكر المصري الموسوعي أحمد أمين ؟.
    وساهم الجابري بحق في تطوير الممارسة السياسية والنظرية في الحقل المغربي حيث ساهم كمثقف عضوي بلغة غرامشي في توجيه حزبه السياسي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وساهم إلى حد كبير في توجيه بوصلته السياسية والنظرية ( نهاية السبعينات وبداية الثمانينات قبل أن يجمد نشاطه الحزبي وإن كانت علاقته مع قادة الاتحاد الاشتراكي متواصلة وقوية ومتينة)، لذلك يمكن القول بدون مجازفة عندما انهارت البنية الفكرية والنظرية لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية برحيل أو مغادرة عدد من أطره الفكرية والمرجعية كالجابري وكسوس ولحبابي وانهار الحزب تدريجيا حتى قرب من الاضمحلال والتفسخ والتيهان النظري والسياسي الذي يكابده اليوم للأسف الشديد، لذلك حاول الجابري تسليط الضوء على مجموعة من القضايا التي عاشها في الحزب وفي الإعلام الحزبي وضمنها في عدد من مقالاته وكتبه الصغيرة، يقول محمد عابد الجابري في سلسلة مواقف العدد 1 ص 34: "لقد حركني إلى كتابة هذه المذكرات، عندما أعلنت عن النية  في كتابتها  قبل بضع سنين، الرغبة  في المساهمة في كتابة  تاريخ العمل الوطني والنضال التحرري  الديموقراطي في هذا  الوطن ، خصوصا عندما  لاحظت حاجة  الجيل الصاعد  إلى معرفة تفاصيل عن المسار  التاريخي الحديث  الذي  خرج من جوفه الحاضر الذي يعيشونه  والذي  سيبقى  يؤثر  في مستقبلهم لفترة غير قصيرة من الزمن ... أستطيع أن أدعي  بصدق أن هذا المعنى، الذي جعل "الاشتغال بالسياسة" مرادفا  للعمل الوطني ، هو الذي بقي يحكم  سلوكي السياسي إلى اليوم. لقد حدث هذا الامتزاج بين السياسة والوطنية في نفسي منذ طفولتي الأولى ... لم يكن  معنى "الحزب" واضحا في أذهاننا، بل كان هو والعمل الوطني شيئا واحدا. فالشخص كان يوصف بأنه "حزبي" ، لا بمعنى أنه متحزب لجماعة وطنية  ضد أخرى، بل بمعنى أنه منخرط  في العمل الوطني من أجل الاستقلال. هذا  الامتزاج بل الاندماج  بين الوطنية والسياسة في وعيي هو ما يفسر في نظري على الأقل- جوانب  كثيرة من سلوكي الحزبي ومواقفي السياسية ، وبدون تواضع زائف أستطيع أن أؤكد أنني أقبل من نفسي  الخطأ وجميع أنواع  الضعف البشري في الميدان السياسي وغيره، ولكنني لا أتصور أني أستطيع أن أسلك أي سلوك انتهازي كيفما كان. وحتى ما يعبر  عنه ب "انتهاز الفرص"، وهو شيء وارد  في مجال السياسة ومقبول في نظر الكثيرين، فهو عندي شيء مستبعد تماما."
     هذه المقتطفات من كتاب "مواقف" العدد الأول، توضح الفكر السياسي للراحل الجابري المتسم بالأخلاق السياسية الرفيعة والالتزام النضالي والوطني الصادق تجاه قضايا الوطن، وكل معارف الراحل الجابري يجمعون على دماثة أخلاقه وحسن سلوكه وتواضعه وهذه قيم بدأنا للأسف الشديد نفتقدها في الممارسة السياسية والحزبية اليوم بيسارها ويمينها ، غابت الأخلاق السياسية و سيطرت النزعة الانتفاعية والتضليلية والشعاراتية على برامج و قيادات أحزابنا السياسية، وهذا ما يفسر إلى حد كبير العزوف السياسي والهجرة الجماعية  للجماهير وللنخب اتجاه العزلة والانغلاق والترفع عن قضايا المجتمع.
    ما يلهمني شخصيا  أكثر في كتابات الدكتور الجابري هو دفاعه المستميت عن الأفكار الحرة في التاريخ وعن حقوق الإنسان والديموقراطية في زمن كان ، وما يزال ، للكلمة الحرة فيه كلفة باهضة، فقد خصص الراحل الجابري في سلسلة رمضانية منشورة على صدر جريدة الاتحاد الاشتراكي  سنة 1995 مقالات مهمة حول "محن العلماء" في الإسلام  ودافع عن أفكارهم التنويرية بكل اقتدار، ففي مقال له-على سبيل النموذج-  حول  محنة ابن حنبل يقول :"وإذا نحن رجعنا إلى تاريخ  محن العلماء في الإسلام فإننا  سنجدها ذات أسباب سياسية في الأغلب الأعم منها. فليس هناك في الإسلام من العلماء من تعرض للاضطهاد والمحنة من طرف  الحكام دون أن يكون لذلك سبب سياسيّ، والغالب ما يكون  ذلك السبب فتوى أو موقف عملي اتخذه  العالم ضد الحاكم ، في إطار "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" أو في إطار مجرد  النقد الذي  يعبر عن رأي  مخالف. باستثناء المحنتين اللتين سنتناولهما  بشيء من التفصيل، محنة ابن حنبل ومحنة ابن رشد، فإن الأسباب السياسية التي تعرض بسببها العلماء في الإسلام  لما تعرضوا له  من محن كانت معروفة  ومعلنة تحمل معها معقوليتها السياسية ، ومنها ما كانت تهما مباشرة وصريحة  في مضمونها السياسي، كالامتناع عن البيعة أو رفض الإفتاء بما يريده الحاكم ... إن فهم  المحنتين، محنة ابن حنبل ومحنة ابن رشد فهما يحمل معه معقوليته  سيمكننا من تعميق فهمنا  لما يجري في عصرنا. وفي عالمنا العربي والإسلامي من صراع بين الدولة ورجالها وبين ما يعرف في خطابنا المعاصر بالأصوليين أو "الإسلاميين المتشددين".  
    لقد افتقدت الساحة الفكرية المغربية مفكرا عضويا من طينة الجابري  يقول ما يقتنع به من دون خوف ولا وجل وبالكلمة الهادئة المتنورة ، لذلك ما أحوجنا إلى مفكرين متنورين من أمثاله  التزاما وأخلاقا،  يقولون للحاكم أحسنت حين يحسن و أخطأت  حين يخطئ ، فبلادنا تعج بقضايا سياسية حارقة اليوم ولكن لم نسمع رأي المثقفين والمفكرين، حتى نخال  في بعض الأحيان انعدامهم ، فما سمعنا رأي العديد من المثقفين المغاربة عن  أحداث الريف وعن قضايا عديدة تشغل بال الرأي العام الوطني؟، فهل هي بداية نهاية المثقف الرسولي – المغربي-  بلغة فيصل دراج؟ 
    في مقال متميز و لا أكون مبالغا إذا قلت: إنه مؤسس للفكر السياسي المغربي اتجاه قضية التطرف "الإسلامي" والموقف العقلاني منه ، كتب الدكتور محمد عابد الجابري مقالا رمضانيا سنة 1993 على صدر جريدة الاتحاد الاشتراكي –الجريدة التي كانت سابقا منارة فكرية وأدبية قائمة الذات- بعنوان  ظاهرة التطرف.. الأسباب والعلاج، لنقرأ العمق الفكري للرجل انطلاقا من هذا المقال: "وواضح أننا هنا لا نتحدث عن التطرف عندما يكون في مستوى حجمه الطبيعي، على هامش من هوامش الحياة الاجتماعية والفكرية، وإنما نتحدث  عن التطرف  في حال تحوله إلى مركز استقطاب، إلى ظاهرة تتجه نحو الهيمنة العامة مما تكون نتيجته قيام ردود أفعال متطرفة مضادة فيتحول المجتمع إلى مسرح للعراك بين  الأطراف المتطرفة سواء كانت تنتمي جميعا إلى المجتمع المدني  أو كان بعضها  منه  وبعضها الآخر  من المجتمع السياسي (الدولة). ففي مثل هذا الحال يتعين التعامل مع التطرف كظاهرة مرضية تستشري  وتهدد بالتحول سريعا إلى نوع من التدمير الذاتي. وليس هناك غير المعالجة العقلانية وسيلة لتلافي  الانزلاق نحو المصير المفجع. ذلك لأن التطرف في جميع الأحوال  هو عمل اللاعقل، فإذا تمت مواجهته ب "عقل مستقيل" مضاد كان المصير كارثة محققة."
     أفكار هذا المقال تفيدنا للاستدلال على العمق الفكري للدكتور الجابري من جهة وعلى اعتدال مواقفه وتوازنها عكس الأطراف الإيديولوجية الأخرى التي لا تفوت أية فرصة لتصفية الحسابات السياسية بين الفرقاء السياسيين متعمدة الخلط الإديولوجي الممنهج بين التطرف الإسلامي والدين الإسلامي، فالحكمة العلمية والنظرة الموضوعية لمحمد عابد الجابري غلبت تموقعه السياسي والإيديولوجي وجعلت موقفه من التطرف موضوعيا وعقلانيا إذ كان من الممكن أن يصفي حساباته وهو الاشتراكي الأصيل مع تيارات الإسلام السياسي كما يفعل العديد من غلاة اليسار، و لكن الفكر العلمي والموضوعي الذي يتحلى بهما الرجل جعل للتطرف أسبابا عميقة مترابطة يعتبر الإيديولوجي والديني عنصرا من بين العناصر فقط، لا السبب الواحد والأوحد.  يقول الدكتور محمد عابد الجابري في  خاتمة مقاله  حول التطرف (المنشور بجريدة الاتحاد الاشتراكي  يوم 19 مارس 1993 ص 2) ما يلي : "وبعد، فالتطرف ظاهرة مرضية ، وكجميع الأمراض فإن العلاج الأنجع و الأضمن هو الوقاية. وشروط الوقاية من التطرف  ثلاثة : تصحيح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتعامل العقلاني المبني على الفهم والتفهم،  ووضع الأمور أمام مرآة التاريخ ، وإشاعة الفكر النقدي  في الثقافة  والتعليم. أما غير ذلك من وسائل المواجهة  السلبية فهي لا تنتج  غير المزيد من التطرف. إن التطرف المضاد يسقي التطرف  ويقويه ، وهيهات أن يقضي عليه.
    في سبيل الختم :
    وفاة محمد عابد الجابري خسارة فكرية وسياسية للمغرب المعاصر، حيث أن عطاءه الفكري والنظري  بمثابة منهاج قويم في تقويم اعوجاجات النظرة التراثية للتراث، و تمثيل بارز للمدرسة العقلانية الحفرية المعاصرة لكل قضايانا السياسية والنظرية،  فإذا كان من حق فرنسا أن تحتفي بعقولها و مفكريها مثل  ألتوسير و سارتر و فوكو وبورديو و غيرهم كثير، وكان للألمان ما يفتخرون به من مفكرين عظام كهيكل و مارس وفيورباخ ...  فإن المغرب مطالب بالاحتفاء  بمفكريه و نشر إبداعاتهم  الفكرية والنظرية و برمجة أطاريحهم في الجامعات والمعاهد و التعريف بأفكارهم وتكريمهم التكريم الذي يليق بهم كمفكرين ومثقفين أعطوا للفكر السياسي المغربي إسهامات خالدة في الزمان. من المعيب جدا ومن المخجل أن تمر ذكرى وفيات محمد عابد الجابري و الآخرين من المبدعين محمد كسوس وعزيز الحبابي و عبد الكبير الخطيبي و إدريس بنعلي و محمد شكري و اللائحة طويلة دون أن  يقف إعلامنا و سياسيونا "التقدميون " و"المتنورون" وقفة تليق بقامات فكرية أعطت الشيء الكثير لأدبنا وفكرنا و أن يطالبوا  بمبادرات سياسية وثقافية لنشر أفكار هؤلاء الرواد وتقديم إنتاجاتهم في أعمال تلفزيونية ومسرحية وتثقيفية هامة تخلصنا من برامج الرداءة التي تملأ الدنيا الإعلامية ببلادنا ضجيجا. قد نختلف مع الجابري وأمثاله في قضايا ومواقف مثل التعدد الثقافي والأمازيغي ببلادنا وتحمسه الكبير للتعريب والعروبة ومطالبته بالأحادية اللغوية والهوياتية و المطالبة بإماتة اللهجات .. – ربما بفعل السياق  السياسي الإقليمي والدولي التي أنتج مواقفه- لكن يبقى الرجل مفكرا نادرا أخلاقا وتواضعا وعلما، و معلمة مغربية مغاربية إسلامية جامعة تستحق منا العمل على استكمال أوراشه المفتوحة من قبيل دراسات في القرآن الكريم وغيرها من الأوراش التجديدية والتنويرية التي كان سبقا في التطرق إليها بجدارة واستحقاق، لذلك أتمنى أن تفتح  دراساته أمامنا حقولا جديدة  لكتابة تراثنا وتاريخنا كتابة علمية معمقة بطريقة تتبنى الحداثة العقلية  في أعلى ذراها وأكثرها تقدما وتفتحا. أتمنى أن يؤدي الاهتمام بالدراسات الجابرية إلى تجديد علاقة المسلمين  بتراثهم وعقائدهم  لتنحل مشاكل عالقة منذ أزمان طويلة، كل ذلك لتنمحي الظلمات المعتمة  عن سطح واقعنا و تاريخنا وتنفتح  أمام أعيننا الآفاق العلمية والفكرية الرحبة. لأن انتظار  نهضتنا طال بنفس امتداد انتظاراتنا و استمرار نكساتنا وتواصل انهيارنا المديد بلغة المفكر والصحفي الكبير  حازم صاغية. أختتم مقالتي هاته بمطلع قصيدة  خاطب بها ابن خلدون السلطان "باسالم" عند وصول هدية ملك السودان إليه. 
    ( من كتاب فكر ابن خلدون  العصبية والدولة  - محمد عابد الجابري  ص 49)
               أوريت زند العزم في طلبي *** وقضيت حق المجد من قصدي
              ووردت عن ظمإ منـــــاهله  *** فرويت من عـــز ومن رفــــــد 

    هشام غصيب :
     المفكر الأردني المهموم بالتقدم والديموقراطية
     والجدل العلمي في البلدان الشرقية.
     

