انا وابي ونقودي المعدنية‎
    السبت 23 يناير / كانون الثاني 2021 - 05:49
    سرى العلي
    فرغت اخيرا من توفير قطع نقودي المعدنية بتجميعها بفترة ليست بالقليلة , لم اخبر احدا ولم يتبق لي سوى انتظار ردة فعل والدي حين ابلغه بانجاز عظيم من عقل صغير لم تتجاوز صاحبته عمر سبع سنوات ....

    لم تكن هذه الحفنة من النقود المعدنية  من غير فئة خمس اوعشر فلوس ونادرا ربع دينار تمثل لي شيئا بقدر ما افرحتني فكرة ان يكون ابي اول شخص فكرت اللجوء اليه ليكافئني معنويا مايبعث الفخر والسكينة والراحة النفسية لدواخلي.

    ركضت اليه فرحة, تارة ارقص واخرى اقفز بثوبي الابيض المرقط بالاحمر مسافة من غرفتي لوالدي الجالس امام شاشته التلفزيونية الصغيرة يتمعن بتركيز جدي للاخبار, حين كانت اكثر متعة ومصداقية وابسط تفاصيلا فترة الثمانينات ام انا ما كنت اظن ذلك بعالمي الصغير؟؟ ابي: سررت بالتفاتته لي كأنه ادرك ما انوي قوله ...بدأ الاهتمام على ملامحه الهادئة تاركا وراءه الاخبار ومسألة التركيز..وقلت له: انا يا ابي كنت اواضب منذ فترة على تجميع كل هذه النقود المعدنية من هنا وهناك تحت السرير ومن جانب الاريكة وهكذا ..فخرجت اخيرا بهذا الملبلغ ...لا احد في الغرفة سوانا ..عقد حاجبيه وسألني بدهشة وفضول من اين هذا؟؟ لم افهم دهشته ولا سؤاله حتى ومغزاه بعقل صغير في عالم كبير..ساد صمت لم يستمر طويلا حتى اضاف هو.. وقتها بدد كل فرحتى فحال شيء يشبه الحاجز ينتصب بيننا مليئا بالثغرات او ما اسميته اجلا (الفجوة الجيلية) بالانكليزي (Generation gap).هذه العبارة درستها لاحقا بمعهد للغة الانكليزية بعيدا عن مكان اقامتى الاصلي ...سكت قليلا ابتسمت كمن يخفي خلف الابتسامة عبرة لا اعرف سببها.. وسألت ماذا يا ابي لم افهم؟ كرر بكلمات ابطأ بعض الشيء واشار للنقود كيف وصلت هذه النقود الى يدك؟ كانت قسوة السؤال اقوى من سهولة الاجابة ..قبل الاجابة تغلبت على شيء بداخلي كنت اجهله ..لست ادري وانا اشغل روحي بتمايل واستدارة غير مفهومة ..طلب مني ان اخفض صوت التلفاز اجبت نعم يا ابي وجلست بجانبه على السرير والصدمة بردة فعله تشل تفكيري نظر الي كمن ينتظر اعترافا رفضته لا عنادا انما طفولتي كان عنادها الأبرأ... تمتمت مجيبة: من هنا وهناك مبعثرة.. ليس بعد ذلك اليوم فقد حان الوقت لأخلق اعترافا وما تركه ابي حينها مذاك من عبرة ودرس.. اضاف قائلا: يجب ان تتخلي وتتنازلي عن حفنة النقود هذه ,تحسست وجهي حمرة الخجل بعد ان كانت سعادة حمرته.. وبخطوات مترددة طويلة رجعت الى غرفتي والدموع تكاد تطفر من عيني لا لاجل النقود ابدا.. وقتها كنت الومه , وفي هذا الوقت لست الومه فهذا هو من كان ابي.. واصل حديثه ماشيا الي: نقود لا تعرفين مصدرها ولم تأتيك مكافأة من اهلك او من جهد, نقودا ليست ملكا لك وانت حتى لا تعرفين لمن تعود ولم تكلفي نفسك عناء السؤال لمن هي.. ادهشني كلامه ولم تكن سوى دهشة خيبة امل قد يكون فهمها والدي... كانت صورة كبيرة بالنسبة لي رفض فكري يوفر لها المساحة لفهم اسباب رأيه.. ثم..كلما اقتربت من عام وودعت عام ادركت انني املك شيئا كبيرا تناسب مع كبر عقلي ...

    المال الذي اجنيه كل شهر اذا كان نظير التعب والاجتهاد فهو مالا حقيقيا وان كان نظير الكسل او غير مشروع فلا جدوى منه مهما كانت قيمته ..واخذت مسألة الحلال والحرام تتضخم بداخلي فأجدني الرقيب الدائم لهذه المسألة وتمضي السنون ....

    السعادة والحب ..هي من تجعل للأشياء قيمة فيكون الرضى الداخلي...هنا دور التنشئة الاجتماعية كبير وثماره تكون اجلة وليست عاجلة في مجتمع مهما اقتربت من تبقى بعيدا عنه ...المهم ان تندمج معهم بعملك وبأرثك الثمين..

    غبت ابي مبكرا جدا وغائب مازلت ..لكنك حاضر في اذهاننا ...علمتني انت وتعلمت انا منك اشياء كثيرة باتجاهاتك اليسارية ارثـك اخلاقيا والتزاما مبدئيا يعجز رجل دين ايصال فكرته باسلوبك المقنع البعيد المدى ...
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media