    يعتبر هشام غصيب من المفكرين الشرقيين  الذين احتفظوا بماركسيتهم الأصيلة ، بل يستعينون بمناهجها وتحليلاتها ،  رغم الهزات التاريخية العنيفة التي عرفها الفكر الماركسي كونيا، بفعل تغيرات سياسية واقتصادية كبرى عرفها العالم،  احتفظ هشام غصيب برؤية ماركسية نقدية في تناوله لعدد كبير من القضايا الثقافية والسياسية والفكرية، وساهم في إحياء مفاهيم ماركسية في التداول المفاهيمي والسياسي في حقبة تاريخية اعتقد فيها "الجميع" بأن الماركسية كنظرية وكطموح تكوين مجتمع بديل، خال من الاستبداد والعسف والظلم، مبني على العدل والتوزيع العادل للثروات، انتهى كحلم جميل وباتت الليبرالية والعولمة المتوحشة  عنوان الحقبة الجديدة، وأصبح الإنسان الليبرالي هو الإنسان الأخير كما بشر بذلك فرانسيس فوكوياما وصمويل هنتغتون في تصوريهما لما بعد انهيار المنظومة الاشتراكية. لكن حلم  المبشرين الجدد بنهاية العالم وسيادة الليبرالية المتوحشة كقدر حتمي، لحسن الحظ  نقضه و  نغصّه مفكرون ماركسيون جدد من أمثال هشام غصيب الذي قاده حلمه الجميل إلى الاهتمام  بقضية تطوير الوعي الجماهيري  وتثوير الوعي العلمي لدى الطبقات الكادحة المتضررة من علاقات الإنتاج القائمة.
    تعرفت على بعض شذرات المفكر والفيلسوف والفيزيائي* هشام غصيب  انطلاقا من كتابين وهما ضمن سلسلة كبيرة من الكتب العلمية والفلسفية التي أنتجها وأثرى بها المكتبة العربية، الكتاب الأول 
    الذي اطلعت عليه هو، هل هناك عقل عربي؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري ، والثاني جدل الوعي العلمي: إشكالات الإنتاج الاجتماعي للمعرفة. ففي الكتاب المخصص لنقد مشروع محمد عابد الجابري، استثمر الدكتور هشام غصيب العدّة المنهجية والإبستيمولوجية المعرفية البنيوية الماركسية  في نقد منهجيات واستنتاجات محمد عابد الجابري، وبروح علمية يطبعها تواضع العلماء يعترف الدكتور هشام غصيب بالقوة التحليلية والجدالية للراحل الدكتور عابد الجابري، لم يمنعه تواضعه واعترافه بإسهام الجابري في تفكيك إشكاليات التراث الإسلامي، في انتقاد أطروحاته وتفكيكها وتبيان مثاليتها وتهافت بعض المناهج التحليلية المتبعة من طرفه. يقول الدكتور هشام غصيب في نقده للجابري ما يلي : "إن الجابري يبدي من البراعة في فن الجدال ومن الأصالة في ابتكار المفهومات واستعمالها في دراسة  تراثنا ما يجعل من الصعب حقا على القارئ مقاومة إغراء الوقوع تحت تأثيره وسحره. فهو يلهب الوجدان والخيال بسحر فكره بما يدفع القارئ إلى تبني  لغته وأدوات نقده من دون إدراك حقيقي  لجوهر هذه اللغة وتلك الأدوات. ومن ذلك تنبع أهميته وخطورته في آن ... فهو أبرع المفكرين المثاليين في الوطن العربي اليوم وأكثرهم خطورة أيضا لقدرته على النفاذ إلى عقل القارئ وإيقاعه بين شباكه السحرية المثالية، مهما كان هذا القارئ محصنا بالفكر العلمي المادي."1.
    سأحاول باختصار مخل وغير تام تبيان بعض  أوجه التناقض الفكري والنظري الموجود بين الجابري وهشام غصيب، في ثلاث نقاط :
    1-         تظاهر الجابري بالمادية  على مستوى الأسئلة والتساؤلات والمعضلات والالتزام بالمثالية على مستوى  الإجابات والحلول:-2- 
    وقد بين الدكتور غصيب ذلك بجلاء في هذه الفقرة الهامة التي تؤكد إصرار الجابري على أن بالإمكان خلق مشروع نهضوي بعقل ناهض، بدون مراعاة البنيات الاجتماعية الطبقية الحاملة للمشروع النهضوي ، أي أن الجابري حسب غصيب يسقط في نوع من الهيغلية وفصل تعسفي بين الفكرة وحاملها الاجتماعي الضروري لها، ووصف أسئلته بأنها تحمل نوع من الذنب الإيديولوجي الذي لا يغتفر، لنرى ماذا يقول غصيب :" فالنهضة ، في نظر من طرح السؤال المذنب، ليست مسألة مادية اجتماعية معقدة تنطوي على تناحرات حادة بين طبقات وفئات تسخر لتحقيق أغراضها كل ما في حوزتها من أسلحة  وأدوات (اقتصادية وسياسية وعسكرية وثقافية  ومعرفية واجتماعية عامة). إنها ليست حضارة جديدة تبزغ شمسها على أنقاض حضارة قديمة تحتضر. وهي ليست مسألة نضالية تقودها حركة تحرر تاريخي، وإنما هي مسألة فكرية في جوهرها: نهضة تبنى بعقل... كأن عملية النقد العقلي مشروع فكري محض  يتم بمعزل عن المجتمع  ونزاعاته المريرة." -3-
    2-عرقية الجابري:
    يتهم المفكر غصيب الجابري بأنه يمارس تمييزا عرقيا ، حيث أن الجابري يقيم تفاضلا لا تاريخيا ولا علميا بين عقول مناطق جغرافية وإثنية  على حساب مناطق جغرافية أخرى، فيفضل العقل اليوناني الأوروبي على حساب العقول الهندية والصينية مثلا، في تقسيم يذكرنا ببعض تصنيفات بعض المستشرقين ( برنارد لويس مثلا)  الذين ادعوا أفضلية بيولوجية وعقلية للجنس الأبيض على حساب الأجناس الأخرى، يقول الدكتور هشام غصيب في هذه النقطة ما يلي: هكذا بهذه السهولة والرعونة الفكرية، يعزز الجابري تحيزا عرقيا أوروبي المنبع والجذور، طالما جلدنا به الغربيون .اذ أن الغربيين لا يفتؤون يروجون  الفكرة العرقية بأنهم  هم وحدهم  القادرون على الإبداع النظري. أما الشعوب الاخرى فهم إما نقلة (العرب) وإما مقلدون (اليابانيون) . بل إن هذا الادعاء ورد جليا صريحا  في كتاب هتلر "كفاحي" -4-."
    3-        انتقائية الجابري وتغطيته الادعاء الإيديولوجي بمبرر إبستيمولوجي:
    يقول هشام غصيب توضيحا لهذه النقطة:" فالجابري يحاول أن يوهم نفسه  وقراءه أنه مدرك تمام الإدراك للأساس المادي  الاجتماعي للفكر، لكنه معني بالتحليل  الإبستيمولوجي، ومن ثم فهو ليس ملزما بالتطرق إلى هذا الأساس  الذي ينتمي إلى حقول معرفية أخرى، وكأن التحليل الإيبستيمولوجي فعل روحي مستقل عن حركة المجتمع والتاريخ، وكأن الفكر جزيرة معزولة تؤثر عليها المؤثرات المادية الاجتماعية من الخارج فقط. وهو تبرير  ينطوي على تصور خاطئ للعلاقة بين القاعدة المادية الاجتماعية وبين الفكر-5-.
      الفرق المنهجي بين المفكرين عابد الجابري وهشام غصيب هو أساسا أن هذا الأخير استعان بالمنهج الديالكتيكي في تحليل العلاقة بين الفكر والواقع على شاكلة ووفق طريقة مهدي عامل في التحليل وانتقاد المساهمات الفكرية للباحثين والمفكرين الذين اشتغلوا بالفكر التنظيري ( يمكن هناك الاستشهاد بكتاب مهدي عامل أزمة البرجوازيات العربية أم أزمة الحضارة العربية ؟) ، فيما حاول الجابري التخلص من آسار التحليل المادي الجدلي والانفتاح على بعض الاجتهادات الفكرية والنظرية الأوروبية وخاصة منهجية ميشيل فوكو وجاك دريدا، التي اعتبرت من طرف الماركسيين الجدد مثالية جديدة لكن بأسئلة مادية موضوعية.
    لننتقل بعجالة كبيرة إلى الكتاب الثاني للمفكر هشام غصيب، جدل الوعي العلمي : إشكالات الإنتاج الاجتماعي للمعرفة، حيث يبسط المفكر فكره بوضوح شديد حريصا على منهجية علمية رصينة، مهووسا بفكرة التقدم الحضاري وتجاوز التخلف، فالكتاب خريطة طريق من أجل الخروج من شرنقة التخلف والتبعية للغرب في جميع مستواياتها، الكتاب يحمل التزاما واضحا نحو  تطوير الوعي الجماهيري ليقوم بأدواره التنويرية المصيرية لتحقيق الثورة الاجتماعية والثقافية والفكرية التي من شأن تحقيقها أن تجعلنا نحيا حياة كريمة في ظل أنظمة اقتصادية وسياسية عادلة ومستنيرة. المفكر هشام غصيب استعان بعُدة منهجية وآليات مفاهيمية جديدة مثل مفهوم الاستغراب، وقل للدقة مهمة الاستغراب، كآلية نظرية وعملية لللحاق الحضاري بالغرب عبر استكناه واستنطاق تراثه وفكره ومحاولة الاستفادة من خبراته وتجاربه وعلومه بدون السقوط في شركه واستيلابه، يقول المفكر هشام غصيب في تقديمه لمفهوم الاستغراب** : فالاستغراب هو سبيلنا لامتلاك الأدوات المعرفية والنقدية اللازمة  لتحرير نظرتنا إلى الأمور من آسار التحيز الغربي، ومن ثم  للانفتاح على ماضينا وعلى الحضارات العالمية المتنوعة وفهمها وتفهمها ...  والشرط الأساسي للتحرر من هذه الهيمنة هو معرفة الخصم معرفة دقيقة على جميع الأصعدة. ولكن بالنظر  إلى رقيّ الخصم وارتقائه وتقدمه، فليس في مقدورنا معرفته أو فهمه إلا بمعاناة تراثه الحديث  وباستعمال أدوات معرفية ونقدية مستمدة من ذاته."-6-  ترى ماذا يقترح علينا هشام غصيب كخارطة طريق للتقدم والازدهار الحضاري؟ يقول هشام جوابا على هذا السؤال :" لم نعان نهضة ثقافية على غرار النهضة الأوروبية ولم نعان ثورة علمية ولا ثورة فلسفية ولا إصلاحا دينيا جماهيريا ولا ثورة زراعية ولا ثورة صناعية ولا ثورات اجتماعية سياسية في اتجاه بناء الدولة الحديثة. وعليه، فإن هذه المهمات (الثورات) مازالت تنتظر من يحققها من قوى اجتماعية صاعدة.." -7-
    المفكر الماركسي هشام غصيب في سبيل بحثه عن أسباب تخلفنا ومسؤولية الآخر أي المستعمر الأوروبي والغربي عموما في إدامته، يتهم بشكل واضح وجلي الاستعمار الإمبريالي في عرقلة جهود
      شعوبنا من أجل بناء مقومات الدولة الحديثة، عبر تشجيع،  بل وخلق تنظيمات وتعبيرات ماضوية تيسر للاستعمار فرص البقاء ناهبا لأوطاننا، متواطئا من أجل استدامة تبعيتنا له كما يحمل المسؤولية كذلك للحملات الاستشراقية التي مهدت لاحتلال أوطاننا وتزوير تاريخنا وتشويه صورنا أمام العالم ، يقول توضيحا لهذه الفكرة الهامة :" فكوننا الطرف المسحوق في شبكة الهيمنة التي تسود جزءا كبيرا من عالم اليوم يفرض علينا أن نتخطى ذاتنا إلى رحاب حضارة الطرف المهيمن، وأن ندك قلاع هيمنته باستعمال الأسلحة التي صنعها هو عينه وأخضعنا بها، وفي مقدمتها الفكر العلمي. لهذا السبب ، يلجأ  الطرف المهيمن  إلى إعاقة هذه العملية بصرف نظرنا  بعيدا عن جوهره وأدوات منعته بدفعه إما باتجاه الماضي، وذلك بتعزيز الفئات المحافظة في مجتمعنا، وإما في اتجاه الصورة الإيديولوجية الوهمية  بصدد ذاته... ولهذا يلجأ الطرف الغربي المهيمن إلى تيسير السبل أمام عملية إعادة إنتاج البنى الاجتماعية وأنماط الإنتاج القديمة في مجتمعنا. فهو يسعى إلى إعاقة عملية التحديث الشامل ... فالوظيفة الأساسية  للاستشراق هي التزوير التاريخي، وخلق  صورة ملتوية مشوهة للشرق تنسجم ونية الغرب في استعباد الشرق واستغلاله ونهبه، وذلك من أجل تسخيرها في قهر الشرقي وتحطيم إنسانيته وتحويله من ثم إلى ظل، مجرد ظل للصورة المشوهة." -8- .
     المفكر هشام غصيب طاقة فكرية وفلسفية إبداعية هائلة سخر كل إمكاناته من أجل رفع الوعي الجماهيري بمتطلبات المرحلة الدقيقة  المتميزة التي  تعيشها شعوبنا، لذلك نراه مدافعا شرسا عن التزام المثقفين والمفكرين بقضايا شعوبهم، فهو ضد نظرية الفن من أجل الفن أو الأدب من أجل التذوق والجمال فقط، بل هو مهووس إلى حد كبير بقضايا الديموقراطية والتقدم  لذلك نراه يعيب على بعض المثقفين والمفكرين نخبويتهم وتعاليهم على الفئات الكادحة وهمومها، يرى الدكتور هشام أن فرصتنا لللحاق الحضاري بالآخر المتطور ممكن ومنظور، ولكن  لابد أن نقتفي أثره ومناهجه بدون الذوبان فيه أي لابد من القيام بمهمات ثورية كبيرة تبدأ من الإصلاح الديني  والقضاء على ما يسميه المفكر  باللاعقل المقدس  وثورة ثقافية وصناعية ممهده للثورة الاجتماعية السياسية الشاملة، في ترابط جدلي بين الفكر والواقع، أي أن إيجاد الحامل الاجتماعي للثورة الاجتماعية والسياسية ضروري للقيام بالمهمات الديموقراطية والثورية  على صعيدي النظرية والممارسة..
    المراجع :
    **هشام غصيب حصل على درجة الدكتوراه في الفيزياء النظرية من جامعة ليـــــدز ( بريطانيا) عام 1976.
     1-هشام غصيب : هل هناك عقل عربي ؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري ، دار التنوير العلمي للنشر والتوزيع طبعة أولى ص 12
    2- هشام غصيب : هل هناك عقل عربي ؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري ، دار التنوير العلمي للنشر والتوزيع طبعة أولى ص 15
    هشام غصيب : هل هناك عقل عربي ؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري ، دار التنوير العلمي للنشر والتوزيع طبعة أولى ص21
    هشام غصيب: هل هناك عقل عربي ؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري ، دار التنوير العلمي للنشر والتوزيع طبعة أولى ص48
    ** مفهوم الاستغراب استعمله كذلك المفكر المصري الكبير حسن حنفي وعنون به مشروعه الفكري مقدمة في علم الاستغراب ، لكن الأسبقية الاستعمالاتية للمفهوم هي للمفكر الأردني هشام غصيب.
    6-هشام غصيب : جدل الوعي العلمي ، الطبعة الأولى 1992 ص 80-81
    7- هشام غصيب : جدل الوعي العلمي ، الطبعة الأولى 1992 ص 94
    8- هشام غصيب : جدل الوعي العلمي ، الطبعة الأولى 1992 ص 101

    ميشيل كولون :
     الصحفي الذي ناهض الحروب الإمبريالية
     
    ينحدر الصحفي البلجيكي ميشيل كولون المولود سنة 1946 من عائلة برجوازية كاثوليكية، لكنه 
    تأثر بالأفكار اليسارية الماركسية منذ شبابه وخصوصا الكتابات العمالية الماركسية التي تتخذ من مفاهيم الصراع الطبقي و البروليتارية مفاهيم ومفردات نظرية مؤسسة . عمل في إحدى المعامل لمدة 6 سنوات حيث احتك بالعمل النقابي والحركة العمالية قبل أن يلتحق بالاتحاد الشيوعي الماركسي اللينيني ببلجيكا إلى غاية نهاية السبعينات، ثم تحول فيما بعد إلى عضو في حزب العمل البلجيكي الذي عمل كصحفي في أسبوعيته صوليدير . ابتعد عن العمل السياسي بعدما انتقد التفرقة والتشتت الذي يعاني منه العمل اليساري البلجيكي والأوروبي عموما، وانخرط في العمل الصحفي مناضلا ومدافعا عن القيم الإنسانية المثلى التي تستلهم من روح القيم اليسارية. واجه الصحفي الملتزم بقضايا السلم العالمي وحقوق الشعوب في تحقيق مصائرها مواجهة علنية وأخرى خفية من طرف أرباب الصحف وكبريات الشركات العالمية التي تسيطر على الإعلام، فتنشر الإعلام الكاذب الموجه لتدجين الرأي العام العالمي، و تهيئه لقبول الحروب الإمبريالية ، لذلك نرى كتابات ميشيل كولون تركز على دحض الحملات الإعلامية الكاذبة التي يسميها mediamensonge  .ويعتبر ميشيل كولون محقا في قوله بأن جميع الحروب العسكرية تبدأ بحروب إعلامية تسبقها وتهيئ لها الأرضية النفسية واللوجيستيكية، و تواكبها حملات من شيطنة الخصوم وتبرير الهجوم عليهم.
    حقق الكتاب الأول الذي أصدره ميشيل كولون تحت عنوان Attention, médias ! Médiamensonges du Golfe  نجاحا منقطع النظير حيث استطاع من خلاله تفكيك مجموعة من الأكاذيب المضللة التي برر بها البيت الأبيض هجومه على العراق و قتل الملايين من النساء والأطفال بمبررات مشكوك في أمرها من بينها وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق، ومنها تورط النظام العراقي في دعم تنظيم القاعدة إلى غيرها من المبررات التي اقنعت بها الآلة الإعلامية الغربية المجتمعات الغربية لقبول منطق الحرب على العراق.
    بنفس المنهجية النقدية عارض الصحفي ميشيل كولون حروب الأطلسي على يوغوسلافيا، ودحض مبرراتها التي تتخذ دائما من الغطاء الإنساني مبررا لشن هجمات على الخصوم ، كما شارك الصحفي والكاتب ميشيل كولون في تحقيق تجريه مؤسسته الإعلامية الناشئة investig action أثناء الهجوم الأطلسي على ليبيا، وخرج بخلاصة مفادها أن هدف الغربيين وساركوزي على وجه الخصوص من القضاء على نظام القذافي، ليس هو دمقرطة نظام ليبيا أو نشر حقوق الإنسان في البلد الذي عاث فيه القذافي فسادا وقتلا لمدة 40 سنة؛ إنما الهدف الحقيقي من إنهاء القذافي هو الحصول على ثروات العقيد الليبي في الخارج التي تتجاوز 30 مليار دولار كسندات و ذهب مستودعة في الأبناك الغربية وهذا ما وقع بالفعل ، حيث بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي تم الاستيلاء على ثرواته التي هي في الأصل ثروات مسروقة من الشعب الليبي، ولم يتم استردادها لخزائن ليبيا إلى اليوم. كما أن تخطيط القذافي لإنشاء عملة إفريقية موحدة أثار حفيظة الغربيين ، ففي الوقت الذي تدعي فيه القوى الغربية مساندتها لتطلعات الشعوب في ليبيا ودول أخرى في الديموقراطية والتعددية السياسية والتداول السلمي على السلطة ، تقوم الاستخبارات الفرنسية بالانقلاب في مالي وتنصيب ديكتاتور دموي بدل رئيس منتخب ديموقراطيا ليحكم مالي لأكثر من عشرين سنة، وتتراجع فيها مؤشرات التنمية البشرية في وقت تعتبر فيه مالي من الدول الغنية من حيث المعادن وخاصة الذهب.  فحسب ميشيل كولون فالولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها يمارسون سياسات انتهازية و تضليلية لم تعد خافية على أحد ، ففي الوقت الذي يدعون فيه حرصهم على أطفال العراق من ديكتاتورية صدام حسين، يساعدون فيه الدول البترولية كالسعودية والبحرين والإمارات على قصف اليمن وتدميره و قتل الملايين من الأطفال اليمنيين ، يحاصرون دول مستقلة في قرارتها السياسية كفنزويلا والإكوادور ويحاولون بكل الوسائل قلب أنظمة الحكم فيها .. ويدعون أي الغربيون دعمهم للديموقراطية وحقوق الإنسان في العالم 
    عن أي ديموقراطية يتحدثون ؟ وشعب مالي فقير بسبب سياسات تفقيرية متبعة من نظام لا ديموقراطي مسلط عليهم بإشراف ودعم غربي في بلد غني بالذهب ؟ عن أي حقوق يتحدث عنها الغربيون و شعب النيجر يموت جوعا في وقت تزخر فيه أراضيه بالأورانيوم وبثروات معدنية هامة ؟ هذه بعض الأسئلة التي يطرحها ميشيل كولون في لقاءاته الصحفية والإعلامية ويسعى من خلالها إلى تنوير الرأي العام الدولي بالتناقضات الخطيرة التي تعتري خطاب الدول الغربية ويفضح نفاقها السياسي و ازدواجية معاييرها . انتقاد إسرائيل التي يعتبرها ميشيل كولون بأنها أكبر دولة عنصرية في العالم جلب عليه سخط قطاع واسع من الشركات الإعلامية ومن الشخصيات المتعاطفة مع إسرائيل ، واتهم بمعاداة السامية ورفعت ضده دعوى قضائية وحوصر إعلاميا وماليا .
    يعتبر ميشيل كولون من الكتاب والصحفيين الذين يجهرون بمواقفهم المعادية للحروب الإمبريالية التي تشن باسم قيم إنسانية وهي في الحقيقة حروب تخفي وراءها مصالح و منافع، لذلك نراه ينخرط بكل وعي والتزام في الحملات المعادية للحروب، و يواظب على كتابة كتب تحليلية حول نوايا الغرب 
    و استراتيجية الدعاية للحروب التي تقوم بها الأنظمة لتسهيل عملية تدجين الشعوب وتنويمها.

    إيدوي بلينيل :
     رائد التحقيقات الصحفية المتميزة

    EDWY PLENEL إيدوي بلينيل صحفي فرنسي من أصول كاريبية ولد في 31 غشت 1952، وانتمى للتيار التروتسكي اليساري إلى غاية  منتصف السبعينات، عمل صحفيا في جريدة عصبة العمل الشيوعي الفرنسية قبل أن ينتقل للعمل في  لوموند الفرنسية سنة 1980 ، حيث عمل مديرا للتحرير من سنة 1996 إلى 2004،  قبل أن يغادرها بعد انجاز كتاب تحدث فيه عن بعض أسرار لوموند الفرنسية الذائعة الصيت. حققت الجريدة أرقام مبيعات استثنائية في عهد إدارته للجريدة، وأصبح اسم إيدوي بلنيل مزعجا للحكام والسياسيين مما أخضعه لتحقيات واستدعاءات ومحاكمات مختلفة ومتعددة.  أسس سنة 2008 جريدة إلكترونية مختصة في التحقيقات المثيرة و المشمولة بطابع السرية في ملفات كبرى  وحققت MEDIA PART نجاحات كبرى  ولا تزال تؤثر بشكل كبير في المشهد الإعلامي والسياسي الفرنسي والأوروبي عموما.  صحفي متميز بتحقيقاته المشهودة والمؤثرة في الحياة السياسية الفرنسية، من آخر تحقيقاته المثيرة للجدل هي المعلومات التي كشفها مؤخرا عن تقاعس الساسة الفرنسيين الماسكين بزمام الأمور في الإيليزيه عن التصدي بما تقتضيه المرحلة في مواجهة وباء كورونا، تحقيق صحفي من شأنه أن يزعزع أركان الرئيس الفرنسي ماكرون ومن معه في دفة الرئاسة والحكومة. تحقيق أثبت بأن فرنسا الرسمية  كانت آخر بلد أوروبي يغلق أجواءه الجوية مع الصين مهد وباء كوفيد 19 كما أن التحقيق الذي أجراه الصحفي الفرنسي إيدوي بلنيل حول تملص وزيرة الصحة وتلكُّئها في تجهيز المستشفيات وفي توفير الكمّامات الضرورية بالأعداد الكافية ، كما أن التقرير تطرق إلى فضيحة إجراء انتخابات بلدية في عز الأزمة الوبائية وخلص التقرير المثير إلى أن الدولة الفرنسية الرسمية فضلت الاقتصاد والانتاجية والأرباح المالية على صحة المواطن الفرنسي وهذه خلاصة كافية لوحدها لتدين السياسات العمومية الفرنسية في مجال تدبير الأزمات الوبائية. 
    إيدوي بلينيل صحفي مستقل و متمرن  وذو شبكة علاقات قوية وممتدة  داخل دواليب الدولة الفرنسية وخارجها، لذلك وضع هاتفه تحت المراقبة لمدة كبيرة منذ الثمانينات والتسعينات واتهم بالعمالة تارة للروس وتارة أخرى للأمريكان. مواقفه متميزة من عدد من القضايا الخلافية في فرنسا فهو مدافع شرس بدون هوادة عن الأقليات الدينية واللغوية والثقافية  كما أنه من مناصري المهاجرين ضد الحملات الإعلامية التي تقوم بتشويههم. أصدر كتبا عديدة حول التربية والإعلام والسياسة، يعتبر كتاب من أجل المسلمين الذي ألفه ، كتابا ترافعيا ضد الأفكار الجاهزة والنمطية التي تستهدف المسلمين في فرنسا حيث جابه بشجاعة الحملات الإعلامية التي يقودها اليمين المتطرف ممثلا أساسا في الجبهة الوطنية بقيادة لوبين الأب والبنت  وبعض المثقفين من أمثال ألان فينكل كروت صاحب كتاب  الهويات الشقية أو المؤلمة  وفورست وليفي ... و آخرون  ضد المسلمين المتهمين  دائما بالإرهاب و الإساءة  لقيم الحداثة الغربية. كما هاجم الصحفي هيرفي بلينيل، ساركوزي وسياساته التمييزية والعنصرية ضد المهاجرين المسلمين تحديدا من أجل دغدغة عواطف الفرنسيين ودفعهم للتصويت عليه في الانتخابات:" أما اليمين الجمهوري  فقد أدرك بدوره القدرة الاستقطابية للخطابات التي تخلط  بين قضايا الهجرة والانحراف والعجز عن الاندماج والتنافر الحضاري والإسلام. فبعد  خطابه  في دكار سنة  2007  والذي تجرأ فيه على الإعلان دون أن يرف له جفن بأن الإنسان الإفريقي لم يدخل التاريخ بما يكفي، عاد نيكولا ساركوزي سنة 2012-من خلال خطاب غرونوبل- ليعزف على الوتر الذي يدغدغ  أحاسيس العنصريين، آملا في استقطاب  أصواتهم في الانتخابات  التي كانت على الأبواب "   
    وقد كانت ميديا بارت  سباقة في كشف العلاقة "المشبوهة" التي جمعت ساركوزي عندما كان وزير داخلية فرنسا و العقيد معمر القذافي و تطورت التحقيقات الصحفية المثيرة فيما بعد لتكشف عن دعم مالي غير قانوني بمليارات الدولارات الليبية لدعم حملة ساركوزي الرئاسية . 
    يعتبر إيدوي بلنيل نموذج الصحفي المؤمن بقضايا الحريات الفردية والجماعية والمتشبع بقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان في شموليتها لذلك فهو لا يهادن في الدفاع عن مواقفه بكل شجاعة ومسؤولية ويقوم بعمل توثيقي وتحقيقي يمكن أن يحتدى به كل الاقلام الصحفية المؤمنة بالحقيقة والمحترمة لسلطة الإعلام كسلطة مستقلة لا تقوم للديموقراطية في بلد من البلدان قائمة  إلا بها. فالمعرفة والمعلومة سلاح بيد المواطن من أجل تكوين رأي عام  في صالح القيم الإنسانية ، كتابات وتحقيقات أمثال إيدوي بلنيل تعطينا الأمل في إمكان وجود إعلام مستقل عن كبريات مختبرات صناعة المعلومات وتوجيه الناخبين نحو الاتجاهات اليمينية والشعبوية المتطرفة التي لا تبني سوى عالم مليء بالأحقاد والضغائن ويعطي مبررات للإقصاء والتهميش ويمهد للحروب.
     يقول إيدوي بلنيل: "دفاعا عن كل اللواتي، وكل الذين يريد الخطاب المهيمن أن يصهرهم  ويحصرهم في عقيدة واحدة، تحصر بدورها في أصولية ظلامية. تماما كما بالأمس، أعيد  أناس آخرون إلى ماهية واحدة وتعرضوا للسخرية والافتراء من خلال عصيدة إيديلوجية من الجهل والارتياب  والتشكيك مهدت الطريق للاضطهاد.
    إن هذا ليس رهانا تضامنيا فحسب، بل رهان الوفاء لتاريخنا وذاكرتنا وإرثنا ودفاعا عن المسلمين، كما يمكن أن يكون دفاعا عن اليهود ودفاعا عن السود وعن الغجر الروم، أو أيضا دفاعا عن  الأقليات والمضطهدين ، أو باختصار – دفاعا عن فرنسا" 
    في كل المعارك الحقيقية نجد الصحفي المميز يساري الهوى  إيدوي بلينيل في واجهة المدافعين عن الحرية والديموقراطية ومحامي الحركات الاجتماعية لذلك نراه مدافعا شرسا عن أصحاب السترات الصفراء  في فرنسا، ومساندا نضالات الشعوب في كل أصقاع العالم ويقول عن نفسه أنه ينتمي إلى اليسار الثقافي وليس السياسي...

    جان زيغلر : 
    المناضل الأممي الذي آمن بالإنسانية 
     والعدالة الاجتماعية

    من الصعب أن تجود الحياة بشخصية أممية ناضلت من داخل المؤسسات الدولية من أجل حق الشعوب المهمشة المستضعفة الفقيرة في العيش الكريم  بشراسة وصمود منقطع النظير، ومن حسن حظ الإنسانية أن في العالم أمثال جان زيغلر  الأستاذ الجامعي و  الموظف الدولي الذي اشتغل كثيرا في دهاليز منظمات الأمم المتحدة بكل إنسانية وتجرد ونكران ذات  حيث استثمر الآليات الأممية من أجل فضح جشع المؤسسات المالية الدولية وانتهاكها المستمر لحقوق الشعوب وهدرها لثروات الشعوب الفقيرة،  وساهم في تبيان حقيقة السرقة الموصوفة التي يقوم بها رؤساء وحكام عدد من الدول الفقيرة في العالم وتهريبهم لأموال ومقدرات شعوبهم وتكديسها في الأبناك السويسرية، و مناطق مختلفة من العالم في ما يسمى بالجنات الضريبية. جان زيغلر مناهض  شرس للنظام الرأسمالي المتوحش  وللرأسمال المالي الذي لا يعترف بالإنسانية، ولا بحقوق الإنسان ، لذلك ناصبته المؤسسات الدولية العداء ورفعت عليه دعاوى قضائية  دولية من أجل إسكاته و ثنيه عن التنديد بالمآسي التي تسببها الرأسمالية في العالم.
    جان زيغلر مواطن سويسري من مواليد 1934،  عضو اللجنة  الاستشارية لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أستاذ بمعهد الدراسات السياسية بجامعة غرونوبل و أستاذ بالمعهد الجامعي  لدراسات التنمية وأستاذ السوسيولوجيا بجامعة جنيف  ومدير مختبر  سوسيولوجيا  مجتمعات العالم الثالث  بجامعة جنيف وأستاذ زائر بجامعة باريس الأولى السوربون، كما مثل جنيف  في البرلمان  الفيديرالي السويسري إلى غاية  سنة 1999، وعضو  المجلس التنفيذي  للأممية  الاشتراكية  و مقرر  خاص لمجلس  حقوق  الإنسان التابع للأمم المتحدة  من أجل الحق في التغذية (2000-2008). له عدد كبير من الكتب والمقالات المنتقدة للنظام الرأسمالي المتوحش والمنتقدة للاستنزاف الذي يمارسه النظام العالمي ضد الفقراء والمستضعفين والمعذبين في الأرض بلغة فرانز فانون وأنجز حوله العديد من المواد الإعلامية والبرامج التوثيقية  قاسمها المشترك هو الدفاع عن حقوق الإنسان وعن العدالة الاجتماعية.
    زيغلر من طينة الكبار والعظماء فمواقفه تشهد على نضاله وكتاباته كلها ترافع من أجل الفقراء ومن أجل أطفال العالم الثالث الذين يموتون جوعا وبالأمراض والفقر والتهميش في وقت يعرف فيه العالم ازدياد دخل وثروات أقلية منتفعة من الاقتصاد العالمي اللامتكافئ . يقول زيغلر بأن أي طفل يموت  في العالم بسبب الجوع  هو جريمة ضد الإنسانية لأن ثروات العالم قادرة على أن تغطي حاجيات الإنسانية جمعاء لكن الاحتكارات الرأسمالية وسياسة التجويع التي تمارسها الدول الكبرى والمنظمات الدولية التابعة لها تؤدي إلى كوارث إنسانية. جان زيغلر متأثر في أفكاره بماركس وإنجلز و روزا لوكسمبورغ  وبأصدقائه رجيس دوبري وتشي كيفارا ولوي ألتوسير وبورديو وغرامشي،  لذلك تراه في كتاباته كلها يستشهد بهم وبأفكارهم وبتضحياتهم من أجل عالم إنساني متضامن. 
    يؤكد جان زيغلر أن في  كل خمس ثوان يموت طفل في العالم بسبب الجوع في وقت يستطيع فيه العالم أن يغدي بثرواته وخيراته أكثر من ساكنة العالم مضاعفة، لكن سوء توزيع الثروات في العالم 
    و احتكار الأدوية والأغذية من طرف شركات معدودة يعرض العالم لكارثة إنسانية تتطور يوما بعد يوم ، زيغلر يؤكد كذلك بأن دخل عدد محدود من الشركات العابرة للقارات يقارب دخل ثلثي ساكنة الأرض وأن أقل من 90 ملياردير في العالم يملكون ثروات فلكية أكثر من ثلثي العالم. لذلك يقترح المناضل جان زيغلر تقوية الحركات الاجتماعية و الترافع الميداني العملي الأممي من أجل إقرار ضريبة على الثروات وإحداث صناديق دولية، ومحاربة تهريب الأموال إلى البلدان المحتضنة لمال نهابي شعوبهم لذلك ، فمن غير الإنساني أن يموت الأطفال في العالم لأنهم  بحاجة لدواء لا يكلف أكثر من 6 أورو في وقت ينفق فيه العالم بسخاء على الحروب والتسابق النووي وتدمير البيئة. 
    أمثال جان زيغلر يزرعون الأمل في إمكانية بناء عالم إنساني متضامن، فرغم أنه برجوازي أبيض سويسري يعيش حياة سعيدة على حد قوله إلا أنه أبى أن يسكت ويتغاضى عن آهات وآلام الشعوب المقهورة المستضعفة المحاصرة بين الجوع والاستبداد، بل ساهم مساهمة قيمة هو  ورعيل من المناضلين الحقيقيين  كما وصفه بذلك باسكال بونيفاس – الذي أعده من المناضلين الجديين-  في تنظيم حركة دولية مناهضة للعولمة و مطالبة بالعدالة الاجتماعية.

    غربة الراعي : سيرة ذاتية لعالم فلسطيني مرموق  اسمه احسان عباس .
     
    الصدفة فقط هي من دفعتني دفعا الى الاطلاع الاولي على سيرة ذاتية لناقد فلسطيني ومفكر من الطراز
     الاول ، اسمه احسان عباس  وتدل سيرته المكتوبة بلغة عربية سليمة بسيطة  على حب المفكر للناس وتضحيته من اجل اسعادهم  فقد ذكر جميع مجايليه من الكتاب والمفكرين بتقدير كبير امثال جبرا ابراهيم  جبرا و اميل حبيبي والاخرين ، هذه السيرة الذاتية لفلسطيني عاش ازمات المنطقة بقلبه وجوارحه وعقله اثرت تأثيرا كبيرا في الكاتب وصاغت شخصيته التي تميز بها الى ان حان وقت رحيله سنة 2003 بعد رحلة علمية تعليمية شاقة بكل من حيقا وصفد والقدس و القاهرة والخرطوم وبيروت حيث قضى اكثر من عقدين من الزمن في الجامعة الامريكية  ، فقد عاش الكاتب مراحل من نضال قريته عين غزال و الشعب الفلسطيني عموما  ضد الانجليز كما اكتوى بنار النكبة الفلسطينية سنة 1948  وذاق مرارة الحرمان من الارض والوطن وتجرع علقم التنقل بين الدول المجاورة  بين القاهرة وعمان وبغداد وبيروت حيث قادته متطلبات العيش من جهة وحيث تشتت الاهل والعشيرة من جهة اخرى  . 
    تتميز السيرة الذاتية لاحسان عباس  بالبساطة والسلاسة  ولكن اساسا بالعمق الانساني  والتلقائية في التعبير والصدق الذي ينفجر من الكلمات المستعملة ،  فهو الذي " اجبر" على كتابة هذه السيرة من قبل اصدقائه ومعارفه ، لانه لا يرى في سيرته ما يستحق الذكر من احداث كبرى و تقلد مناصب عليا ، هنا مرة أخرى يظهر الكاتب تواضعه وزهده من الاضواء الكاشفة والشهرة الملعونة لديه كما يذكر في كتاب سيرته ، يقول الكاتب والناقد الفلسطيني احسان عباس  في مقدمة سيرته : "فاتحني عدد غير قليل من الاصدقاء في ان اكتب  سيرتي الذاتية ، فأخذ اقتراحهم يمثل هاجسا يدور في نفسي ، ويستثير  ذاكرتي ، ولذا توجهت الى اخي بكر عباس اسأله رأيه في الامر ، فكان جوابه المباشر ان قال : لا انصحك بذلك ، لان  حياتك تخلو او تكاد من احداث بارزة ، تثير اهتمام القارئ وتطلعاته."-1-
    عاش  احسان عباس  حياة طفل فقير  في وسط قروي بسيط يعيش اهله على زراعة بسيطة حتى ان  اباه  باع مجموعة من املاك العائلة من اجل تسديد ديونه المتراكمة بفعل فشل تجارته ، يقول احسان عباس عن هذه الواقعة ، " وحين دخلت الى بيتنا ذات يوم وجدت امي واختي في حالة حزن  شديد وبكاء صامت ، ولما سألت عن السبب ، قالت امي : ان والدك  قد باع قطعتين من ارضنا  ليسد دينه." 2- ص 63 ، نشأ الكاتب  في جو الحرمان والفقر والبؤس الاجتماعي ، حيث حرم الاطفال من  الالعاب والدمى والابتكارات الحديثة ، لذلك اضطروا الى ابتكار العاب تقليدية تتماشى مع وسطهم الفقير والمعدم ، ولعبت المدرسة التي تم إنشأها  في مسقط راسه في   قرية عين غزال دورا حاسما في تغيير مسار الطفل احسان الذي تعب كثيرا من تشابه هذه التسمية مع اسم احسان النسوية في مناسبات عديدة محرجة .  فكيف دخل الطفل احسان الى المدرسة ؟ : " كان الدخول الى المدرسة لا يمكن ان يتم قبل بلوغ السابعة ، ولكن صداقة والدي  للمعلم الاول ( المدير) في مدرسة القرية ذللت هذه العقبة ، فقبلت وانا في  سن السادسة ." 2 ص 29 . واعتبر المفكر الفلسطيني  ولوجه المدرسة إيذانا ببدء مرحلة التحرر  من بعض القيود المفروضة من طرف اهل القرية و تعلم فيها العابا جديدة وتطورت ثقافته ، يقول احسان " ادخلت المدرسة الى نفسي ابتهاجا لم يكن  لها  به عهد ، بما وفرته من تنوع ، فالى جانب حل الغاز الدروس ، وازدياد منسوب الثقافة ، عوضتني عن الالعاب الريفية الخشنة العابا لم اكن اعرفها ، فهناك لعبة كرة القدم ، وركض المسافات المعينة  وشد الحبل ، والقفز فوق الحبل ، والتمرينات الرياضية." 3 ص 33 .بعد مرحلة الطفولة الشاقة ، انتقل   الطفل احسان الى مرحلة جديدة، مرحلة الدراسات الثانوية بحيفا وصفد ،حيث احتك بالمدينة وتعرف على شروط العيش فيها رغم حنينه الدائم الى قريته واهله واخوته  على وجه الخصوص اخاه بكر عباس  الذي  احبه كثيرا ورافقه طيلة فترات حياته. وتشي سيرة غربة الراعي لاحسان عباس عن واقع المرأة المزري في هذه المرحلة التاريخية، حيث ان المرأة  بصفة عامة تعاني من اسار التقاليد الاجتماعية المجحفة ، و يمكن ان نصف هذه المرحلة الدقيقة التي تعيشها المرأة بمرحلة الحب الممنوع ، فحالة نوار التي احبها الكاتب دون ان يستطيع مفاتحتها في الموضوع امتثالا لتقاليد القرية ومريم التي ثارت على ظلم القرية وتعرضت للاهانات والنبذ  كلها مؤشرات على ان المرأة في المجتمع الفلسطيني القروي كانت مضطهدة ومسلوبة الارادة في الفترة التاريخية التي عاش فيها صاحب السيرة . يقول احسان عباس  بخصوص المرأة ما يلي : " وكنت اعلم ايضا ان الحب ممنوع في الريف ، وان قصة (مريم) قد حددت كل شئ بخطوط سوداء او حمراء لا قبل بمحوها او طمسها او التغاضي عنها.لكنها خفقة صبيانية بريئة لا احب ان اهملها  وانا اوشك ان اغادر القرية."4 ص 40 . لكن عباس  بثورته الغير معلنة منذ البداية ضد العادات والتقاليد المتخلفة  حاول تكسير نظرية الحب الممنوع وتحويله( الحب)  الى مباح ولو من بعيد،   فتعلق قلبه بفتاة  اسمها "نوار" واستطاع التقرب منها والحديث اليها لكن يبدو ان الفتاة لم تكن تشعر بنفس الشعور اتجاه عباس ، يحكي الكاتب عن هذه الواقعة ما يلي :"وقد جلسنا معا في ظل شجرة على مقربة من الحقل ، ولكني لم أجرؤ على ابتداء حديث معها، إذ كنت اجهل كيف يكون الحديث الى فتاة لا اجد واياها ارضا مشتركة نقف عليها، وهكذا ضيعت فرصة لن تسنح ابدا ، وعدت الى القرية حين عاد العاملون  في الحصاد ، وانا احس بالبؤس  وبعدم القدرة على ان اكون انسانا سويا."  5-119. في خضم الانفتاح الممنهج لاحسان عباس في البحث عن العنصر الاخر لاثبات ذكورته وسويته ، جاءه الاب  او الوالد  بما يمثله من قوة اجتماعية ودينية وسيطرة اقتصادية "باعتباره معيل الاسر ة"  فارضا فتاة على ابنه عباس ليتزوجها ، فكان التحول الكبير في حياة المفكر الفلسطيني الذي لم يستطع مقاومة رغبة الوالد ، فكانت الصدمة الاولى .يحكي الكاتب عن هذه التجربة المريرة ما يلي :"قلت :هبني وافقت على فكرة الزواج فانا ارفض هذه الطريقة جملة وتفصيلا.قال "الوالد" لا اظنك ترضى ان تمرغ  لحيتي  في الوحل ؟، فانا  قد اعطيت كلمة نهائية لوالد الفتاة .قلت : ولكن من حقي  ان اكون صاحب الرأي فيما يخص مستقبلي ، وكلمتك ليست شيئا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه....قلت : لا اظن انك انفقت كل السنوات الماضية  في تعليمي لكي تجعل مني انسانا معطل الارادة."6-156 لكن لماذا اصر الوالد على ابنه عباس بتزويجه من فتاة بعينها وبهذا الالحاح؟ : "كنت اعلم ان لدى والدي  اسباب اخرى تجعله يصر  على تزويجي ، من اهمها توقه الى ان يرى له حفدة من ابنه الاكبر ، ومنها انه تابع لعادات الريفيين في التبكير بالزواج .ولكن الذي حيرني بل اذهلني هو لماذا اختار هذه الفتاة دون غيرها ؟، هذا لغز لعلي لن احله ابدا.....فـإن الفتاة التي قبلت هذه الطريقة في الزواج مظلومة مثلي  او اكثر مني قليلا ، ذلك اني استطعت ان اقول لا في لحظات المواجهة ، وان لم تفدني هذه ال "لا" أما هي  فأظنها قد لا تستطيع ان تقول ذلك." 7-158  . لاحسان عباس علاقة هيامية وغرامية  مع القراءة والكتاب والشعر ، اذ ان سيرته حافلة بالمطالعات والقراءات المتنوعة وباللغات المختلفة ، ذلك ما يبين  موسوعيته واطلاعه الكبير على الادب اللاتيني واليوناني والعربي والانجليزي ، فهو مولع بمسرحيات شكسبير وخصوصا رائعته هاملت و مولع بالادب الاندلسي وعميده ابن حزم ، كما تأثر بمقابسات وادب ابو حيان التوحيدي ، حكى لنا الاديب احسان ظروف ارتباطه وولعة بالقراءة منذ مراحله العمرية الاولى هو ورفاقه الطلبة  في الكلية الموجودة بالقدس  عندما قال :" واخذوا  لا يقنعون  بساعات المذاكرة بل يتحدون قوانين الكلية  ويقومون في الليل ، فإذا وجد احدهم حماما خاليا اضاءه وجلس يدرس ، وهناك طلبة يذهبون الى غرفة النجارة (المنجرة) –وهي مبنى منفرد مستقل- واخرون  يحضرون "البطاريات" ويضيئونها وهم في فراشهم ويخفونها تحت الفراش ليقرأوا ." 8-121 وقال في موضع اخر من الكتاب يشرح فيه بعض قراءاته  مايلي :"وكنت قبل دراسة ادب القرن الثامن عشر قد تعلقت بالشعراء الرومنطقيين : كولردج وورد زورث وكيتس وشلي وبايرون وبخاصة الثاني بين هؤلاء ، كما تعلقت بما درسناه من مسرحيات شكسبير وبخاصة مسرحية هاملت ، التي اصبحت  المرافق لي في الكلية وبعدها ، قرأتها في  الكلية مرات ومرات ، واظنها لونت حياتي بعد تخرجي بلونها الخاص" 9-131 . وقد تاثر كثيرا احسان عباس  بالشاعر الروماني كاتلوس وترجم بعض  اشعاره وقصائده الى اللغة العربية ، كما انبهر  بالادب الانجليزي وخاصة قصيدة ميلتون "ليسداس" في رثاء صديقه كنغ . وتبقى شخصية مريم هي الشخصية المحورية في السيرة الذاتية لكاتب غربة الراعي  لما تمثله في نظر احسان عباس من  نموذج للمرأة المقهورة والمظلومة والتي استطاعت ان تكسر قيود الماضي وحنينه نحو العبودية والتخلف والاستيلاب في وقت كانت مريم في الماضي  تمثل بالنسبة لاحسان وساكنة قريته نموذج المرأة المنبوذة والمنحرفة   ، ففي فقرات كاملة تحدث المفكر احسان عباس بلغة اعتذار ومراجعة لمواقفه السابقة  عن مريم ابنة  القرية التي ناضلت بقوة من اجل خلاص المرأة  لذلك قال عنها:"اليوم وانا اتطلع الى الماضي البعيد  اجدك لم تقنعي بالثورة  من اجل الحب  بل امعنت في التحدي ، حين احببت قاتل عمك .كيف غفلت عن كل هذه  الارادة يوم حققت ذاتها.حين مشيت في دروب الحياة معطل الارادة ، ممزق النفس  بين رسوم الطاعة وواجب العصيان.اليوم فقط  وانا اتطلع الى الماضي البعيد .سقط عن عيني حجاب الغفلة الكثيف ، لقد سخر الزمن مني حين امتد بي الى هذه اللحظة  التي تحطمت فيها جميع البنى المادية والمعنوية ، وعجزت عن الوقوف على اطلالها. قد يكون هذا الاعتذار جاء متأخرا كثيرا ، ولكنه كان يدور في نفسي منذ مدة غير قصيرة وإنما تأخر كما تأخرت كتابة هذه الاعترافات."10-264 تعتبر سيرة احسان عباس نبراسا للاجيال المقبلة لما تحتضنه من معاني الحب والانسانية المتراكمة عبر تجاربه المتنوعة والغنية في ربوع واصقاع العالم ، من طفل قروي مغمور ولد في  شهر دجنبر  في احدى القرى القريبة من حيفا 1920  الى كاتب ومفكر عالمي ملا بعلمه الجامعات البريطانية والامريكية والالمانية  منذ بداية السبعينات والثمانينات  ، صحيح انه زاهد في الحياة كما يحكي هو ذلك عن نفسه  ولكنه استطاع ان يدخل الى قلوب وعقول الكثير من الادباء والمفكرين  العالميين الذي غرفوا من ثقافته الواسعة  واستفادوا من  تحقيقاته  المتميزة للوثائق التاريخية وترجماته المحكمة لفن الشعر لدى ارسطو وغيرها من الترجمات التي افاد بها المكتبة العربية. ويبقى ان نقول في الختام بان قضية فلسطين كعمق انساني وحضاري كانت حاضرة في سيرته وان لم تكن بالزخم الكبير المتوقع من فلسطيني عانى النكبة وفراق الارض وتشتت الانسان وغياب الوطن ، كما ان عدم الانتماء السياسي المباشر للمفكر والاديب الفلسطيني الى الاحزاب السياسية ساعده في الاحتفاظ على علاقاته مع جميع الاطياف رغم صداقته القوية مع الشيوعيين في تلك المرحلة اكثر من غيرهم  وان كان الانتماء السياسي في ما مضى سبيلا من سبل الشهرة والترقي الاجتماعي .
     غربة الراعي  لم تكن  سيرة ذاتية تحكي عن الماضي فقط  ولكنها غربة الراعي في الفترات الاخيرة التي عاش فيها الكاتب ، امراض الشيخوخة وخذلان البعض وان كان تسامحه يضفي بظلاله على الجميع ، يقول الكاتب احسان عباس : " وقد اكتشفت منذ سنة 1994  انني اصبحت فريسة لأمراض الشيخوخة ، وقد قال لي طبيب نفسي ان مشكلتك هي الكآبة ، فقلت له : لا عجب في ذلك بعد شهود كل هذه الماسي في حياة امتي " 11-262  ويختم رسالته  الى الاجيال المقبلة بنبرة تواضعية منقطعة النظير موضحا  ما يلي :" وقد وضحت لي كتابة هذه السيرة مدى أخطائي في رحلة طويلة ، ولكنها من جهة أخرى كشفت لي عن استمراري طويلا في الخضوع لقيم القرية دون محاكمتها او مراجعتها،كما ابانت لي ان كل ما لقيته من الآلام في تلك الرحلة لا يقف في طول مليمتر واحد الى جانب الالاف امتار  الالام التي عاناها الشعب  الفلسطيني ...ثم انني  لا احب ان اسابق الذين يتحدثون  عن مصلحة الاجيال المقبلة  وازايد عليهم ، لاني اعتقدت ان  الاجيال المقبلة ستدرك مصالحها ضمن ظروفها وبيئاتها ، فأما هؤلاء الاوصياء على الاجيال المقبلة  فلست منهم في  شئ. اني حين اجد أن حياتي كانت تقررها الظروف المتغيرة يوما بيوم او عاما بعام اعتقد انه ليس من حقي  ان افرض  مفهومات عصري على عصور  تالية  ولا ان ارسم لها منهجا اعده-غير صالحا لها-قبل ان ارسمه على الورق .هذا هو رأيي وأرجو  ان اكون مخطئا."
    وختاما نقول : لكي لا تستمر غربة المفكرين الحقيقيين في زمن الرداءة والاصطناع.

    المراجع:
    *جميع المقتبسات مأخوذة من  كتاب  غربة الراعي ، تأليف إحسان عباس الطبعة الأولى  الإصدار الثاني 2006  دار الشروق للنشر والتوزيع .

    ادوارد سعيد : مثقف المضطهدين وناقد الاستشراق المؤدلج
     

    غيب السرطان  المفكر والباحث والناقد الفلسطيني ذو الحضور العالمي المتميز  الراحل ادوارد سعيد  يوم 25 شتنبر 2003 عن عمر يناهز  ثمانية وستون عاما   بعد حياة ثقافية وفكرية وفنية  خصبة وغنية  استطاع في حياته ان يفرض نفسه كمثقف مفكر مؤمن بقضايا الديموقراطية وحقوق الانسان بالعالم الثالث و ان بشكل تيارا ادبيا نقديا مضادرا للاستعامار والافكار الكولونيالية   قائم الذات في الاوساط الجامعية الغربية وخصوصا الامريكية   كما ناضل من اجل تصحيح صورة الاسلام وفلسطين خصوصا في اوساط النخبة العلمية الغربية داحضا بذلك مجموعة من اراء المستشرقين الذين شوهوا الاسلام والقضية الفلسطينية وربطوا هما بالارهاب والتطرف ومعاداة الاخرين . 
    رغم ان عائلة ادوارد سعيد كانت الى حد ما ميسورة الحال الا انه عاش طفولة صعبة و فترة شباب اصعب مغتربا في عدة عواصم  وقد تحدث ادوارد سعيد باسهاب عن سيرته الذاتية الصعبة  في كتابه خارج المكان  الذي صدر سنة 1996  تاملات في المنفى  سنة 2000 وقبل ذلك وذاك شذرات من السيرة الذاتية في كتابه  ذاكرة الشتاء :  افكار عن الحياة والمنفى سنة 1983.  ولد ادوارد سعيد في القدس  في 1 نونبر 1935   ثم هاجر مع عائلته من فلسطين الى القاهرة  عام 1947  حيث درس فيها المرحلة الابتدائية   ثم انتقل من  القاهرة الى بيروت  ثم منها الى  الولايات المتحدة الامريكية  سنة 1951  وتخرج من جامعة  برنستون عام 1957  وحصل على الدكتوراة من جامعة  هارفرد عام 1964  وعمل استاذا للادب الانجليزي والادب المقارن في جامعة كولومبيا بنيويورك .
    لم يهتم ادوارد سعيد في بدايات حياته بالسياسة ولا بالافكار الثورية التحررية بل اتجه نحو الادب والموسيقى  وهو ما ميز كتاباته الاولى واطروحته للدكتوراة التي حولها الى اول كتاب  سماه جوزيف كونراد وادب السيرة اصدره سنة 1966 ، التي كانت حول  الاديب البولوني جوزيف كونراد الذي تشبه سيرته كثيرا سيرة ادوارد سعيد من حياة اغترابه المبكر من وطنه و حرمانه من حنان الام منذ الطفولة بفعل الهجرة الى جانب قسوة الاب وسلطته المتسلطة الغليظة ، هكذا بدا ادوارد سعيد حياته وهكذا كانت حياة  كونراد جوزيف كذلك. لكن تنامي تاثير الصراع العربي الاسرائيلي على الراي العام الامريكي وانتشار موجات العنصرية ومعاداة الاجانب في الولايات المتحدة الامريكية وحرب 67 و 73 بين العرب واسرائيل  كلها عوامل  ادت الى ايقاظ الوعي النقدي والنضالي لدى ادوارد سعيد  كما ان لهذه العوامل مجتمعة ينضاف اليها المد الثوري التحرري الذي يعرفه الادب العالمي  خصوصا لدى جيل من الكتاب والنقاد المتميزين الذين تاثر بهم ادوارد سعيد اشد التاثر  ونذكر منهم على المفكر والفيلسوف الفرنسي  ميشيل فوكو الذي استفاد ادوارد سعيد كثيرا من منهجيته العلمية في تناول القضايا وتفكيكها وخصوصا كتابه اركيولوجيا المعرفة و الكاتب والمناضل الايطالي الكبير  صاحب كتاب دفاتر السجن والذي سجنته الفاشية الايطالية لاسكات صوته واخراس افكاره  ومن هذا المناضل الثوري الايطالي استفاد الراحل ادوارد سعيد من عدة مفاهيمية فكرية كبيرة واستعار منه مفاهيم السيطرة والهيمنة والمفكر العضوي وغيرها من الفاهيم التي استعملها ادوارد سعيد في انتاجاته الادبية والفكرية المتميزة . والمفكر الثالث هو المفكر والناقد الادبي الكبير الانجليزي الويلزي الاصل وليامز ريموند الذي تاثر به الراحل ادوارد سعيد تاثرا كبيرا في مناهجه و طرائق تفكيره.
    سنة 1978 اصدر المفكر ادوارد سعيد كتابه الذائع الصيت  الاستشراق  وقد شكل صدوره ضجة كبرى في الاوساط العلمية والاكاديمية والسياسية الغربية والشرقية على وجه العموم ، فكان كتابا مؤسسا يعتمده نقاد الفكر الاستعماري وتعتمده الحركات التحررية الاسلامية والقومية واليسارية المضادة للهيمنة الغربية فشكل مرجعا فكريا لها يسند افكارها ويبرهن على ان الهيمنة الثقافية والفكرية الغربية مستمرة رغم اضمحلال الاستعمارات العسكرية المباشرة  وتقلصها في خضم الاستقلالات السياسية للشعوب. لكن رغم شهرته وتاثيره الكبير يعتبر بعض النقاد والمفكرين  ومن بينهم المفكر  والمترجم الاردني وليد حمارنة ان كتاب الاستشراق  ليس افضل كتب المفكر الكبير ادوارد سعيد  وان كان اشهرها ،اذ اعتبر  المفكر الاردني كتاب البدايات وصور المثقف احسنها واعمقها كما ان بعض الكتاب شن هجوما لاذعا على ترجماته الى العربية التي اعتبروها ترجمات مخلة بروح الكتاب و بعيدة عن فهمه و تملك افكاره . 
    ساهم ادوارد سعيد بشكل كبير في خلخلة الوعي النمطي الغربي   بشان القضية الفلسطينية  و فتح حوارا معمقا حولها في الاوساط الاكاديمية والعلمية الامريكية جلب له ذلك نقمة العديد من الاوساط السياسية والفكرية المساندة لاسرائيل  بل قام عدد من المتعصبين للراي والموقف الاسرائيلي الى احراق مكتبه في الجامعة سنة 1991 .كما ان كتابات ادوارد سعيد كشفت زيف الادعاءات العنصرية لبعض المفكرين الغربيين الذي يعتبرون العرب والمسلمين والاسيويين والافارقة اجناس دون الاجناس الاخرى  و ان دمقرظتهم او معاملتهم بمنطق حقوق الانسان غير مستساغ ولا مقبول وفي هذا الموضوع بالذات انتقد ادوارد سعيد احد كبار المستشرقين الذين يبجلون النظرة الغربية ويعتبرون منتهى الكون  ويتعلق الامر ببرنارد لويس . كما انتقد المفكر ادوارد سعيد  الامبريالية ونقد الياتها في اخضاع الثقافات  و الهويات الاخرى في كتبه  الاستشراق  1978  والامبرالية والثقافة 1993  وصور المثقف 1994، كما ناضل المفكر ادوارد سعيد بشكل مباشر في النضال الفلسطيني وانتسب في مرحلة من المراحل للمجلس الوطني الفلسطيني و سعى الى قيام  دولة علمانية ديموقراطية ثنائية القومية  في فلسطين  التاريخية  لكن شروع  منظمة التحرير الفلسطينية في مفاوضات مع اسرائيل وتوقيع اتفاقيات اوسلو جعلت ادوارد سعيد يتخذ موقفا معارضا لهذه الاتفاقيات فجعله في مرمى الانتقادات الاسرائلية والفلسطينية على حد سواء .
    بقدر ما كانت حياة المفكر والفنان الموسيقي ادوارد سعيد حياة صعية شاقة مليئة بالتحديات فانه استطاع ان يفرض نفسه كمفكر محترم في القارات الخمس وكمناضل متشبع بالقيم الاسانية بدون حسابات الربح والخسارة و جسد بذلك مثال المفكر المثقف العضوي بلغة انطونيو غرامشي ، لذلك قال عنه الدكتور فيصل دراج في احدى مقالته التأبينية له في مجلة الطريق البروتية عدد 5و6 لسنة 2003 مايلي :"دافع سعيد عن  "النقد الدنيوي"  وشاء ان يكون مثقفا دنيويا، في النظر والممارسة . وعن  نظر  دنيوي  مطلق السراح صدرت وظيفة المثقف ، التي جسدها الناقد الفلسطيني ممارسة ، قبل ان يعطيها  صياغة نظرية  لا تكتمل .واول هذه الوظائف "تمثيل " المحرومين ،اللامسموعين،اللاممثلين،المغبونين والمهمشين..كأن سعيد ، الذي نقض ثقافة الاختصاص ، خص المثقف الحقيقي بوضع ثقافته  تحت تصرف هؤلاء الذين  لا "ثقافة"لهم ،والذين ان امتلكوا ثقافة موائمة لا يحسنون التعبير عنها،كما يفعل المثقف، او لا يجدون  المكان المناسب للاجهار بها ....ساوى سعيد بين الثقافة والمقاومة وهجس بوعي  ثقافي جديد ينصر المهزومين ويواجه المنتصرين ، ويوزع حقوقا متساوية عادلة على الجميع .وصف سعيد ، قبل زمن المثقفين الحقيقيين بانهم "مخلوقات نادرة جدا" واحتفت هذه المخلوقات بعد زمن بانضمام مثقف نادر اليها يدعى : ادوارد وديع سعيد."

    فيصل دراج : الناقد الروائي الكبير و مثقف الاغتراب المزدوج .
     

    بصم المفكر الكبير فيصل دراج الساحة الفكرية والثقافية بكتابات  تحليلية كثيرة وغزيرة  تناولت مجالات مختلفة يجمع بينها الالتزام الثقافي والفكري بقضايا العقلانية والتقدم والحرية ونشدان النماء والتطور والتقدم لمجتمعاتنا الرازحة تحت نير الاستعباد و التخلف والاستبداد ، فالدكتور فيصل دراج من نخبة المفكرين المتنورين الذين بذلوا عمرهم و جهدهم من اجل استقلالية المفكر والتزامه بقضايا الحرية والديموقراطية في زمن صعب ان تجد مثقفا ومفكرا يقول ما يفكر به بدون وجل ولا دوران. عاش المفكر الفلسطيني فيصل دراج مغتربا مبكرا  عن وطنه بفعل الاحتلال فانتقل مكرها الى لبنان حيث اشتغل في الفكر والاعلام واشرف على مجلة شؤون فلسطينية وعمل الى جانب الفلسطيني المرموق محمود درويش  ، وهذه الفترة البيروتية اثرت فيه التاثير الكبير حيث كانت لبنان في هذه المرحلة تعيش فورة وثورة فكرية وثقافية متميزة  خصوصا وانه التقى مع رعيل من المفكرين اليساريين الذين استفادوا من  وجود هامش من  الحرية المتوفر بلبنان في غياب دولة مؤسساتية قامعة ، فنسج فيصل دراج علاقات وصداقات متينة مع  المفكرين الكبار امثال حسين مروة الذي تأثر فيصل دراج بتواضعه و حبه للخير وتفانيه في خدمة الفكر المستنير، كما تعرف على المفكر اللبناني الماركسي مهدي عامل الذي تساجل معه في عدة قضايا فكرية وسياسية وخصوصا نقده لكتابه بحث في اسباب  الحرب الاهلية اللبنانية   كما تعرف على يمنى العيد و محمد دكروب  الذي كان المسؤول عن مجلة الطريق البيروتية الذائعة الصيت وغيرهم من رواد الكلمة التي يمكن خندقتهم في خانة اليسار الفكري والثقافي .  في خضم العلاقات الانسانية والنضالية التي نسجها في الساحة البروتية ، جاء الاجتياح الاسرائيلي للبنان سنة 1982 ليجبر ويرغم المفكر فيصل دراج  على ترك بيروت ويغترب اغتراب متجدد،  حيث غادرها متوجها الى دمشق التي احتضنته وتعلم فيها ودرس في جامعاتها  الى ان اضطر الى الاغتراب مرة اخرى والرحيل  مضطرا بعد الربيع السوري وما تلاه من احداث تراجيدية بعد 2011 . حصل الدكتور فيصل دراج على درجة الدكتوراة في الفلسفة  من احدى  الجامعات الفرنسية وتحديدا من جامعة تولوز  سنة  1974  وتقدم  باطروحة حول الاغتراب والتمزق الهوياتي  الذي عانى منه المفكر طيلة حياته كفلسطيني  حيث عانى من ويلات التهجير والنفي القسري واجبر على مغادرته قريته الفلسطينية وهو في سن الخامسة . قام المفكر الفلسطيني فيصل دراج بعدة مراجعات نقدية للفكر لليسار العربي  الذي اعتبره حركة   شعبوية اكثر منه تيار يحمل مشروع مجتمعي تغييري . كما انه انتقد ادوار المثقفين في مجتمعاتنا ووصفهم بالمهزومين والمستكينين والمفصولين عن هموم واقعهم ،   في عدة مواقع من كتاباته الكثيرة والغزيرة ، كما انه لم يعد يستسيغ تسمية المفكرين بهذا الوصف باعتبار ان المثقفين الملتزمين نادرو الوجود على حد قوله ، حيث الاحرى تسمية المثقفين  بممتهني الكتابة اوبالكتاب ولا يحبذ استعمال كلمة المثقف التي لها دلالات قوية من حيث الالتزام والحمولة الاخلاقية العالية. اتجه الفيلسوف دراج نحو الرواية والنقد الروائي معتبرا الرواية هي الفضاء الثقافي الذي يسمح بقول الحقيقة عن الاوضاع المعاشة او المعيشة في قالب روائي جمالي اي انها الجنس الادبي الذي يستطيع الانفلات النسبي من رقابة السلطات الدينية والسياسية   ، لذلك يتجه المفكر دراج الى الثناء على اعمال روائية معتبرا اياها اعمالا ادبية حداثية  استطاعت فضح الواقع المشخص بطريقة سليمة وامنينة مثل روايات جمال الغيطاني  : "يدخل جمال غيطاني في 'الزيني بركات' الى جوهر الراهن العربي ،فيكشف قتامه في شكل ادبي اصيل ،ويخبر  عن معناه في مقاربة روائية رائدة .يهاجر الراوي الى الماضي ويكتب بلغة حقيقة الماضي ، او يهاجر الى الماضي  كي يجد فيه المساحة الضرورية لكتابة الحاضر، لنقل انها هجرة ناقصة او رحيل واش فرضهما  منطق الواقع والكتابة" و يشيد باعمال نجيب محفوظ خاصة روايته اولاد حارتنا التي استطاعت ان تحرك البرك الاسنة داخل الفكر الديني وان تسمح بتساؤلات في دائرة المقدس ورواية ثرثرة فوق النيل التي قال عنها فيصل دراج    :"نموذج الكتابة العضوية التي تعيش تاريخها، وتبتعد عن هذا التاريخ وتلتقي به ، كي تقرأ فيه شكل النهاية قبل قدومها، وتكتب فيه ظلام المستقبل الذي ينعقد في ارجاء الحاضر. ومن اجل بناء المستقبل في الحاضر ، يركن الراوي الى فنه،وينتج المعادل الفني للحاضر ،ويكتب رواية بلا نهاية ،لان التاريخ سيكتب قتام النهاية عوضا عن الراوي."  وله تقدير كبير لطه حسين ومحاولاته التجديدية في سبيل بناء  الفكر التنويري وله تقدير معتبر لجبرا ابراهيم جبرا ورواياته ذات النفس التجديدي كما اشاد بروايات ادوارد الخراط وغيرهم من رواد الرواية الذين سعوا الى تطوير المنحى الروائي التجديدي في سبيل بناء حداثة فعلية  . رغم ان فيصل دراج يقر بوجود روائيين جادين و ممتازين الا انه لا يقر بوجود ظاهرة روائية جادة في الثقافة العربية   اي ان المحاولات التجديدية التحديثية داخل الرواية هي اجتهادات فردية معزولة لا تعبر عن وجود اتجاه روائي تجديدي داخل المجتمع وكل روادها من خريجي الغرب والمتشبعين بثقافته  . 
    في سبيل الختم :
    اثرى المفكر الفلسطيني فيصل دراج الخزانة العربية بكتابات وترجمات قيمة متأثرا بكتابات الغربيين المرموقين كبول فاليري و جورج لوكاتش وتولتستوي    كذلك   كما ان مقالاته في المجلة الادبية الرائعة الكرمل التي كان يديرها الشاعر الفلسطيني محمود درويش  كانت شاهدة على موسوعية الرجل وعمق فكره و شغفه بالبحث التاريخي والفلسفي والانساني  وعندما نتحدث عن كتابات فيصل دراج فلا بد ان نذكر كتبه التالية :  ذاكرة المغلوبين، دلالات العلاقة الروائية، الرواية وتأويل التاريخ، نظرية الرواية والرواية العربيّة، الحداثة المتقهقرة. بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينيّة. ويدعو الدكتور فيصل دراج في معظم  كتاباته الى الانعتاق من اسر الماضي والانبهار به و التخلص من اليقينات والمسلمات والايمانيات الارثدوكسية   التي حكمت الفكر الماركسي والقومي والديني... و دعا الى ضرورة البحث عن افق انساني رحب يؤمن بالعقلانية والتسامح والنسبية  لذلك دعا الى تدشين ما بدأه طه حسين في كتابه في مستقبل الثقافة في مصر خصوصا  من دعوته ضرورة الجمع بين التعليم والديموقراطية في افق خلق مجتمع المعرفة الذي يقطع مع الاستبداد بكل انواعه واشكاله وتمظهراته ولنتعرف اكثر على نبل الدكتور فيصل دراج واحترامه لذكرى اصدقائه ما قاله عن الشهيد مهدي عامل على صفحات احدى اعداد الطريق : " في زيارة الى دمشق ، وبصحبة رفيق العمر  والاحلام محمد دكروب ، دخل مهدي الى مطعم ،وكان بيده "فلة" يحملها بحرص شديد ، ويشملها بين الفينة والاخرى قائلا "مااجمل رائحة هذه الفلة" ويعرض جمالها ،مفتونا على الاخرين  .قال بلهجة حاسمة ومغتبطة :" هذه الفلة لازم ما تذبل " 
     . نقول مع مهدي عامل و فيصل دراج  نحن كذلك ان هذا النموذج من المثقفين لازم كتاباتهم وافكارهم ان تنقل الى الاجيال المقبلة وان لا تذبل مع صيحات الظلام الطويل الذي يغشى الثقافة والفكر الانساني المتنور امام انتشار الارهاب والتطرف والاستبداد والاستقواء الراسمالي  الاستهلاكي على ثقافة وفكر الشعوب.

    .المفكر اللبناني علي حرب، منظر الثورات الناعمة وناقد الحقيقة
    ينتمي الكاتب اللبناني علي حرب ، الى جيل  المفكرين والنقاد الذين ولدوا في فترة  الاستعمار وازدهار حركات التحرر الوطني  ، وهذا جيل ثقافي وفكري متفرد باعتباره شاهد عيان على  المعارك الثقافية والفكرية والسياسية الكبرى  التي عرفها العالم  ،من سقوط العرب امام اسرائيل عسكريا وسياسيا  وتبخر الاوهام الوحدوية العربية و سيطرة انظمة ديكتاتورية تسلطية على رقاب الناس في الشرق الاوسط والادنى وانهيار جدار برلين  وما تمخض عنه من تطورات فكرية وجروح ايديولوجية لم تندمل بعد  . تحولات سياسية  كبرى طبعت المسارات الفكرية والثقافية والفلسفية لعي حرب وجيله  ، جيل  تغنى بالثورات الاشتراكية وسيطرة الفكر اليساري  عالميا ولم يحصد سوى انظمة البؤس والقهر والطغيان  ، كما انه جايل صعود الحركات الاصولية  في ايران  بعد الثورة الاسلامية وتابع عن كثب نمو حركات الاخوان المسلمين في ارجاء العالم الاسلامي  ،   علي حرب اذا ،منتوج تحولات كبرى فرضت على المثقفين من امثاله  الالتجاء الى الفلسفة والفكر كمهمة  نضالية اولا  في اطار المقاومة والممانعة   ضد واقع مهزوم ، تهيمن فيه الجمل الثورية والمشاريع الفكرية الكبرى لكن تستبد فيه القوة والقمع والقهر  على صعيد الممارسة ، وثانيا  ومن اجل استنهاض وعي وفعل جماهيريين لفهم الواقع وتغييره ،  فالفكر الفلسفي عند علي حرب ليس ترفا فكريا  او ترسيمات  نظرية او فذلكات لغوية تستهوي قلوب القراء والمتتبعين ،   هو قبل كل شئ ، نضال وتضحية  لاجل غايات مجتمعية عملية لتجاوز واقع  الاستبداد والتخلف  والامية بجميع انواعها واشكالها التي تنخر المجتمعات الثالثية.  كتابات وابداعات الفيلسوف علي حرب  تنخرط في نقد الحقائق والمسلمات الجاهزة  سواء تعلق الامر بالعقائد او الهويات وفي مساءلة ممارسات وافكار المثقفين والسياسيين   ،  الفيلسوف علي حرب عمل نقدا ذاتيا قاسيا للذات المثقفة النخبوية المتعالية على  هموم الناس البسطاء ، الى حد ان البعض اتهمة بجلد الذات والتحامل على الطبقة المثقفة لذلك يصرخ قائلا  : " ولا اراني اجلد نفسي او اظلم غيري ، عندما انتقد المثقف واعترف بان جيلنا قد فشل في ما طرحه من شعارات ، لانه فقد  القدرة على التفكير الحي  والتخيل الخلاق ، اي ما به يجترح  امكانات جديدة  لحياة حرة ، لائقة كريمة ... هذا العجز عبر عنه احسن تعبير الروائي المصري صنع الله  ابراهيم بقوله تعليقا على الثورة الجارية في بلده : حتى في الحلم لم اكن اتخيل ان تكون هذه الثورة ممكنة.  راجع ملحق الكتب في جريدة لوموند  11 فبراير 2011" 1  في موضع  اخر من نفس كتاب المفكر علي حرب  ثورات القوة الناعمة ، ينقد المفكر علي حرب استعلائية المفكرين النخبويين ،داعيا اياهم الى مراجعة مواقفهم وافكارهم التي ادت الى حجب الحقيقة عنهم لانهم تمسكوا بالفكر النظري المجرد بدون ممارسة  فعلية ميدانية " ثمة من يأخذ علي بأني اغالي في الهجوم على النخبوية الى حد يجعلني  لا ارى فرقا بين اهل العلم والفلسفة ، وبين بقية الناس ، من حيث العلاقة مع الشأن الفكري . وليس لي الا التأكيد على موقفي ، بان التفكير بصورة حية ومبتكرة ليس حكرا على الفلاسفة والعلماء ، من المفكرين المحترفين ، المنتجين للافكار، بل هو  ميزة الانسان عامة .على هذا النحو أقرأ مقولة ديكارت القائلة ،انا افكر اذن انا موجود ، ..." 2 
    من المفاهيم الكبرى التي شدتني الى فكر المفكر علي حرب ، والتي استمد بعضا منها  من المدرسة التفكيكية التي يعتبر احد روادها المعاصرين ، مقولة العقل التواصلي الميديائي ومفهوم القوة الناعمة  ، فعلي حرب ابدع عدة معرفية ومنهجية جديدة،  سواء في تحليله للاوضاع السياسية والفكرية المتسمة  بالفوضى وغياب المعنى واغتراب المصلحين والعقلاء ،  او لمحاولته التنظير والتفسير للثورات والانتفاضات التي تعرفها الكرة الارضية في شقها الجنوبي  اي الشرق الاوسط وشمال افريقيا منذ سنة 2011 الى يومنا هذا  ، بل ناصر علي حرب الانتفاضات  ضد الاستبداد والظلم واعتقد ان تاريخا جديدا يدون في المنطقة بعد سقوط الشعارات الكبرى المضللة للوعي والفكر ، وانهيار الايديولوجيات الاسمنتية وبروز الدور الفعال للشباب والنساء لاحتلال مقدمة الاحداث  ،مؤكدا ان  لا عودة الى الوراء لان ما يحدث يطوي صفحة ويفتح اخرى ، ويدخلنا في  عصر جديد  شاء من شاء او ابى من ابى  ، يقول الاستاذ علي حرب  متحدثا عن هذه التغييرات الكبرى التي نعيشها وتجلياتها ونتائجها المتوقعة : " والاهم ان ما حدث في تونس ، ويحدث في غير بلد عربي ، وبخاصة في مصر ، هو وليد لثورة المعلومات والاتصالات التي اتاحت البث والاتصال للصور والمعلومات بسرعة البرق والفكر ، بقدر ما  هو ثمرة للقوى الجديدة الصاعدة على المسرح ، والتي باتت من معطيات الواقع العالمي الراهن .هناك اولا صعود بلدان كانت على الهامش ، بل وراء العرب ،  فاذا بها تصيح امامهم ، كالصين والهند والبرازيل وماليزيا وتركيا ،  مما عنى كسر احادية النموذج والقطب والمركز في  التنمية  والسياسة والمعرفة. على صعيد اخر يسجل صعود المرأة ، خاصة في ميدان السياسة ، على نحو يكسر خرافة  الفحولة  وقيمومة الذكورة .من هنا فالمرأة العربية  اليوم جزء من الثورات الجارية بحيويتها وفاعليتها. وأخيرا  هناك صعود  الأجيال الجديدة ، الشابة ،  الفتية ، التي تفلت من عقال  الايديولوجيات الاسمنتية والمنظمات الجهادية الارهابية ، لهذه العوامل ، وبخاصة الشباب  ووسائل الاعلام ، الدور الاكبر  في حصول  الثورة  الجارية ، التي هي ثورة سلمية مدنية لا تشبه ما سبقها..... وهكذا فهي ليست اشتراكية ولا ناصرية ولا جهادية  كما يتمنى او يحن او يحلم ديناصورات  العقيدة والفلسفة  والسياسة والثقافة .لانها ابنة عصر العولمة  بأدواتها الفائقة وليبراليتها الجديدة التي تتيح فضح المستور وكشف الاسرار." 3 . استطاع علي حرب بفكره الخلاق الجذاب واسلوبه الانسيابي الباهر ان  يفكك امراض النخبة المثقفة  والمجتمعات في نفس الوقت ،  ففضح تكلس وجمود النخب الثقافية المتخلفة عن الركب الثوري ، المصدومة بالتغيرات التي تحدث في المجتمع وفي صفوف الجماهير ، فما جرى ويجري في كل ربوع بلداننا المتخلفة المقهورة  ، ثورات وانتفاضات " شعبية غير مسيسة ، خرجت  عن الاطر الحزبية الحديدية والقوالب  الايديولوجية الاسمنتية ، حيث يسود  الشعار الواحد والخطاب الواحد  والرأي الواحد ، وربما الزي الواحد .نحن إزاء  انتفاضات معاصرة لا تعمل  تحت اي يافطة  زعيم اوحد او قائد ملهم  او بطل منقذ ، ولا يختزلها معتقد اصطفائي  او عقيدة مقدسة  او نظرية ثورية  لا تخطئ . ولذا  فهي  ابعد ما يكون  عن النماذج  التي جسدها  لينين او ماوتسي تونغ او كاسترو او الخميني .انها ثورات  ذات هوية مركبة هجينة، بقدر ما هي  مفتوحة ، ومتعددة بقدر ما هي  متحركة." 4  وختاما اقول بان التعريف الشامل والدقيق  بمفكر موسوعي من حجم الفيلسوف علي حرب  مهمة صعبة بل مستحلية ولكن مقالنا لا يستهدف التعريف الشامل بافكار ونظريات علي حرب ، بل   نهدف من خلاله تعريف القارئ الكريم بباحث ومفكر اسدى خدمات كبيرة للفكر العلمي المنهجي في بعده النقدي التركيبي  ، حيث ان المفكر علي حرب داعية تحاوز لافكار الصنمية وللمفاهيم السحرية  وللاستعلاء الفكري والنخبوي ، علي حرب نموذج المفكر الثوري الذي يقترح للخروج من المازق الحالي الذي نعيشه جميعا  التحلي بعقل تداولي وفكر تركيبي  ومعنى التداول  والفكر التركيبي  لدى  علي حرب :" التداول هو في وجهه الاول إتقان لغة التوسط والحوار والتواصل .فالعلاقات بين البشر تبنى وتثمر بخلق البيئات والاوساط او الوسائط و الوسائل التي تتيح التواصل والتعارف والتبادل .فمن غير  وسط او توسط من لغة ومحادثة او حجة ومحاورة او قاعدة ومؤسسة يسيطر  العماء والخواء او يعم الاقصاء والاستبداد..... من مقتضيات التداول  التعامل مع الواقع لا بعين ضيقة او بصورة تبسيطية وحيدة الجانب ، بل على نحو تركيبي وبصورة مرنة ومفتوحة .فالواقع ليس معطى نهائيا او نظاما احاديا خطيا او حتمية  صارمة ومقفلة . الأحرى النظر اليه  كمعطى  متحرك ملتبس  بقدر ما هو مسرح للعب والمجازفة او مجال الخرق  والعبور ." 5  كتابات وافكار  علي حرب تقوي في جيلنا فكر التحرر والانعتاق من  المعتقدات البالية والافكار المثالية المتعالية على الاحداث  والتجارب ، لذلك فكره يحذرنا من القوالب الفكرية المتحجرة  والمتاريس   العقائدية  ومن فكر المؤامرة الدائمة  والافخاخ الذاتية لحجب  الكائن او لشن الحرب على الاخر" فليس الاخر هو الجحيم دائما "   وتعليق كل اخطائنا وعثراتنا على العدو المفترض والمصنوع والذي يواجهنا عند كل رغبة في الانتفاضة على الاوضاع القائمة  و الرغبة في التحول الديموقراطي المشروع، .
    فكر علي حرب منارة تنير لنا طريق المستقبل ، فكر يدقق في المفاهيم ويشرح المسارات ويشي بالمخارج من المأزق لكن واقعنا المأزوم  بجعل ازماتنا مضاعفة داخلية وخارجية ، معرفية ونفسية ، سياسية واقتصادية  ، في فترة الازمات والانتكاسات  والاحباطات من كل حدب وصوب تجعل الفكر الفلسفي مهما كانت توريثه  ومصداقيته العلمية والمنهجية ، عاجزا عن تفسير حالة التنامي الذي لا يعرف الانقطاع  والتوقف  في تأبيد الاستبداد وانظمة القهر والذل  في انتاج المزيد من التوترات  التي تطيح  باي امل نحو  التطلع الى اللحاق بركب الدول الديموقراطية المستنيرة ، ما حدث من  فضائع دموية في اليمن وسوريا ومصر ... بسبب  استبداد الانظمة القائمة وتمسكها بالنهب والسلطة والثروة ورفضها الخضوع لمنطق التاريخ وحتميته في التغيير  ، يسائل عقلنا السياسي وانسانيتنا وتاريخنا لعلنا نعرف لماذا عجزنا ان نكون انسانيين ، ديموقراطيين حداثيين.؟

    المراجع:
    1-علي حرب : ثورات  القوة الناعمة في العالم العربي  من المنظومة الى الشبكةالطبعة الثانية 2012 ص 63
    2- حرب : ثورات  القوة الناعمة في العالم العربي  من المنظومة الى الشبكةالطبعة الثانية 2012 ص77
    3- حرب : ثورات  القوة الناعمة في العالم العربي  من المنظومة الى الشبكةالطبعة الثانية 2012 ص-54-53
    3-حرب : ثورات  القوة الناعمة في العالم العربي  من المنظومة الى الشبكةالطبعة الثانية 2012 ص70
    4-علي حرب  مجلة التسامح  العدد 5 شتاء 2004 ص 227-231 

    بيير فيرمورين  المؤرخ المتخصص في التاريخ المغاربي  وفي نقد الاستعمار.
     
    يتميز المؤرخ الفرنسي استاذ التاريخ المعاصر بالسوربون  بيير بيرمورين  بخصائص كثيرة تميزه عن باقي المؤرخين الفرنسيين والغربيين المعاصرين ، حيث انه مؤرخ عاش  في الدول  المغاربية سنوات عديدة ومنها 6 سنوات كمدرس للتاريخ  المعاصر بالمغرب . ينتقد بشدة استمرار مظاهر السياسات الاستعمارية لبلاده في عدد من مناطق العالم كما  سعى جاهدا عبر كتاباته الكثيرة الى تبيان الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في عدد من مناطق العالم سواء في الحرب الهندية الصينية او في عدد من الدول الافريقية التي ارتكبت فيها فرنسا فضائع لم يتناولها الاعلام بشكل كبير  كالكامرون و المغرب والجزائر وتونس .. وقد اهتم المؤرخ الفرنسي بيير بيرمورين المزداد سنة 1966 بدراسة النخب المغاربية و دور التعليم في الدول المستعمرة سابقا من قبل الفرنسيين كما قام بدراسة تاثير الاستعمار الفرنسي السلبي على التطور الطبيعي للديناميات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للدول التي كانت ضحية الاستعمار حيث انه اكد بدون مواربة ان الاستعمار الفرنسي كان استعمارا افتراسيا للموارد الطبيعية و عمد الى نهج  استغلالي بشعا للموارد البشرية ولم يفكر في اية لحظة في تنمية اقتصاد البلاد المستعمرة  او  التركيز على بنياتها التحتية عكس الاستعمار الانكلوساكسوني الذي  خلف وراءه البنيات التحتية وبعض معالم الدولة في الدول التي كانت ضحية لاستعماره ، باستثناء تعبيد بعض الطرق التي كان الوصول الى بعض المعادن والترواث ضروريا فان الاستعمار الفرنسي لم يطور المجال المغربي والمغاربي بل استزف ثروات هذه البلدان و اسعبد ابناء المستعمرات و استغل شبابهم في الحروب الخارجية التي قامت بها فرنسا خارجيا  ،  كما ان الاستعمار الفرنسي حافظ على البنيات الاستبدادية التقليدية  والذهنيات الاجتماعية والدينية المتخلفة بل و استمات في الدفاع عنها  من اجل استمرار نهبه لثروات الشعوب التي استعمرها بالاستعانة بقوى محلية عميلة من المحميين و القواد الذين نصبتهم فرنسا لقمع بني جلدتهم  ، ففي المغرب مثلا الذي حكمه المقيم الفرنسي  لويس هوبير اليوطي  بين ابريل 1912 و  اكتوبر 1925 ،  نهج فيه المقيم الفرنسي سياسة استعمارية تقوم على مصادرة كل الضيعات افلاحية الخصبة لفائدة المعمرين ونهج سياسة تقريب الاعيان  و الوجهاء على حساب الناس الفقراء و محاولة بناء مقومات سلطة مركزية يعقوبية تهمش بنيات الهوامش واطراف العاصمة على حساب المغرب العميق والمنسي  .  لذلك لا غرابة  ان  بعد  استقلالات الدول المغاربية  عن الاستعمار الفرنسي وجدت الدول المستقلة  نفسها في وضعية كارثية اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا مما اثر على وضع شعوبها كما ان الاستعمار الفرنسي قاوم الامازيغ المغاربيين  و همش ثقافتهم بل عمل على استئصال الامازيغية  ومحاولة طمسها لانها منبع المقاومة القروية التي تصدت للجيوش الاستعمارية الفرنسيىة والاسبانية ، مما يفنذ  بعض الاطروحات القومية التي اتهمت بالباطل الامازيغ والصقت بهم تهم العمالة و بانهم حلفاء ليوطي وفرنسا بل بالعكس  الامازيغ مغاربيا كانوا ضحية التعريب و الالحاق التعسفي بالمشرق  ، يقول  البير كامو مؤكدا ما اقول :"..ce statut , c’est nous   qui l’avons imposé aux kabyles en arabisant leur pays  par le  caidat et l’introduction  de la langue arabe »  . وقد ارجع بيير بيرمورين  الوضعية الدنيا التي تعرفها مؤشرات التنمية حاليا  في الدول المستعمرة  من قبل فرنسا الى سياسة النهب والتفقير التي اتبعها الاستعمار الفرنسي فمن اصل اكثر الدول العالمية 44 فقرا  تعتبر  17 منها من المستعمرات الفرنسية سابقا . كما ان سياسة" فرق تسود" التي كانت تنهجها السياسة الاستعمارية الفرنسية في البلدان التي استعمرتها  قد خلفت مجتمع سياسي منقسم على نفسه ومتفاوت في تعليمه و في ذهنياته و طبقي بامتياز  في اقتصاده . فبينما حاولت فرنسا فرنسة نخب معينة من الاعيان والمحميين من اجل احكام قبضتها الامنية القمعية  على البلاد التي استعمرتها، في نفس الوقت فرضت على عموم الشعوب العيش في فقر مدقع و امية متفشية وقوانين تسهل الاستيلاء على اراضيهم الخصبة وعلى ضيعاتهم . يقول بيرمورين : "غير ان المعمرين والمتنفذين لم يكونوا هم وحدهم المحظوظون في هذا البلد .فكما انه  توجد اوساط شعبية اوروبية (كما في حي المحيط بالرباط) ، توجد كذلك قوة برجوازية مغربية  حضرية  من جهة ، واقطاعية وعسكرية دينية من جهة اخرى .وقد نجحتا في تمتين  قاعدتهما  الاقتصادية  خلال عهد الحماية.وكان في ادخال المغرب  بدفع من  البرجوازية  الاوروبية في المبادلات في القرن التاسع عشر ما مكن البرجوازية  الفاسية ان تكون لها ثروات  اسرية  "كبيرة" (محمد كنبيب1996) .وان القصور التي كانت  للاسر الفاسية الكبيرة ،والتي  زادتها  توسعة  وتحسينا في القرن  التاسع عشر  لتقوم  شاهدا  على ذلك الثراء ، ولاسيما ان  هذه الاسر  قد صارت  هي الممولة  الرئيسية  لسلطة السلطان .وحصلت ، في المقابل على  مجموعة من الوظائف  الريعية  (في الجمرك) وتحالفت مع  الاسر الارستقراطية الدينية  والعلمية (الشرفا والعلماء)  ومع الاسر المخزنية (المتقلدة اعلى المناصب في الدولة ) (ر.لوتورنو 1987) 
    يعتبر فيرمورين من المؤرخين الفرنسيين وبل و المؤرخين الغربيين القلائل الذي يؤمنون بوجود قضية امازيغية منسية ومهمشة وتم التضحية بها على حساب ترتيبات سياسية وثقافية قسرية بشمال افريقيا   ومن المثقفين الذين  يعتبرون ان الاستعمار الفرنسي هو سبب تهميش الامازيغ مغاربيا  و جعل قضيتهم  منسية و هو المسؤول عن الوضع الهش الذي تعيش فيه  الهويات الوطنية في الدول المغاربية   ، بل "يبشر " بان القضية الامازيغية ستطفو في سطح الاحداث مع ازدياد وعي الشعوب وانحسار المد الايديولوجي القومي وترهل بقايا الاستعمار الثقافي . كما يعتبر pierre veremeren من الباحثين الذي ناصروا تجربة السترات الصفراء بفرنسا والحراكات الديموقراطية  التي عرفتها المنطقة سنة 2011 وما تلاها من تغييرات طفيفة وهشة نحو الديموقراطية . وقد جلبت عليه مواقفه التقدمية من القضايا التقدمية والتحررية  نقمة من انظمة شمال افريقيا واصبح مثقفا مزعجا و مستقلا لا يتوانى في قول ما يفكر به .
     اخيرا لا يمكن ان ننسى بان بيير فيرمورين سليل مدرسة يسارية ديموقراطية كان من اقطابها مشرفه على دكتوراته  روني غاليسو، المؤرخ الذي ناصر ثورات الشعوب وكتب عن الحركة العمالية في البلدان المغاربية  كتابات هامة كما ساهم في التحقيب للثورة الريفية بالمغرب وساهم في تاصيل تاريخي للحركة النقابية المغربية . 
    هدفنا من المقال هو تسليط الضوء على مؤرخ حقيقي ومناضل فعلي في حقل البحث التاريخي  الذي يعمل بمنهجية علمية  تفكيكية للبحث في حفريات الاثار الاستعمارية في البنيات السياسية والاجتماعية والثقافية المغاربية  وهو قبل كل هذا وذاك باحث مناصر لقضايا الديموقراطية وحقوق الانسان بالبلدان المغاربية

    المفكر هاشم صالح : الحداثي الذي امن بمستقبل العلمانية في أوطاننا
        
    قرأت مستمتعا كتابا قيما للدكتور هاشم صالح، وهو الاستاذ السوري الالمعي ، المقيم بين المغرب وفرنسا ، وهو بالمناسبة متخصص في اعمال الدكتور الكبير ، المرحوم محمد اركون ، ترجمة وتفكيكا وقراءة . الكتاب تحت عنوان الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ  ، اهم ما استنتجته من   خلاصات الكتاب وافكاره   ، والذي يصعب في الحقيقة تلخيصه وابتساره لان كل فقرة فيه تحمل افكارا خلاقة ومؤسسة وذات بعد استراتيجي كبير ان الانتفاضات الجماهيرية التي عرفتها منطقتنا المغاربية والعربية  تعبير اولي عن وعي الشعوب بحقوقها وتخلصها التدريجي من الخوف والاستيلاب ، كما ان الكتاب ينفرد بخلاصة اساسية قل نظيرها لدى الكتابات الاخرى التي تناولت الربيع الديموقراطي في مناطقتنا ، هذه الخلاصة مفادها ان الاصولية والاستبداد الديني والسياسي  مرحلة ضرورية ستمر منها منطقتنا بالضرورة ، قبل ان يتحول الوعي الجمعي لدينا الى وعي متقبل للحداثة والتنوير ، اي ان مكر العقل لابد ان يعود به الى سكته الاصلية   ، لكن اعتذر للكاتب وللقارئ الكريم معا اذا ما لم استطع ا ن افي الكتاب كل حقوقه ولكن ، قصدي ونيتي ، الاعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ، هو تعريف القارئ بهذا الكتاب التاريخي الذي استطاع بجدارة واستحقاق ان يضع الاصبع على الجرح الذي تعاني منه مجتمعاتنا المتخلفة.  انه  جرح حضاري وتاريخي  يشمل  التخلف والرجعية والتطرف والارهاب وبتعبير ادق الانسداد التاريخي بلغة الدكتور هاشم صالح  .
     
      باقتدار كبير تناول المفكر الموسوعي هاشم صالح موضوع مساءلة الانتفاضات التي سماها بالعربية ،وشرح اسباب اندلاعها ومساراتها وشخص بعين الجراح المختص بالجراحة الحضارية اسباب انقلاب الربيع ليصبح خريفا في معظم الدول التي انتفضت شعوبها ضد القمع والظلم والاستبداد .
    في البداية طرح الاستاذ سؤالا محوريا بل هو استفزازي بمعنى من المعاني كما يصرح بذلك في  مقدمة الكتاب : هل الانتفاضات  العربية  حدث تاريخي ام زوبعة في فنجان ؟ الملاحظة الاولى في السؤال انه سمى الحراك الشعبي بالانتفاضات بدل الثورات ، ومعلوم ان الفرق بين الثورة والانتفاضة فرق شاسع ، باعتبار ان الثورة تغير البنيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهذا بالتعريف  الماركسي المادي  للثورة فيما الانتفاضة خلخلة بسيطة للوضع دون تغييره بنيويا او جذريا باللغة اليسارية . جواب الدكتور صالح على سؤاله لم يتعدى الاسطر الاولى للمقدمة اذ قال بكل وضوح منذ بداية الكتاب  "ما حققه الربيع الديموقراطي حتى الان  هو سيطرة التيار الاخواني –السلفي على السلطة في بعض البلدان العربية .فهل هذا حدث تاريخي يا ترى ؟ الحدث التاريخي ينتقل بالناس من وضع سابق الى وضع لاحق ، ومن وضع سيئ الى وضع افضل " المفكر هاشم صالح يعتبر الاحتجاجات الشعبية التي عرفتها البلدان "العربية " لم تحقق ما هو مرجو منها ، ولم تنقل شعوبنا من مرحلة قطيعة حقيقية ابستيمولوجية  الى اخرى اي لم تكن حدثا كبيرا بالقياس مع الاحداث الكبرى التي غيرت العالم كالثورة الروسية والثورة الفرنسية وانهيار جدار برلين ، وهذا لا يعني ان نبخس نضالات جماهير شعوبنا التي اعطت الدماء من اجل التحرر والديموقراطية في تونس وليبيا وسوريا ومصر الخ لكن الانتفاضات الشعبية سرقت من قبل نخب سياسية لم تساهم فيها ولا افق سياسي تحرري لها   ، والسبب بكل تأكيد هو انعدام الثورة الفكرية التي تسبق الثورة السياسية كما هو حال جميع الثورات والقطائع الكبرى التي عرفها العالم ومنها الثورة الفرنسية .ولاستبيان اكثر موقف الكاتب من موضوع فشل الانتفاضات "العربية " يقول " اخيرا سوف اقول ما يأتي : عندما يظهر كتاب واحد جديد  في اللغة العربية يعادل كتاب ديكارت التأملات الميتافيزيقية ، او كتاب  مالبرانش البحث عن الحقيقة ، او كتاب  سبينوزا مقالة في اللاهوت السياسي ، او كتابي فولتير رسالة في التسامح والقاموس الفلسفي ، او كتابي روسو  اميل والعقد الاجتماعي ، او كتاب كانط الدين ضمن حدود العقل فقط الخ ، فسوف اقول ان الربيع العربي اصبح على الابواب " 
    الكتاب يعتبر كنز ثقافي بامتياز لكل الباحثين عن تحليل وتشريح دقيق لمطبات الانحدار التاريخي لبلداننا  وتشريح دقيق وتاريخي وبمنهجية المقارنة مع الاخرين المتفوقين علينا حضاريا وفكريا ، وللخروج من الانسداد التاريخي يقترح فيه الباحث خريطة طريق نحو الحداثة والديموقراطية  ، تعتمد اولا على اطلاق مشروع نقدي لتنقية الثراث الديني من الشوائب والاعتبارات الطائفية والعنصرية والخرافية وتفكيك السياق  الدغمائي بلغة محمد اركون  والانتصار لعقل وفلسفة الفارابي و ابن سينا وابن  عربي والمعري  والتوحيدي  اكثر من طروحات وافكار الغزالي و ابن تيمية  وبقية فقهاء المسلمين الذين همشوا العقل الانساني وجعلوه امتثاليا خنوعا وغير قابل للنقد والابداع مع الاعتراف بطبيعة الحال باسهاماتهم الفكرية والتنظيرية في مجالاتهم  ، فالدكتور هاشم صالح يدعو الى  الاستفادة من القيم  الحداثية للتنوير الاوروبي  وانجازات الحضارة الانسانية من علم وتكنولوجيا وابداع وابتكار اي بعبارة اخرى الثراث الاسلامي يجب ان يخضع لقطيعة ابستيمولوجية  تنقله من الوضعية الحالية كلاهوت قروسطي الى دين منفتح على العصر لا يتناقض مع حقوق الانسان في كونيتها وشموليتها ولا يتعارض مع منجزات الحضارة الانسانية,
    ما وصل اليه المسلمون من تخلف ورجعية وتقاتل طائفي لا يمكن ان نرجعه الى مؤامرات خارجية ، ونعفي عن انفسنا المسؤولية التاريخية عن واقع الانسداد والنكوص الحضاريين ، العدو الخارجي ان كان، قد يستغل ضعفنا وهشاشتنا الداخلية ، ولكن ليس هو المسؤول عن جهلنا المقدس وهو المصطلح الذي استعاره المفكر هاشم صالح من المفكر الفرنسي المرموق اوليفييه روا للتعبير عن مرضنا الحضاري ، وهذا لا يعني ان الغرب لم يخن التنوير في اوطاننا ، بل انه ساند الفساد والطغيان والاستبداد والانسداد التاريخي، خوفا من البعبع الاصولي  الذي عرفت الانظمة القائمة كيف تستغله لاقناع الغرب  بدعمها واطالة عمرها. لكن رغم كل الفشل الذي مني به الحراك الجماهيري ، لكنه استطاع ان يحرك بعض البرك الاسنة والراكدة واعطى للشعوب امكانيات استنهاض فعلها الجماهيري وحررها نسبيا من الخوف والذل والمهانة ، كما انه استطاع ان يبطل بعض الدعوي الاستشراقية العنصرية الباطلة التي تعتبر النضال والحرية والديموقراطية استحقاق شعبي لدول ولاعراق ولحضارة بعينها وهنا اشاد المؤلف بالمفكر المرموق ادوارد سعيد صاحب كتاب الاستشراق وبمواقفه التاريخية المتصدية للنزعات الاستعلائية في الثقافة الغربية .
    الكاتب السوري اللامع هاشم صالح استطاع في كتابه القيم الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ ان يقدم مرافعة، تاريخية وحضارية، تؤصل لامراضنا الحضارية وتجترح امكانيات واعدة للخروج من العطب الحضاري، للدخول من جديد الى التاريخ بعدما غادرناه منذ قرون ، الاستاذ يطرح سؤالا راهنا واسترتيجي .الاجابة عنه مهمة حضارية وثقافية وسياسية  على عاتق كل محبي الانسانية والطامحين الى الازدهار والتطور :" متى سيحصل اصلاح ديني حقيقي في ارض الاسلام ، اصلاح قادر على ان يخرجنا من كل هذا التعصب والانغلاق القروسطي ؟ متى سيحصل تنوير اسلامي مثلما حصل تنوير مسيحي  في الدول  الاوروبية  او الغربية المتطورة ؟" الاجابة عن هذا السؤال يتوقف مصيرنا .
    الكتاب رحلة فلسفية وسياسية وفكرية ممتعة مع كبار المفكرين والادباء والعلماء الذي وظفهم الاستاذ بشكل ذكي ومقصود لاقناع قرائه والاستدلال على فرضياته ورؤاه ، فاستند الى الشك المنهجي لديكارت  والجرأة الدينية لدى اسبينوزا وعرج على فكر روسو  وكانط ووقف كثيرا محاورا كل من هيغل ابو الفلسفة المعاصره  كما حاور نيتشه ، وواضح من الكتاب ان الاستاذ مطلع جدا على الثقافة الاوروبية بكل مراحلها ومتأثر بأدبائها ومفكريها مثل فولتير وديدرو و مونتيسكيو والان تورين وغيرهم  كما ان الكتاب افرد بعض الفصول لمناقشة بعض عمالقة الفكر التحرري الثالثي امثال سمير امين وامين معلوف صاحب كتاب الهويات القاتلة و كتاب اختلالات العالم .
    الهدف من كتابة هذا المقال هو تعريف القارئ الكريم  بكاتب ومفكر  مهموم بنقل ثقافتنا الاسلامية من مرحلة الجمود والانسداد الى  افاق التحرر والعالمية وما احوجنا الى امثال هؤلاء المثقفين  في مرحلة تغول الارهاب الداعشي وسيطرة ثقافة التكفير والقتل على الهوية .  لن خلاصنا  حسب الكاتب الا بحصول ثورة  تنويرية لن تكون لها قيامة، الا بعد ان تشبع الثورة الاصولية الحالية من ذاتها، وتستنفذ كل طاقاتها وامكانياتها  وتفقد مصداقيتها  في نظر الجماهير المفتونة بها  . لن تنتصر الحداثة الا عندما نسمع مظاهرة مليونية للدفاع عن الاقباط في مصر  وحقوقهم المدنية والسياسية ومساواتهم بالمسلمين  في الحقوق والواجبات ، وعندما تنهض مظاهرة مليونية للدفاع عن حق المرأة في لبس الحجاب او خلعه  او عندما تحصل مظاهرة مليونية من اجل تعليم حداثي ديموقراطي بقيم انسانية كونية آنذاك يمكن ان نقول باننا نقترب من شاطئ الحضارة الانسانية  .


    المفكر  حسن اوريد : المثقف العضوي الذي  يناضل من اجل حداثة وتنوير المغرب
     
    حضرت في احد الايام  لندوة فكرية اطرها الدكتور حسن اوريد في الجامعة الدولية لاكادير ،حول دور النخب السياسية في الاصلاح السياسي ، ولا اخفيكم اعجابي بالقدرة التحليلية الكبيرة للدكتور حسن اوريد  في مقاربته لهذا الموضوع ، من حيث تأصيله التاريخي لدور النخب ولمفهومها منذ افلاطون مرورا بعصر الانوار في اوروبا الى ظهور وتغلغل الفكر الماركسي في الفكر السياسي العالمي ، انتهاء بالاطروحات الفكرية الجديدة المستمدة من نقد العقل السياسي لرجيس دوبريه  او ابداعات ميشيل فوكو او العقل التواصلي لهابرماس .
    التناول التحليلي المنهجي للدكتورحسن اوريد   لموضوع النخب ودورها في التطورات السياسية دفعني دفعا  للبحث عن كتابات الدكتور اوريد واستنطاقها وسبر بعض مكنوناتها ، بقدر ما كانت ابداعات وكتابات ،كانت كذلك دروس واشارات سياسية وفكرية تفصح عن ما يفكر فيه  بل وينظر له مبدعها، من قيم الحداثة على جميع اصعدها الفكرية والسياسية، و التمسك بالحوار الحضاري مع الشعوب التي سبقتنا في مضمار الحضارة الانسانية لتجاوز التفاوت الحضاري  بيننا وبين الشعوب المتقدمة    ، و مقاربة موضوع  الهوية بعمق وبنفس تعددي ديموقراطي ، لتجنب مخاطر الهوس الهوياتي الذي يهدد الكيان الوطني   ، وضرورة قيام دولة قوية عادلة تتمايز  عن  البنيات الموازية للدولة التي تشكل عقبة كأداء امام تحديث ودمقرطة الدولة   و تشكل دولة داخل الدولة )وهنا افتح قوسا لاقول بان هذا الاهتمام بدمقرطة الدولة من قبل الدكتور حسن اوريد  شبيه الى حد كبير بما نظر له و ناضل  من اجله  المفكر الايطالي الكبير انطونيو غرامشي في كتابه دفاتر السجن حين دعا الى تجديد وتجاوز  اطار ما يفهم عادة من الدولة  : أي اداة قمع لتوطيد سلطة طبقية(  ، ومباشرة الاصلاحات السياسية والاقتصادية الكبرى مع اخذ الاعتبار،  استعجالية اصلاح المنظومة التعليمية وهي المهمة التي سماها في احد مقالته بمجلة زمان المغربية ام المعارك ، لتكون منظومة منسجمة مع روح العصر بلغة المفكر المصري الكبير سمير امين . تلكم اهم الخلاصات الاساسية التي اعتبرها المفكر حسن اوريد في كتاباته ونشاطه الفكري ، ضرورية للنهوض بمجتمعاتنا الرازحة اليوم في المراتب الدنيا في سلم الحكامة و التعليم والصحة ، وانحسار انخراطنا  في مجتمع المعرفة  الذي  يناضل من اجله  المفكر حسن اوريد ، بنفس نضالي منقطع النظير، ضد التحديات والصعوبات التي تنتظر مجتمعنا، ودولتنا وموقعنا الدولي الجيو استراتيجي،  مع صعود الصراعات حول الهويات القاتلة بلغة امين معلوف بتلاوينها المختلفة من اثنية ودينية وغيرها.
     المفكر حسن اوريد  طالما شخص وفكك بعدة جراحية علمية ومنهجية رصينة  ، في معظم  محاضراته وعروضه، المختلفة المواضيع والاهتمامات، وذات الرسائل الموحدة ، اعطاب مجتمعنا المغربي، والتي جسد بعضها في شعارات الحركات الاحتجاجية المغربية ومنها، حركة 20 فبراير ،التي كان  من الداعمين لها ولمطالبها الديموقراطية والمتفائلين بها خيرا،  خصوصا وان الطبقة الوسطى من طلبة واساتذة ومحاميين ورجال الاعمال المتنورين... الخ ،هم من قاد حركة20 فبراير وصاغ برنامجها المطلبي ، وهي الطبقة ذاتها التي تسميها الادبيات الماركسية،  واللينينية كاحد تطبيقاتها العملية :بالبورجوازية الصغيرة ، التي  راهن عليها حسن اوريد ،لتنقل الوعي الجماعي او الجمعي المغربي، من وعي بالذات الى وعي من اجل الذات، بلغة  التوسير  والتي استعملها فيما بعد نقلا عنه الدكتور الشهيد حسن حمدان المعروف حركيا بالمهدي عامل، لدراسة نمط الانتاج الكولونيالي في كتابه التاريخي القيم، مقدمات نظرية لدراسة اثر الفكر الاشتراكي على حركات التحرر الوطني  .يقول حسن اوريد في كتابه القيم  مرآة الغرب المنكسرة : وعي الطبقات  الشعبية بذاتها لا يجعلها بالضرورة  قادرة على الوعي من اجل ذاتها ، وهو الدور الذي تستطيع الطبقة الوسطى ان تضطلع به . ومن باب  اولى في  الدول الثالثية المرتبطة بالعولمة ,,.
    الدكتور حسن اوريد ينتصر للعقل والعقلانية وللقيم الحداثية في  الثقافات الانسانية، وخاصة في الثقافة الغربية التي يحلم ان تصير قيمها التنويرية  حقيقة في دولنا الغارقة ،في اوحال التخلف والظلامية والانكسار الحضاري بلغة الطيب التيزيني، لذلك نراه يقول بشكل واضح وبشكل صارخ في كتابه، تلك الاحداث ص 85 وفي سياق محاضرة القيت بقاعة باحنيني بالرباط سنة 1998  ،بانه انسان  افريقي مغربي امازيغي  متمسك بتراثه وثقافاته الغنية  بنفس تطلعه الى الثقافات والحضارات الانسانية الاخرى  أي ينطبق عليه شعار اليسار الجديد العالمي ، عش عالميا واعمل محليا comprendre globalement ,agir localement 
    :انا كائن تاريخي .احمل في لاشعوري التجارب التي اعتورت تراب ارضي .ينفلت لاشعوري ليعبر عما يضطرب في احشائي  من قلق وتمزق وسيكيزوفرنيا ، وهو نتاج لتصادم ارث تليد وتطلع لأعيش عصري . انا كائن تاريخي واعي.... تعاقبت على ارضي امم وحضارات ,تفاعلت معها ،اسهمت في اشعاعها ... ... انا وفي لأرضي وتراثها ،منفتح لعطاء الحضارة الانسانية ، متطلع ا ن اسهم  فيها دون ذوبان.
    وفي صفحة 88 من نفس الكتاب يقول :
     لست استطيع التضحية بثقافتي ولست استطيع ان ادير ظهري لعطاء الغرب ...وقد تملكتني هذه ،الحيرة، هي سبب ما اعانيه من تمزق وسكيزوفرينيا ....لست  اقدر ان اعرض عن اغراء الغرب ولست  اود التضحية بروحي ....اريد الشباب والفتوة والغانية كاترينا  دون ان ابيع روحي ، فهل استطيع ..؟
    الدكتور حسن اوريد من المدافعين الرئيسين في بلادنا عن التعدد الثقافي واللغوي ببلادنا ، واحد المفكرين المغاربة القلائل الذين، لم يستهويهم الفكر القومي العربي وطبع تنظيراتهم الفكرية، التي سيتنازل بعضهم عنها فيما بعد مرغمين ،بعد تبيان فشل الاطروحات القومية وتهاويها امام العولمة الثقافية وامام المستجدات الدولية، في ميادين التنوع الثقافي وبعد سيطرة الاستبداد السياسي باسم القومية العربية ،في العراق وسوريا وغيرها من الاقطار  ، وهنا استحضر المفكر المغربي الراحل الدكتور محمد الجابري ومفكرين  اخرين الذين استحوذ  عليهم الفكر القومي العربي وتبخرت معه بعض تنظيراتهم التي بنيت بعيدا عن الاعتراف بالتعدد الثقافي المغربي ، ربما  ما جعل الدكتور حسن اوريد يتمايز عن الرعيل الفكري القومي العربي المغربي هو تشبعه بالثقافة الغربية واطلاعه الواسع والمبكر على الثقافات الانسانية، بلغاتها الاصلية عكس مثقفينا الذين استعانوا بالترجمة للتعرف على الكتابات الغربية ، فاللغة لها تأثير كبير على الفكر ومنهجية التفكير لذا اجدني متفقا مع الدكتور السوري جورج طرابيشي في كتابه الموسوعي نقد نقد العقل العربي*اشكاليات العقل العربي* ص 93 حينما يقول  
     : منظومة لغوية ما تؤثر في طريقة رؤية اهلها للعالم وفي كيفية مفصلتهم له وبالتالي في طريقة تفكيرهم ,اننا نفكر كما نتكلم .
    المفكر حسب اوريد من الداعين، الى حركة امازيغية منفتحة، على العصر مستوعبة للحداثة ،وساعية الى تحقيق العدالة الاجتماعية  .هو ضد الطروحات الاقصائية وضد اختصار مطالب الحركة الامازيغية في المطالب اللغوية، رغم أهميتها ، بل يعتبر الحركة الامازيغية حركة مجتمعية، يمكن للمغرب الجديد ان يعول عليها لبناء المغرب الديموقراطي الحداثي المنشود ، يقول المثقف حسن اوريد في كتابه  تلك الاحداث ص 95 وكان هذا سنة 1998 قبل وجود المعهد الملكي للثقافة الامازيغية وما تلاه من اعتراف مجتمعي وسياسي  كبير بالامازيغية
     : ولذلك فإن اعادة الاعتبار لثقافة ليس هو فقط اعادة الاعتبار للغتها وانما بالاساس لقيمها وذهنية اصحابها... ولئن كانت عناصر من النخبة قد وجدت سبيلا لها في اسلاك الدولة  وفي تنظيمات حزبية اريد لها ان تمثل  العالم القروي ، فإن الثقافة لم تكن  شغلها الشاغل ، ولم تنعكس نجاحاتها الفردية على عوالمها.
    هذا النص لحسن اوريد كتب قبل الخطاب الملكي التاريخي في  اجدير سنة 2001 والذي تبعه مراجعات سياسية وثقافية وفكرية كبرى في صفوف الاحزاب السياسية المغربية وتنظيمات المجتمع المدني ،التي تفتقد في ادبياتها الى المبادرة والابداع الفكري وتنتظر دائما من يوجهها من الاعلى ، لذلك فمعظم الملتحقين بجوقة الدفاع عن الامازيغية منذ مصالحة عهد محمد السادس والامازيغية ، اقتنعوا بالامازيغية نفاقا وتزلفا وليس اقتناعا ، بل معظهم كان اشد معارضي الحقوق الامازيغية فيما مضى على الاقل .
    يقول حسن اوريد كذلك في رواية صبوة الخريف مبينا موقفه من القضية الامازيغية بوضوح وجرأة .وهي بالمناسبة من اروع رواياته واعمقها دلالة واغناها رمزية ، وهذه المرة على لسان السجلماسي يقول ص 74
     : لم يكن السجلماسي قد اعار كبير اهتمام للامازيغية , مخلفة  من مخلفات  مجتمعات  تقليدية . احدى حراب السياسة الاستعمارية .هذه  الافكار الجاهزة  هي المنظومة  لقراءة  الامازيغية .وكان يأخذها على علاتها دون  ان يتفكر  فيها ....كان ذلك في الستينات والسبعينات , لكن شيئا ما اخذ يتغير . او على الاصح يطفو على السطح . حينما يلح  احساس ما في مجتمع ما بعد فترة من الخمول  فلانه كان مغموطا، مكبوتا، كامنا ينتظر الظهور.
    الامازيغية حسب السجلماسي في الرواية ،  بعدما  تخلصت من زواجها الاغتصابي من شيخ هرم في منتهى الوهن الفكري والعضلي ، استهواها فتى ازرق العينين  ذي قوة  واغراء ومال  وسلطة . الامازيغية في قناعة اوريد هي عنوان بحث المغاربة عن الانعتاق من اسر الطروحات البائدة والمتشرنقة على الذات من قومية وماركسية جامدة وغيرها  . الامازيغية سبيل بحث المغاربة  للالتحاق بركب الحداثة والتصالح مع التاريخ الانساني العالمي.   
    للمفكر حسن اوريد مواقف تاريخية مشهودة في قضايا سياسية تهم المغرب والعالم ، فكانت له الجرأة في انتقاد الاحزاب السياسية المغربية وتعاطيها مع قضايا حقوق الانسان والديموقراطية ، كما كان ضد تخلي السلطة عن المنهجية الديموقراطية سنة ،2002 بعد اعفاء الوزير الاول السابق عبد الرحمان اليوسفي  ، وتمسك دائما بدولة قوية عادلة تسهر على حماية الحقوق والحريات وتستمد شرعيتها من الممارسة الديموقراطية والتسيير السليم لقضايا المواطنين، في ظل ملكية مستنيرة وحداثية مجسدة في الملك محمد السادس الذي يكن له الدكتور حسن اوريد في كتاباته ومقالاته ومحاضرته كامل التقدير والاحترام  لاسهامه في نقل المغرب من مرحلة سنوات الرصاص الى مرحلة الانصاف والمصالحة  ومرحلة انخراط المغرب في ترسيخ حقوق الانسان .
    للمفكر حسن اوريد مواقف وطنية في الدفاع عن  قضية الصحراء المغربية وله اسهام كبير في التعريف وطنيا ودوليا بالمقترح المغربي ، الخاص باعطاء حكم  ذاتي موسع للاقاليم الجنوبية المغربية، وساهم عبر ندوات في جميع مناطق المغرب وكتابات بالتأصيل التاريخي والسياسي للحق في المغربي على اقاليمه الجنوبية والشمالية ، ودعا الى حوار مع بوليساريو الداخل وخط الشهيد بالخارج واعتماد مقاربة تنموية حقيقية تأخذ بعين الاعتبار التركيز على البعد البشري وتأهيله واقناعه للعمل على خدمة الوطن المغربي بكل عزيمة ومسؤولية.
    ختاميات حسن اوريد في مجلة زمان بالفرنسية والعربية تذكرنا بافتتاحيات مجلة البرافدا  بعناوينها المثيرة ما العمل ؟ والحرب الاخرى ، ام المعارك ... التي تقول الاشياء بمسمياتها وتتغيأ تثقيف الجماهير بدون تنميق ولا مداورة ،لذلك جلبت له بعض المتاعب وبعض الانتقادات ، ولكن قدر المفكر دائما  ان يعطي ضريبة  سبق مجتمعه والسبح لوحده في غمار المستقبليات ، لذلك فمعظم العظماء في التاريخ عانوا من افكارهم من قبل الجمهور  ، قبل ان تكتشف الاجيال اللاحقة صدقيتها وعمقها ،  المثقف هو من ينشغل  بمالات ومصائر مجتمعه رغم جهل المجتمع وانكار العلم والعلماء  .  وهنا مادمت قد سميت المفكر حسن اوريد بالمثقف العضوي مستوردا مفهوم المفكر الايطالي الكبير انطونيو غرامشي،  لابد ان اذكر قصة وقعت لغرامشي ويمكن قياسها على حالة المفكر حسن اوريد الذي عانى بسبب مواقفه المنحازة للحداثة والديموقراطية  من اطراف تريد ان تحتكر كل  شئ ولم تعد تحتمل حتى الصوت المغاير، وهي –القصة التي  اوردها الدكتور الطاهر لبيب في مجلة الملتقى عدد 1 سنة 1997 - : عندما حوكم غرامشي  طالب موسيليني بأن يوقف هذا الدماغ عن الاشتغال  مدة عشرين سنة ، وعندما طولب بالعفو  اجاب : هذه طريقة تعني الانتحار ، وليست لي اية رغبة  في الانتحار. الخط واضح : رفض  المهادنة  واصرار على التعامل  مع الواقع وراء القضبان .ولم تكن الفاشية الصاعدة تتوقع ان السجن المفضي الى  نزيف في الدماغ  ودفن في مقبرة الانجليز  سيخرج منه  اثنان وثلاثون كراسا  هي اعمق  ما كتب غرامشي واشده  ارتباطا  بالواقع وتأثيرا فيه.
    الكتابة عن حسن اوريد ، لايمكن ان يلم بها موضوع او حتى كتاب ، ومحاولتي هاته المتواضعة هي اسهام فقط، في فتح نقاش حول  افكاره المبثوثة في ثنايا كتاباته ، وهي افكار تستدعي النقاش والحوار والمداورة الفكرية ، وتصلح لتكون ارضية ممارساتية لفعل سياسي حداثي وتقدمي ما احوج مجتمعاتنا اليه .
    واختم هذا المقال بنص للاستاذ سالم القمودي ص 113 في كتابه سيكولوجيا السلطة، هذا النص يلخص نضال حسن اوريد من اجل الدولة الديموقراطية الحداثية  وهو الذي ناضل داخل الدولة وخارجها من اجل  مغرب ديموقراطي تعددي وحداثي 
     :  بناء لدولة  حقيقية ديموقراطية لا يكتمل  ما لم تتحول السلطة القائمة فيه  من سلطة  للسلطة  والقهر والغلبة  الى ادارة للسلطة  في المجتمع ، تقود مؤسساته  في نظام سياسي  اقتصادي  ثقافي  يتمتع بالاستقرار السياسي والقانوني  والاداري  وتمتنع فيه الانقلابات والتحولات الفجائية ، بفعل استقرار النظام السياسي ، وبفعل الديموقراطية  الحقيقية التي تسود  المجتمع وبفعل حضور مؤسسات الدولة....المؤسسات المستقلة عن مؤسسات السلطة .

    هكذا تكلم سلمان رشدي
     
    أجرت جريدة "الإكسبريس” الفرنسية في عددها 3342 لشهر يوليوز 2015 استجوابا استثنائيا مع المفكر الهندي سلمان رشدي، صاحب كتاب آيات شيطانية (كتاب خلق ضجة كبيرة في العالم بعد صدوره واصدر مفتي الخميني فتوى شهيرة بهدر دمه)، حيث تناول الاستجواب نظرته إلى الحركات المتطرفة الإرهابية مثل "داعش” و"القاعدة"، وموقفه من الإسلام والمسلمين، ونظرته للعالم بعد الأحداث الكبيرة التي حدثت بعد سقوط المعسكر الاشتراكي وبروز حركات الإسلام الجهادي، والتطورات التي يعرفها حقل التطور التكنولوجي والتقني، وتأثير ذلك كله على نظام القيم والأخلاق ونظرة المثقفين والكتاب إلى هذه التغيرات الدراماتيكية التي تعتمل العالم.
    في مقدمة الملف الذي أعدته الجريدة، أكد ‘كريستوف باربيي‘ (christophe barbier) مايلي: "بدون أن نعلم، أدخلنا هذا الإنسان المفكر في القرن الواحد والعشرين منذ سنة 1989 في وقت سقوط جدار برلين وبداية انهيار الامبراطورية السوفياتية واغتيال الصين لحلم الديموقراطية بسبب الدم المهدور في التيانمين… في 14 فبراير أذاع راديو طهران فتوى القتل الشهيرة ضد سلمان رشدي وتعهد الخميني بمكافأة سخية لكل من استطاع قتله لأنه نشر في شتنبر 1988 كتابا مثيرا للجدل حول نبي الإسلام . هذا الكتاب أثار ضجة عالمية ألهبت العالم الإسلامي فتم حرق العديد من المكتبات وقتل مترجم الكتاب باليابانية وقتل 37 شخص أثناء حريق شب بعد مظاهرات ضد المترجم التركي.. 
    هذه أحداث معروفة، لكن ما يهمنا في الاستجواب هو أن نستطلع أفكار وآراء الرجل بعدما جرت مياه كثيرة وتغيرت معالم كبيرة في جغرافية الفكر والسياسة.
    حدثت ضجة كبيرة سنة 2015 عندما قرر مركز أمريكي pen american centre تكريم المجلة الفرنسية الشهيرة "شارلي ايبدو” بوسام الشجاعة وحرية التعبير،(معلوم أن عددا من صحفيي الجريدة تم الهجوم عليهم في مقر عملهم وتمت تصفية عدد كبير منهم من قبل جماعات إرهابية متطرفة، يرجح أن تكون تابعة لـ"داعش")، فقرر عدد من الكتاب والمفكرين البالغ عددهم 200 توقيع عريضة ضد هذا التكريم، لكن سلمان رشدي قلل من الأمر واعتبر عدد الموقعين على العريضة "200 موقع ” هامشي مقارنة مع مجموع عدد أعضاء نادي pen club البالغ عددهم 5000 كاتب ومؤلف. وفي دفاعه عن هذا التكريم قال سلمان رشدي بان جريدة "شارلي ايبدو” ليست عنصرية ضد المسلمين كما يروج ذلك البعض، ودليله على ذلك أن إحصائية هامة لجريدة لوموند الفرنسية أكدت ما يلي: "عدد الافتتاحيات التي تناولت موضوع الإسلام 7 من أصل 523 افتتاحية طيلة عشر سنوات والباقي يهم إسرائيل والجبهة الوطنية وساركوزي والعنصرية في المجتمع الفرنسي والنخب الحاكمة".
    في جوابه عن سؤال المجلة : هل تغير شيئ ما في العقليات منذ الآيات الشيطانية إلى اليوم؟:
    يقول سلمان رشدي ، للأسف الشديد كنا نعتقد أن الحملة الشرسة التي جوبهت بها الآيات الشيطانية والمحنة التي مرت بها حرية الرأي والتعبير آنذاك، ستجعل مساحة الحرية تربح مساحات كبيرة ، لكن للأسف كان هناك اتجاه غربي يفضل التضحية بحرية الرأي والتعبير والتفكير وذلك باعتماد توافقات وتراجعات خطيرة.. لماذا؟:
    هناك تراجع مهول للوضع الثقافي ولأدوار المثقفين دوليا، وانتشر الخوف من الكلمة الحرة، وانتصر صوت الكلاشينكوف ودوي القنابل على من صوت المثقفين. أمس كان اليمين الأوروبي المحافظ الذي تمثله ‘مارغريت تاتشر‘ واليمين الأوروبي عموما مهادنا لقمع الحريات، ساكتا خنوعا للحفاظ على مصالحه الاقتصادية والسياسية ، اليوم للأسف الشديد التحق اليسار الأوروبي بموجة المتواطئين مع الأنظمة القمعية ومع الحركات الإرهابية وأصبح اليسار الأوروبي الحكومي مقتنعا بالمساومة على الحرية وحقوق الإنسان ومهادنة الإرهاب الفكري. 
    يقول رشدي بأن هناك رفض لفهم أمرين أساسيين :
    – الأول: أننا نعيش مرحلة حالكة "sombre”غير مسبوقة، حيث أن ما يحدث في العالم بعد ظهور التنظيم الإرهابي "داعش” أمر جلل وخطير لأن حرية العالم أصبحت مرهونة ومقيدة بنزوات وأهواء تنظيمات لا دولتية يمكن أن تمس امن واستقرار الشعوب في أي مكان وزمان.
    – الثاني: أن الإرهابيين يستهدفون المسلمين قبل الغربيين، فعدد ضحايا المسلمين اكبر بكثير من عدد الغربيين، لذلك الإرهاب يسائل الجميع، ومواجهة التطرف الإسلامي لا يعني بتاتا مواجهة الإسلام أو المسلمين، هذا التمييز ضروري لأنه يعني الدفاع عنهم، لذلك يرى سلمان رشدي أن الخلط بين الإرهاب والإسلام لا يخدم مصلحة دعاة الديموقراطية وحقوق الإنسان ، الإسلام ضحية من ضحايا الإرهاب كما الغرب.
    أما عن الفرق بين العنف والتطرف في سنوات صدور الآيات الشيطانية واليوم، فازدياد حدة التطرف وتراجع الحريات الفكرية، يرجع في جزء كبير منه إلى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي واستغلالها بشكل فظيع من طرف الجهات المتطرفة، يمكن تشبيه ذلك بطاعون "ألبير كامو” (la peste de CAMUS) أو مسرحية (Rhinoceros de Ionesco). 
    انتشار "داعش” والإرهاب بصفة عامة حسب سلمان رشدي يتحمل فيه الغرب مسؤولية كبيرة، حيث أخطاء مغامرة بوش في العراق وما تلاها من تفتيت العراق وتشتيته ودعم نظام طائفي بغيض فيه والخطأ الاستراتيجي الأساسي هو الدعم اللامشروط للأنظمة الوهابية مقابل الاستفادة من ثرواتها البترولية، بدون البترول كانت الوهابية حركة دينية صغيرة ولكن بفضل الثروات النفطية أصبح للوهابية أجنحة تطير بها إلى كل أصقاع العالم ناشرة فكرا متطرفا يخيف الجميع ويهدد استقرار الأمم والشعوب.
    يأسف سلمان رشدي لحال مدن تاريخية كانت في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي منارات للتنوير والفكر الحر، وأصبحت اليوم مرتعا للإرهاب والتطرف مثل طهران وبيروت ودمشق… لكن بلغة ماركسية غرامشية لابد من النظر إلى المستقبل بتشاؤم المثقف وتفاؤل الإرادة.
    فبالإرادة انهزمت النازية في ألمانيا رغم قوة وجبروت هتلر، وبالإرادة الحرة الواعية انتصرت الثورة الفرنسية وانبلج عصر الأنوار، الكل قابل للتحول والتغيير في هذا العالم، لكن هذا الكل رهين بالتضحيات والصمود في طريق مليء بالأشواك والعقبات. 
    حوار المفكر الهندي سلمان رشدي طويل ويحمل أفكارا مهمة وأصيلة حول أدوار المثقفين والكتاب والمفكرين، في هذه المرحلة الدقيقة من عمر العالم ، لكن الأساسي في الحوار انه حمل أوروبا وأمريكا جزءا كبيرا من مسؤولية انتشار التطرف والإرهاب عبر السكوت عن الأنظمة المستبدة وتفريخها للجماعات الإرهابية مقابل مصالح اقتصادية وسياسية، وهذا الاعتراف الهام يجعل مسؤولية المثقفين والسياسيين النزهاء في العالم الحر أمام مسؤولياتهم التاريخية في المساهمة في دمقرطة العلاقات الدولية ونشر قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب عبر الضغط على حكوماتهم المنتخبة بطريقة ديموقراطية للكف عن مساندة الأنظمة الاستبدادية المفرخة للإرهاب في العالم.

    فهرست :

    الحسين مروة
    برهان غليون 
    فالح عبد الجبار
    الطيب التيزيني
    المهدي عامل
    جورج طرابيشي
    سمير أمين
    صادق جلال العظم
    عبد الرحمن بدوي
    محمد أركون.
    محمد عابد الجابري 
    هشام غصيب 
    ميشيل كولون 
    إيدوي بلينيل 
    جان زيغلر  
    احسان عباس 
    ادوارد سعيد 
    فيصل درج 
    علي حرب 
    بيير فيرموريين 
    هاشم صالح 
    حسن اوريد
    سلمان رشدي 

                                             المؤلف في سطور

    سيرة ذاتية:
    -الاسم الكامل : انغير بوبكر OUNGHIR BOUBAKER
    - تاريخ الازدياد : 20 دجنبر 1975
    -المهنة : متصرف بوزارة التربية الوطنية 
    -الحالة العائلية : متزوج  
    Adresse email : ounghirboubaker2012@gmail.com

    -رقم هاتف الشخصي: 0661093037

    المسار الدراسي :
    بكالوريا علوم اقتصادية بثانوية المسيرة الخضراء بتزنيت 
    إجازة في كلية الآداب والعلوم الانسانية بأكادير 
    دبلوم السلك العالي للمدرسة الوطنية للإدارة بالرباط 
    دبلوم المدرسة بالمعهد الدولي لحقوق الإنسان بستراسبورغ. 
    دبلوم المدرسة المواطنة للدراسات السياسية. 
    أحضر للدكتوراه في جامعة ابن زهر بأكادير.
     
       المسار الجمعوي :
    رئيس جمعية مهرجان بويزكارن للثقافة والفن.
    المشرف العام على مركز الجنوب للتنمية والحوار والمواطنة.
    رئيس جمعية أركان للتنمية والتضامن بأيت بوفلن – كلميم- 
    عضو مؤسس للشبكة الأمازيغية من أجل المواطنة.
    عضو مؤسس لمنتدى بدائل المغرب.
    عضو مؤسس ورئيس للعصبة الأمازيغية لحقوق الإنسان.
    عضو مؤسس للمكتب الجهوي للنقابة الوطنية للتعليم لجهة كلميم السمارة سابقا.
    عضو مؤسس لفرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بويزكارن.
    عضو مؤسس لفرع جمعية تاماينوت فرع بويزكارن.
    عضو مؤسس للنقابة الوطنية للتعليم فرع بويزكارن.
    عضو مؤسس للفيديرالية الوطنية لمستغلي مجال أركان.
    عضو مؤسس للفيديرالية بيمهنية المغربية للأركان.
    عضو مركز إيليغ للإعلام والشباب والديموقراطية.

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media